الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الذكرى الحادية والثلاثون لتوقيع وثيقة الطائف

الإصلاحاتُ والمؤسسات الدستورية في وثيقة الطائف”، حسب (المرحوم) البروفسور محمّد المجذوب
البروفسور محمّد المجذوب

نائب رئيس المجلس الدستوري (سابقاً) – رئيس الجامعة اللبنانية (سابقاً)

مراجعة م.ش

يرى المرحوم الدكتور المجذوب أن مُصطلح «دستور» حديث في الأنظمة السياسية، ففي القرنين الماضيين كانت تستعمل مصطلحات أخرى مثل الميثاق الدستوري، أو القانون الدستوري، أو القانون الأساسي، إلّا أنّ مصطلح الدستور أو القانون الدستوري هو الغالب اليوم.

وكلمة دستورالمستعملة في اللغة العربية هي من أصل فارسي، يقول د. المجذوب، وهي مكوّنة من «دست» ومعناها القاعدة، و»ور» ومعناها الصاحب. استعملها العرب أولاً بمعنى «سجل الجند»، ثم بمعنى «مجموعة قوانين الملك أو الحاكم»، وأخيراً أطلقها العثمانيون على دستورهم الأول الذي صدر ستة 1876.
والحديث عن الدستور، يضيف د. المجذوب، يتطلّب كلمة مبسّطة في النظام السياسي الذي يستمد أسسه ومعالمه من الدستور.

للنظام السياسي معنيان: ضيّق وواسع. النظام السياسي بالمعنى التقليدي الضيّق يعني «نظام الحكم في الدولة» أمّا النظام السياسي بالمعنى الواسع والحديث، فيعني «نظام الحكم وما يقوم عليه من مبادئ فلسفية وسياسية واجتماعية» والمعنى الواسع هو السائد اليوم.
وهناك اتفاق بين الباحثين، حسب د. المجذوب، على تصنيف الأنظمة السياسية في نوعين: الأنظمة الديمقراطية، والأنظمة الديكتاتورية. والفرق الجوهري بين النوعين يكمن في أن الأنظمة الديمقراطية، بخلاف الديكتاتورية، تقوم على أساس تطبيق مبدأ فصل السلطات الذي يكفل الحقوق والواجبات – رغم الاختلافات الواسعة في تفسير هذا المبدأ وما اتصل منها خصوصاً بتعريف السلطتين التنفيذية والتشريعية، وحدود سلطات كل منهما. فكلما زادت صلاحيات السلطة التشريعية اقتربنا من «النظام المجلسي»، وكلما زادت، بالعكس، صلاحيات السلطة التنفيذية اقتربنا من النظام الرئاسي، أو «نظام الحكومة الرئاسية» وقد أخذ الدستور اللبناني منذ صدوره في صيغته الأولى سنة 1926 بـ «نظام وسطي بين الفصل المطلق أو الاندماج المطلق، محققاً توازناً وتعاوناً بين السلطتين، يقوم على الفصل المعتدل بين السلطات والرقابة المتبادلة، ويطلق عليه اسم النظام البرلماني،» إلّا أن د. المجذوب يضيف، «ولكن التطبيق لم يكن على المستوى المطلوب».
بعد جولة دستورية على النظام البرلماني وخصائصه، وما فيه من ثنائية السلطة التنفيذية، وعدم مسؤولية رئيس الدولة، مقابل حكومة هي المسؤولة أمام البرلمان، ومن تعاون ورقابة متبادلة، يخلص المؤلف إلى أن الدستور اللبناني هو «دستور مدوّن (بخلاف الدساتير العرفية)، جامد، يتطلّب تعديله شروطاً أكثر تعقيداً أو صعوبة من شروط تعديل القوانين العادية».
أمّا نظام الحكم الذي انبثق عن الدستور في لبنان، إلى ما قبل الطائف، فهو حسب د. المجذوب «نظام جمهوري ديمقراطي، ونيابي، وبرلماني، وليبرالي، ومذهبي، وبولييارشي (أي وجود مراكز قوى متعددة ومتوازنة داخل النظام الواحد)» والبولييارشية، وفق توصيف الدكتور المجذوب، «في هذا النظام لا نعثر على فرد ولا على مجتمع، لأن الجماعات وحدها (أي المذاهب في لبنان) هي التي تتحرك وتغطّي الساحة. ولهذا يبقى الفرد والمواطن خارج المسرح السياسي أو الاجتماعي، ويغيب المجتمع الوطني المتلاحم، لأن كل مذهب يعتبر نفسه مجتمعاً قائماً بذاته لا تربطه بالمجتمعات المذهبية الأخرى إلاّ روابط واهية تفرضها فكرة الاستمرار في التعايش وصون المصالح الخاصة المتقلبة. وبنتيجة هذا الوضع تتحول الحياة السياسية إلى عمليات ضغط وتجاذب تمارسها الجماعات المذهبية لتحقيق بعض المكاسب، ولو أدّى ذلك في بعض الأحيان إلى الدخول في معارك دامية. ويتحوّل الفرد إلى أداة لخدمة مآرب جماعته، فتغيب مواقفه وتتلاشى شخصيته، وتتحول الدولة إلى آلة تعمل لحساب زعماء الجماعات أو إلى مزرعة يتقاسم هؤلاء خيراتها، فتحلّ الجماعات في النهاية محل الدولة ومؤسساتها ويصبح الزعماء المذهبيون المرجع الوحيد لكل طالب خدمة أو وظيفة».

بهذا التوصيف الدقيق، سوسيولوجياً وسياسياً، يقارب المرحوم د. المجذوب الثغرة الأساسية في النظام اللبناني، وربما في الدستور اللبناني، والتي فخّخت (والتعبير لكاتب هذه السطور) كل ملمح من ملامح النظام السياسي اللبناني «الرسمي» فجوّفته من كل مضمون ديمقراطي، وأحالته بالتالي ساحة مفضّلة لاستمرارحراك الطوائف أو المذاهب، بل عربة تنقل هذه الطائفة أو تلك، وبين الحين والحين، إلى موقع الطائفة الأكثر سلطة بين الطوائف، وتحديداً كلما تلاقى الهوى الإقليمي مع الطموحات الداخلية.

لذلك لم يخرج النظام اللبناني في تاريخه، وبخاصة بعد الاستقلال، من أزمة إلا ليدخل في أزمة أخرى، مع الميل أحياناً، وفق د. المجذوب، «إلى المناورة أو الخصومة الحادة التي قد تنتهي باستخدام القوة المسلحة» وفي محاولتهم سدّ الثغرات التي فجّرت النظام اللبناني من الداخل، أوسهّلت عملية الهجوم عليه من الخارج، كانت فكرة تلاقي ممثلين للبنانيين للتداول والتفكير في أفضل السبُل نحو الغاية أعلاه. وكان إعلان وثيقة الطائف في 30 أيلول 1989، ذروة المحاولات، وربما النجاحات تلك. الوثيقة في تصوّر المرحوم الدكتور المجذوب هي:
«لقد أراد النوّاب المجتمعون في الطائف إصدار وثيقة على صورة ميثاق وطني، تم تكريس مبادئها دستورياً. ولهذا فإن القيمة القانونية والفعلية للوثيقة تكمن في إمكان تحويل مبادئها إلى نصوص دستورية. وهذا ما حصل في 12/9/1990. أمّا قيمتها السياسية فتتجلى في الدعم العربي والدولي التي حظيت به….والمهم أن الوثيقة أصبحت، عبر التعديلات الدستورية، ميثاقاً وطنياً جديداً يمكن إلحاقه بالركيزتين التي يقوم عليهما النظام اللبناني: دستور 1926 وميثاق العام 1943».
لم يُغفل د. المجذوب بعض الغموض الذي اكتنف بعض نصوص وثيقة الطائف، كما لم يغفل أسئلة كثيرة ستصل إليها الوثيقة. فيختم مقالته الطويلة المهمة بالقول:
«وفي الختام تستوقفنا أسئلة وتساؤلات متعددة: هل ساعدت وثيقة الطائف التي أسكتت المدافع والمجازر على حلّ الأزمة الدستورية؟ وهل احتُرمت بنودها لدى تحويلها إلى مواد دستورية؟ وهل الأزمة السياسية التي عصفت بلبنان كانت، في الأصل والجوهر، أزمة دستورية….؟».

.


لقاء الضّحى مع معالي الوزير السابق د. خالد قباني في الذكرى الحادية والثلاثين لوثيقة الطائف
معالي الدكتور خالد قباني

1 – كنتم حاضرين بقوة في اجتماعات الطائف الطويلة، وكذلك في النتائج، وبخاصة في صياغة بنود الوثيقة التي صدرت عن الاجتماعات.
كيف تنظرون اليوم إلى تجربتكم تلك، هل كانت تستحق ذلك العناء؟ هل كنتم راضين عن الوثيقة الختامية، أم مجرد تسوية أنهت سنوات الحرب الطويلة بما تيسّر من تسويات وتنازلات.

كانت فعلاً تجربة تستحق العناء، لأنها أدت إلى:
أوّلاً إيقاف حرب عبثية، دامت أكثر من خمس عشرة سنة، دمرت لبنان وهجّرت أهله وأنهت اقتصاده، وشكلت خطراً على وحدة لبنان وكادت تنتهي إلى تجزئته وتقسيمه لولا اتفاق الطائف الذي وضع حدّاً لهذه الحرب وأعاد اللبنانيين إلى بعضهم البعض.

وثانياً إحياء المؤسسات الدستورية من خلال إعادة تكوين السلطات الدستورية. والتئام مجلس النواب سريعاً، بعد إعلان وثيقة الوفاق الوطني، التي صوّت عليها اللقاء النيابي اللبناني في الطائف، في بلدة القليعات، في لبنان، في 5 تشرين الثاني وصادق على هذه الاتفاقية، وفي الجلسة نفسها تم انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، ثم بعد ذلك تم تشكيل حكومة جديدة ترأَّسها الرئيس الحص، واختصرت ولاية مجلس النواب، بعد أن استمر في ممارسة أعماله لمدة أكثر من عشرين سنة، أي منذ سنة 1972، لكي يتسنى للشعب انتخاب مجلس نواب جديد، اكتمل بانتخابه عقد المؤسسات الدستورية، وذلك سنة 1992.

وثالثاً البدء بعملية البناء والإعمار التي أعادت إعمار لبنان الذي هدمته الحرب، وأعادت هذه العملية لبنان إلى خارطة العالم، واستعاد دوره الاقتصادي والثقافي والسياسي والانساني.
لم تكن الوثيقة الختامية مجرد تسوية، أنهت سنوات الحرب، ولكنها أدخلت تعديلات أساسية وجوهرية على النظام السياسي في لبنان، وعالجت بل حلّت مشاكل ونزاعات رافقت إعلان دولة لبنان الكبير، واستمرت طيلة العهود التي تلت، وإن كان الميثاق الوطني سنة 1943 قد شكل محطة مفصلية، وأساسية في بناء دولة الاستقلال، ولكنه لم ينهِ أزمات لبنان، فجاء اتفاق الطائف محاولاً من خلال التعديلات الدستورية وضع حد للأزمات السياسية، كمسألة الهوية العربية أي عروبة لبنان، والهوية الوطنية، أي المسألة الطائفية، ومسألة المشاركة في الحكم، أي ما كان يعرف بمعادلة الخوف والغبن، ومسألة العدالة الاجتماعية، أي مسألة الإنماء المتوازن واللامركزية الإدارية الموسعة. أما السؤال عمّا إذا كان الطائف قد نجح في حل هذه المشاكل التاريخية وأزمة الثقة بين اللبنانيين التي أثّرت في بناء الدولة واستقرار البلاد، فهذا شأن آخر.

