سنـــائي
كـــان حجـابـــاً مـــن نـــور
وكـــل حجـابٍ كـــان حجـــاباً لِحِجابْ
كــلام بليــغ مـن مجنون في حديقـة
بـدل مجرى حياته نحو الزهـد والخلوة
تلفظت بقول هو بمثابة أثر كامل ونطقت ببيت شعر هو بحجم ديوان
(سنائي)
يعتبر الشاعر الفارسي الكبير سنائي أحد أبرز عمالقة الشعر الصوفي في القرن الثاني عشر الميلادي، ومن غريب المصادفات أنه عاصر كلاً من فريد الدين العطار وجلال الدين الرومي اللذين تربعا إلى جانب سنائي في أعلى مقامات الشعر والحكمة، وقد كان الثلاثة أكثر من شعراء لأنهم كانوا متحققين ومرشدين كاملين جلسوا للإرشاد وقبلوا المريدين وكان لكل منهم أثره الذي لا يمحى، بل أن السنين لم تزد هؤلاء الثلاثة إلا شهرة وتعظيماً بحيث ما زال شعرهم يتردّد على كل شفة ولسان وعشرات اللغات حول العالم.
فضل سنائي
لكن من الممكن القول إن سنائي الذي سبق في الزمان كلاً من الرومي والعطار كان السبّاق بين الثلاثة إلى بلورة الأسلوب الشعري الزاخر بالقصص والصور والأمثلة من القرآن والسيرة النبوية وسير الصالحين، وقد كان شاعر الصوفية الأكبر جلال الدين الرومي أول معترف بفضل سنائي وبسبقه في ميدان العشق ولغة القلوب. وها هو يقول شعراً في ذلك:
تركت طريق الصبابة ولم أكن قد نضجت بعد
فلتستمع الآن إلى القصة الكاملة لحكيم غزنة
كما أنشد في مكان آخر يقول:
كان العطار هو الروح، وكان سنائي العينان
أما نحن فنسير على أثر سنائي والعطار
ولد الشاعر الحكيم سنائي (واسمه الكامل أبو المجد بن مجدود بن آدم سنائي) في “غزنة“ التي تقع اليوم في ما يعرف بأفغانستان، وذلك في أواسط القرن الخامس الهجري، وعاش في ظل حكم الملك بهرمشاه. وقد حظيّ سنائي منذ يفاعه بمكانة رفيعة، إذ اشتهر باعتباره أحد أبرز العلماء والصالحين في زمانه، كما حظيّ بأسمى عبارات التقدير والتعظيم على ألسنة الخلق، إذ أنه جمع إلى مسلكه الصوفي وحكمته قلباً رقيقاً وأدباً رفيعاً وموهبة فريدة في نظم الشعر والتعبير الشعري عن أعقد المسائل الروحية والدينية.
اعتزل الدنيا وانقطع عن مشاغلها ومتعها وهو بعد في عز الشباب، ويقال إنه اتخذ قراره بصورة مفاجئة وعلى أثر حادثة عجيبة تروى كالتالي:
كان الحكيم سنائي ضيفاً دائماً على بلاط الملوك والأمراء، حيث كان ينظم الشعر في مدح خصالهم وإسهامهم وما ينجزونه من عمارة وعدل في الملك وازدهار. وحدث أن قرر السلطان إبراهيم الغزنوي شن هجوم على “عَبَدة الأصنام” في الهند المجاورة، فنظم سنائي قصيدة في مدح السلطان إبراهيم وأخذ طريقه نحو القصر ليلقيها بين يديه قبل انطلاقه بالحملة على شمال الهند.
