السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الشعر العامي

عــن الشّعـر العامّـــيِّ فــي جبــل العــرب

-الحلقة الأولى-

سُجّل أوّل نزوح لبني معروف الموحّدين إلى جبل حوران عام 1685 م عندما قدم من جبل لبنان إلى أطراف اللّجاة أحد الأمراء المعنيّين وهو على الغالب الأمير علم الدّين المعنيّ مع عدد من أنصاره الذين استقرّوا في نجران عاصمة اللّجاة، ولكنّ الأمير المعنيّ سرعان ما عاد إلى جبل لبنان تاركًا أمر أنصاره إلى وكيله حمدان الحمدان الذي سيصبح زعيمًا للقادمين الجُدد، ويشير الدّكتور عبد الله حنّا في كتابه “العاميّة والانتفاضات الفلّاحيّة في جبل حوران” إلى محاولات استكشافيّة سبقت هذا النّزوح لأُسَر استقرّت في نجران… وأنّ هذا النّزوح الدّرزي الأوّليّ إلى جبل حوران كان مرتبطًا بالصّراع الدّائر آنذاك في جبل لبنان بين الأسر الإقطاعيّة، وكان هذا الصّراع قد بلغ ذروته فيما بعد في معركة عين دارة 1711م وقد أسفرت تلك المعركة عن نزوح أوسع لليمنيّين ( أحد أطراف الصراع ) إلى جبل حوران حيث نزلوا ضيوفاً على إخوانهم النازحين عام 1685م ثم ما لبثوا أن انتشروا في القرى الشّمالية من جبل حوران بعد صراع دامَ سنوات مع البدو الذين لم يُعمِّروا بيوتًا ولم يزرعوا أرضًا.
وفي مطلع القرن التّاسع عشر 1811م وفد إلى الجبل نزوح درزيّ ثالث مؤلّف من ستمائة أسرة قدمت من حلب، وجاءالنّزوح الرّابع في أعقاب الصّراعات الاجتماعية وتحوّلها إلى صراع طائفيّ عام 1860 م في جبل لبنان، هذا النزوح الرّابع سكنت أسره في المنطقة الشرقيّة والجنوبيّة الشّرقيّة من الجبل وقد نجم عن تلك الهجرات تغيير أساسي في بنية الجبل الديموغرافية لأنّها ضمّت حسب رأي كرد علي بالإضافة إلى فلّاحين من جبل لبنان مجموعات من وادي التّيم والجبل الأعلى (من أعمال حلب) ومن صفد وعكّا وغوطة دمشق وإقليم البلّان، وحسب رأي كرد علي فإنّ الدّروز “أخذوا يرجعون إلى أخلاق البادية بعد أن أوشكوا أن يدخلوا في الحضارة من اللّبنانين الغربيّ والشرقيّ” والواقع أنّ هذا الانكفاء نحو أخلاق وثقافة البداوة مردّه الأوضاع التي عاشوها في جبل حوران وظروف الحياة الاقتصادية والاجتماعية1.
ومن خلال هذه اللّمحة الموجزة لتاريخ الحضور الدّرزي في جبل العرب ندخل إلى تاريخ الشعر العامّيّ (النّبطيّ) الذي أصبحَ مكوّنا أساسيًّا في الثُقافة الشّعبيّة أو الفولكلور الجمعيّ لأهل جبل العرب.

تطوّر الشّعر العامّي (النّبطي) في جبل العرب
يعودُ بنا هذا العنوان الواسع إلى مرحلة توطُّن الأجداد في جبل العرب والموجات البشريّة المتتالية التي اتّخذت من الجبل مقرّاً لها في نهاية المطاف، منذُ أوّل نزوح من لبنان في أواخر القرن السّابع عشر ومطلع القرن الثّامن عشر الميلاديّ خصوصًا بعد معركة عيندارة عام 1711 التي أدّت إلى أكبر موجة هجرة قسريّة أو اضطراريّة لدروز الحزبيّة اليمنيّة من لبنان بعد هزيمتهم على يد حيدر الشّهابي والدّروز القيسيّة.