أقرّ الطائف مجموعة من القواعد والمبادئ الأساسية في الحكم وانتظام عمل السلطات، تؤمن فرصاً لبناء الوطن والدولة وتشكل نموذجاً للعيش المشترك. وأهمية هذه القواعد والمبادئ أنها باتت جزءاً من الدستور، ومن مقدمته، بحيث إذا ما طُبِّقت بحسن نية، وهذا هو المطلوب، لكانت كفيلة برأينا، بتحويل لبنان إلى نموذج حضاري للعيش المشترك الاسلامي- المسيحي ومقتضياته.

لم يتم تطبيق اتفاق الطائف بصورة كاملة، وما نفِّذ منه كان مجتزءاً وبصورة تخالف مضمونه وروحه. اختُصرت المؤسسات وغاب دورها، ودخلت البلاد في صراع من نوع آخر، صراع على النفوذ واقتسام الحصص والمغانم، وتوزعت الطوائف في ما بينها السلطات والمؤسسات، وزادت حدّة المشاعر الطائفية والمذهبية، ووصلت إلى أوجّها، وادعت الكتل والأحزاب السياسية تمثيل الطوائف في الحكم، والدفاع عن حقوقها، خلافاً لأحكام الدستور، بما يؤمن غطاءً سياسياً لها، ويحصّنها من كل مسؤولية أو محاسبة في ممارسة شؤون الحكم، وبما يخرج نظامنا السياسي الديمقراطي البرلماني عن طبيعته وجوهره، وتحكمت موازين القوى الداخلية بإدارة الحكم، نتيجة الصراعات الاقليمية والدولية الضاغطة، وما تفرضه هذه الموازين من قواعد في التعامل وفي ممارسة السلطة، بعيداً عن أحكام الدستور، بل وخروجاً عليها.

لم تكن الحياة السياسية والدستورية في لبنان، بدءاً من إقرار اتفاق الطائف، وتحويل الاصلاحات السياسية التي تضمنها إلى مواد في الدستور، ترجمة صادقة لأحكام الدستور، ولما احتواه من أسس ومبادئ وقواعد، كما يقتضي أن تكون، وباعتبار هذا الدستور، وخاصة ما جاء في مقدمته، معبراً عن أماني وطموحات وتوجّهات الشعب اللبناني وخياراته الأساسية وتطلعاته إلى حياة آمنة ومستقرة، وبناء دولة ديمقراطية، قوامها الحرية والمساواة والعدالة، بل اتجهت الحياة السياسية والدستورية، اتجاهات ومسارات أخرجت الدستور، بما هو نظام حياة وخارطة طريق، عن مساره الطبيعي الصحيح، ونقضت أحكامه، وابتعدت عن كل ما يجعل الدولة دولة قانون ومؤسسات، سواء في ما يتعلق بتشكيل الحكومات، أو في ماخص المسألة الطائفية أو المشاركة في الحكم أو قانون الانتخاب الذي يعتبر حجر الزاوية في كل إصلاح سياسي، أو في ما يرتبط بصلاحيات رئيس الجمهورية، بما كان له الأثر الكبير على عدم استقرار الحياة السياسية والدستورية في البلاد.

2 – من جهة دستورية، هل بدّلت وثيقة الطائف من طبيعة النظام السياسي اللبناني، أم مجرّد إصلاحات من داخل النظام؟

لم تبدّل وثيقة الطائف من طبيعة النظام السياسي اللبناني، وهي ليست مجرد إصلاحات من داخل النظام، بل هي إصلاحات في صلب النظام. بقي النظام السياسي نظاماً في جوهره وطبيعته نظاماً برلمانياً في مبادئه وأركانه الأساسية والجوهرية، ولكن الاصلاحات نصّت بصورة صريحة وواضحة عن طبيعة النظام السياسي، فجاء في مقدمة الدستور أن لبنان هو جمهورية ديموقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمُعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل، أي إنّها حسمت بنص واضح وصريح طبيعة النظام السياسي، بعد أن كان مزيجاً من النظام الرئاسي والبرلماني، نظراً إلى الصلاحيات الواسعة التي كان يتمتع بها رئيس الجمهورية قبل التعديلات الدستورية التي أدخلها اتفاق الطائف في صلب الدستور، وجعل رئيس الجمهورية في موقع سامٍ بالنسبة للسلطات الدستورية، وصمام أمان للنظام والحكم في النزاعات والصراعات السياسية الداخلية، بحيث لا يكون فريقاً في هذا الصراع، في ظل نظام برلماني، بالغ التعقيد والصعوبة، يقوم على المنافسة الحادة بين قوى سياسية تتنافس ديموقراطياً لبلوغ السلطة، ممّا جعله يلعب دور المرجع والحكم في هذا الصراع، الحافظ للكيان والساهر على احترام الدستور والملتزم بأحكامه وعلى أمن البلاد ووحدتها وسيادتها واستقلالها.

لم يعد رئيس الجمهورية جزءاً من السلطة التنفيذية، يشارك في اتخاذ القرارات، أسوة بأعضاء الحكومة، شأنه شأن أي وزير في الحكومة، بل بات يلعب دور الرقيب والموجه والمصوب لعمل مجلس الوزراء، قبل اتخاذ القرار، والسلطة المضادة، Contre pouvoir، بعد اتخاذ القرار، ليعيده إلى مصدره، في حال مخالفته القانون أو الدستور، أو عدم توافقه مع المصلحة العامة، بحكم دوره الوازن والحافظ للدستور، والساهر على المصالح العامة وحقوق اللبنانيين وحرياتهم، وهو يلعب الدور نفسه، وبقوة أكبر في ما يخص القوانين التي يقرها مجلس النواب، بحيث يعيد القوانين المخالفة للدستور، دون أن تمهر بتوقيعه، ويرفض تنفيذها، ولذلك فقد ربط الدستور كل أعمال الدولة، التشريعية والتنفيذية بموافقة رئيس الجمهورية، بحيث لا تكون نافذة إلّا بعد صدورها بمرسوم من رئيس الدولة، مما يعطي رئيس الجمهورية اشرافاً كاملاً على كل أعمال الدولة بل سلطة فاعلة وموجهة تدحض كل قول بفخرية أو شرفية هذا المنصب.

للأسف لم يفهم موقع ودور رئيس الجمهورية وأهميته على حقيقته، أردنا تراكم كمٍّ من الصلاحيات وأغفلنا المضمون.
لا تكمن مشكلة الحكم في لبنان في النصوص، سواء نتيجة نقص فيها أو سوء توزيع للصلاحيات، بل تكمن في طريقة أداء الحكم وممارسة السلطة وفهم طبيعة النظام السياسي المعتمد في الدستور.
ليست المسألة مسألة صلاحيات، سواء زيادة أو نقصاناً. فصلاحيات رئيس الجمهورية، على اتساعها، في دستور ماقبل الطائف، لم تسعفه ولم تمكنه من تجنب الأزمات أو احتوائها أو الحؤول دون تفجّر الأوضاع في لبنان. ولا يعني ذلك أنّ صلاحيات رئيس الجمهورية لا تحتاج إلى تفعيل أو تعديل من أجل فاعلية دوره المطلوب، وربما من أولويات التعديل، إعطاء رئيس الجمهورية حق حل مجلس النواب، لكي يلعب دور الحكم بين أكثرية حاكمة وأقلية معارضة، إذا ما احتدم الصراع بين الفريقين إلى حد شل عمل المؤسسات الدستورية والمرافق العامة، أو شكل خطراً على الوئام الوطني والعيش المشترك، كما حصل مراراً في لبنان، ولا يزال يحصل، وإذا فَقد مبدأ التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية فعاليته، فيحتكم رئيس الجمهورية إلى صاحب السيادة، إلى الشعب، وهو الحكم الأخير، ليحكم في الخلاف ويحدد خياراته. المقصود أنّ المعالجة تتجاوز مسألة الصلاحيات ، كمَّاً أو حجماً، وإن المسألة لا تعالَج من خلال عنوان استعادة صلاحيات مفقودة أو منزوعة، لأن ذلك يجعلنا ندور في حلقة مُفرغة. المسألة بجوهرها أعمق بكثير. المسألة هي كيف نجعل رئاسة الجمهورية صمام أمان للنظام وللاستقرار، وكيف نُعلي شأن موقع رئيس الجمهورية ونجعله فعلاً لا قولاً حكماً فاعلاً في الصراع السياسي. ليست المسألة مسألة كم ولكنها مسألة نوع وكيفية. في كل مرة تصرَّف فيها رئيس الجمهورية كفريق في الصراع، أو وضعته الظروف أو الأحداث، أو أُريد له أن يكون في هذا الموقع، كانت النتيجة تفجير الأوضاع في لبنان وإغراقه في الفتنة وفي حمأة صراعات طائفية ونزاعات وحروب أهلية مدمّرة. كما يستمر عليه الوضع في لبنان الآن.

3 – هل توزُّع السلطة الذي شهدناه منذ سنة 1991، وما فيه من فوضى وبوليغارشية، حسب تعبير المرحوم د. المجذوب، هو نتيجة دقيقة لوثيقة الطائف، أو نتاج ممارسة معيّنة فرضت نفسها؟

ليس في اتفاق الطائف، أو في الدستور اللبناني، ما يمكن تسميته «توزّع للسلطة» أنتج فوضى عارمة، لأن ما جاء في اتفاق الطائف وما في الدستور، يرسي نظاماً سياسياً معروفاً واضح المعالم والمبادئ، ومعتمداً في الأنظمة السياسية التقليدية، مع خصوصيات تميز كل نظام عن مثيله، تعود إلى التركيبة الاجتماعية، دون أن تخل بجوهره أو بأركانه، هو النظام البرلماني القائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتعاونها وتوازنها، والذي يُعتبر فيه البرلمان السلطة الأم والذي يمثل الإرادة الشعبية، وهو يتولى السلطة التشريعية، والذي يُبنى على انتخابات حرة ونزيهة وديموقراطية، وحكومة تتولّى السلطة التنفيذية، وتكون مسؤولة أمام البرلمان، وتستمر باستمرار ثقة البرلمان بها، ورئيس جمهورية، يكون رئيساً للدولة ورمزاً لوحدة الوطن، وتميز عن النظام البرلماني الأم، لخصوصية البنية الاجتماعية الطائفية في لبنان، بحيث لا يكون رئيس دولة يتولى ولا يحكم كملكة بريطانيا، بل أناط به صلاحيات دستورية فعلية تجعله رئيس دولة ومرجعاً وحكماً في الصراع السياسي الداخلي وممسكاً بقيادة الدولة وليس مجرد رمز على غرار الأنظمة البرلمانية التقليدية.

أمّا الفوضى في الحكم التي يلفت إليها السؤال، فهي نتيجة عدم احترام الدستور، والخروج على أحكامه، ومحاولة كل فريق الهيمنة على السلطة، واحتكارها ووضع يده على مقدرات الدولة ومرافقها ومحاولة استتباعها، والممارسة السياسية التي تخرج عن أصول النظام الديموقراطي البرلماني، وعدم الاحتكام في الصراع السياسي إلى أحكام الدستور، واللجوء إلى موازين القوى في حسم الخلافات والنزاعات السياسية، بل الاستعانة بالخارج، وهذا أسوأ ما خرجت به ممارسة الحكم، منذ إعلان دولة لبنان الكبير، والذي حاول الطائف أن يولي صلاحية حماية النظام السياسي إلى رئيس الجمهورية، بكونه المرجع والحكم في هذا الصراع، وليس الاستقواء بالخارج، كما درج عليه اللبنانيون في ممارسة الحكم في لبنان، وفي فض نزاعاتهم.