قصته مع مجنون غزنة
وكان في غزنة في ذلك الوقت رجل غامض “مجنون” يلقب بـ “لاي كور” (أي آكل الثيران)، وكان معروفاً عنه أنه كان ينطق وأسلوبه الخاص بأقوال فيها القدر الكبير من الحكمة وغالباً ما كان لكلامه وهو المجنون في الظاهر وقعٌ عميقٌ على الناس لأنه يلامس لا وعيهم ويشير إلى حقائق كبرى ومواقف لا يجرؤ الناس العاديون على اتخاذها. وكان “لاي كور” يعاقر الخمرة ويتردد كثيراً على الحمام العام . وحصل في ذلك اليوم أن مر ّسنائي في طريقه إلى قصر السلطان بحديقة فتناهى إلى سمعه شعر وغناء فتوقف قليلاً وأصغى لما يقال. وبعد قليل كان المغني – الذي كان في الواقع المجنونة “لاي كور“- يخاطب الساقي بالقول: أيّها الساقي املأ لي كأساً ولنشرب على نية أن يحل العمى بالسلطان إبراهيم. وسمع سنائي الساقي يوبخ المجنون بالقول: “حرام عليك أن تدعو بالعمى على ملك عادل مثل السلطان إبراهيم، فأجاب المجنون بأن السلطان يستحق العمى بسبب حماقته وتركه لمدينة رائعة مثل “غزنة“ التي تحتاج لوجوده ورعايته في سبيل مغامرة حمقاء في أرض بعيدة وفي عز الشتاء القارس.“ وتابع المجنون فطلب من الساقي أن يترع له كأساً ليشرب هذه المرة على نية أن يصاب الحكيم سنائي بالعمى أيضاً. وعندها وبخه الساقي بعبارات أقوى، إذ كيف يعقل أن تتمنى العمى لرجل لا يكن الناس له سوى المحبة والتعظيم؟ وعلى هذا أجاب المجنون بالقول: أما سنائي يستحق اللعن حتى أكثر من الملك لأنه ومع كل علمه ورجاحة عقله لا يبدو أنه يعلم لأي هدف خلقه الله، ولأنه عندما سيواجه الخالق ويسأل عمّا حمل معه من الأعمال الصالحات لن يكون لديه ما يعرضه سوى قصائد المديح للملوك والأمراء وهم من عبيد الفناء مثلهم مثل الشاعر.
ويبدو أن هذه الكلمات كان لها وقع الصاعقة على سنائي وشخصيته الرقيقة والورعة، وقد قرر الشاعر على الفور اعتزال الدنيا والتخلي عن كل مباهج الحياة ومخالطة البلاط وجاهه الفارغ.
سلوكه طريق التصوف
وتبع سنائي اعتزاله بالسعي لأخذ مرشد روحي كامل وجده في شخص الشيخ القطب يوسف الحمداني، والذي كانت زاويته الصوفية قد اشتهرت باسم “كعبة خراسان”.
ويبدو أن أهل البلاط صدموا بهذا الانقلاب الكبير في حياة الشاعر وافتقدوا حضوره، الأمر الذي دفع السلطان برهم شاه بعرض تزويج الشاعر سنائي من شقيقته، وهو شرف لم يتردد سنائي في شكر السلطان عليه لكن مع الاعتذار في الوقت نفسه عن عدم قبوله، وقرأ سنائي في ذلك العرض أن عليه أخذ خطوة حاسمة تبعده عن غزنة فحث السير بهدف الحج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة.
ويشير سنائي في ديوانه الشهير “الحديقة” الذي كتبه بعد العودة من مكة المكرمة إلى هذه الحادثة مكرراً بالصيغة الشعرية اعتذاره من الملك بالقول:
لست من أولئك الذين يهمم الذهب
أو الحصول على زوجة،
أو على مكانة رفيعة بين الناس.
بالله العظيم أحلف لك،
بأني لا أسعى وراء تلك الأشياء
ولا أرغب فيها.
بل أنك لو قررت بوافر فضلك وإنعامك
أن تقدم لي تاج الملك
فإني أقسم برأسك أنني لن أقبل به.
مذهبه
هوجم سنائي أثناء حياته في أكثر من مرة بتهمة الخروج عن الشريعة لكن بلاط الخليفة في بغداد ردّ على هذه التهم بإصدار فتوى تؤكد الإيمان الصحيح لسنائي والتزامه الدين الحنيف.
لكن من المرجح أن تكون تلك التهم قد صدرت بسبب المنحى الخاص الذي اتبعه سنائي، والذي تميّز برفض التفريق بين المذاهب، فهو أخذ مسلك العرفان على يد أحد أقطاب الصوفية المسلمين السنة لكنه أظهر في الوقت نفسه حبه للإمام علي (ر) وآل البيت.