وكان من الطّبيعي أن تنقل تلك الموجات معها اللّغة أو بالأحرى اللّهجة التي كان أفرادها يتداولون بها في موطنهم السّابق وهي كانت على العموم اللّهجة اللبنانية المميّزة لأهل جبل لبنان ولاسيّما الدّروز الذين كانت لغتهم أقرب ما يكون إلى اللّغة العربيّة لأجدادهم الذين قدموا إلى لبنان بعد الفتح الإسلاميّ لبلاد الشّام. لكن كان من الطّبيعي أيضًا أن تتطوّر تلك اللّهجة تدريجيًّا بتغيّر الموطن والظّروف والتّفاعل الاجتماعيّ والسّياسيّ مع المحيط الجديد الجغرافيّ والسّكّاني والثّقافي. وقد تجلّى هذا التّأقلم في أشعارهم بل وصبغها منذُ البداية بالصّبغة البدويّة مع احتفاظهم باللّهجة المتداولة ذات الجذور اللّبنانية في حياتهم اليوميّة.
في البداية كانت لغة الشّعر العاميّ في جبل العرب هي اللّهجة اللّبنانية المحكيّة التي استقدمها النازحون معهم والتي استعارت من الشّعر الشّعبي اللّبناني (الزّجل) تشكيل القصيدة ولغتها، وهذه اللّغة لم تزل إلى الآن موجودة في أشعار الجبل ولكن بنسبة قليلة قياساً للغة البدو التي سيطرت على القسط الأكبر من الشّعر الشّعبي.. وتنقل لنا الوثائق التّاريخية أُولى هذه الأشعار وهي من نظم أسعد نصار المُتَوفّى عام 1825 م والذي جاء إلى الجبل من راشيّا الوادي في جنوب لبنان، وقد برزت شخصيّة الشّاعر نصّار في غُرّة القرن التّاسع عشر، إذ نظم مجموعة قصائد زجليّة لبنانيّة بحتة وهي لغته التي لم تزل محتفظةً بمعطياتها الأصليّة والتي حاكى من خلالها محبوبته في لبنان بعد أن أصبحت بعيدة عن ناظره وبعد أن حالَ جبل الشّيخ بينه وبينها ..ومنها قوله:
فوق الجبـــــــــــــــــــــــل يــــــا ريح ســــــافــــــــــــــــر بـــــــــالعجــــــــــــــــــــل
نجمي قَـــــــــــــــــــــــــــرّب عليك بْعيد خطوات المجال
غَطَــــــــــــــــــس فــــــــــــي بــــــــــــــــــــــرج عــــــالــــــــــــــــــــــي واختفـــــــــــــى
وْطَــــــــــــــــــــــــــــــــلّ وْنَفَذ من خلف ظَهْــــــرَك يــــــــــــــــــــــــا جبَل
ونلمس في هذا النموذج أسلوب الزّجل اللّبناني المتعارف عليه في إسقاط حرف المد من قافية القصيدة عندما يضطرّ إليها الشّاعر فتراه يوفّق بين “المجال” و “يا جبل” كقوافٍ وهو يعتمد بذلك على المَدّ اللفظي لمفردة (الجبل) وفي هذا شيء من الإلقاء الموسيقيّ الخاص بالزّجل، وهذا الأمر سيبقى أثرهُ جليّاً في أشعار الشّعراء المعاصرين في جبل العرب والذين جاؤوا بعد قرنٍ تقريباً من أسعد نصار أمثال ثاني عرابي وسلمان النّجم عمّار ونجم العبّاس (أبو اسماعيل) وحامد العقباني وغيرهم.
ولكن عندما بدأ أسعد نصّار يخوض غمار الواقع الجديد ووجد نفسه وسط دوّامة من النّزاعات والتّعاملات اليوميّة مع المحيط القَبَليّ البدويّ للجبل بدأ بتغيير (لغة قصائده) في محاولةٍ جادّة لتبنّي المفردات السائدة وصياغة الشّعر بما يمكّنه من إيصال الفكرة والصّورة إلى المحيط الذي يعيش فيه، وهذا ما نلمسه في قصيدةٍ يفخر من خلالها بقومه بني معروف مخاطباً فيها الشّيخ البدويّ فندي الطيّار (قبيلةولد علي من عنزة) إثر نزاعٍ امتدّ لفترة من الزمن بين الفريقين ومنها :
حِنّا بني معروف نحمي الجار لـــــــــــــو جار
نِـــــــــــــقْنـــــــــــى المــــــــزَنَّـــــــــــــــــــــــد2 فْتيـــــلـــــــــــــــــــكْ مـــــا نْـــــــــــــــــــداريــــــــــــــه
وسيــــوفنا الحــــــــــــــــُدبْ تقــــــــــــــــطـــــع كـــــــــــــــــــــــــــــل زِنّــــــــــــــــار
وســـــــــــــــــــــــلاحنـــا لـــــــــــو صَـــــــــــدَى بـــــــالـــدّم نجــــــــــــــــــليـــــــــــه
مـــــــــــا تُذكُــــــــــــــر يـــــــــــــوم مُـــــــــــــــــــرْدُك والـــــــــــــــــــــــــذي صــار
ويــــــــــــوم الجنينـــــــــــــة يــــــا فنــــــــــــــــــــدي اِنـــــــــــت نـــــــــــاسيه؟3
وهذه القصيدة تعتبر من الإرهاصات الأولى للشّعر العاميّ “النّبطيّ” في جبل العرب، ومن الواضح أنّ لغة الشّاعر الأصليّة لم تزل مسيطرةً عليه فتجد القصيدة تحمل خليطاً من المنحى اللّبناني والمفردات البدويّة على حدٍّ سواء، كما أنّه من الواضح أنّ وزن أبيات القصيدة مُضطرب في كثير من المواضع وذلك أنّ الشّاعر نظم في وزنٍ فُرِضَ عليه وهو لم يتعامل معه من قبل وهذا الوزن هو “الشّروقي” كما يُعرف في جبل العرب وأصل تسميته “المسحوب” عند البدو.
وفي تتبّعنا لحركة الشّعر العاميّ (النّبطي) في جبل العرب ندخل في شطرٍ آخر من القرن ذاته، وذلك من خلال قصائد الشّيخ أبو علي قسّام الحنّاويّ المتوفّى عام 1884م والذي برزت شخصيّته في حروب اللّجاة ضدّ ابراهيم باشا المصري في أواخر النّصف الأوّل من القرن التّاسع عشر أثناء الحملة المصريّة على بلاد الشّام والتي امتدّت من عام 1832 حتى 1840، وكانت قصائد الشّيخ الحنّاوي تحمل الخليط اللغوي ذاته الذي حملته قصائد أسعد نصّار، فبين أيدينا مجموعة قصائد تدُلّ على زيادة تأثّر الشّعر الشّعبي في الجبل بلغة البدو نتيجة التّعامل الأطول والأعمق مع القبائل البدويّة وبالذات “السّْمير من ولد علي من عنزة” والسّمير من ولد علي هم فرع من قبيلة الرّوَلَة الكبيرة العنزية الأصل، وكان للشّيخ الحنّاوي دورٌ تاريخيّ في هذا المجال إذ تميّز بالفروسيّة والحنكة السّياسيّة، وعلاقاته العشائريّة الواسعة كما نستدلّ على ذلك من قصائده وأشعاره ومثالنا على هذا أبيات من ملحمته الشّعرية الشّهيرة بـ “ملحمة اللّجاة” التي نظمها في العام 1838م حول حروب اللّجاة ومقاومة بني معروف لحملة ابراهيم

