«لِلِّسان العربيّ من اللغات بمقدار ما نميّز فيه من المستويات، صار له لغة للتخاطب اليومي أو لغة مَحكيّة، ولغة للكتابة (وهي المعروفة باللُّغة الفصحى) وهذه تمتدُّ في سُلَّمٍ صاعدٍ متدرّجٍ من لغة الإعلان التجاري إلى لغة المعاملات الإدارية إلى اللغة الإعلامية، إلى لغة البحث الرياضي، إلى لغة البحث العلمي، إلى لغة البحث الفكري، إلى لغة الأثر الأدبي التي تمثّل درجة السُّلَّم العليا، التي نميّز فيها لغة للنثر ولغة للشعر ولغة ثالثة ميّزها طه حسين من هاتين اللغتين ونعني القرآن»9 وهي في المُطلق «كائن حيّ يجري عليه ما يجري على الكائنات الحيّة من تكيّف وتبدّل وتطوّر… والتطوّر شأن من شؤونها الداخلية» الطبيعية والمُحتّمة10. لقد دلّت الدراسات11 العلمية الرّصينة على أنّ لغة عربية حديثة بدأت بالتكوُّن مع إطلالة الصّحافة على العالم العربي في أوائل القرن الماضي، ولعلّ أبرز معالم الحداثة في تلك اللغة:
تسرَّب عددٍ من طرق التعبير الأجنبية عبر الصحافة والمترجمات التي نهضت بالجزء الأكبر منها مدرسة الألسن في مصر في عهد محمّد علي.
المشتقات والمنحوتات الجديدة التي ابتدعتها قرائح الكتَّاب والأدباء للحلول محلّ المقترضات العجلى من اللغات المترجم عنها.
تغيّر طريقة الكتابة تبعاً لتغيّر طريقة التفكير من تقصير الجُمل، وفصل العبارات واستعمال صيغٍ جديدةٍ لأداء معانٍ جديدةٍ، من دون إفساد أصول اللغة أو الخروج بها عن طريقها المألوفة.
وإذا كانت هذه اللغة العربية (لغة الخطاب) التي وُلدت مع بدايات القرن الماضي، ونمت وترعرعت في أوائل هذا القرن حافلةً بألفاظٍ ومفرداتٍ لم يعد لمدلولاتها الأصلية وجود إلّا في بطون المُعجمات، وفي أذهان نفر ضئيل من المتخصّصين بالتراث، فلأنّه أصبح لها مدلولات جديدة في حوافظ المعاصرين اللغوية من مثل (برَّر عمله) بمعنى ذكر من الأسباب ما يبيحه، وأصل معناها (زكَّاهُ وطهَّرَهُ) و(صَوَّت) بمعنى اقترع وأعطى صوته في الانتخاب، وهي في أصل الوضع مبالغة من (صات) أي أخرج صوتاً، و(أضرب) بمعنى توقف عن العمل احتجاجاً على أمر ما، وأصلها (أقام في مكانه ولم يبرح) إلخ… وإذا كانت كذلك تجمع ضروباً من التعابير المقُترضة من اللّغات الأجنبية مثل (ذرّ الرماد في العيون) و(الاصطياد في الماء العكر) و(لعب دوراً) وإذا كان القارئ العربي يمرّ اليوم بكل هذا، فلا يكاد يخطر بباله أنّه ليس من صميم لغته، فإنّ المسيرة لم تتوقف، بل ما زالت مستمرة مع أمثال (التقزيم) و(التّحجيم) و(الإسقاط) و(أعطاه الضوء الأخضر) و(سعى لاحتوائه). ما يدعو بالضرورة إلى تغيير منهاج دراستنا اللغوية وطريقة قياسها في الوضع والاشتقاق وما يتبعه من أشكال الاستعمال، إذا كنّا نريد النهوض بهذه اللغة العزيزة ودفعها إلى مُعترك الحياة العصرية والتمرّس بالمعطيات المستحدَثة والتفاعل مع التيارات الطارئة فتتناول تكاليف العيش ومرافِقه على اكتناه واعٍ ونظرٍ بعيد، وعلم رحيب بصير، لا يضيق بتراكم الحاجات ولا يضطرب للمفاجآت، فهي تمتاز بخصائص تجعل منها لغة غنيّة تستطيع أن تساير التطور الحضاري والفكري بدليل أنها استطاعت في العهود الإسلاميّة المختلفة أن تستوعب الفكر الدخيل والعلم الدخيل وأن تعبّر عنهما بلغة صافية.
حقوق الملكية الفكرية والفنية: هل لا تزال محميّة؟ وكيف؟!
مقالات
أجهزة الوعي
مقالات
شهر كانون أول، ذكرى مولد: الأمير شكيب أرسلان (الرابعة والخمسون بعد المئة)، والمعلّم كمال جنبلاط (السادسة بعد المئة): ما مثّلا؟ وما الباقي من نهجهما وتراثهما المشترك!