ومن الصعب في الواقع تشخيص مذهب سنائي إذا ما قرأنا شعره في “حديقة الحقيقة”، وهي مجموعته الشهيرة والرئيسية والتي توازي في أهميتها “مثنوي” جلال الدين الرومي، فقد عبّر في ذلك الديوان عن نزعة واضحة إلى الوحدة فاستهل ديوانه بمدح رسول اللّه (ص) ثم ثنّى بأبي بكر وثـلّث بعمر ثم عرج على عثمان وخـلـص أخـيراً إلى مدح الإمام علي (ر) وتساوي الصفحات المخصوصة بـبـيـان مـنـاقـب الإمـام الـصـفـحات التي تتحدث عن الخلفاء الثلاثة، وحين فرغ الشاعر من مدح أمـير المؤمنين، انتقل إلى مدح الإمام الحسن، فالإمام الحسين وأخيراً أبي حنيفة والشافعي. لكن سنائي يحرص في كلماته على إظهار المحبة للإمام علي (ر) والذي كتب عنه بهذه الأبيات في “الحديقة”:
نصب اللّه خليفة المصطفى أميراً يوم الغدير
و لأجله دعـا الـمـصـطـفـى ربـه قـائلاً:
“الـلـهـم والِ مـن والاه”.
هو للنبي وصي و صهر
وسُرَّت روح النبي لجماله”
ولهذا السبب ربما فإن الملا محمد طاهر القُـمِّي المناهض للصوفية ينكر عدّ سنائي من شعراء الـصـوفية، كما ينكر تشيّعه ومن أدلته على ذلك أن أحداً من العلماء المتقدمين لم ينص على تشيعه.
يبقى القول إن الفصل حول معتقد سنائي نجده في شعره العرفاني الذي يستوعب الإنسانية كلها وليس مذاهب الإسلام فحسب، في رؤيته التوحيدية التي تستصغر كل ما في الدنيا وتنشد التقرب من الله وحده ولا ترى مكاناً لإضاعة الوقت في الاختلاف، وهذا شعر سنائي يدعونا تكراراً أن نأخذ طريق المحو والتجرد التام من كل التعلقات أملاً في القرب من الله تعالى والانكشاف على نوره وحقيقته. فكيف يمكن لشاعر كهذا أن يبقي في صدره ولو خاطراً صغيراً يجعله في صف هذا أو ذاك ومخاصماً لهذا أو ذاك من الناس أو المذاهب.
آثاره الشعرية
تشتمل آثار سنائي باللغة الفارسية على سبع مثنويات وديوان. أما المثنويات فهي:
حديقة الحقيقة: وهي الديوان الأشهر ويبلغ عدد أبياته أحد عشر ألف بيت – طريق التحقيق – غريب نامه – سير العباد – كارنامه – عشق نامه – عقل نامه
أما الديوان: فهو صدر بعنوان “ديوان” ويشتمل على اثني عشر ألف بيت من الشعر، موزّعة بين القصائد والترجيعات والتركيبات والغزليات والرباعيات.
وفي ما يلي نعرض لباقة رائعة من شعر سنائي، وكما يلاحظ فإن مضمون كافة الأبيات التي كتبها سنائي يتعلق بترك الدنيا والتقرّب من الله والاقتداء بالصالحين.
مختارات من شعر الحكيم سنائي
التصديق
تصديقي بك يقربني إليك
لكن فقط حتى الباب
فقط عندما أغيب في سرك
سيمكنني الدخول
مثل وردة
نارك المحرقة
جعلتني أتفتح مثل وردة
متُّ على قدميك
وعدت بسرعة إلى الحياة
حريتي الوليدة
لم تحمل لي أي مغنم
لكنني الآن حرّ
بعد أن أصبحت عبداً لك
تفكر ساعة
اجمع فتات الفكر
واملأ نفسك
شيئا فشيئاً بالمعاني
إن العبد الذي يتفكر
ستين دقيقة
في أسرار الخلق
يحصل من الشرف والمقامات
قدر ما يحصله الناس
في ستين عاماً من الصلاة والصوم
التفكر يجعل باز الفكر المحلق عالياً
يهبط أخيراً على فرع مزهر
ينبثق من القلب
حديث في الألغاز
يا عزيزي
لا أعتقد أن رجليك
تقويان على هذا الطريق
فلم هذا الجهد المضني
ليست لك فكرة أين توجد الأصنام
فلم هذا الحديث الروحي الطويل؟
ما الذي يمكن عمله مع رفاق الطريق
الذين يجادلون باستمرار
الممتلئون زهواً مثل تجار البازار
أنت روح صافية
لكنك تظن نفسك جثماناً
أنت ماء قراح لكنك تظن نفسك الوعاء
كل ما تريده عليك البحث عنه
..إلا الصديق
لأنك إن لم تجده
فإنه لن يكون بإمكانك حتى أن ترى أي شيء
نعم يمكن القول دوماً بأنك لست هو
إلا إن أمكنك أن ترفع حجاب نفسك
من بين وجودك ووجوده
لأنك في هذه الحال سترى أنك أنت هو
لسان وأذن
لا يوجد في الدنيا لسان يمكنه أن يفصح عن سرك
لأن قياس الكلام يغشى على حقيقتك
لكن موهبة الأذن أنها تسمع
ما لا يمكن للسان أن يشرحه
حب الوحدانية
عندما يضيء قلب رجل على الطريق
لا يبقى أحد في مكانه
القدم تطأ الأرض لكن ليس لوقت طويل
ولأنه حيث يبدأ القلب البوح بأسراه
لا يوجد هناك “أنت” ولا يوجد فكر
الفارس يحث حصانه على الانطلاق
لكنه بذلك يلقي بنفسه تحت الحوافر الطائرة
في حب الوحدانية لا يوجد قديم أو جديد
كل شيء هناك لا شيء
الله وحده هو الموجود
كن عارياً مثل حبة القمح
في أعين الأحبة فإن حجاب الظاهر
لا يخفي شيئاً
يداك وقدماك يجب أن يتحركا
كما يتحرك الينبوع في مساره الحثيث نحو المحيط
عندها لن يبقى هناك من يتحدث عن البحث
أن تكون شهيراً أو منبوذاً،
أن تكون في المقدمة أو في الخلف،
تلك اعتبارات أشبه بالحجارة التي تؤخرك عن السير
فكن عارياً مثل حبة القمح الخارجة من غلافها
كن مضيئاً مثل آدم
لا تسأل عن أي شيء سوى الحضرة
لا تتحدث عن “أنت” يكون منفصلاً عن “ذاك”
الوعاء الممتلئ لا يمكنه أن يكون أكثر امتلاءً
فكن كل شيء ولا شيء
عالم بلا أرض ولا زمان
عندما تواجه الطريق لأول وهلة، تشعر بأنها مظلمة.
ترى فيها جبالاً شاهقة شامخة،
وترى فيها جماعات من السباع والوحوش الضارية.
اصعد إلى الدرجة التي ترى فيها العالم كله، فسترى مُلكاً بدون أحزان
وسترى عالماً بلا أرض أو زمان، وملكاً دون مكين أو مكان
فارتفع واتجه إلى العلا، حتى ترفع رأسك شرفاً وعزة
وعندما تصل إلى العلا، فسوف نبعد عنك الدنايا
حتى نفتح عيون قلبك، وننظر إليك بدون حجاب
وعندما تنظر إلينا بعين العقل، سوف تدرك ضآلة نفسك وعجزك
وتتجرد من التخيل والتخمين، ولن تستطيع أن تعد نفسك شيئا
فهدئ من غلوّ كبريائك، واستعد
لترى في قلبك برهاننا، لترى التاج والعرش وملكنا.
إن الجاهل يسمع كلامه فحسب، ولا يلقي بالاً إلى كلام الآخرين
خطاب إلى النفس
عندما حل العشق في قلبي، نزع قيد العبودية عني
ورفع عني جميع القيود، فصرت مولى بعد أن كنت عبداً
فتحولت جميع أحوالنا، وتبدلت جميع صفاتنا
فرفع القيد عني ووضعه عليك، فأنت الآن عبد، وأنا حر
أنت أسيري وأنا أميرك، فكيف يقترب الأسير من الأمير؟
إذا استيقظ القلب
العارفون طيور هذا البستان
والعاشقون صيادو هذه الغابة
بصرهم حاد في ظلمة الليل
في هذا الزمن الأعمى والعالم الغادر
يرون النار وجنة الخلد عيانا
نار العشق في قلوبهم، والدموع في أعينهم
إذا استيقظ القلب فالكلام ذِكر
وإلا فهو مجرد صوت
مأساة حمار
مر حمار ذات يوم على دكان حداد
شاء القدر أن تنبعث شرارة من الكير فتصيب حزمة الحطب
انبعثت النار في الحطب فاحترق، وفي النهاية احترق الحمار بين ذلك
ومن العجب أن تمر على نار وأنت تحمل الحطب ثم تنجو بنفسك !!
لأنك لن تمر وتتجاوز النار بسبب ثقل الحمل
فأنت رهينة ذلك الحمل
والأكل والنوم عادتك،
وهذا كل نصيبك من السعادة.
عصر الظلم
لقد خرب الظلم أساس بنيان العالم
واختفى وجه شمس العدل تحت السحاب
الظلم أياً كان فاعله خطب عظيم، والظالم قبيح لعين
أينما توجه العدل بوجهه، حلّت النعمة وفاضت
وكل مكان تُزرع فيه شجرة الظلم، تُقتلع منه جذور المُلك
العدل شمعة تضيء الدنيا، وظلم الملِك نار تحرق الممالك
فأنا كالشمع أنير المجلس، ودائماً ما احرق خيوط روحي
هذه الأشعار من لب روحي، فان خرجت طيبة أو سيئة فمن لساني
فلست في الشعر عالة على أحد، ولا أطير بأجنحة أحد أو قوادمه.
آلام الطريق
كان اثر خدي على الطريق، كأثر خف الإبل
كنت كالطفل الذي فرض عليه صعود الجبل
فكانت دموعي تجري مثل اللؤلؤ
وكان السيف من كثرة سقوط البرد عليه مثل الماس
صار قلبي كالحجر، وعيني دامعة كالبدر
ووجهي مصفراً من دموعي، وظهرت فيه نقاط مثل جلد الفهد
وعندما كان الفهد يرى هذا المنظر،
كان يفرّ خوفاً على نفسه وليس من الغضب
لم يمكث أحد على تلك الجبال، إلا وكسرت عظامه
أصبحت دموعي كالياقوت، برغم انعدام قوُتي، وانتهاء قوَّتي
و كان مؤنسي في هذه الطريق، صوت السباع والحمير
حجاب النور
جلت سنوات طويلة في تلك المقامات
للعبرة والنظر والتدبر في الكون
فحيناً كنت في بغداد للعلم
وحيناً كنت في بيداء الوهم
وحيناً كنت في الفردوس وآخر كنت في الهاوية
حيناً كان قلبي شمع طريق الغيرة،
وحيناً كانت نفسي غريقة في بحر الحيرة
حيناً كنت في الكشف والمكاشفة، وآخر كنت تحت الحجب والستور
حيناً كان لطف البسط يسكرني، وحيناً كان عنف القبض يرهقني
وحينما مزقت هذه الحجب، وصلت إلى حجاب آخر
حجاب ذاته الذي كان من النور،
كان حجباً، وكل حجاب كان حجابا لحجاب.
لا تبحث عنه
لا تحكي عن عذابك لأنه هو يحكي
لا تبحث عنه في كل مكان، لأنه هو يبحث عنك
لو أن رجل النملة لامست ورقة الشجر فسيشعر بها
لو أن حصى النهر تحرك من مكانه فإنه سيعلمه
لو أن دودة من ديدان الأرض اختبأت في صخرة
فإنه سيعرف عن جسدها حتى ولو كان أدق من الذرة
كما أنه سيسمع همهمة تسبيحها ونشوتها في السرّ
كل ذلك يعلمه هو بالعلم الرباني
وهو الذي أعطى أصغر الديدان قوتها
وهو الذي فتح لك الطريق إلى أهل الله
الطريق إليك
الطريق إليك
تشق مسارها كالنهار في قلبي
لكن لا يمكن للفكر أن يراها أو يعرفها
وعندما تتحول كلماتي نحو الصمت
فإن حلاوتك تحيط بكل كياني
وردة التسبيح البرية
أولئك الذين لا يعرفون كيف يحزنون
أو كيف يتحدثون عن حبهم
أو كيف يشكرون،
أولئك الذين ليس في مقدورهم
أن يتذكروا الله
باعتباره منبع كل شيء
هؤلاء يمكن وصفهم بأنهم مثل الريح الأجوف
أو مثل السدان البارد للحداد
أو مثل جماعة من الكهول المذعورين
ألا فلتنطق باسمه واجعل لسانك رطباً بذكره
وكن مثل بساط الربيع
وعندما تبدأ الامتلاء بالحكمة
وعندما يمتلئ قلبك حباً
فلن تظمأ بعدها أبداً
كل ما يبقى هو الاصطبار
وأنت واقف على عتبة الباب
غير مبالٍ بما تسمعه
من نصيحة المارة في الطريق