وسائل الاتصال الحديثة ودورها في تنمية المحصول اللغويّ:
يلحظ اللُّغويون عودة القيادة المؤثرة، إلى اللفظ المنطوق به منذ عرف الإنسان أجهزة الاتصال الصوتي كالتلفون والراديو وأجهزة الإعلام المماثلة، ومن جديد يقف الإنسان متوجِّساً أمام الطاقة التي تمتلكها تلك الأجهزة لتحويل أحاسيس الناس بل لتحويل مواقفهم السلبية إلى طاقات إيجابية، لقد مكنت وسائل الاتصال هذه من نفوذ اللغة، وأصبح الإنسان يستمع من خلالها إلى جَلجَلة الكلمة تهزّ حياته هزَّاً وتنفذ بمعناها بقوة إلى وجدانه12، وفي ذلك ما يوجب الحذر ويدعو إلى تحليل الدور الذي تقوم به هذه الأجهزة في توصيل اللغة وما قد يطرأ من آثار سلبية على اللغة جرّاء سوء استعمالها.
لقد دلّت كثير من البحوث الميدانيّة التي أُجريت في عدد من الدول العربية على أن التّلفاز أصبح المصدر الأول للإعلام والثقافة العامة، متفوّقاً بذلك على وسائل الاتصال وهذا بالطبع يعني اتساع رقعة انتشاره وسعة نفوذه. ومن ثمّ تأثيره في مجال تنمية اللغة على أنها الوسيلة الأولى التي يتم بها توصيل المواد الإعلامية والثقافية. ولكن من الملاحظ أنّ طائفة كبيرة من العبارات والصِّيغ والتراكيب اللغوية كثيراً ما تتكرّر في لغة هذه الأجهزة وخاصةً في البرامج الثابتة، مثل «نشرة الأخبار» و«ما يطلبه المستمعون» وعددٍ غير قليل من البرامج الرياضية والترفيهية المألوفة. لتشابه الموضوعات، أو أن تكون الكلمات والعبارات قريبةً من اللغة الدارجة، ولا تستبدل بها مفردات جديدة فصيحة، لذلك فإن نسبة مفردات اللغة، وصيغها الجديدة التي يمكن أن يحصل عليها من يستعمل هذه الأجهزة تكون في الغالب أقل من النسبة المطلوبة لتكوين طلاقة لغوية غير سليمةٍ في نطقها أو غير صحيحة في تركيبها وصياغتها فيلتقطها أفراد الجمهور دون وعي منهم، وتشيع بينهم دون إدراك.
ويحدث ذلك في العادة نتيجة لسوء ترجمة بعض البرامج الإذاعية والتلفزيونية، إن لتأثر بعض المذيعين بلغة أجنبية معينة أو لعدم تلقّي هؤلاء المذيعين التدريب الكافي أو عدم اهتمامهم باللُّغة على النحو المطلوب13. كتب نجيب محفوظ في زاوية «وجهة نظر» في جريدة الأهرام بعنوان: «لغتنا والإذاعة» يقول14: «من حينٍ لآخر تُثار مشكلة اللغة العربية في التلفزيون، كيف تُلقى على الناس متعثّرة بأخطاء النّحو والنطق وكيف تعمل على نشر الخطأ، على أوسع نطاق بقوة التلفزيون وهيمنته على الحواس والأذواق». أجل، للمذيعين ومقدمي البرامج عبر المذياع والتلفزيون دور كبير في نقل مفردات اللغة، لاستمرار تواصلهم مع الجمهور وربما يكون لهذا الدور سلبياته على لغة هذا الجمهور إذا لم يتمتع هؤلاء بالكفايات اللّغوية والصوتية والإلقائية اللازمة. ولهذا لا بدّ من انتقاء طائفة ممّن يتمتعون بطلاقة فكرية وثقافة لغوية عالية، وقدرات متميزةٍ في الإلقاء والأداء الصوتي والنطقي السليم لتولي الوظائف المشار إليها، فضلاً عن وجوب تحديث العملية التعليميّة التي تشمل من اللغة، مقررها الرّسمي، والكتاب الذي يجسد المقرّر، والمدرسة، والمعلّم والطريقة والوسيلة.
إنّ في اللُّغة نوعاً من «ما ورائيةٍ خفيّةٍ» تحدّد فكر الناطقين والكاتبين بها وتوجّههم. وترسم لهم قدرهم15. إنّها ليست مجرد نظام لساني، مهمته تجسيد الأفكار والآراء، بل هي نظام لصقل تلك الأفكار، ومنهج لإرشاد نشاط الفرد الذهني، وتحليل انطباعاته وتوليف ما في أعماق ذاته، وفيها كذلك من الطواعيّة ما يجعلها تستجيب لحياة كل جيلٍ وحاجاته وإبداعاته، ذلك أنها إرث جماعي يعاد تأسيسه ويُستكمَلُ بشكل أو بآخر، وبدرجات متفاوتةٍ في كلّ جيل، وبحسب تبدُّل صورة العالم الماثلة لأذهان الناطقين والكاتبين بها. إنّ العالم العربي جزء من العالم الأكبر يجد فيه جديداً كلّ يوم تقريباً. فإذا كان لزاماً أن يساير العرب ركب الحضارة المعاصرة استجابةً لطموحهم في القضاء قضاءً مبرماً على تخلفهم، فإنّه ينبغي أن يقفوا اليوم موقف أسلافهم بالأمس. لقد ساعدت أولئك الأسلاف ديناميكيّة رائعة، ورجاحة عقول قلّ نظيرها على التصرف كما يليق بأمةٍ راقيةٍ، حين احتكّوا بحضارات لم يكن لهم بها عهد في مهدهم الأول، اقترضوا من لغات غيرهم دونما شعور بالنقص والخجل وعرَّبوا المُقْتَرض واشتقّوا منه وتبنَّوه، ابتدعوا ألفاظاً جديدةً بكل الوسائل التي تسمح بها اللغة من ارتجال إلى اشتقاق ومن نحتٍ إلى توسّع في الدّلالات للحصول على معانٍ جديدةٍ، واستنبطوا أساليب تعبير ولغات خطاب تلائم الأغراض المُستجدة، وتمثّلوا بـ «لغتهم الجديدة» الثقافات والحضارات الجديدة، بل أضافوا فوق ذلك إلى تلك الثقافات والحضارات الكثير من المبتدَعات في «لغتهم الجديدة». فهل نترسّم خطى الأسلاف؟ فَنُقْبِلَ على مُكتشفات عالم اليوم، ومبتدَعاته، ونتمثّلها بلغتنا المعاصرة، مؤدّين بأكبر قدر ممكن من الأمانة معطيات الحضارة الجديدة، ريثما يتم لعربيّتنا تمثّل تلك المعطيات، وكأنها من نتاجنا أو ريثما يقدر لعلمائنا ومبدعينا أن يُضيفوا إلى الحصيلة الحاضرة مُعطياتٍ من نَتاج قرائحهم.