باشا التي قادها ضدّ الموحّدين في جبل حوران، يقول:
من بعــــد ذا ابراهيــــم جرَّد علينـا
يبغى الحرايب عســــكرًا” جرّار
دخل اللّجــا زحفًا بجيشٍ عَرمــرم
و نحنا قـــــــــــلايل و العـدوّ كثـــــــــار
صِحْنـــا كما تهدر سبـــــــــــاع الكواسر
عَ القــــــوم بــــــــــــــالبلـــــــطات و البتّــار3
وبرج الغضب جانــــــــــــــا ابراهيـــم باشا
بـــــــــــالأرناؤوط والتّـــــرك و البلغار
ذَبَحْنا الوزير وكلّ ضباط عسكـــــرو
وثلثين جيشه راح قـَصف اعْمـــــــار
ستّيـــــن كون نـــقابـــــلو و ما نهابــــــــو
و نكســـــر جيوشـو بـــــــقوّة المختار
اخذنا المدافع و الجباخان والذُّخَـر
و الذّبـْــــــح لا يُحصــــــــى لهُ مِقــدار
و كـــــم بطــــل منّا خلاوي إذا لَكـَــد
ْ على الجمع يدعي الجـــيوش دَمـار
يفعل بهم ما يفعل الـــــذّيب بــــــالغنـــــــم
بْضَرْب اليمانـــــــــي الصـّارم البتـّـار
هذي قــــــــلــــــــعتنـــــــا و هذي لجاتنـــــــا
تربـــــة اعْــــــــدانا من دخلـها حـــــار
ترى جدّنا النّعمان خليفة سمـــــــا لخــم
ومنـــــــــذر و هـــــاني ســــادةً أخيار
سلمان والمقداد أيضَـا جــــدودنـــــا
أبو ذر و رفاعـــــة وكــــــــذا عمّــار
وهذه القصيدة تجاوزت المئة بيت وثّقَ من خلالها الشّيخ الحنّاوي مرحلةً تُعَد من أخطر مراحل تثبيت الوجود المعروفيّ في جبل العرب، وهذا النّموذج من القصائد يُسمّى “الهلالي” وسيكون لنا وقفة مع هذا الوزن ومصدرهُ وسبب تسميته في فصلٍ تالٍ من هذا البحث، وفي التّدقيق بالمنحى العامّ لقصيدة الشّيخ الحناوي نجد أنها مستقرّة الوزن أكثر من تجربة أسعد نصّار في “النّبطي “ ولكنّ المفردات والتراكيب المحلّية ذات الجذور اللّبنانية لم تزل تسيطر على جسد القصيدة بشكلٍ واضح مثل ( جرّد علينا ) و (عسكرو ) (ستين كَون) إلخ، مع بروز المنحى النّبّطي الجليّ .وللشّيخ الحناويّ مجموعة قصائد تُعدّ في الطبقة الأولى من الشعر التوثيقيّ أو شعر الأخبار.
ومن ثمّ نصل إلى مرحلة الشّعر النّبطي الأوّليّ لشعراء الموحّدين الذي تحوّل مع الوقت إلى الرّكيزة الأولى للشّعر العاميّ في جبل العرب من حيث لغة القصيدة وجزالة صورها واستعاراتها ومحاكاتها للواقع. وشيخ هذه المرحلة بلا منازع هو الزّعيم شبلي بك الأطرش المتوفّى عام 1904م، والذي استطاع من خلال قصائده توثيق مرحلة وافية من مراحل الكفاح ضد الاضطهاد العثمانيّ. وشبلي الأطرش عاصر الشّيخ الحنّاوي في أواخر حياته وتعرّض للسّجن من قبل العثمانيين وخاض في نزاعاتٍ وثورات محلّية كادت أن تنهي زعامة آل الأطرش في جبل العرب وعلى رأس تلك النّزاعات الحركة الفلّاحية 1885ـــ1890 م (الثورة العاميّة الثانية)، فنجد لدى شبلي الأطرش مجموعة قصائد تخصّ هذه الشّؤون، وفي سياق تتبّعنا لحركة تطوّر الشّعر العامّيّ في الجبل نجد أنّ شعر شبلي يتربّع على عرش مرحلة النّتاج الأوّلي للشّعر النّبطي في الجبل، إذ أرسى هذا الشّاعر قواعدَ مازالت إلى الآن مستخدمة لدى شعراء الجبل بشكلٍ جليّ وذلك من خلال الأوزان المتنوّعة التي نظم بها ومن خلال الأسلوب والشّكل، ولو أخذنا مثالاً من شعره لوجدنا هذه السّمات جليّةً ومنها قوله :