العيش المشترك في لبنان هو الحافظ للنظام والحامي لقيم الحرية والاستقلال والسيادة، لم يعد العيش المشترك مجرّد فكرة أو قدراً محتوماً فرضته الجغرافيا ونسج خيوطه التاريخ، ولكنه بات خياراً حرَّاً للبنانيين، بحيث تحوَّل إلى صيغة مؤسساتية ودستورية. فالتداخل الجغرافي بين المناطق والبلدات، والاختلاط السكاني، والتشابك الاقتصادي ونمو المصالح المشتركة، بل الحياة المشتركة، والترابط العائلي والأسري، والغنى والتنوع في الثقافات والعادات والتقاليد وأنماط العيش المشترك، جعل صيغة العيش المشترك أكثر تجذّراً وأصالة وعمقاً بحيث باتت صيغة أمانٍ وأمن وضمانة حقيقية للحرية والسيادة والاستقلال، وحمت لبنان من التجزئة ومحاولة الهروب إلى الفدرالية، طلباً للأمان والاستقرار، ونتيجتها الوقوع تحت الوصاية والحماية الخارجية، وبالتالي، فقدان الاستقلال والسيادة والقرار الوطني الحر، والدخول في حروب أهلية لا نهاية لها.

هذا الثابت، العيش المشترك الإسلامي المسيحي، هو ما كرسته وثيقة الوفاق الوطني، بعد حرب مدمّرة، دامت أكثر من خمسة عشر عاماً، دمّرت كل شيء، باستثناء هذه الصيغة الراسخة، صيغة العيش المشترك.
وقد جاءت الإصلاحات لتعيد النظر في تنظيم السلطات العامة وصلاحياتها، بما يحقق التوازن فيما بينها، دون أن تمس صيغة العيش المشترك، أو تمس حقوق الطوائف في حرياتها وممارسة شعائرها وعقائدها الدينية، وحقوقها في المشاركة في الحكم. وقد بنيت هذه الإصلاحات على أساس ثلاثة مبادئ أو مرتكزات لبناء الدولة:
– مبدأ وحدة الدولة وصون العيش المشترك
– مبدأ المشاركة في الحكم، حيث لا تسلّط ولا تفرد في الحكم ولاهيمنة ولا غلبة.
– مبدأ إلغاء الطائفية السياسية بصورة تدريجية وإنشاء مجلس الشيوخ

4 – ما من أحد يملك، أو يقول الحقيقة كاملة، بخصوص المداولات التي تناولت مسألة استحداث مجلس للشيوخ، وهل كان هناك قرارات في الموضوع، أو مجرد مداولات؟

كان وما يزال استحداث مجلس للشيوخ أمراً يحظى بتوافق اللبنانيين، وهو أحد الاصلاحات الأساسية التي نص عليها اتفاق الطائف، مقابل المبدأ الذي أقره هذا الاتفاق وهو مبدأ إلغاء الطائفية السياسية الذي أصبح جزءاً من مقدمة الدستور، ولم يكن موضع خلاف ولا جدال، بل جاء تحصيناً لمبدأ إلغاء الطائفية السياسية. ولذلك جاء مبدأ إلغاء الطائفية السياسية مقترناً حكماً بإنشاء مجلس للشيوخ، بحيث يشكل صمام أمان للعيش المشترك، وطمأنة حقيقية للمخاوف والهواجس التي يمكن أن يثيرها الشروع في إلغاء الطائفية السياسية، وسياجاً للوفاق الوطني، وضماناً لمشاركة الطوائف في تقرير مصير البلاد ومستقبلها، فنصت المادة 22 من الدستور: «مع انتخاب أوّل مجلس نواب على أساس وطني يُستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتحصر صلاحياته في القضايا المصيرية».

وليس المقصود أو المطلوب أن يتحول مجلس الشيوخ إلى مجلس تشريعي، بل المطلوب أن يشكل صمام أمان بالنسبة لأية جهة تتردد في السير في طريق إلغاء الطائفية السياسية وتخشى على نفسها من الإلغاء أو التهميش أو فقدان الموقع والدور، فيشكل هذا المجلس دائرة أمان، إلى أن يحين الوقت الذي تهدأ فيه النفوس وتطمئن فيه القلوب وتحل فيه أجواء الثقة بين اللبنانيين محل أجواء الشك والريبة والخوف، ويشعر فيه المواطن بالانتماء فعلاً إلى وطن ودولة.

إن المؤمل من إنشاء هذا المجلس هو تعزيز الوحدة الوطنية، وهو قادر ومؤهل للقيام بهذا الدور، إذا تأمّنت المُناخات الملائمة، لأنه ينقل الحوار حول قضايانا الوطنية إلى مؤسسة دستورية رصينة وحكيمة، تستطيع أن تتحول إلى مؤسسة حوار وطني، ترقى بالمناقشات إلى المستوى الفكري والحضاري، والتي تساهم في طمأنة النفوس وإغناء الحياة السياسية والوطنية بالأفكار والقيم التي تعزز الوحدة الوطنية وتصونها، بعيداً عن المزايدات وروح المنافسة السلبية حول المصالح والمنافع الفئوية، والنزاعات السياسية والعقائدية التي تضع الأحزاب والقوى السياسية في مواجهة بعضها البعض وتهدد الاستقرار في البلاد، فضلاً عن أنه بوسع هذا المجلس أن يضع حداً للتجاذبات السياسية حول قضايا المصير ويحد من التطرف أو التوجه بالبلاد إلى تبني مواقف بعيدة عن روح التضامن والتكافل الوطني، ولكي تشعر الطوائف بالاطمئنان إلى وجودها وحضورها الفاعل في الحياة السياسية ومشاركتها في القرار السياسي والقرارات المستقبلية والمصيرية، والحؤول دون جر البلاد إلى مواقف قد تهدد أسس العيش المشترك والوفاق الوطني ووحدة الدولة، وبحيث يشكل مجلس الشيوخ صمام أمان للنظام وللحياة المشتركة بين اللبنانيين.

5 – ما الثغرات التي أبرزتها ممارسة الطائف في ثلاثين سنة، وهل بالإمكان حصول طائف 2 جديد من دون تهديد مرتكزات طائف 1؟

لاشك أن الممارسة السيئة للإصلاحات التي جاء بها اتفاق الطائف قد انتجت ثغرات كثيرة وسلبية في الحياة السياسية، فاتفاق الطائف لم يطبق، وما طُبِّق منه كان مجتزءاً ومغايراً لنصه وروحه، والسّمة البارزة في هذه الثغرات هو نزوع السلطة السياسية إلى التحكم بالسلطة وعدم احترام أحكام الدستور ومحاولة الهيمنة على الحكم ووضع اليد على مؤسسات الدولة ومرافقها، وتقاسم السلطة وضرب مبدأ الفصل بين السلطات، وبالتالي، مبدأ المساءلة والمحاسبة، والإصرار على تشكيل حكومات تجمع بين الأكثرية والأقلية تقضي على دور مجلس النواب التشريعي والرقابي، بما أساء إلى مفهوم الديموقراطية، من جهة، وأسقط مقومات النظام البرلماني والمبادئ التي يقوم عليها، من جهة ثانية.

وممّا هو متفق عليه، أنّ كل دستور جديد، يمرّ بمرحلة تجربة يتم خلالها الحكم على مدى صلاحية هذا الدستور وآثاره على النظام السياسي، أو الثغرات التي تتضمنها الاصلاحات السياسية التي اعتُمدت فيه، وهذا أمر طبيعي، ولكن مشكلتنا في تطبيق الاصلاحات التي نتجت عن الطائف. أن تطبيقها كان مجتزءاً وما طبق منه لم يكن سليماً، ولم تتوفر في تطبيقه، الإرادة الطيبة، إرادة الاصلاح، ولا حسن النية، ولا الرغبة في بناء دولة قانون ومؤسسات، فساد مبدأ التعطيل والعرقلة في التعاطي السياسي والتقاتل على المصالح والمغانم وعقلية الهيمنة ومنطق الغلبة واحتكار السلطة، واللجوء إلى الخارج والاستقواء به في حل مشاكل وأزمات الداخل، واستغلال الدين في السياسة، فكيف نلجأ إلى طائف جديد، والطائف هو على الحال الذي وصفناه وتجربته لم تكتمل، وكيف نعرّض البلاد إلى تجربة جديدة لا تُعرف نتائجها، وطريقها محفوف بالمخاطر ولا رؤية لها؟ وهل نغامر بحرب أهلية لا أفق لها ولبنان لم يخرج بعد من آثار الحرب الأهلية الماضية التي دمرت النفوس، أم نسعى إلى استكمال تطبيق دستور الطائف، والبحث في تصحيح الثغرات التي نتجت عن تطبيقه وهو أمر مطلوب ومرغوب، بالحوار البنّاء، وبالطرق الديموقراطية ووفقاً للأصول الدستورية، وفي مناخ من الثقة والرغبة الحقيقية في بناء الدولة، دولة الحق والمواطنة.

بذلك، نؤسس للدولة الدستورية، التي تخضع في كل جوانب عملها، التشريعية منها والتنفيذية والقضائية، للدستور، وبحيث يصبح العمل السياسي ليس عملاً يخضع للإستنساب والأهواء، أوتحكمه المصالح والتحالفات والصراعات الفئوية والحزبية والسياسية، بل تغنيه وتهذبه وتنقيه الجوانب والاعتبارات القانونية والدستورية، التي تشكل دائرة أمان ووقاية لهذا العمل، وهذا ما يحصّن العمل السياسي ويصونه ويبقيه في دائرة الدستور.

6-هل خيّب الطائف توقّعات الشباب اللبناني على وجه التحديد، إذ انتج نظاماً يصعب محاكمته، أو تغييره، ولا مكان للشباب فيه؟
من خيب آمال وتوقُّعات الشباب اللبناني، هل هي الطبقة السياسية التي أطاحت باتفاق الطائف وأعاقت تطبيقه وخالفت أحكام الدستور، ولم يكن لها لا رغبة ولا إرادة في بناء دولة؟

إن المشكلة لا تكمن في الطائف، ولكن في من طبق الطائف، وخرج على أحكام الدستور، والمشكلة في ممارسة الحكم وفي من أمعن في مخالفة القوانين ومن حاول الهيمنة على مقدرات البلاد وضرب اقتصادها والثقة بها، وخيب آمال اللبنانيين جميعاً والشباب منهم بصورة خاصة في بناء وطن ودولة تلبي طموحاتهم وأمانيهم وتؤمن لهم كرامة الحياة وتطمئنهم إلى مستقبلهم ومصيرهم.

أختم فأقول، لا بديل للمواطن عن الدولة، ولا يمكن لسلطة مهما أوتيت من القوة أو القدرة أن تحل محل الدولة، أو تؤمن الحماية للمواطن، ولا يجوز للطوائف أو للأحزاب أو للقوى السياسية أن تقاسم الدولة سلطتها أو تنازع الدولة على سلطتها، أو تشاركها في السيادة على إقليمها أو على مواطنيها، لأن ذلك لا يضعف سلطة الدولة فقط ويذهب بهيبتها ويلغي دورها، بل إنّ ذلك يؤثر على الكيان ويشكل خطراً على وحدة الدولة ويضرب الوفاق الوطني وصيغة العيش المشترك في الصميم.

لم يعد من المقبول أن تستقوي الطوائف أو الأحزاب أو القوى السياسية، على الدولة وأن تتحدى سلطة الدولة، أو أن تصادر الحقوق والحريات، أو أن تستقطع لنفسها الإدارات والمرافق العامة، وأن تتوزع منافعها وخيراتها، وتتبادلها من وقت لآخر، لأن ذلك كلّه يقوّض أركان الدولة، ويهدم مقوماتها وركائزها، ويلغي مفهوم الحرية والديموقراطية، ويجعل الدولة ومؤسساتها حقلاً للتجاذب والمنافع، ويجعل الطوائف في مواجهة بعضها البعض، ممّا يسيء إلى علاقات الود والتفاهم والتعاون والثقة التي يجب أن تسود في ما بينها، بحيث يصبح اللبنانيون في خدمة طوائفهم لا في خدمة مواطنيهم، وهو ما أدى إلى تعميق الحساسيات الطائفية والمذهبية، وحوّل الساحة اللبنانية إلى ساحة صراع وتنافس داخلي بين هذه الطوائف والمذاهب، تتسرب إليها الصراعات الإقليمية والدولية كما يتسرب المطر من سقوف وجدران البيوت، فتغرق هذه البيوت بالمياه وتفقد صلاحيتها للسكن، كما يقول الرئيس الدكتور سليم الحص.
لم يعد مقبولاً أن نختبئ وراء طوائفنا أو نحتمي بمذاهبنا، بادعاء تمثيلنا لهذه الطوائف والمذاهب، أو الدفاع عن حقوقها، ونحن لا ندافع إلّا عن مصالحنا الشخصية ومكاسبنا المادية، ونسعى إلى تأمين بقائنا واستمرارنا في السلطة وإحكام القبضة على مؤسسات الدولة ومرافقها، بحسباننا نملك حق تمثيل الشعب، ونحن قد أفقدنا الناس، بسياساتنا وتصرفاتنا الثقة بالدولة ومؤسساتها.

يريد أهل السياسة وضع أيديهم على كل شيء حتى إيمان الناس، فيدّعون تمثيلهم للطوائف والدفاع عن حقوق الطوائف، فيلبسون رداء الطوائف والمذاهب، ليحتموا به، ويعفون أنفسهم من المساءلة والمحاسبة، لا تقحموا الدين بالسياسة، دعوا الناس يعيشون إيمانهم، إيمانهم يجمعهم ولا يفرقهم، وسياساتكم الطائفية والمذهبية تمزق جموعهم وتدمر حياتهم.
يجب أن نعتاد العيش في كنف الدولة، أن نتقبل فكرة الدولة وأن نحترم قوانينها ودستورها، أن نخضع لسلطانها، لأننا خارجها نكون جماعات وطوائف وقبائل متناحرة لا رابط فيما بيننا ولا كيان لنا.

لم تكن المشكلة في الطائف، فسَّرنا الطائف بحسب أهوائنا، أردنا حكم تراكم صلاحيات، هيمنة وتسلط، لا مسؤولية فيه ولا مسؤول، وأردنا حكومات تحت عناوين وطنية جامعة، حيث لا وطنية، حيث نتهرب من المسؤولية والمحاسبة، لا تغيير فيها ولا إصلاح، مجرد استنساخ وجوه وأشخاص، تبادل مصالح ومنافع، وتوارث مواقع، فقدنا الأصل والجوهر، الحرية والديموقراطية وأخلاقيات الحكم والضمير، نعيش في سراب يظنه الظمآن ماءً، حيث لا ماء ولا هواء نظيف… فساد وظلام.


معالي الوزير بارود الدخول الى الجمهورية الثالثة مطلوب من وجهة نظر اصلاحية
معالي الدكتور زياد بارود

وثيقة الطائف سمحت بوقف الحرب الأهلية الطويلة، إلى ذلك، ما أهميتها الدستورية والسياسية برأيكم؟

لقد شكّلت وثيقة الوفاق الوطني مفصلا بين جمهوريتين، ولكنها لم تحُل دون استمرار ما أعاق قيام الدولة في الأولى، بحيث استمرت الثانية مأزومة، حتى بلغ الأمر اليوم إلى نقاش في ضرورة البحث عن أسس جديدة لجمهورية ثالثة. في السياسة، ثمة قراءات مختلفة وغالبا متناقضة. البعض يقرأ في الطائف تأسيسا لمسار جديد قد يسمح، فيما لو طُبّق فعلا، بممارسة سياسية أسلم وأكثر عدالة، فيما البعض الآخر يرى فيه تسوية غير مكتملة لا يمكنها أن تنتقل بلبنان من حالة مأزومة إلى استقرار. أما دستوريا، فلا بد من التمييز بين الأحكام التي وردت في اتفاق الطائف وتُرجمت بعده بتعديلات دستورية (21/9/1990)، من جهة، وبين الأحكام التي بقيت منصوص عليها في الاتفاق المذكور فقط، من جهة أخرى. وأعطي مثلا عن كل من هاتين الفئتين من الأحكام: إستحداث مجلس شيوخ، مثلا، ورد في الطائف ومن ثم أصبح منصوصا عليه في المادة 22 من الدستور في تعديلات 1990. أما اللامركزية الإدارية، فوردت في نص اتفاق الطائف تحت عنوان الإصلاحات لكنها لم ترد في الدستور. وعلى ذلك، فإن كل ما ورد من تلك الأحكام في نص دستوري بات له قيمة دستورية كاملة، بما في ذلك مقدمة الدستور التي أضيفت إليه عام 1990 والتي تضمّنت مبادئ عامة على قدر كبير من الأهمية والتي أفتى المجلس الدستوري عام 1997 بأنها ذات قيمة دستورية كاملة. أما الأحكام في الطائف التي لم تُترجَم نصوصا دستوريا، فيبقى لها قيمة معنوية وسياسية وتحفيزية ومرجعية ولكن طبعا دون القيمة الدستورية. هكذا، مثلا، تشكّل الفقرة المتعلقة باللامركزية إطارا مرجعيا لأي قانون ينظّم هذه الأخيرة ولكن دون أن ترتقي إلى القيمة الدستورية.

هناك من يقول ان الطائف عمًق أزمة النظام السياسي اللبناني الطائفي بدل الاسهام في حلها؟

النظام السياسي الطائفي لم يبدأ عام 1989/1990. هو يضرب عميقا في تاريخ البلد وفي آليات حكمه المستعصي وفي مؤسساته منذ قرون. ألم يكن مجلس الإدارة في المتصرفية طائفيا؟ ألم يعترف المفوض السامي المنتدب في القرار 60/ل.ر. الشهير بالطوائف «المعترف بها تاريخيا»؟ ربما كان من المأمول في الطائف الخروج من الحالة الطائفية في اتجاه تعزيز الدولة المدنية دون إلغاء الطوائف بما هي مصدر تنوع وغنى، لكن النصوص التي ترجمت هذه الفكرة جاءت معقدة، غير واقعية ولم تواكبها أية ظروف داعمة، بل على العكس. فالمادة 95 لا تزال حتى 2020 تطرح إشكاليات في التطبيق، ناهيكم عن عدم تشكيل الهيئة الوطنية. والمادة 22 من الدستور التي قالت باستحداث مجلس للشيوخ «تتمثل فيه العائلات الروحية» (لاحظوا تلطيف التعبير المستعمل للدلالة على الطوائف) ربطت هذا الاستحداث بانتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، فتعطّلت الآلية. والمادة 24 من الدستور التي أشارت إلى توزيع المقاعد النيابية بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين لم تلحظ تمثيل اللاطائفيين المنتمين إلى «طائفة القانون العادي» ولا اليهود اللبنانيين (وهؤلاء ليسوا صهاينة) فمنع النص الدستوري تمثيل هاتين الفئتين. وبعد 30 سنة على اتفاق الطائف وتعثّر وتعذّر تطبيقه، يمكن القول إن الاتفاق، بما نصّ عليه كما وبالطريقة التي طبّق أو لم يطبّق فيها، قد أدى عمليا إلى تعميق أزمة النظام السياسي بدل حلّها. يكفي النظر إلى تعطيل آليات الحكم السليم وتعاظم الفساد السياسي وفترات الفراغ الطويلة للتأكد من أن الأمور تحتاج إلى إصلاح بنيوي لتأمين انتظام الحياة السياسية.

هل عدم تطبيق كامل بنود الطائف، وخصوصا تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وإنشاء مجلس الشيوخ، هي الوقود المستمر في إشعال الخلافات اللبنانية، ام ان الامر سيان؟

هذه إحدى العناوين ولكنها لا تختصر الأزمة الدستورية. في اعتقادي أن ثمة ثغرات في الدستور لا بد من مقاربتها وهي تتعلق بالمؤسسات الدستورية وانتظام العمل فيها، كغياب بعض المهل، مثلا، كأن يبقى تشكيل الحكومة مفتوحا في الزمن. في كل دول العالم تطرأ أزمات حكم وإدارة ولكن الدستور، أي القانون الأساسي وهو الأسمى، يبقى المرجع والحل. للأسف، تحوّل الدستور في لبنان إلى وجهة نظر يختبئ وراءه البعض في تفسيرات غريبة عجيبة دعما لمواقف سياسية يتخذونها. وللأسف أيضا، لم يعطَ المجلس الدستوري عندما أنشئ عام 1990 صلاحية تفسير الدستور، بل حُجبت عنه قصدا.

ما الثغرات الكبرى التي افرزتها ممارسة الطائف حتى الآن؟

الثغرة الأبرز كانت ولا تزال عدم تطبيقه وأحيانا سوء تطبيقه. بعض ما ورد فيه لم يطبّق إطلاقا حتى الآن، أي بعد ثلاثة عقود على إقراره، كاللامركزية الإدارية، وهي إصلاح أساسي وجوهري وتغييري وكذلك مقاربة الطائفية السياسية بجرأة وصراحة. وبعض ما ورد طبّق متأخرا. وفي التطبيق، تبيّن أن بعضا مما أقرّ في الطائف لا يؤدّي فعلا الغاية المرجوة منه.

وأسوق مثلا على ذلك: أكثرية الثلثين في مجلس الوزراء بالنسبة لبعض المواضيع المسمّاة أساسية. الغاية منها كانت ضمانة حصول القرار في إحدى هذه المواضيع على أكثرية موصوفة في التصويت، فإذا بضمانة الثلثين تُقابَل بالثلث المعطّل! اللائحة تطول في موضوع الثغرات الدستورية التي لا بد من فتح ورشة إصلاحية بشأنها لا تعيد النظر بالضرورة بالأساسيات وإنما تقارب الثغرات التي منعت ولا تزال تمنع انتظام الحياة السياسية على الوجه الصحيح الذي يؤمن الاستقرار المطلوب ومشاركة الجميع في الساحة العامة. الديمقراطية لم تعد مفهوما عدديا. الديمقراطية هي حماية الأقليات وإشراكها في القرار، أكانت أقليات سياسية أو فكرية أو ثقافية… الأقليات ليست فقط طائفية.

أخيراً، هل يمكن فتح باب تعديل الطائف الان، ام انها خطوة متهورة غير محسوبة النتائج؟

بعد ثلاثين عاما على إقراره، المطلوب الحدّ الأدنى تقييم اتفاق الطائف بجرأة وصراحة ودون عقد أو أفكار مسبقة. وهذا أمر صحي ويجب أن يحصل. أما التعديل الدستوري، بمعنى الدخول إلى الجمهورية الثالثة، فهو مطلوب أيضا من وجهة نظر إصلاحية تنقل لبنان إلى حال أفضل، لكن هكذا تعديل يحتاج إلى مجلس نيابي غير مشكوك بصحة تمثيله يستطيع أن يتخذ قرارات تحمي لبنان الرسالة ومعنى لبنان لعقود قادمة، وإلاّ، فمؤتمر تأسيسي أخشى من أن يكون على قاعدة غالب يفرض فيه رأيه على مغلوب. لذلك أرى أن قانون الانتخاب جوهري لإنتاج حالة تمثيلية حقيقية تأخذ على عاتقها مناقشة ما يلزم من أمور بذهنية منفتحة، جامعة، وعلى قاعدة أن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، على ما ورد في مقدمة الدستور.


معالي الوزير د. عدنان السيد حسين: ثمة ايجابية كبيرة طرحها اتفاق الطائف وهي الغاء الطائفية

1- الشائعُ أنّ اتّفاق الطائف سمح بإنهاء الحرب الأهلية الطويلة 75 -90 ، ولكن أبعد من ذلك ما الثغرات برأيكم في الدّستور والنظام اللبناني السياسي التي استدركتها إصلاحات وثيقة الطائف كما باتت تُسَمّى ؟

معالي الوزير د. عدنان السيد حسين

اتّفاق الطائف، أو وثيقة الوفاق الوطني، عقد اجتماعي جديد بين اللبنانيين جاء تتويجاً لمجمل الأوراق والمشاريع الإصلاحية خلال الحرب الأهلية. من الإصلاحات التي طرحها الرئيس سليمان فرنجية، إلى المبادئ الوفاقية للرئيس الياس سركيس، إلى أفكار متراكمة طرحها قادة لبنانيون ومراجع عربية ودولية…
اللافت في هذا المسار الطويل موافقة مجلس الأمن الدولي على اتفاق الطائف في بيان جماعي، أي ثمة غطاء دولي فضلاً عن المواكبة العربية من خلال لجان المتابعة المتواترة. ويمكن القول إنّ التفاهم الأميركي – السوري- السعودي على هذا الاتفاق كان مُحِقّاً، فضلاً عن الموافقات الأوروبية وغيرها من القوى الدولية.
صحيح، إنّ الاتفاق أنهى الحرب الأهلية في لبنان، بيد أنه تضمّن مبادئ وأفكاراً إصلاحية تحوّلت إلى مواد دستورية، وشتّان ما بين النصوص المكتوبة والتطبيقات الفعلية على أرض الواقع!.
أهم الإصلاحات التي تضمّنها الاتفاق: المبادئ العامة التي أجابت عن سؤال مركزي هو: أي لبنان نريد؟

لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، أم لبنان عربي الهوية والانتماء أم لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريّات العامة، والعدالة الاجتماعية، والمساواة في الحقوق والواجبات بين «جميع المواطنين» دون تمييز. والشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة، وفصل السلطات وتوازنها وتعاونها. والنظام الاقتصادي الحر. والإنماء المتوازن للمناطق. وأرض لبنان واحدة لكل اللبنانيين، ولا شرعية لأيّة سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك؟.
لا نعتقد بوجود أيّة حاجة، أو ضرورة ، لتعديل أو تغيير هذه المبادئ الأساسية. بيد أن المعضلة تكمن في التطبيق، ولذلك أسبابه الداخلية والخارجية.

في مُجمل الأحوال لا يصح طرح السؤال مجدّداً: أيَّ لبنان نريد؟
إلى ذلك، ثمة إيجابية كبيرة طرحها اتفاق الطائف هي: إلغاء الطائفية. حسبنا هنا مراجعة المادة 95 من الدستور التي دعت لتشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية، وألغت فوراً طائفية الوظائف العامة في الدولة باستثناء وظيفة الفئة الأولى التي ظلّت موزعة مناصفة بين المسلمين والمسيحيين «دون تخصيص أيّة وظيفة لأيّة طائفة». إنها العبارة اليتيمة التي يتناساها جميع أهل الحكم.
هناك إصلاحات عدّة تضمنها الاتفاق: إجراء انتخابات عامّة نيابية خارج القيد الطائفي، وتشكيل مجلس شيوخ طائفي للبتّ بالقضايا المصيريّة فقط، مع إعادة النظر بالتقسيم الإداري، وإناطة السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء مجتمعاً.
واعتماد خطّة إنمائية موحَّدة شاملة للبلاد.
وإنشاء مجلس دستوري لتفسير الدستور ومراقبة دستورية القوانين…
وتدعيم استقلال القضاء بانتخاب عدد مُعيّن من أعضاء مجلس القضاء الأعلى من قبل الجسم القضائي.
وتوفير العلم للجميع وجعله إلزامياً في المرحلة الابتدائية على الأقل. وإصلاح التعليم الرسمي والمهني والتقني، وإصلاح اوضاع الجامعة اللبنانية، وإعادة النظر في المناهج التربوية والتعليمية بما يعزّز الانتماء والانصهار الوطنيين…
وإعادة، تنظيم الإعلام في ظل القانون وفي إطار الحريّة المسؤولة بما يخدم التوجّهات الوفاقية وإنهاء حالة الحرب.
وإقرار حق كل مُهجَّر بالعودة إلى المكان الذي هُجِّر منه.
كل ذلك، وغيره، جاء في النصوص. بيد أن التطبيقات لم تحصل، وإن حصل بعضها فإنّه جاء بصورة مشوّهة!

2- من وجهة سياسية ودستورية، هل بدلت إصلاحات وثيقة الطائف من الطبيعة الجوهرية للنظام السياسي اللبناني، أم اكتفت بتعديلات وتصحيحات خارجية وحزبية؟

لأنّ اتفاق الطائف لم يُنَفَّذ؛ لا نستطيع قياس أهمّيَّته التغييرية إلّا مع التطبيق بلا هروب وبلا مواربة .
ثمّة إصلاحات مهمَّة تضمّنها الاتفاق كما أشرنا، بيد أنَّ القيِّمين على لبنان الوطن ولبنان الدولة بعد الطائف لم ينجحوا في تحويل الاتِّفاق إلى ممارسات تطبيقية. بل اتّخذوه مظلّة للاستئثار بالحكم والسلطة، مرّة باسم الطائفة، ومرّة بالاستقواء بالوصاية السورية وغيرها من الوصايات القريبة والبعيدة.

ولأنّ الإصلاح السياسي هو أساس الإصلاح في الدستور والقانون، أخفقنا في بناء الدولة عندما أخفقنا في تحقيق الإصلاح السياسي، وعليه فإنَّ المعضلة لا تكون في غياب النصوص، وإنّما في غياب الإرادة السياسية الوطنية والظروف الخارجية المساعدة على الإصلاح.
لذلك، بقي النظام السياسي اللبناني يدور في الفلك الطائفي والمذهبي بل والاقطاعي، وظل الدستور مجرّد مواد مكتوبة.

3- بعد 30 سنة من توقيع اتفاق الطائف، وتحوّل الوثيقة الى جزء من الدستور، هل في الوثيقة بنود لم تُنفَّذ؟

نجيب بكل صراحة؛ اتفاق الطائف لم ينفّذ، وما جرى تنفيذه جزئياً تحت هذا العنوان الكبير حصل بما يخالف جوهر الاتفاق، أو جوهر العقد الاجتماعي بين اللبنانيين.

ظلَّ بعض اللبنانيين يسألون: أيَّ لبنان نريد؟ علماً بأن الجواب كامن في مقدَّمة الاتفاق التي صارت حرفيّاً مقدَّمة للدستور.
اتفاق الطائف جاء ليلغي الطائفية على مراحل، لكن ما حصل هو تعميق للطائفية، ثم للمذهبية، فضلاً عن إثارة العصبيات بما يناقض القانون الجزائي اللبناني الموجود قبل الحرب الأهلية!
اتفاق الطائف لم يلغِ صلاحيات رئيس الجمهورية، وإنما نقل جزءاً منها لمجلس الوزراء مجتمعاً، وليس لرئيس مجلس الوزراء! نشير هنا إلى أنّ أهم صلاحية لرئيس الجمهورية بقيت في عهدته هي: «لا تبعة على رئيس الجمهورية حال قيامه بوظيفته إلّا عند خرقة الدستور أو في حال الخيانة العظمى». إنها صلاحية عظيمة لرئيس الجمهورية في الفقه السياسي والدستوري.
إلى ذلك، جميع الانتخابات النيابية التي حصلت بين عامي 1992 و 2018 خالفت اتفاق الطائف، الدائرة الانتخابية هي المحافظة، ذلك لم ينفّذ. وصار إجراء الانتخابات «خارج القيد الطائفي» حلماً من الأحلام!…
وانتزع مجلس النواب صلاحية تفسير الدستور من المجلس الدستوري. تلك هرطقة دستورية.
وفوق كل ذلك، انتشرت عبارة «الرئاسات الثلاث»، علماً بأنّ رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة أي إنّه رئيس مُجمل المؤسّسات التي تتضمنها الدولة، في حين أنّ رئيس مجلس النواب هو رئيس السلطة التشريعية حصراً، ورئيس الحكومة هو رئيس مجلس الوزراء حصراً، وتالياً، يمكن القول إنَّ تشكيل «ترويكا الحكم» من الرؤساء، الثلاثة منذ العام 1992 هو مخالف لجوهر الاتفاق والدستور، بل هو هرطقة دستورية.

أين تطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة؟، عِلماً بأن هذه اللامركزية لا تعني في حال من الأحوال اللامركزية السياسية أو الفيديرالية التي يطرحها بعض الفئويين الذين لا يفقهون قواعدها ولا يعرفون نتائجها!.
أمّا إستقلال القضاء فقد طُعِن غيرَ مرة. وهل نصدّق أن لبنان الذي عرف قضاءً فاعلاً ونزيهاً قبل العام 1975 يتعرّض للإحتواء من السياسيين حتى صار مطلب استقلال القضاء مطلباً عاماً للبنانيين منذ انتفاضة تشرين الأول 2019؟.
وماذا بقي من التعليم الرسمي الذي سجّل أهم الإنجازات الأكاديمية بين الدول العربية؟
ولماذا محاصرة الجامعة اللبنانية، ونحن الذين نعلم كيف تُحاصَر وتُصادَر استقلاليّتها كمؤسّسة عامة مستقلّة؟

4 – بعد 30 سنة من ممارسة الطائف، ما الثغرات أو النواقص التي برزت، وبخاصة في ما يسمى تنازع الصلاحيات بين الرِّئاسات الثلاث؟ وما هي التعديلات التي تبدو ملحَّة لتُضاف الآن؟

أشرنا إلى بدعة ترويكا الحكم، واستنادها إلى الطوائف الثلاث الكبرى (الموارنة والسنّة والشيعة)، بما يقود إلى إدارة الدولة بالتوافق الثلاثي وهذا مخالف للمادة السابعة من الدستور ولمفهوم الشعب الذي هو مصدر السلطات والسيادة الوطنية.
راحت كل سلطة من السلطات الثلاث تستقوي بطائفتها في مواجهة الطائفتين المقابلتين. هذا ما قاد إلى تعطيل عمل مؤسّسات الدولة أو وقوعها في التعثّر الوظيفي.
يبقى السؤال: ماذا عن صلاحيات الطوائف الثلاث الأخرى، والمعيار هنا القوة العددية كما درج المسؤولون في هذا النظام السياسي؟ ونقصد هنا طوائف الموحِّدين الدروز والأرثوذكس والكاثوليك. وإذا ما تم إرضاء هؤلاء بالمحاصصة – وبما يناقض مبدأَيِّ المساواة والعدالة – ماذا عن بقية الطوائف، وكيف ستشارك في الشأن العام مثل طوائف: العلويين والسريان والبروتستانت واللاتين وغيرها؟.
كل ذلك يكشف هشاشة النظام السياسي الطائفي الذي عطّل ويعطّل الحياة الدستورية. ولا بدّ والحال هذه من تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، واعتماد الانتقال التدريجي إلى المداورة في تولِّي رئاسة السلطات تمهيداً لإلغاء طائفيّتها نهائياً.
ولنتذكر جيداً بأن أوّل رئيس للجمهورية في عهد الإنتداب الفرنسي كان شارل دباس الأرثوذكسي، ثم تولّى لاحقاً رئاسة الجمهوية أيّوب ثابت البروتستانتي، فهل تراجعت حقوق البلاد والعباد في هذه الحال؟

5 ـ هل بالإمكان الزعم أنّ وثيقة توزيع الصلاحيات على عدد من المواقع هو نموذج يمكن النّصح به في المجتمعات ذات المكوّنات الاجتماعية والثقافية والدينية المتعددة والتي تعاني الاضطراب؟

من المستحيل توزيع الصلاحيات على 18 طائفة في لبنان، أمّا المعيار العددي فهو مناقض لمقدمة اتفاق الطائف والدستور من حيث هو مجافٍ لحقوق الانسان ولمفهوم الشعب، الذي يجب أن يكون مجموع المواطنين لا مجموع الجماعات.
ثمّة مبالغة مقصودة بإظهار التعدّدية الطائفية، وأحياناً الثقافية، بين اللبنانيين، علماً بان دولة الهند – على سبيل المثال – تضم أكثر من 120 لغة وقومية، وأنشأت أكبر ديمقراطية في هذا العالم. كما أن الولايات المتحدة الأميركية تتكوّن من خليط عالمي في الدين والشكل واللون والثقافة، ومعضلتها تكمن في التمييز العنصري الذي تمارسه الأكثرية البيضاء ذات الأصول الأوروبية!.
أخطر ما في لبنان، أن يطرح بعض المراهقين في الفكر السياسي والدستوري الحل الفيديرالي؛ فالفيدرالية تقوم على وحدة السياسة الخارجية ووحدة السياسة الدفاعية إلى وحدة النقد الوطني . والفيدرالية تقوم بين ولايات منفصلة، وفي مساحة كبرى من الأرض، ولا تنشأ ضمن دولة واحدة ذات الشكل الدستوري البسيط كما هي الحال في لبنان الصغير المساحة.
ما يمكن النّصح به في الحالة اللبنانية، إطلاق فكرة المواطنة في الفكر والثقافة، ثم في السياسة، بالتزامن مع إرساء حكم القانون في ظل استقلال السلطة القضائية، ونشير هنا إلى أنّ ما يجمع اللبنانيين في الثقافة والعادات الاجتماعية أكثر ممّا يفّرقهم، هكذا كان الرّيف اللبناني أساس الاجتماع في إطار اللغة العربية، وهذا ما لا يُضير الانفتاح على العالم.

6 ـ وأخيراً، خارج المجال السياسي والدستوري، هل لحظت وثيقة الطائف، أم قصّرت في لحظ الاختلالات البنيوية المتّصلة بالتنمية غير المتكافئة في قطاعات الاقتصاد كما بين جهات الوطن… وهي الثغرة التي دخلت منها كل الاضطرابات التي عانت منها البلاد منذ الاستقلال ؟

ينطوي هذا السؤال على الرّصانة، ومقاربة الحياة الاجتماعية وتالياً السياسية بكل مسؤولية.
صحيح أنّ إتفاق الطائف تحدث على الإنماء المتوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً، واعتبره ركناً أساسياً من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام. هذا صحيح، ولكنه بقي بلا تنفيذ، لا بل يمكن القول بوجود فوضى عارمة في أيّة مقاربة – ولا نقول خطّة – تنموية، حسبنا الاعتراف بأننا الدولة الوحيدة في هذا العالم التي تفتقر إلى النقل المشترك !
نحن من الدول الفاشلة في إيجاد حل سريع لمشكلة الكهرباء، وما لذلك من نتائج سلبية في الاقتصاد والاجتماع والمالية العامة.
ونحن مُصنّفون في خانة الدُّول الأكثر فساداً في العالم ، فماذا يبقى من دور لوطن الرسالة؟
أهدرنا ونهدر اليوم أربع قدرات إنتاجية للبنان على الرّغم من الحروب والمآسي التي تعاني هذه القدرات الوطنية إنّها: المياه العذبة، والصناعة السياحية، والتعليم العالي، والطب والاستشفاء!
في الإنماء المتوازن، ونفضّل عبارة الإنماء الشامل، نقترح اعتبار لبنان وحدة اجتماعية وجغرافية واحدة Unit) ) ذلك في توفير المياه والكهرباء والنقل المشترك والصحة العامة وحماية البيئة الطبيعية والتعليم العام .

7 – ملاحظاتكم الأخيرة…

إذ نشكر مجلة الضّحى التي تصدّت لهذا الموضوع الحيوي والمصيري، نقترح الأولويات الآتية :
أ – الانطلاق من استقلال القضاء أوّلاً، من خلال إقرار قانون جديد يتيح بناء السلطة القضائية بالانتخاب من جانب القضاة، و يمنحها الحصانة المطلوبة للقيام بواجبها الوطني.
ب – التربية على المواطنة في مناهج التربية والتعليم من مرحلة التعليم الأساسي إلى التعليم العالي.
ج – اعتماد لبنان وحدة جغرافية واحدة في الإنماء الشامل، بالتزامن مع تمكين القضاء من مكافحة الفساد.
د – اعتماد قانون مدني موحّد للأحوال الشخصيّة، بما لا يتناقض مع جوهر الشريعة الاسلامية الهادف للخير العام، وبما لا يتعارض مع البعد الانساني الذي تحمله المسيحية.
هـ – اعتماد المحافظة مع النظام النسبي في الانتخابات النيابية العامة، تمهيداً لاعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة في مرحلة لاحقة.
و – التمسك بالإصلاحات التي تضمنها اتفاق الطائف شريطة وضع برنامج زمني للتنفيذ.


 

عن “الطائف” والحاجة له: لا تلعبوا بالنار!
أ. رامي الريس

أ. رامي الريس (كاتب سياسي)

كُتِبَ الكثير عن اتفاق الطائف، عن ظروف ولادته واستمراره، عن دوره في إعادة توزيع الصلاحيات السياسيّة بين المؤسسات الدستوريّة، وعن المعاني «الطائفيّة والمذهبيّة» لعمليّة إعادة التوزيع هذه، وعن عدم تنفيذ العديد من بنوده لا سيّما الإصلاحيّة منها، وعن مدى الحاجة إليه بعد نحو ثلاثين سنة من ولادته.

وكُتب الكثير أيضاً عن تعديله: «بالممارسة»، وهو ما يعني عملياً انتهاك الدستور ومخالفة أحكامه، لأن بنود الاتفاق تم إدخالها في نصوص الدستور سنة 1990 وأصبحت نافذة منذ ذلك التاريخ ويفترض احترامها من كل القوى السياسيّة. فغريب كيف يمكن لأطراف معيّنة أن تفاخر بانتهاكها الدستور ومخالفته بهدف تحقيق غاياتها السياسيّة ومصالحها الفئويّة الخاصة.

وإذا كان هذا السلوك يدّل على شيء، فإنه يدّل على أن الثقافة الدستوريّة معدومة لدى البعض، ومفهوم الدستور الذي يسمو فوق كل القوانين ويظلّلها هو مفهوم مجتزأ بالنسبة لها ومشوّه بما يخالف أبسط أصول الأداء المؤسساتي والسياسي في الديمقراطيّات العريقة التي لا تقبل أن تحيد عن تطبيق الدستور بل تؤكد احترامها له عند كل محطّة ومنعطف.
إذن، المشكلة في لبنان تكمن في جانب أساسي منها في احترام الدستور وتطبيقه. فالتطبيق هنا مرتبط بتفاهم القوى السياسية! إذا لم تتفق الأطراف السياسيّة على تطبيق الدستور تعلّق بنوده، بكل بساطة! هذا يعني أن اللاعبين السياسيين هم فوق الدستور، وفوق القانون بينما المفروض أن الدستور هو الذي يحدّد أدوارهم وصلاحياتهم!
السير على درب تكريس الثقافة الدستوريّة واحترامها يتطلّب مسافة زمنية من الوقت، ولكن الأهم أن يتطلَّب ترفّعاً وسموّاً في السلوك السياسي لدى مختلف مكوّنات المجتمع اللبناني.

ثمة قوى سياسيّة لبنانيّة شوّهت فكرة حق المشاركة في السلطة وحوّلتها إلى حقٍ في التعطيل، بدل أن تتيح «الديمقراطيّة اللبنانيّة» مجالات المشاركة لمختلف القوى إنطلاقاً من طبيعة التركيبة السياسيّة المحليّة القائمة على التعدديّة والتنّوع بما يحول دون شعور أي من المكونات بالغبن والإجحاف والتهميش، وبذلك تحوّلت العمليّة السياسيّة اللبنانيّة إلى ما يشبه التفاهمات القبَلية التي تستطيع من خلالها «القبائل المتصارعة» أن تمارس حق النقض ضد بعضها البعض.

لقد نصّ إتفاق الطائف على عددٍ من البنود الاصلاحيّة التي لو أتيح المجال لتطبيقها، لكانت ساهمت في إرساء أسس الدولة المدنيّة القائمة على المساواة بين اللبنانيين وعدم التمييز بينهم وفق انتماءاتهم الطائفية والمذهبية التي تقف حائلاً ووسيطاً ثقيلاً بينهم وبين دولتهم.

فوثيقة الوفاق الوطني اللبناني تضمنت بنداً يدعو إلى تشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية السياسيّة برئاسة رئيس الجمهوريّة ومشاركة رئيسَيّ مجلسي النواب والوزراء وشخصيّات وطنيّة من اتجاهات مختلفة ولها صفاتها التمثيليّة لدراسة الخطوات السياسيّة والتنفيذيّة الآيلة لإلغاء الطائفية السياسيّة. ومن المنطقي أن تسعى الهيئة المذكورة، التي لم تُشكّل بعد، إلى مراعاة كل الهواجس والمخاوف التي يمكن أن تتولد لدى الطوائف والمذاهب التي توّلت إدارة الحكم في لبنان منذ ما قبل الاستقلال بشكل أو بآخر. فليس المتوقع أو المطلوب أن تُتَّخَذ خطوات فورية جذرية دون الإعداد لخطة انتقالية مرحليّة تلحظ سبل توفير مقومات الانتقال السلس والهادىء والتدريجي نحو إلغاء الطائفيّة السياسيّة. ومع كل ذلك، يشكل مجرد طرح إنشاء الهيئة (وليس الإلغاء الفوري للطائفيّة السياسيّة) موجة هائلة من الاعتراضات السياسيّة المختلفة التي خنقت الاقتراح في مهده.

إنَّ الإجهاض المتتالي لكل المحاولات الإصلاحيّة وإجهاضها قبل ولادتها يؤكّد أن حالة الاحتباس السياسي مرشَّحة للاستمرار إلى فترةٍ زمنيّةٍ طويلة، ويؤكد أيضاً أن النفاذ نحو دولة مدنيّة تراعي مرتكزات احترام المؤسسات والقانون والعدالة الاجتماعيّة والمساواة والإنماء المتوازن وكل عناصر الدولة الحديثة التي يطمح إليها المواطنون، دونه عقبات جمّة.

كما أنّ الإصرار على إفشال تطبيق الخطوات الموازية لإنشاء الهيئة الوطنيّة لإلغاء الطائفيّة السياسيّة مثل تشكيل مجلس الشيوخ لضمان حسن التمثيل الطوائفي وتحرير الحياة البرلمانيّة واليوميات السياسيّة من الاعتبارات الطائفيّة يؤكّد مرة أخرى الإصرار على إبقاء نظام المحاصصة التقليديّة هو السائد.

أمّا ما هو أكثر خطورة ويستهدف ليس اتفاق الطائف فحسب، بل الوحدة الوطنيّة اللبنانيّة برمّتها، فهو ما يُطرح من مشاريع تقسيميّة وفدراليّة تذكّر ببعض ما سبق أن طُرِح في حقبة الحرب الأهليّة وتم تجاوزه بكثير من التضحيات والدماء، فإذا به يطلُّ برأسه مُجدداً ناسفاً صيغة العيش المشترك التي كرسّها اتفاق الطائف وسعى لتحصينها.
هل لا تزال الحاجة لاتفاق الطائف قائمة؟ بكل تأكيد، ليس لأن هذا الاتفاق «مقدَّس»، فليس ثمّة مقدّسات في السياسة؛ بل لأن التفاهم على صيغة سياسيّة بديلة أو عقد اجتماعي جديد في الظروف الراهنة يبدو مستحيلاً بسبب اختلال موازين القوى الداخليّة بشكلٍ كبير، من جهة؛ وبسبب احتدام الصراعات الإقليميّة الكبرى من جهة أُخرى، ما يجعل مجرّد التفكير باستيلاد ميثاق وطني جديد مسألة في غاية الصعوبة والتعقيد.

من هنا، هل يمكن رمي البلاد في المجهول؟ وهل يمكن الترويج لمؤتمر تأسيسي جديد في الوقت الذي يعجز فيه اللبنانيون عن معالجة أبسط الملفات كالكهرباء والنفايات والبيئة والطبابة وسواها؟ هل يمكن الاستمرار بخرق الدستور كلما أتاحت الفرصة ذلك ومواصلة السياسات الشعبويّة ولو كان على حساب المصلحة الوطنية والاستقرار والسلم الأهلي؟

كل هذه الأسئلة المشروعة تعكس صعوبة الوضع اللبناني الذي اتّجه نحو الانهيار بفعل غياب المعالجات الاقتصاديّة والماليّة والنقديّة ما فاقم الأزمات المعيشيّة وزاد من تعقيداتها ومشاكلها، وأسقط آمال اللبنانيين وأحلامهم وطموحاتهم بدولةٍ توفّر لهم مقومات العيش الكريم الذي يليق بهم.

لبنان يعيش أقسى الأزمات في تاريخه المعاصر، وبداية الحل تكون في تطبيق الدستور والتمسك باتفاق الطائف وإطلاق أوسع عملية إصلاح سياسي وإداري، وليس بنقض هذه المرتكزات الميثاقية التي أصبحت ضرورية أكثر من أي وقتٍ مضى.
هل «الطائف» ضرورة؟ نعم، بالتأكيد. لا تلعبوا بالنار!


لقاء مع سعادة القاضي عبّاس الحلبي: يجب الإسراع في انشاء مجلس الشيوخ
سعادة القاضي عبّاس الحلبي

1. رافقتم المُداولات التي قادت إلى عقد مؤتمر الطائف سنة 1989، هل كان من حل ممكن لإنهاء الحرب الأهلية الطويلة 1975-1989؛ بغير اتفاق الطائف أو ما يشبهه؟

تشابُك الأزمات أدّى إلى الحرب الأهلية في لبنان ابتداءً مِن سنة 1975 أو «حروب الآخرين على لبنان» وفق توصيف الراحل الكبير غسان تويني وهذا لَم يكن ليؤدّي إلى وقف الحرب لَو لَم تتوفر للبنان فرصةَ تحقيق الحد الأدنى من الوفاق الداخلي اللبناني – اللبناني بين أفرقاء الصراع والوفاق العربي – العربي والوفاق الدّوْلي-الدولي وهذه ميزة اتفاق الطائف بأنه استطاع جمع كل الأفرقاء على مشروع حل. ذلك أنّ الحروب في لبنان انطلَقَت بِشرارتِها بين بعض الفلسطينيين وبعض اللبنانيين إلاَّ أنها سرعان ما فجَّرَت التناقضات العميقة في الداخل اللبناني وكادَت أن تطيح بتسوية سنة 1943 بين المسلمين (السنّة بالأساس) والمسيحيين (الموارنة بالأساس). ثم دخلت التيارات والمخابرات والأموال للعديد من الدول العربية وإسرائيل وكذلك بعض البلدان الأخرى. من هنا أهمية هذه الوثيقة بأن توفرت لها ظروف لا نراها هذه الأيام ممّا يقتضي العودة إليها والتمسُك بها ووقف التشاطر للالتفاف عليها من قبل السلطة الحاكمة وبالمحصّلة فإنه لا بديل لها.

2. يقال إنّ نصوص اتفاق الطائف عزّزت روح الميثاق الوطني للعام 1943 من حيث قبول الجماعات اللبنانية إعادة تعريف الكيان كصيغة تعدّدية ديمقراطية؛ ويقول آخرون إنّها بدّلت في معادلات الصيغة اللبنانية القائمة لجهة توزيع السلطة؛ كيف تَرَوْن الأمر؟

ليس من قبيل التكرار القول إنّ هذه الوثيقة قد أمَّنت للطوائف الرئيسية في لبنان أجوبة على هواجس تاريخية هي الخوف عند المسيحيين والغُبن عند المسلمين والحرمان لبعض شرائح المجتمع، فجاءت هذه الوثيقة تعطي الاطمئنان للمسيحيين بالقول إنّه مهما كان العدد عدد المسيحيين أو عدد المسلمين فإنَّ الوثيقة أخذت بالمناصفة بين المسلمين والمسيحيين. كما أمّنت للمسلمين رفع الشعور بالغبن وذلك بإعادة صياغة صلاحيات رئيس الجمهورية ومنح مجلس الوزراء مجتمعاً صلاحية السلطة التنفيذية كما أعطت هذا المجلس المُشكّل من ممثلين لجميع الطوائف اللبنانية الإمرة على القوات المسلحة التي أصبحت خاضعة لسلطة هذا المجلس وحصنت موقع رئاسة الحكومة كما حصنت موقع رئيس المجلس النيابي بجعل مدة ولايته أربع سنوات وهي مدة ولاية المجلس مع إمكان نزع الثقة عنه بعد مرور سنتين. وأقرت الوثيقة مبدأ الإنماء المتوازن لجميع المناطق حتى لا تشعر منطقة أنها محرومة وأخرى غير محرومة وأعطت ضماناً لهاجس يتشارك فيه جميع الطوائف بحفظ الجماعات بما يطمئن الدروز عن طريق إقرار قيام مجلس الشيوخ ولضمان حقوق هذه الطوائف بعد انتقال التمثيل النيابي إلى خارج القيد الطائفي. هذا عدا إقرار نهائية الكيان اللبناني وأن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.

إلّا أنّ هذه المبادئ جرى الانقلاب عليها بعد تبدل الظروف الإقليمية المحيطة بإقرار الوثيقة فجرت محاولات عديدة بواسطة قوانين الانتخاب وممارسة السلطة وابتداع الترويكا وحصر المؤسسات بالمذاهب وتوثُّب العديد من المسؤولين حصر التمثيل بأشخاصهم عن طريق المحادل الانتخابية وسوء التبذير والهدر والفساد في إقامة المشاريع حتى تحمَّلت الدولة أعباء مالية لا قبل لها على تحمُّلها. كما هُمِّشت شرائح واسعة من المجتمع اللبناني وتعاظمَ شعور الإحباط الذي لم يكن وقفاً على فئة دون أخرى.
إذاً فإنّ اتفاق الطائف أعطى مضموناً لميثاق 1943 دون أن يلغيه وهو ما عُرِفَ بمقدمة الدستور أو وثيقة الوفاق الوطني التي حددت المبادئ العشر التي تعتبر آية في الأدبيات السياسية في العالم.

3. و 4 هل أسهم اتفاق الطائف في تكريس طائفية النظام السياسي اللبناني واعتبار هويته الطائفية أبدية وهو أمرٌ لم يتضمّنه الدستور اللبناني؟ وما هي برأيكم أهم الايجابيات التي جاء بها اتفاق الطائف، أو نشأت عنه، وماهي السلبيات التي لم يكن بالإمكان تجنبها، أو التي برزت لاحقا بالممارسة؟

لا شك أن اتفاق الطائف انطلق من الواقع الطائفي ولكنه رامَ إلى الانتقال مِن دولة الطوائف إلى دولة المواطنة. وقد لحظ الدستور في المادة 95 منه آلية ولأول مرة للانتقال مِن مرحلة الطوائف إلى مرحلة المواطنة. ولكن هذه المادة كانت تقتضي مساراً يبدأ بقوانين الانتخاب وصولاً إلى التربية الوطنية وإسهام الإعلام في تهيئة النفوس لهذه المرحلة. ورأينا عكس ذلك في الممارسات فلجأ السياسيون إلى شد العصب الطائفي وصولاً أحياناً إلى إثارة الفتنة المذهبية والدولة عاجزة عن وقف ذلك نتيجة الوهن الذي أصابها والضعف في الحياة السياسية. فعوض عدم تخصيص أي مركز لأي مذهب أو طائفة، عمدَت السلطة إلى تكريس المذاهب في المراكز حتى باتت الإدارات مقاطعات مذهبية تُحشر فيها الأزلام والزبائنية على حساب تحقيق المصلحة العامة وهذا ما أدى إلى عقم الإدارة التي حُشر فيها المحسوبون على السياسيين وأرهقوا الخزينة وأفلسوها وأفشلوا عيش اللبنانيين.

ومن نتائج تطبيق المرحلة الانتقالية هو موضوع مجلس الشيوخ بعد إجراء انتخابات نيابية خارج القيد الطائفي. وعندما كنا في الطائف كنا نعتقد أنه بعد مضي ثلاث إلى أربع دورات انتخابية سنصل إلى مرحلة الانتخابات النيابية خارج القيد الطائفي ولكننا اليوم نعاني أكثر من تقهقر هذه المسيرة بحيث حُشِرَ اللبنانيون مجدّداً في المربعات المذهبية حتى وكأن انتفاضة 17 تشرين لم تَجرِ وهذا دهاء تجار الطائفية الذين يفقدون مبرّر وجودهم في حال إزالة العصب الطائفي أو التخفيف منه.
أنظر مثلاً في الفوضى السياسية والدستورية بأن مبدأ لا شرعية لأي سلطة تناقض مبدأ العيش المشترك تعني من ضمن ما تعني مفهوم المشاركة في السلطة دون إعطاء أي فريق مهما كانت أهميته حق النقض وذلك على قاعدة ضمان المشاركة وليس على قاعدة التعطيل فكما أن الديموقراطية التوافقية تقتضي أكثرية نوعية لاتخاذ القرارات فإنها أيضاً ومن باب أوْلى يجب أن تكون الأقلية نوعية لمعارضة هذا القرارات. من هنا أهمية الإسراع في إنشاء مجلس الشيوخ. إلّا أن هذه الأزمة على ما فيها من فوضى دستورية وأدبيات سياسية وطروحات إيديولوجية تخفي أزمة أعمق وأدق هي أزمة تحديد دور لبنان في المنطقة وفي الصراع العربي الإسرائيلي وارتباط لبنان بمحاور إقليمية داخلة في صراعات كبرى لا علاقة للمصلحة اللبنانية فيها، وإعادة تركيب السلطة بمشاركة الطوائف وأحجامها داخل لعبة السلطة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ وثيقة الوفاق الوطني قد حددت الأمرين المختلف عليهما وان لبنان بموجب هذه الوثيقة محدَّد الدور في الصراع العربي الإسرائيلي مما يقتضي تطبيق وتنفيذ القرار 1701 وأن يبقى نطاق حركة لبنان في هذا الصراع في وجهاته السياسية والثقافية والاقتصادية بما يمكنه من استعادة بناء قدراته وإقامة الدولة الجامعة.

لقد لحظت وثيقة الوفاق الوطني أنّ لبنان عند تحرير أرضه من الاحتلال الإسرائيلي يستطيع أن ينعم بالاستقرار على حدوده الجنوبية بنشر الجيش اللبناني على كامل ترابه الوطني وهذا الأمر قد حصل من جهة ومن جهة ثانية بوجود الآلاف من القوات الدولية أصبح أكثر مناعة ضد الاعتداءات الإسرائيلية. هذا فضلاً عن أنّ هذه الوثيقة قد أقرت منع التوطين للفلسطينيين وعلى الدولة بمعاونة المجتمع الدولي أن تجد حلّاً للوجود الفلسطيني بتكريس حقهم في العودة إلى أرضهم ووطنهم.

أمّا عن تركيب السلطة وتحديد الأحجام فإنّ هذه الوثيقة قد لحظت وجوب مشاركة الطوائف جميعها في السلطة وفق مبدأي المناصفة والمثالثة ضمن المناصفة. ولا أعتقد أنّ السعي الحثيث من قبل بعض الأطراف حالياً إلى الانقلاب على هذه الصيغة مستفيدة من نتائج حرب قامت بها أو من شعورها بأن الظرف الإقليمي يسمح لها بالانقضاض على هذه الصيغة أو من الديموغرافيا التي تُشكل لدى بعض الطوائف نقطة ضعف مركزية، أو فائض القوة، كل هذه الحالات لا يمكن الارتكاز عليها لقلب المعادلة التي أرستها هذه الوثيقة لأن للبنان خصوصية في هذا المجال.

5. هل طُبّق الطائف كليًّا أم أن بنوداً معينة لا تزال تنتظر التطبيق؟

أشرنا أعلاه إلى تغيّر الظروف المحيطة بلبنان والتي أدَّت إلى تعطيل بعض ما جاء في هذه الوثيقة ولكن أهم النقاط التي بقيت دون تطبيق هي مسألة اللامركزية الإدارية وإقرار قوانين انتخاب منسجمة مع أحكام الوثيقة وإعطاء دور أكبر للمجلس الاقتصادي والاجتماعي في رسم السياسات وتحقيق استقلالية القضاء وإعادة سلطة تفسير الدستور إلى المجلس الدستوري وإعمال المادة 95 من الدستور وإقرار الانتخابات النيابية خارج القيد الطائفي وإنشاء مجلس الشيوخ.

لقد كرّس الدستور اللبناني بعد تعديلات 1990 آلية للحكم لم تحترمها غالبية الفئات السياسية التي تولت السلطة منذ إقرار التعديلات فعُطِّل الدستور وأطيح بالقوانين حتى بتنا نعيش في فوضى دستورية لغياب المرجعية الدستورية التي تفسر أحكامه وهذا ما أحبطته مساعي النواب في إبقاء هذه المرجعية لدى مجلس النواب عوض أن تكون لدى المجلس الدستوري كما كان المشروع الأساسي، لذلك دخلت السياسات في الدستور بحيث أضحى وجهة نظر، وهذا ما يفسّر «العصفورية» التي نعيش في ظلها اليوم. فلا مبدأ التوافق المنصوص عليه في المادة 65 من الدستور والذي بموجبه يتخذ مجلس الوزراء قراراته الأساسية فُعِّل، ولا مفهوم الديمقراطية التوافقية كُرِّس، من حيث الرغبة في مشاركة الطوائف في القرارات الأساسية، ففُهِم أنها حق النقض، الفيتو، يُعطى لهذه الطائفة، أو تلك الفئة السياسية، ولا مفهوم السياسة الدفاعية في حصر دور لبنان إقليمياً في مشاركته في الصراع ضد العدو الإسرائيلي، فكانت ذريعة مزارع شبعا وسيلة لإعاقة استكمال تنفيذ بنود الطائف، وكانت المدخل الى تعطيل الحلول الوطنيّة والسياسية الناجزة التي اقترحتها وثيقة الطائف، وما تلا ذلك من تعطيل للسياسة الدفاعية التي أقرها لقاء بعبدا ودخول لبنان في المحاور بخلاف ما تم التفاهم عليه في إعلان بعبدا ولا حتى القناعة بالحصّة التي أعطتها الوثيقة في عملية توزيع الحصص التي أنتجت تركيبة السلطة بما ينذر بتغيير المعادلات والتوازنات القائمة، ولا إقرار قانون اللامركزية بحيث أبقى فئة ضاغطة على فئات ومنطقة مهيمنة على مناطق، ولا قانون الانتخاب الذي لم ينتج إلّا محادل انتخابية حصرت التمثيل السياسي بإرادة خمسة أو ستة زعماء يسيطرون على تمثيل الطوائف عن طريق اختصارها بتمثيل هذه الزعامات والسلسلة لا تنتهي ولا أزيد.6. بعد عشرين سنة على اتفاق الطائف، كيف تُقيِّمون تجربة الطائف؟ وإذا كان من ثغرات هل من آليّة عملية سهلة لتعديله؟

يحتاج اتفاق الطائف إلى رعاية لِصِيانته من التعدّيات التي تقَع على بنودِه خصوصاً «أنَّ المُولَجين بالتطبيق يتجاوزونه باستمرار ويعملون على إهمالِه والحكم من خارج نصوصه التي تكرَّسَت بالدستور وأصبحَت جزءاً لا يتجزّأ منه والتساؤل بعد كل الذي جرى هل يبقى هذا الاتفاق صالحاً» أم أنَّ المعطيات والممارسات تجاوَزَته وأصبح غير ذي فائدة بالرغمِ مِن كثرةِ الضجيج حوله والادعاء أنَّ الممارسة السياسية هي تحت سقفه!!.
التشكيكُ بالنصوصِ الدستورية بَلَغَ حدًّا « فَلَم يعد المواطن يعرف هل فعلاً» هناك دستور في لبنان تعملُ مِن ضمنِه المؤسسات إزاء الفوضى العارمة في التفسير وفي الممارسة أو التطبيق.
والسؤال الأهم كيف يحافظ اللبنانيون على الدولة ويُؤَمِّنون حمايتها من التحريف ومِن سوء الممارسة. وهل هناك فعلاً مَن هو مقتنع بالطائف، بعدَ أنْ تمَّ تطييف حتى النفايات والتعيينات والإنماء والأمن وسائر مناحي الحياة. أَوَليس هو الميثاق الوطني الذي يجمع اللبنانيين. فإعادة النظر بالطائف لا بدَّ وأن تؤدي إلى فك الميثاق على اعتبارِ أنه يشكِّل جزءاً منه وأن العبث بأحكام الدستور هو العبث بالميثاق؟.
كيف يمكن حماية الطائف وقد أظهر هذا الاتفاق يُتما» لا أحد يحميه من العابثين خصوصاً وأن أمر تنفيذه بِيَد المعارضين أساساً لَه».
والسؤال الأهم أنَّ الظروف المحلية والإقليمية والدولية التي أملت على اللبنانيين الاتفاق سنة 1989 هل هي لا تزال متوافرة على أَيٍ مِنَ الصُّعد الثلاث؟.

فكيفَ للبنانيين أن يجتمعوا على رأي وهم الآن أكثر ما يكونون منقسمين حِيال أبسط القضايا فكيف على الأساسيات؟.
الطائف جاءَ بِهدَفِ وقف الحرب وبناءِ دولةٍ عصرية وَحدَّدَ موقع لبنان في الصراع في الإقليم والأهم أنَّه وزَّعَ دور كل الطوائف وأدخَلَها في تركيبةِ السلطة. فلماذا إذاً التشكيك به في وقتٍ يعجز اللبنانيون على التفاهم على قضايا أبسط من تلك؟.

إنَّ حماية الطائف هي مسؤولية جماعية فهلاَّ عمدَ المخلصون إلى توفير شبكة الأمان حتى لا نغدو يوماً بِلا ميثاق ولا دستور ولا دولة ولا بلد! من هذا المنطلق تجتمع نخبة من المثقفين والسياسيين والعاملين في الشأن العام لإنشاء مرصد الطائف وإصدار نشرة الطائف وكلاهما يهدفان لِرصد الممارسات والمخالفات وتقديم الشروحات بغية تصويب البوصلة التي يجب إتباعها لكي يبقى الحكم ضمن النصوص وليس خارجها.
المهمة الجليلة هي أولا وأخيرا برسمِ اللبنانيين لِضمانها.

7. أخيراً، كيف ترون مستقبل النظام السياسي اللبناني في ضوء مطالب الانتفاضة الأخيرة وبخاصة الشباب والتي بدا أنه لا يستجيب للتطورات المستجدة؟

مستقبل النظام السياسي مرتبط بمدى قدرة اللبنانيين على احترام المواثيق فيما بينهم وإلى إعادة الاعتبار إلى هذه الوثيقة وإعمال النص الدستوري وإقامة المؤسسات على النحو الذي كان مؤمّلاً وتفعيل ما تم إنجازه كي تعود الحياة السياسية أولاً إلى سَلميتها وثانياً إلى إقامة الدولة التي نصت عليها وثيقة الوفاق الوطني.

دعونا لا ننسى أن وثيقة الوفاق هي التي أنتجت دستور 1990 الذي وإن كانت تنقصه دقّة في بعض تعابيره وتعبيراته أو مِهَل من هنا وهناك أو ضوابط ناظمة، إلّا أنّه بالتأكيد نتاج حروب وأزمات وتسويات لو طُبّقت لكان جدير إذ ذاك، وفقط إذ ذاك، الحديث عن تعديلها بمعنى تطويرها. أمَّا وأنها لم تُطبَّق فالحديث عن تعديلها ضربٌ من المقامرة السياسية. وإنْ كان بالتشخيص الطبي العلاجي يدعونا دوماً أنطوان مسرّة إلى التفكير، نسأل: هل يُعقل في الطبيب أن يغيّر في وصفته الطبية طالما لم يجترعها المريض؟
مواثيقنا بل دساتيرنا قلّما تُقرأ. وإن قُرئت قلّما تُطبّق. وإن طُبّقت قلما يأتي التطبيق على الوجه الصحيح. والأهم أنها غالباً ما تفسّر وفق الأهواء السياسية وعلى طريقة رِمية الرامي غير المحترف.
ثم ولذلك فإن قراءة وثيقة الوفاق ومعها الدستور وتفسيرهما عند الاقتضاء لا يمكن أن يكون كمثل قراءة حرفٍ جامد. إن الوثيقة والدستور لهما أولاً وأخيراً روحٌ تنبثق من نزاعات ومخاضات وتسويات.

إننا مدعوون للتفكير بجدّ للإعلان بأنَّ أيّة محاولة لضرب وثيقة الوفاق الوطني أو الاستمرار في تعطيلها واسقاطها هو مشروع حرب جديدة بين اللبنانيين. ولا يظن أحد أن باستطاعته الاستفادة من القوة مهما بلغت على حساب التوازن الذي أرسته، وإنني بصدق أعتقد أن أيَّة محاولة لتجاوز الوثيقة وإسقاطها سيؤدي حتماً إلى فدرلة لبنان وأزيد إنّ هذه الوثيقة هي آخر المشاريع لإبقاء لبنان موحّداً كما أراده الآباء المؤسسون وكما نحن نرغب بالعيش فيه. أمّا مخاطر إسقاط الوثيقة فلا يمكن التنبؤ بتداعياتها ولن تستكين قوى كثيرة وطوائف بمحاولة تكريس هيمنة طائفة أو تيار سياسي على البلد خارج إطار الوفاق الوطني.

فلنستعجل العودة إليها حتى لا نشهد تقسيما للبلد الذي هو أصغر من أن يُقَسَّم وأكبر من أن يُبتَلع.
دعونا نعطي نموذجاً ناجحاً للبلاد من حولنا التي تتحضّر لاستيعاب التحولات التي شهدتها وليس أن نقدم نموذجاً سيّئاً إذا ما اتبعته دول في الجوار أكبر بكثير من لبنان فإنّ هذه المنطقة ستشهد مزيداً من عدم الاستقرار ممَّا سيؤدي إلى تقسيمها وإعادة النظر بحدودها وتركيبتها. إنَّ لبنان رسالة ولكن ليست هذه الرسالة ملكاً للبنانين، إنهم مؤتمنون عليها فعلينا المحافظة عليها بالمهج والأرواح والسلام.

أما من ناحية المخاطر المحيطة بلبنان فهو شعور الغلبة لدى حزب الله والمحور التابع له لربما يُخشى مع هذا الشعور وضرب وثيقة الوفاق الوطني واتفاق الطائف ووقف خطف الدولة والسعي لتعديل الدستور عن طريق الممارسة. وأولى الأخطار هو موجود من لا يؤمن باتفاق الطائف في سدة الرئاسة وكذلك دعم حزب الله له الذي يعتبر لبنان تفصيلاً في معركته الكبرى في الإقليم. كما أن انكفاء العرب عن لبنان يضعف الدولة واللبنانيين فينزلق النظام في لبنان من المشاركة إلى المساكنة بين الطوائف بما يُضيّع رسالة لبنان كمجتمع تعددي ليبرالي حر ويدحض مقولة البابا القديس الراحل يوحنا بولس الثاني أن لبنان أكثر من وطن، هو رسالة للمجتمعات التعددية.

.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي