عــن الشّعـر العامّـــيِّ فــي جبــل العــرب
الحلقة الثانية حازم ناصر النجم
الغارية – جبل العرب
اللهجة البدوية في الشعر الشعبي مستخدمة على نطاق واسع
في الخليج والعراق وسوريا والأردن وفلسطين واليمن وبدو مصر
أهل الجبل دون سواهم من العرب تكيفوا مع لهجة البدو
بدوي مع ربابته – أهل جبل العرب أخذوا الربابة من البدو كمرافق لشعرهم الشعبي وبرعوا فيها
أصبح الشعر العامي (البدوي) في جبل العرب سِمَةً أساسية لـ “فولكلور” الجبل، وهو ليس اللون الوحيد المتداول، فهناك اللهجة المحلّية وما يندرج تحتها من أنماط فنّية مثل العتابا وبعض قصائد الفن وبعض الأغاني الخاصة بالأعراس والمواسم . وأقول الشعر البدوي لكي أميّزه عن اللهجات الأخرى مع الإشارة إلى أن البعض يسمّيه الشعر النبطي أو العامي أو الشعبي …
وللّهجة البدوية الصّرفة حضور متميز في شعر جبل العرب رغم أن أهل الجبل لا يتكلمون بلسان البدو إلاّ في مَثَلٍ عابر أو جملة معترضة، وأنا أشبّه هذه الحالة (أي حالة نظم الشعر باللهجة البدوية) بحالة الشعر الفصيح عند عامة شعراء الفصحى، فتجد المصري والليبي والشامي وغيرهم يتكلمون بلهجاتهم المحليّة الخاصة ويستخدمون اللغة العربية الفصحى في أشعارهم وآدابهم، وهذه حال أي شاعر بالفصحى مثل الجواهري أو قبّاني أو درويش وغيرهم، فهم يَخرُجون عن عاميّتهم إلى لغةٍ أُخرى هي لا ريب اللغة الأم الشاملة، ولكنها ليست هي المتداولة في حياتهم اليوميّة، وكذلك يخرج الشاعر العامي في جبل العرب عن لهجته الخاصة ليتكلّم اللهجة البدوية في شعرِه .
لذلك يمكن القول أن للشعر “لغة” وللتعامل اليومي “لغة” أخرى في جبل العرب (على اعتبار اللهجة لغة من باب التّجوّز) وهذا فيما يخص السِّمة العامة لفولكلور الجبل، ولهذا الموضوع سابقة تاريخية ذكرها الدكتور يوسف زيدان في كتابه “متاهات الوهم” عندما تكلم عن لغة البُرديات إذ يوضح أنه كان لدى المصريين القدماء لغة مقدسة كُتبت على المَسلاَّت والجدران وهي لغة صعبة وعميقة -يسمّيها اليونانيون “الهيروغليفية”- ولغةٌ أخرى متداولة بين العامة وهي أسهل وأبسط يسمونها “الهيراطيقية” وهي التي كُتبت على البُردي .
ولهذا الخروج عن اللغة المحكية أسباب تاريخية تربط الشاعر أو ذَوّاق الشعر البدوي بالبادية التي هي المنبت الأصيل للغة وشعر العرب وقد مهّدنا لهذا الموضوع في الجزء الأول من هذا البحث.
ولا أقول أن لهذه اللهجة البدوية الأثر الأكبر حالياً في جبل العرب، فقد أصبحت وقفاً على ذوّاقة الشعر البدوي وأصحابه، وهم يشكلون اليوم نسبة قليلة في المجتمع خصوصاً وقد نضح الإعلام المرئي والمسموع باللهجة الشاميّة والمصرية بشكل خاص، فأصبح من المألوف سماع هاتين اللهجتين دون سواهما إن كان في المسلسلات التلفزيونية أو الأغاني المنتشرة بكثرة في هذا الزمن، وتبقى اللهجة البدوية رغم ذلك صاحبة مساحة ليست بالقليلة على مستوى الوطن العربي فهي تشمل الخليج العربي والعراق والأردن وفلسطين واليمن وقبائل مصر، وبالنسبة لسورية فهي متداولة في حوران والرقة ودير الزور والحسكة وريف حلب وريف حمص وهي المساحة الأكبر في سورية .
وبشكل خاص هناك تميّز في عدد الشعراء الذين نظموا قصائدهم بلهجة البدو والذين يقطنون المنطقة الجنوبية والشرقية من جبل العرب، فهم بطبيعة الحال يحاذون بادية الأردن ولهم علاقات قديمة مع بدو الأردن فتجدهم متأثرين أكثر من غيرهم بهذه اللهجة البدوية ومتمكنين منها بحيث يستخدمونها كما هي في شكلها ومضمونها عندما ينظمون قصائدهم أو عندما يهزجون في أفراحهم، ولهم الكثير من المفردات الخاصة الغريبة بشكلها ولفظها عن المتداول في اللفظ القرويّ المحلّي في الجبل، لذلك تجد قصائد شعراء المناطق التي لم تحاذ البادية أقرب للزجل اللبناني وفيها خليط من المحلية والبدوية على عكس شعراء المنطقة الجنوبية، الذين تعامَلَ أسلافهم مع البدو أيام الغزو والرعي والتحالفات العشائرية والتجارة الحرّة، وورثوا عن هذا السلف اللهجة البدوية الصحيحة والقصيدة البدوية المتعارف عليها، ومن قبائل البدو المعروفة ضمن هذه العلاقات: السَّرديّة وبني صخر والرّوَله والعيسى وقبائل منطقة حائل في الجزيرة العربية؛ وقد أخذ سكان جبل العرب عن هذه القبائل الكثير من العادات والتقاليد الواضحة في ضيافتهم ومفرداتهم إن كان في الترحيب أو المباركة أو العزاء، إلا أنهم قرويون متحضّرون في حياتهم العامة مثَلُهم مثَلُ البدو الذين يقطنون القرى أو المدن.
وهناك من يسأل: لماذا ننظم شعرنا بلهجة البدو في جبل العرب، والبدو لا ينظمون شعراً بلهجتنا نحن ؟! والجواب هو أن أهل الجبل قادرون على التكيّف مع اللهجات العامية الأخرى وبالذات لهجة البدو دون سواهم من أصحاب اللهجات، فتجد من الصعوبة في مكان أن يتكلم الشامي لهجة البدو، وهو إن تكلم بها يبدو لك “بدوي شامي” كما قال الفنّان سليم كلاس في مقابلة تلفزيونية عندما سُئل عن دوره في مسلسل (جواهر)، وكذلك المصري عندما يتكلم البدوية والبدوي عندما يحاول التكلم باللهجة الشامية أو اللبنانية، ورغم إتقان بعض الفنانين لهذه اللهجات إلا أن الناحية الفنية تبقى قاصرة عن مخارج الحروف الصريحة ضمن هذه اللهجة .
أما من يأخذ موضوع التقليد من ناحية فلسفية تُفضي إلى تقليد الأدنى للأعلى، فهذا تجنٍّ واضح لا يحترم خصوصية التراث
“قصائد شعراء المناطق التي لم تحاذ البادية أقرب للزجل اللبناني وفيها خليط من المحلية والبدوية على عكس الشعراء الذين تعامَلَ أسلافهم مع البــدو”
في جبل العرب، ولا ينظر إلى محدودية اللهجة المحلية المتداولة ضمن مساحة معيّنة لا تتعدّى الجبل، على الرغم من أن شعراء الجبل نظموا بلهجتهم القروية قصائد لا تقل روعة عن قصائدهم المكتوبة باللهجة البدوية، فالموضوع إذاً موضوع مساحة وانتشار أكبر ومحاكاة للواقع المفروض وليس موضوع أدنى وأعلى، ثم هو لا ينظر إلى الإبداعات والبارقات الفنّية التي نتجت عن الشعر البدوي في جبل العرب، فهناك صور جديدة ولمسات فنّية رشيقة تطاول الشعر الفصيح في عَليائه ومَثَلها قول المرحوم اسماعيل العبد الله
ضَمّ القَحَاوي وَاردَفَ لـــــ عَ النّابي سُلاّف شَفَّة واصطـــبى عَ النّــابي
يــــــــــــــــا حلـــــــــــــــو لمَّـــــة جيبهـــــــــا ع النّـــــــــابـــــــــــــــــــي روض الرّبيع اكسى الهَنيـع كْماها
والقحاوي هو زهر الأقحوان. اصطبى أي ارتقى، جيبها أي صدرها، الهنيع قيل هو الزغب الخفيف الذي يكسو الكمأة وأكسى الهنيع كْماها: إسقاط وتشبيه للثوب الذي يكسو صدرها. أما مفردة العنّابي التي تكررت ثلاث مرات فهي تحمل ثلاث معان الأول هو اللون العنّابي كناية عن الشفتين والثاني يلمح إلى الناب أي على أسنانها والثالث يقصد النابي أي المكان المرتفع .
فما أشبه هذا بذلك الوصف الوارد في شعر الخليفة العبّاسي عبدالله بن المعتزّ:
فاستمطرَت لؤلؤاً من نرجسٍ وسَقت ورداً وعَضّت على العُنّاب بالبَرَدِ
ومن الصوَر والموضوعات البديعة التي وردت في وقت مبكّر من نشأة الشعر البدوي في جبل العرب قصيدة المرحوم الشاعر شبلي الأطرش ( زعيم الجبل سابقاً) والتي يساجل من خلالها القلم مستخدماً الوزن الموافق لبحر الرّمَل ومنها :
سار مذبوح القلم أوحى الصّرير فــــوق طُلـحيّــــــــــة بدا ينثـــر لبــــــــــــــــــاه
واشــــتغــــــــل دولابــــهــــــا فنّـــــــاً يــديــــــــــــــر واليـراع انهَــــــــــل يرعَف مـــــــــــن لمـاه
قلت ها يـــــا راعــيَ السِّنّْ الصّغير هات جاوِب مغـــــــرمَـاً دهره بـــــــلاه
وانثر القـــافـــــات عالكاغــــــــــد وسير هاج بحر الفن وازبَد مـــــــــــن علاه
مذبوح القلم: إشارة للحبر الذي فيه، أوحى الصرير: صوّتت ريشتهُ المعدنية عندما لامست الورق وفي هذا دلالة على الوضع النفسي المؤلم الذي يعيشه الشاعر من خلال شدّة ضغطه على القلم والورقة، طلحية: ورقة كبيرة، ينثر لباه : ينثر مداده، السنّ الصغير: رأس القلم صغير الحجم، الكاغد: الورق
ومن هذا المطلع الشجي يدخل تحَدّياً جميلاً مع القلم، ومن ثم يصرّح بقدرة القلم العظيمة على الرغم من صِغر حجمه، كيف لا وهو حاضرٌ في يد السلطان العثماني الذي أمضى كتاباً يُفضي إلى نفي الشاعر ورفاقه يقول:
قُلـــــــــــــــــــــتْ لَهْ نعـــــمين لــــــــــو عُودَك كلّنا من رَعْفِتَك رحنا هبــــــــاه
وأراد بــ “الرَّعفة” الإشارة إلى إمضاء السلطان، وفي هذا إسقاط بديع وإيحاء وتتبيع وهي من محسّنات الشعر ومن رُقي أسلوبه .
والأمثلة كثيرة وغنيّة وفيها من التجديد والإبداع ما يضعها في مصافي الشعر الفصيح .
ولابد من الإشارة في هذا السياق إلى تأثر الكثير من شعراء الجبل بشعراء ( نجد و حايل ) من أعمال شبه الجزيرة العربية، ونلمس هذا التأثر عندما نقرأ قصائد آل الرشيد ومن عاصرهم من البدو، وأيضاً قصائد محمد العبد الله القاضي وعبد الله بن سبيّل ومحسن الهزاني وهم من شعراء نجد المميزين .
إشكاليات في الشعر البدوي
أُورد هنا بعض الإشكاليات التي يمكن اعتبارها من الجوازات أو الأسلوب المتعارف عليه في جواز الخطأ بالنسبة للمفردة الواحدة و القافية والوزن في الشعر النبطي …
“أخذ أهل الجبل بلغة البدو في شعرهم الشعبي عنوان تكيف طوعي خلّاق مع الواقع المحيط وليس فيه تغلب لثقافة البدو على الثقافة المحلية”
المفردة
بعض المفردات المستخدمة في الشعر البدوي في جبل العرب تحمل إشكالية في معناها وطريقة كتابتها ولفظها وهذه الإشكالية تصل إلى حدّ قلب المعنى في كثير من المواضع إذا ما حاكمنا المفردة في محكمة الفصحى، فمثلاً مفردة “الهيلعي” تستخدم عند العامة بمعنى: الشجاع وهي في معناها الأصيل تعني (الجبان) الذي يصيبه الهلع لأقل الأمور، إنما اتخذت العامة معناها من صيغة (الذي ينشر الهلعَ في قلوب الأعداء) وهي بذلك من الأضداد. يقول اسماعيل العبد الله واصفاً ( راعي الذلول ) في إحدى قصائده :
هيلعي الوِلدات بــــــالظلمة كَسَـــــلّْ عضب هِندي فيصلاً بِدْهُونَهـــــــــا
وفي هذا السياق تحضرني بعض المفردات أو المُسمّيات التي أورَدتَها العرب على عكس فحواها وذلك تيمّناً بفأل الخير والسلامة ومنها: “الناجي” من أسماء الجمل حيث أطلقت عليه هذه التسمية تيمّناً بنجاة راكبِه من المهالك ومنها:”المفازة” أي الصحراء وذلك تيمّناً بفوز قاطعها ونجاته. ومن هذه المُسمّيات أيضاً “السَّليم” كناية عن الملدوغ بلدغة الأفعى تيمّناً بالسلامة.
وايضاً التركيب اللغوي: (اليا) وهو بمعنى (إذا ما) فيقولون: (اليا صار) أي (إذا ما صار) وهي مستخدمة عند البدو بشكل


آخر في كثير من المواضع فيقولون: (إلى ما صار) ومن الشعراء من يستخدم من هذا التركيب حرف اللام فقط فيقول: (لَ صار) كما هي عند الشاعر صالح عمار:
لَ صار حنّا نجوم وسلطان القمر بــــــــأربع طعش نيسان يومٍ يطلعي
وتفيد(اليا) في غالبية مواضعها معنى (إن) ومثالها عند شعراء البدو لمحمد القاضي شاعر نجد :
الرّجل بــــــــــــالواجب لسانه عقالـه اليا قال قولٍ تم لو حال بَهْ حال
وتأتي بمعنى (إلى أن) ومثالها عند شعراء الجبل للشاعر جاد الله سلام:
اليا مـــــا دَعوني نـــاحلٍ تقل عــَ نار سَلْيَ الدّهان اللي مجـــــــــــــــــــرَّد سَلينا
وايضاً إشكالية بعض المطالع الشجيّة التي تبدأ بجملة “يا مال قلبٍ” فهي تُستخدم بأكثر من منحى وهذا تركيب لغوي عامي مستخدم في الكثير من مطالع الشعر البدوي ويفيد معنى التأوّه ويستخدمه الشعراء بأكثر من صيغة فمنهم من يقول: “يا مَلّ..” من مَلّ الشيء بالشيء أي غمسه والمليل: العجينة التي تُدفن في الجمر أو في الرمل الساخن، ومنهم من يقول: “ياما لقلب” أي كم لهذا القلب من الهموم، ومنهم من يقول: “يامن لقلب” وهذه الجملة مستخدمة في الشعر الفصيح ومثالها لعمر بن ربيعة:
يــــــــــــــا مَن لـقلـــــــــــبٍ دَنِـفٍ مغــــــــــــرمِ هــامَ إلــــــــى هـنـــــــــدٍ ولـــــــــم يظلــــــــــــمِ
وأيضاً من الإشكاليات المُجازة في هذا الباب استخدام صيغة الماضي بصيغة الفعل المضارع وذلك بإضافة النون في نهاية الفعل الماضي الخاص بصيغة الجمع في بعض مواضع الكلام مثل ( قالون) في مكان (قالوا) ومثالها للشاعر يونس أبو خير:
من سهلة العيّن على الكَفر غارون غـــــــــــــــــــارة ذيـــــــــــــــاب الجايعــــــــــة إن وَصَفْنـــــــــا
ونلاحظ أيضاً في البيت السابق إشكالية الصفة والموصوف ففي بعض مواضع لهجة العامة ومنها البدوية تُعَرّف الصفة دون الموصوف فالأصح لغوياً أن نقول “الذئاب الجائعة” أو “ذئابٌ جائعة” وليس “ذئاب الجايعة”
ومن المفردات المستخدمة كثيراً مفردة “مير” أو “مار” والتي هي اختصار لجملة (ما غير) وأيضاً تُستخدم بمعنى “لكن” ومثالها للشاعر زيد الأطرش:
مـــــــارِ البلا كَن طبّه الذل واهــــــــوالْ يـــــــــــــا وِلد عمّي غَللّوه النشــايــــــــــــــب
ومفردة “كُود” التي تعني التأكيد أو تأتي بمعنى “غير” يقول الشاعر صياح الأطرش:
مـــــــا رَدّ مِنّا كــــــــــــــود قَرم العيــــــالـــي سلطان ذيب وعاديــــــــاً بالقِراقير
ومن لغة البدو أيضاً وما يستخدمه شعراء الجبل نقلاً عنهم إبدال الواو بالألف في بعض المفردات، مثل “ماقف، ماقد،” التي هي بالأصل “موقف، موقد” وأيضاً إشباع حركة الفتح في بعض المواقع مثل: “يقدار” بمعنى يقدر وما يوافق منحاها يقول جاد الله سلام:
أبكي على اللي بدَّل الدار بديار هيهـات من بـــــــــــــعد المفَـــــارَق يجينا
يــــــــــاقلب كنّك عالعسيرات تقدار اصبر وقيـــــــــل الله مــــــع الصَّابــــــــــــرينا


القافية
في كثير من القصائد العامية نجد خلطاً في القافية الواحدة التي يجب أن تنتهي بحرف الروي ذاته وإنما لا تقاس القصائد العامية بمقياس الفصحى عندما تكون القافية منتهية بحرفٍ من حروف المد أو منتهية بالتاء المربوطة التي تلفظ ( هاءً ) للوقف، فالعامة تخلط بين القافيتين وبرأيي ذلك مُجاز وغير مستحب في الشعر العامي لأن نهايتي الحرفين أو القافيتين تُلفظ واحدةً، فتجد مثلاً في قصيدة لزيد الأطرش :
في ربوع العــــــــــــــــــز للدنيا لفينـــــــــــا وارتقينا بــِ سما العَليا فطامه
فالقافية هنا ( الميم مع التاء المربوطة التي تُلفظ هاءً ) وبعد عدّة أبيات في القصيدة ذاتها نجد :
شَيّـــــــــــــدوا فوق الهضاب المعتلينا لِ مكارمهم صروحاً لا تُسَامى
والقافية هنا هي ( الميم مع الألف المقصورة ) واللفظ يعطيك القافيتين بصيغة الميم المحرّكة بالفتح وهذا إشكال غير مقبول في الفصحى بينما هو وارد في الشعر العامي بشكل عام وفي الشعر البدوي بشكل خاص، إذاً شعراء العامّية يتبعون اللفظ المتوافق دون الخط ودون مراعاة توافق القوافي الأصيلة، وطبعاً يحدث ذلك في مواضع قليلة وليس بصورة دائمة فتجد الكثير من الشعراء العاميين يلتزمون بالقافية كما هي في الفصيح.
الوزن
يتميز الشعر البدوي بقافيتين مختلفتين في الصدر والعجز ضمن القصيدة الواحدة وذلك في غالبية الأوزان المستخدمة في هذا الشعر وهو أسلوب يشابه أسلوب الموشحات الأندلسية، ولكن تجد بعض الشعراء يُخلّون في وزن الصدر عندما لا يُلزمونه بالقافية . وأكثر ما نجد ذلك في نموذج (الهلالي القصير) فهو في معظمه يقارب البحر الطويل وما يشذ عن الطويل في الصدر ولا يوافقه في العجز،ومثاله لإسماعيل العبد الله :
عارَكْت دهري واستمرّت ملامتي مضّــيت عمـري للزمان عــْتـاب وْلاَ
الـيا فَلَجْتَه مــــــــــــــــا ترى الحَــــــــــــقّ يفـقُمَــــهْ تـِخجـــل الخــايــــــــــــــــــــــــــــــن بــقـــولـــــــــة عـــــــاب
فلَجْتَهْ: أي أفحمته بالحجّة الحق. ولكنّ الخائن لا يخجل إذا عيّره الآخرون بخيانته!
وفي الواقع هو لا يطابق البحر الطويل في المحصّلة فهو نموذج خاص يتبع له أكثر من وزن .
يكثر في الشعر الشعبي “الخَزْم” وهو زيادة حرف أو كلمة في مقدمة صدر البيت أو عجزه تخدم المعنى وتزيد عن الوزن، وفي الشعر البدوي يزيدون حرف العطف (الواو) في غالبية الخَزْم ومنهم من يزيد ثلاث حروف مثل اسماعيل العبد الله عندما يقول:
خطا الناس لو رافقتهم يســـترونك وخطا الناس رِفْـقَتهُم رفيق ذيــاب
نلاحظ في عجز البيت زيادة الواو ومفردة (خطا) فهي تعني “بعض” والتي يتغير المعنى بإسقاطها ويطول الوزن بإثباتها، وبدونها يمكننا تقدير الكلام أن مِن الناس كذا ومِن الناس كذا، فالشاعر يقابل بين الأخيار والأشرار في شطري البيت، ولكن الشعراء يضيفون هذا “الخز” أو هذه الزيادة في سبيل إيضاح وتأكيد الفكرة أو لضرورتها مع الإشارة إلى أن الصدر والعجز لهما وزنان مختلفان في الطول والقصر فالعجز يجب أن يقصر عن الصدر في كل هذه القصيدة.
وهنا أُبدي رأيي الخاص في موضوع وزن القصيدة العاميّة أو (البدويّة ) التي نحن في صدد دراستها :
هناك تباين واضح بين عملية تقطيع الشعر الفصيح والشعر العامي على مبدأ الفراهيدي المتعارف عليه وذلك أنك عندما تقطّع البيت الفصيح فأنت لا تغيّر من حركاته شيء بطبيعة الحال أي يبقى كل شيء على ما هو ويوضَع في إطار التفعيلة الموافقة .. بينما في الشعر العامي أنت تضطرّ لتغيير الحركات التي خرجت بها اللفظة الواحدة لكي يتم لك التقطيع والوزن الصحيح وبغير ذلك أنت أمام التقاء ساكنين بشكل كثيف وأمام أحرف ساكنة على حسب مخرج الكلام العامي ومنها ما يأتي ساكن في بداية المفردة لذلك نحن نغيّر منحى البيت واللفظة الواحدة لنخرج بصيغة توافق البحر المطلوب ومثال ذلك هذا البيت من وزن المسحوب ( الشروقي)
أَفْكَرْتْ بـــــــالــدنــيا وْفَيَّضْتْ مَكَـــتُوْمْ ماحــَانْ في ليحـَـانْ صَدري وْحَامِي
نلاحظ التشكيل الذي يوافق طريقة اللفظ ومخرج الكلام كما يريده الشاعر، ولكن إذا أردنا تقطيع هذا البيت ووزنه فنحن نغيّر الحركات ليصبح البيت على الشكل التالي:
أفْكَرْتِ بـــــــــــــالدّنيا وَفَيَّضتِ مكتوْمِ ماحانِ في ليحانِ صدري وَحَامي
وبذلك نحن نتحايل على صيغة البيت التي يُلفظ بها .إذاً لا بد من القول أن بحور الشعر العامي توافق بحور الشعر الفصيح مجازاً أو تقريبياً ولا تُطابقها بشكل تام، وطبعاً هذا لا ينفي وجود أبيات تطابق البحور المتعارف عليها بشكل تام وبدون تغيير في صيغتها وأكثر ما نجد ذلك في بحر الرّمَل المعروف بــ (الهجيني) عند شعراء العاميّة فمثلاً :
“يا شهيداً ما على دَمَّكْ مَزِيدي” تطابق بحر الرمل دون أي تغيير في حركات المفردات .
ونَخلُص إلى أننا ندُل على الوزن في الشعر العامي من خلال ما يقاربه في الفصيح ولا يطابقه بشكل تام، وفي معظم الشعر العامي، المعوَّل عليه في عملية الوزن هو أسلوب أداء الشاعر.




خاتمة
هذه الصفحات عبارة عن ملامح أساسية في الشعر البدوي الخاص بجبل العرب ولا نقول هي دراسة شاملة ولكنها وافية إلى حدٍّ ما بالنسبة للمادة المطروحة وسنخصص باباً للأوزان والمواضيع وما آل إليه الشعر العامي (البدوي) في الجبل من خلال الشعراء المعاصرين الذين واكبوا حركة تطوّر الشعر النبطي إلى حدٍّ ما كما سنوضّح الدور الذي لعبه الشعر العامي في السلم والحرب وأيضاً دوره في توثيق الأحداث التاريخية المهمة في جبل العرب.