يــــــــــــــــــا راكباً من عندنا فوق سـَــــحوان
حُرًّا مْعنّى يَسـْـــهــــــــــــج الدَّوّ حايل
من ساس عَيْرات اللّحاوي شْعيلان
مثــــــــــل العَنود اللّي يقود الجمـايل
إنسِفْ عليه الكُورْ وِحْــــــزام وِبْطــان
والمَيْـــرَكَهْ أمّ الهَـــــــــــدَب والظّلايــــــــل
الصّبــح من سيناب والضَّوّْ ما بــــــــــــان
ثَـــــــــوِّرْ ودونـــــــــك للنّبـــا والرّســــايل
وهذه الأبيات مُختارة من مطلع قصيدة يرسلها من سجنه في سيناب من الأراضي التركيّة إلى صديقه أبو عجاج من آل بحصاص الرّياشنة في الجبل، ونلاحظ هنا اعتناء الشّاعر بوصف النّاقة (الذَلول الحرّ بلغة البدو) التي يُقدّمها لنا بصيغة المُذكّر ـــ هذه الصّيغة التي ستأخذ مداها فيما بعد عند شعراء الجبل المعاصرين وذلك من خلال قصائدهم الغزليّة النّبطية ـــ والشّاعر هنا يُكلّف راكب النّاقة بإيصال القصيدة، وهذه الناقة كما يصفها سريعة (سحوان) وأصيلة (حُرًّا) وتقطع الفيافي (يسهج الدّوّْ) وغير منتجة أي (حايل) لم تَلِدْ فهي قوِيّة وهذه الصّفة يحبّذها البدو في الناقة التي تُخَصَّص لقطع المسافات الطّويلة، وهي أيضاً من إبِل قبيلة الشَرارات (قبيلة اللّحاوي) الذين عُرِفَ عنهم تربية النّوق المنخوبة المؤصّلة، وهي ذات لون مائل إلى الحُمرة (شعيلان) وهي كالغزال الذي يقود الغزلان (العنود اللّي يقود الجمايل) والجميلة هي مجموعة المها التي كانت تعيش في البراري العربيّة، ومن ثمّ يدخل الشّاعر في وصف كساء النّاقة من (كور) و (حزام) و (بِطان) و (ميركة) .في أبيات مختارة تتخللّها في الأصل أبيات يُمْعن من خلالها بشكلٍ دقيق في وصف كلّ ما يخصّ هذه النّاقة، ومن ثمّ يَصف الدّرب الذي ستقطعه إلى أن يصل إلى صديقه (أبوعجاج) فيمدحه بما يليق به ومن ثمّ يطرح موضوع القصيدة، وهذا الأسلوب مأخوذ عن شعراء البدو المشهورين في نجد وشمال الحجاز وبوادي الشام وهم الذين شَكّلوا مصدر التّجربة الشّعرية النّبطية لشعراء بني معروف في جبل حوران، ومن أولئك الشّعراء البدو محسن الهزاني وابن لعبون ومحمّد القاضي وغيرهم،..وما يهمّنا تبيانه هنا هو مدى تأثر الشعر العامي في جبل العرب بمعطيات ومفردات الحياة البدويّة وأيضاً إبداع الشّاعر في توظيف هذه المكوّنات والمفردات التي أصبحت من معطيات حياته اليوميّة مع التّأكيد على مفارقة لافتة وهي أنّ شاعر جبل العرب لا يتكلّم اللّهجة البدويّة إلّا في شعره، فهو لا يستخدمها في حياته اليوميّة وكلامه النّثري، وسنعرّج على هذا الموضوع في مرحلةٍ قادمة إن شاء الله.
وقد نظمَ شبلي الأطرش أيضًا في الشّعر المحلّي “المَحكيّ” وهذا المَحكي كان بلغته (لهجته) التي يتداولها ولم تحمل قصائده التي نُظمت بالمَحكي الخليطَ اللّبناني البدويّ بل كانت تعبيرًا صريحًا عن لغته الأصلية الدارجة في الحياة اليوميّة ومثالها

بدوي-على-فرسه-في-رحلة-صيد-بواسطة-الصقر
بدوي-على-فرسه-في-رحلة-صيد-بواسطة-الصقر

قومْ يـــــــا مـرسال يـــــــا طَيْر الحَمــــــــام
عا بلاد الشّــــــام وَدّيلـــــــــي سَـــــــلام
إنْ كان هجرك طال يا بدر البُدور
نَفسي عَزَت منّي عَلى الدُنيا السَلام
إِنْ كان هَجرك طال يا بَدر البُدور
يا نُور عيني وَمُهجَتي جُوَّا الـصُّدور
يا ريت لَو كُنـــــا هْفينا بـــــــــالقبــــــور
خان فينا دَهـــــرنا وَالــــــوَقت جـــار
بيظل فكـــري فيك يـــــا نــارًا وَنورْ
دُومْ دايـــــمْ يـــــا حلــــــوْ ليل وَنــــــــــــــــهـار
يا بو خدود معطّرة وَعيون حُــور
يـــــا بَدر يـــــا ريـــّان بــــــــــــانور النـّْـــــــوار

وهذا الأسلوب هو الأسلوب اللّبناني بعينه وهو امتداد للموشّح الأندلسي، ولكنّه باللّهجة المَحكيّة في جبل العرب، اللّغة التي انسلخت عن اللّبنانية والتي بقيت في منأىً عن الانصهار في لهجة البدو والتي هي في المحصّلة اللّهجة المَحكيّة في جبل العرب. ومن هنا كان إبداع شبلي الأطرش الذي عَرَف ماذا يكتب وبماذا يكتب .
وهنا نصل إلى المرحلة التي شهدت ولادة الشّكل النّهائي أو المكتمل للشّعر النّبطي في جبل العرب وهي مرحلة الشّاعر اسماعيل العبد الله الذي عاصرَ شبلي الأطرش في خواتيم حياته وأكملَ مسيرته الشّعرية، وقد لعب العبد الله دورًا كبيرًا في وضع اللًمسات الأخيرة على شكل ومضمون الشّعر النّبطي الجَبَليّ، وذلك بعد أن تمّ الانسلاخ بصورة أتمّ عن اللّهجة اللّبنانية التي نقلها الآباء والأجداد، ونتيجة التّوغّل في الأحلاف والنّزاعات مع البدو. واسماعيل العبد الله شاعر فارس برز في عشيّة القرن التاسع عشر ومطلع العقد الأوّل من القرن العشرين من خلال قصائده التي لاقت انتشارًا منقطع النّظير والتي كانت الوسيلة الإعلاميّة والسّلاح اللّغوي الأمضى في استنهاض الهمم والتصدّي بشعره للإعلام المعادي المحيط بواقع الجبل إن جاز التّعبير .. وقد ساهمَ اسماعيل العبد الله من خلال قصائده وحضوره في توثيق مرحلة تهاوي السّلطنة العثمانية والتي انتهت بسقوطها عام 1918م. وقد عانى الشاعر ما عاناه من السّجن وخوض المعارك في أواخر عهد الاحتلال العثماني، إلا أنّه لم يكحّل عينيه برحيل آخر جندي عثماني عن الأرض العربيّة حيث توفّي عام 1915 على ما يُرجّح .. ومن المادّة التي تركها لنا هذا الشّاعر العملاق نأخذ مثالاً بسيطاً من قصيدةٍ له يجيب من خلالها على قصيدةٍ أرسلت من قبل “اللّحاوي” أحد شيوخ قبيلة الشّرارات حيث تهكّم اللّحاوي فيها على بني معروف في جبل العرب وعلى أحلافهم من العشائر البدويّة المجاورة لهم بقوله :
من الجبــــل جِتْنا جـــــــــــــــــــموعٍ تِبَنّـــى4
مثل سَـــــعاع الجِيْـــــــجْ مِخْتِلف الاجناس5
الكنــــج وابـــــــــن مــــــــــــاضي دليلـــــهنَّه
واهل الجبل ودروز قطّــــاعة الـــــــــــــرّاس6
كــــــــــم واحـــــدٍ منهم لَابلْــنــــــــــــــــا تَمنّــى
مـــــــــــــــا يدري اِنـّـــــــــــه دومْ عَ اللّـــــــوح دَرّاس
حِنّا اليـــــــــاصــــار العدو في وطنّــا
رَصاصْنا ينزل على العظــم والــرّاس7
ومن جواب اسماعيل العبد الله على هذه القصيدة :
قم يا حَمَــــــدْ وَفِّقْ من الهِــجِن دَنّا
سِتّة رَكــــايب يا ولد نُبْــــــل القياس8
يا مَسندي جَدّي الـــــرّكـــــايب9 مْعَنّى
يَمّ اللّحــــــــــاوي شوق مدقوق الْلّعــــــاس
الشّيــــــــــخ تَوَّهْ مظـــــهرًا بَـــــــــــدوْ فَنّـــــــــهْ
من قبل واللهْ ما وَحينـــــاه بقيـــاس
سَوّى علينــــــا قـــــــــــالة الدَّرس لَــنّــــه10
كــــــــــار الفِتى يا قَرْمْ ما عَذْرَب النّاس11
نَذْرِي علـــــى كـــــــل المخاليــــــق حِنّا
الحَضَر راعـــــوا يا فتى وابن عبّاس12
عدوّنـــــــــا فـــــــي عيـــــــــــشــــته ما تهنّــــا
لوْ هو بَعيدٍ من ورا بلاد مِكْنــــــاس

الرباب مرافق أساسي للشعر الشعبي في الجبل
الرباب مرافق أساسي للشعر الشعبي في الجبل

نلاحظ هنا أنّ الشّاعر لم يضع من شأن عدوّه بل امتدحه بالفروسية والسّيادة وهذه من أدبيّات الشّاعر الذي يأبى أن يكون عدوّه قليل الشّأن فهو يقارع الأبطال لا ضعاف الهِمّة والعزيمة ومن النّاحية الفنّية نلاحظ أنّنا أصبحنا بحاجة إلى شرح الكثير من المفردات والتّراكيب اللّغوية التي وردت في القصيدة وهذا ما سيأخذ أبعاداً أخرى في مستقبل “الشّعر الجبلي النّبطي” عندما تتفرّع عنه مذاهبٌ شعرية عديدة.
إنها القصيدة البدويّة النّبطية بأسلوبيّتها ولهجتها المكتملة والتي ستصبح لغة الشّعر العامّي الأكثر استخداماً والأوسع انتشاراً في جبل العرب، وطبعًا هذا الكلام لا ينفي وجود الأشعار الجبليّة باللّهجة المحكيّة والتي تجلّت في الفنون القصيرة والعتابا والمطاليع وأشعار النّدب ولكن أعود للتّأكيد على أنّ هذه قليلة بالمقارنة مع هيمنة الشّعر النّبطي .
هذا مثالٌ بسيط عن تحوّل منحى الشّعر بشكلٍ تامّ من اللّهجة المَحكيّة المتداولة (المتحدّرة من اللّهجة اللّبنانية) إلى لهجة البداوة خلال أربع مراحل امتدّت عبرَ أكثر من قرنٍ من الزّمن تقريبًا إلى أن أصبحت السِّمة العامّة لفولكلور جبل العرب، ومن هذه المقدّمة المُبسّطة والتي جسّدنا من خلالها ملامح من مراحل الشّعر النّبطي في جبل العرب ندخل في العدد القادم من “الضّحى” بإذن الله إلى التّعريف الخاصّ بهذا الشّعر وإلى الشعر النّبطي المعاصر في جبل العرب.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي