الأربعاء, أيار 1, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأربعاء, أيار 1, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الشيخ ابو يوسف امين ابو حمزة

صوفي من الموحدين الدروز تفخر به الصوفية

سيـرة الفقيــر الناسك
السائـــــــح فـــي الأرض

الشيخ أبو يوسف أمين ابو حمزة

ولا يبالــــــــــــــون إن أغنــــــــــــــــــوا أو افتقـــــــــــــــــــروا على الرضا بالقضا نفوسهم جَبَلوا
وعندهم قد تساوى الأمن والخطرُ وليس فرقٌ إذا جاعوا وإن أكلــــــــــــــــوا

لم يسكـن منـــزلاً أو يتخـــذ زوجـــة أو يمـــسّ مـــالاً
ولـــم يمـــلك إلا الثـــوب الذي على جســـده
كـــان رفيقـــه الجـــوع والسهـــر الطويـــل في الذكـــر
وبـــرد الليـــل القـــارس والوحـــدة في كنـــف البريـــة
طعامـــه قطعــة خبــز بــأدام في الصبــاح
وقطعــة مغمســة بالمــاء فــي العشــاء
كــان إذا قدمــت له حبــة من الفاكهــة يتأملهــا

ثم يعيدها إلى مكانــها مع كلمة “سبحــان الخالــق”

تاريخ الموحدين الدروز حافل بسير الصالحين من أهل الزهد والتقوى بل يمكن القول إن هذا التاريخ يقوم في جانب منه على سلسلة تواصلت حلقاتها لقرون عديدة من الزهاد العابدين الذين توارثوا أمانة التوحيد ومناقبه وخصاله وآدابه وقد أنفق أهل الدين والورع حياتهم في جلسات الذكر والمؤانسة بالله وكانت مجالس العبادة والخلوات المنتشرة في بطاح الجبل وجنوبه وفي دساكر جبل العرب وقفاره عادة ملتقى السالكين في طريق الله وقد كرّس العديد منهم حياته لهذا الطريق وترك الدنيا وما فيها حتى لا يشغله شاغل عن السعي الحثيث إلى المولى لعلّ عين العطف ترمقه بلحظ يرفعه من التراب إلى أعلى عليين }يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ{ (الانشقاق:6)
في هذه البيئة من الورع غير المتكلف وبساطة المسلك وبراءة المقاصد وروابط التآخي والحفظ نشأ الزاهد الورع الفقير ذو الهمة والعزم أبو يوسف أمين أبو حمزة من بلدة الخريبة في الشوف، وقد كني أبو يوسف على عادة أهل التوحيد في أدب التخاطب والمناداة، إذ إنه عاش حياته متنسكاً فلم يتخذ زوجة ولم ينجب بالتالي خلفاً، وهذه حال العديد من أكابر مشايخ الموحدين الذين سلكوا حياة النسك فنذروا أنفسهم وحياتهم وكل وقتهم لله وخافوا أن تشغلهم الواجبات الزوجية والأسرة والتكسب عن مسلك أهل الحق فتفتر همتهم في المسير.
ولد الشيخ أبو يوسف أمين أبو حمزة في بيت تقوى وورع في بلدة الخريبة في العام 1888 وكان الولد البكر للشيخ يوسف أبو حمزة وكان له شقيقان هما نجيب وعبد الله (كلاهما اعتمرا العمامة المدورية أو المكولسة) وشقيقتان. كان والده يعمل ترزياً يخيط القنابيز والصداري لأهل الدين وقد تعلم الشيخ الشاب المهنة عن والده واشتغل بها، لكن ظروف الجبل في مطلع القرن العشرين كانت قد تميّزت بالشح وضنك العيش، وقد أثر ذلك على النشاطات الحرفية القليلة التي كانت قائمة، في الوقت نفسه كان عدد من المغتربين قد عادوا من أميركا الجنوبية وبنوا العمائر الحجرية وزينوا أسطحها بالقرميد وكان عم الشيخ الشاب من هؤلاء المهاجرين الذين استقروا في الارجنتين.

هجرته إلى الارجنتين
كانت حرفة الخياطة التي تعلمها لا تحقق له ما يكفي أوده وما يعينه على تربية شقيقيه نجيب وعبد الله وشقيقتيه، وقد أصبح وهو كبير الأبناء مسؤولاً عن عيش أخوته بعد وفاة والدهم. أحس بمسؤولية كبيرة وشعر أن عليه أن يقوم بعمل يعينه على أداء حقوق الأخوة، وشجعه البعض على أن يسافر إلى عمه نسيب والد المرحومين سلمان وعارف أبو حمزة الذي كانت له أعمال في الأرجنتين. قبل بالفكرة وحزم أمتعته وتوجه مع الكثير من مهاجري تلك الفترة إلى المرفأ ليستقل الباخرة إلى تلك البلاد البعيدة.
وصل إلى دار عمه وتشاور معه في ما يمكن أن يساعده من عمل، وكان رأي العم أن عليه أولاً أن يتعلم لغة البلاد أي الإسبانية لكي يمكنه التعامل مع أهلها بيعاً وشراءً. وبعد أن لقنه أساسيات اللغة ووثق من قدرته على التخاطب، جاءه بحقيبة جعل فيها سلعاً مختلفة مما كان رائجاً التعامل به مثل الأقمشة ولوازم البيوت والحلي وغيرها، وكانت الشنطة وما تحويه من بضاعة تسمى في لغة المهاجرين «الكشّة» وقد حمل الـ«الكشّة» معظم الذين حطوا رحالهم في الأميركيتين وأصبحت هذه تقليداً يعرف به أهل بلاد الشام وحرفة الكثير منهم، لكن معظمهمم، بفضل ذكائهم وكدِّهم، ارتقوا بعملهم المتواضع وانتقلوا من البيع المتجول إلى فتح المتاجر وكثيراً منهم حققوا الثروات عن ذلك الطريق.

وسط عالم غريب
بالطبع الله وحده يعلم ماذا كان يدور في فكر هذا الشاب البسيط الشديد التأدّب الخافت الصوت الخاشع في داخله لله وهو يجد نفسه وسط عالم غريب في كل شيء وأغلب الظن أنه صدم لما رأى من اختلاف الظروف والقيم والعادات كما إنه وقبل مضي وقت طويل بدأ يشعر بحنين شديد إلى الوطن وإلى الخريبة وإلى قرى الجبل ومجتمع العقال الذي كان هو جزءاً منه منذ صغره. كان يحمل «الكشة» ويتجول بها ليبيع ما فيها لأن عمه اختار له أن يبدأ على هذا النحو، وكان ذلك أمراً مألوفاً في المهجر، لكن أبو يوسف أمين الشاب كان يحس بألم من جراء تلك الصنعة التي لم يألفها ولم تكن تلائم إباءه، وأدرك في قرارة نفسه أنه أخطأ بالسفر إلى تلك البلاد ، وكيف يمكن لفتى مثله يسكنه الشوق إلى الخالق والطريق القويم أن يجد نفسه في تلك البيئة المشوشة والمسكونة بالركض خلف الأعمال والمال والتجارة.

الخلوة
الخلوة

طريق الأحزان
ومن عِظــــــــــــــــم أسقــــــــام عليــــــــــــــــه تراكـمــــــــــــــــــــــــت يــــــــــــــــــــــــــــرقُّ له تاللـــــــــــه من كــــــــــــــــان قاسيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
وقد أخذ الأحــــــــــــــــــــــــــــــــزان والهمّ مذهبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا إلى أن غدا في شرعة الشجو قاضيــــــــا
وشرّعهــــــــــــــــــــــــا فرضـــــــــــــــــــــــــاً ونفـــــــــــــــــــــــــــلاً وسنــــــــــــــــــــــــــــــّةً على حسبِـــه إذ صـــار فيهــــــــــــــنّ فـــاتيــــــــــــــــــــــــا
إذا ما رآه الخلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــق رقّوا لحالـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه وقالــــوا سقيــــــــــم دواؤه صـــــــــــــار جافيــــــــــــا
(من شعر المرحوم الشيخ علي فارس)

حادثة تبدّل حياته
كما إن لكل وليّ موعداً يسمع فيه نداء الحق له يوقظه مما هو فيه ويدعوه إلى جنابه فإن اللحظة الفاصلة جاءت الشيخ في أحد الأيام عندما التقته امرأة في الطريق وسألته عن ما في «الكشة» التي يحملها، وإذ شرح لها قالت إنها لا تحب أن تشتري على الطريق وإنها تريد منه أن يأتي معها إلى منزلها القريب من المكان لكي ترى ماذا يحمل وتشتري منه ما تحتاج. وقد تبعها أبو يوسف أمين بحسن طوية إلى أن وصل بابها فأنزل «الكشة» وسألها عن مرادها. ألحت المرأة عليه بالدخول لكنه رفض بإصرار وقال لها وقد بدأ يتوجس مما ترمي إليه: ها أنا أمامك وهذه هي البضاعة فلك أن تختاري ما تحبين، لكنني لن أدخل المنزل. حاولت المرأة جهدها لإقناعه لكن عبثاً وفي محاولة أخيرة أخذت منه الشنطة وأدخلتها إلى المنزل على أمل أن يلحق بها، لكن الشاب على العكس اعترته الصدمة بسبب جرأتها وشعر لأول مرة بالخوف، فترك الشنطة عندها وقفل راجعاً بسرعة نحو بيت عمه. تعجب العم لعودته خاوي الوفاض، لكنه روى له القصة وأعرب له هذه المرّة عن رغبته في العودة إلى لبنان.

هذا البلد ليس لي
قال لعمه: هذا البلد ليس لي ولست له، وأنا ربما أخطأت بقطع كل تلك المسافات وترك بلدي وأهلي سعياً وراء الرزق، وكان الأجدر بي أن أسعى خلف الرزاق الذي لا يخلو مكان في الدنيا منه. لقد قررت أن أتكل على المولى وأن أعود إلى بلدي. حاول العم أن يثنيه ويقنعه بالبقاء موضحاً له أن الحادثة عارضة ويجب أن لا تثنيه عن الهدف الذي جاء من أجله وهو كسب الرزق والعودة إلى لبنان بمال يعينه على مشقة الحياة. لكن أبو يوسف أمين كان قد نزع كل رابط بتلك البلاد من قلبه وأصبح مثل أسد سجين في حنين شديد يرتقب اللحظة التي يعود فيها إلى أرض الوطن. وبالفعل حزم الشاب حقائبه وعاد إلى بلاده وهو مقتنع أن حادثة المرأة كانت إشارة إليه بأنه لم يخلق لخدمة الدنيا والبيع والشراء بل لحياة أجلّ وأعزّ هي مجاورة المولى عبادة وخدمة وتقرباً وهي التي وصفها سبحانه في كتابه العزيز بأنها «تجارة لن تبور» (فاطر:29).
أخذه التفكير العميق وهو على ظاهر باخرة العودة يقطع المحيطات نحو موطنه، لم يكن يحلم هذه المرة بالرزق ولا بعمل يجني منه بعض الدنانير بل باللحظة التي يبدأ فيها الحياة التي اختارها وهي حياة الفقر والعبودية الخالصة لله جلّ جلاله.

ثوبه-الطاهر-محفوظا-في-خزانة
ثوبه-الطاهر-محفوظا-في-خزانة

” من أقواله: هذه الطائفة قائمة ومستمرة بسر التوحيد وسر أنفاس السلف الصــالح

سائح في الأرض
وصل إلى بلدته الخريبة وكانت شقيقتاه قد تزوجتا أما شقيقاه اللذان يصغرانه فكانا قد شبا على الطوق وباتا في سن تسمح لهما بالعمل وكسب الرزق. قال لشقيقيه لقد اصبحتما في سن العمل ويمكنكما الاعتماد على نفسيكما في الحياة، فأرجو أن تسمحا لي بأن آخذ طريقي في الحياة. منذ اليوم الأول لرجوعه إلى لبنان وكان في مطلع شبابه انصرف الشيخ أبو يوسف أمين إلى حياة العبادة والخلوة ومجالس العقال وصحبة المشايخ الأعلام فكان يومه كله ولله كله لله، كما بدأ الشيخ أبو يوسف منذ شبابه تقليد السياحة في الارض والتنقل بين المجالس والخلوات ومنازل الأحباء والأصدقاء في طريقه لمصاحبة المشايخ والاستفادة من مجالسهم وسيرتهم ونصحهم وعلمهم الواسع، كأنما كان مستيقناً في قرارة نفسه أن هذه الدنيا كلها عقبة في الطريق، وأن الحياة أقصر من أن ينفق الإنسان قسطاً منها في بناء ما لا يدوم ولا بدّ لبناء منزل من حرفة وسعي في الدنيا وهو اعتزم التكرس لواجب الحكمة والتقرب من الله ومن أوليائه وكبار السادات الذين سبقونا في كل عصر، كما أنه اعتزم أن يكون مهاجراً إلى الله فلا يكون لمنزل أو مكان فائدة في عيشه المتنقل.
عرف أيضاً أن حياة النسك والسياحة في الأرض تعني أن يكون حراً وخفيف الزاد والعتاد والمسافر كلما ابتعد سفره كلما اقتصد كثيراً في متاعه حتى لا يعيقه عن السير.
لكن هذا العَلَم الزاهد العارف أضاف إلى إرث مشايخ الموحدين الروحي وتقليد الزهد والخلوة والتكرّس مسلكاً قلّ من سبقه إليه حسبما يذكر أهل الدين في الطائفة، وهو مسلك الفقر المطلق والسياحة في الأرض مقلداً في ذلك ربما سنة الصحابي الكبير سلمان الفارسي الذي قطع الفيافي والصحارى في الطريق إلى المولى وإلى ملاقاة رسول الإسلام ومصاحبته ونصرته، وربما استلهم هذا الشيخ الدرويش أسلوب الصوفية الكبار وهو الذي تأثر بهم كثيراً وكان تحول إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه من ملك عظيم إلى صوفي يهيم في الأرض شوقاً لله وتضرعاً مصدر إلهام كبير له وقد تعمق في سير بن أدهم والجنيد وغيرهما وتأثر كثيراً بمجاهدات الصوفية وبإقبالهم الكامل على الله وقد بلغ من حبه لهم أن قرر السير في خطاهم، وكان الشيخ في ما بعد يروي عنهم ويحكي سيرتهم تشويقاً للسالكين وموعظة للغافلين. وقد تفرّد الشيخ أبو يوسف أمين في أخذه بسنة الصوفية الجوالين فلم يبن لنفسه داراً ولو صغيراً ولم يحمل مالاً منذ أن قرر أخذ طريق الزهد بل كان لا يلمس المال وإذا قدم لهم من بعض المحبين يسألهم أن يضعوه في مكان ما من نافذة خلوة قدمت له ليقوم فيها بعباداته، وكان المال يجد دوماً طريقه إلى محتاج يزور الشيخ، وكان العابد الزاهد يسأله برفق أن ينظر «ماذا في النافذة» ويقول له دون أن يعرف حتى مقدار المال أو إذا وجدت هدايا من صنف آخر «خذّ ما تجده فهو لك لعله يكفيك حاجة».

جانب من بلدة الخريبة التي نشأ فيها الشيخ أبو يوسف أمين
جانب من بلدة الخريبة التي نشأ فيها الشيخ أبو يوسف أمين

طعامه خبز وماء
نذر الشيخ نفسه لله فلم يتخذ زوجة ولم يقبل أن يدخل النساء عليه والتزم طريق الجوع فكان طعامه في اليوم رغيف خبز يأكل نصفه في الصباح مغمساً بأدام ربما الزيت أو اللبن أو غيرهما ونصفه الآخر في العشاء كان يأكله مغمساً بماء، وكان دأبه العمل بمخالفة النفس ليس فقط بالجوع الذي اعتبره طريقاً أساسياً للانتقال من كثافة الجسد إلى لطائف الروح وبُروق المعرفة، بل بقضاء الليل البارد خارج الخلوة أو خارج المكان الذي يأوي إليه متأملاً ذاكراً مرتدياً ثياب النوم الرقيقة وكان مضيفوه يفتقدونه أحياناً ليجدوه جالساً في العراء ساهماً متأملاً وقد ذهل عن نفسه، ومن مظاهر زهده أنه رفض العناية بقيافته ولم يهتم بتسريح لحيته ولم يقبل ارتداء عمامة أنيقة بل كان يضعها على رأسه ويضغطها لكي تفقد شكلها الأصلي وتتجعد، وكان يفعل ذلك لشدة مراقبته وخوفه من أصغر الأمور التي قد تورد خاطر العجب في النفس الأمارة وكان يخشى أن يستجره محبوه إلى أمور يعتبرها من قواطع الطريق مهما كانت صغيرة أو ظنها البعض أموراً غير ذات شأن.
حبّه للجوع
لكن أكثر ما اشتهر عنه حبّه للجوع وترويض شهوة الطعام وقد بلغ في ذلك مبلغاً بعيداً، إذ أنه ليس فقط كان يكتفي برغيف خبز في اليوم بل كان لا يقبل ضيافة من فاكهة أو طعام أو حلوى أو غير ذلك، وكان إذا قدمت له الفاكهة يتناول حبة من الإناء ويرفعها ويتأملها ويسبِّح الخالق ثم يعيدها إلى مكانها.
أمضى الشيخ أمين قسماً من وقته في الخلوة التي تحمل اسمه اليوم في الخريبة وقد توفي ودفن فيها في العام 29 نيسان 1969 عن عمر ناهز الـ 81 عاماً، وأقيم له فيها مزار متواضع ويمكن للزائر أن يرى محفوظة في خزانة صغيرة على حائط الخلوة ثوبه وعباءته،و كان الشيخ أمين يقيم في الخلوة التي قدمت له من أقاربه عندما لا يكون على سفر، وكان يعتكف فيها ولا يخرج إلا نادراً وكان الطعام البسيط والماء يقدم له من بعض الأجاويد لكنه كان يدقق كثيراً في مطعمه وكان يطلب أن يكون الماء حلالاً من الينبوع. وكان غالباً ما يتفحص الخبز المقدم له ليرى إذا كان محبوه قد تعمدوا تكبير الرغيف طمعاً في أن يحصل على غذاء أفضل لجسده النحيل.

المشايخ يحثونه على الإعتدال
استلذّ الشيخ أبو يوسف أمين الجوع وقهر النفس فأخذ يقسو عليها ويخفف حتى من القليل الذي كان يدخل جوفه، وقيل إنه اكتفى لفترة بوجبة واحدة يتناول فيها نصف رغيف مغمس بالماء حتى أصابه النحول وانتبه المشايخ الكبار مثل المغفور له الشيخ أبو حسن عارف والشيخ أبو حسيب سليمان الصايغ إلى الأمر فاجتمعوا عليه وطلبوا منه أن يبقى على سيرته فلا ينقص طعامه عن رغيف لأن لجسمه حقاً عليه، ولأن في الطعام طاقة على العبادة والاستمرار وأن الجسد وديعة المولى جعل منه آلة العبودية وابدعه مع الروح لحكمة منه فلا يجوز التفريط بأمانته وبما أراده. واستعان المشايخ على النصيحة بسنة الأمير السيد (ق) الذي دعا إلى تناول وجبتين في اليوم، ما لم يكن المرء في صيام. وقد نزل الشيخ أبو يوسف أمين عند خاطر المشايخ فعاد إلى تناول وجبة الصباح خبزاً مع أدام واسترد بذلك بعض عافيته وطاقته. وكان الشيخ في حاجة ماسة إلى تلك الطاقة لأنه منذ شبابه وربما في مطلع العشرينات من عمره كان دائم الترحال والسياحة بين البلدان والمجالس والخلوات وكان من المألوف أن تشهده متجهاً سيراً على الأقدام من الشوف إلى خلوات البياضة في حاصبيا أو إلى قرى جبل العرب في سورية حيث كان له في كل مكان يحل فيه محبون كثر يتنافسون على استضافته وخدمته والتبرك بمجالسته.

قطعة قماش في النافذة
أحد المشايخ زاره في أحد الأيام فوجد أن قنبازه قد خَلُقَ ولم يعد في وضع مقبول، فغال قليلاً وعاد بقطعة من القماش قدمها له وأمل منه أن يفصّلها قنبازاً. وقد شكره الشيخ أمين وطلب منه كالعادة أن يضع الهدية على شباك في الخلوة كان يحول إليه ما يرده من صدقات. لكن في اليوم التالي زاره أحد المشايخ وعرف من حديثه أنه يعاني من ضائقة. وكالعادة أيضاً طلب من الزائر أن يرى ماذا في شباك الخلوة، وشرح له الرجل أن فيها بعض النقود وقطعة من القماش، قال له: خذ ما وجدته فهو لك. وبقي الشيخ بذلك على قنبازه القديم ولم تكن له كما يبدو أي نية في امتلاك آخر جديد.
أمضى الشيخ أبو يوسف أمين حياته كلها في صحبة مشايخ كبار مثل الشيخ أبو حسين محمود فرج والشيخ أبو حسن عارف حلاوي والشيخ أبو محمد جواد ولي الدين والشيخ ابو حسيب الصايغ والشيخ البتديني والشيخ محمود البعيني والشيخ البيطار والشيخ أبو حسين يوسف عبد الخال، وتميز عصره بنهضة روحية كبيرة لدى الموحدين الدروز فكان عدد كبير من كبار المشايخ من أصحاب المدوريات أي العمامات المكولسة وهي عادة عنوان لمنزلة رفيعة لا ينالها الشيخ إلى كثمرة لحياة طويلة من العبادة والزهد والتفقه في الدين.

«لست أهلاً لها»
وبالنظر إلى المكانة التي كانت له بين الموحدين ولما عرف عن علمه الواسع وطهارته ومسلكه الزهدي استقر رأي المشايخ على أن يشرفوا رأس الشيخ أبو يوسف أمين أبو حمزة بالعمامة المدورية أو المكولسة وكان في نظرهم من أهلها وأكثر المشايخ استحقاقاً لها. وقد جاء الشيخ أبو حسين محمود فرج ورهط من المشايخ الكبار بالعمامة إلى خلوة الشيخ أمين وطلبوا منه أن يقبلها، لكن الشيخ الزاهد اعتذر عن قبولها وقال لزواره: لست أهلاً لها، وكان يقصد أن المدورية تحتاج إلى استقرار وإلى حياة مختلفة عن حياة التنقل والترحال التي حافظ عليها حتى آخر حياته، لكن اعتذار الشيخ أمين عن اعتمار العمامة المدورية بدا منسجماً أيضاً مع حياة التقشف والنسك والخلوة التي كان يرغب في المحافظة عليها.
كان الشيخ الزاهد قد أصبح مثالاً يضرب في الزهد والصبر والسلوك الإيماني الكامل وهو لذلك، حظي بإحترام المشايخ الذين كانوا يتباركون بوجوده معهم ويتسابقون للقاء به وحضور المجالس التي يزورها، كما كان المشايخ الشباب، وعندما أصبح الشيخ عاجزاً عن المشي، يتباركون بحمله على ظهورهم أو على أيديهم فكانوا يعقدون الأيدي ويتعاونون على السير به نحو مكان السهرة أو مجلس الذكر. وفي الرحلات البعيدة نسبياً كان البعض يستأجر دابة ويضعها في تصرف الشيخ أو كان يأتي بدابته فيسرجها ويدعو الشيخ لأن يركبها بينما يتابع هو سيره سيراً على الأقدام.

الشيخ-أبو-يوسف-أمبن-في-مرحلة-متقدمة-من-عمره
الشيخ-أبو-يوسف-أمبن-في-مرحلة-متقدمة-من-عمره

زهـــــــــــــــــــــــــــــد العاقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل
قـــــــــــــــــــــوم رضــــــــــــــــــــوا بيسيــــــــــــــــــــر من ملابســــهــــــــــم والقوت لا تخطر الدنيا بهاجسهــــــــــــــــــــــــــــم
صدورهم خاليــــــــــــــــــات من وساوسهــــــــــــــــــــم أسرارهــــــــــــــــــــم ناقيــــــــــــــــــــات ما بهـــا الدغــــــــــــــــــــــل
هجــــــــــروا المنــــــــــــــــــــازل والدنيــــــــــــــــــــا وزينتـــهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا ومزقــــــــــــــــــــوا ثوب زهرتهــــــــــــــــــــــــــــــــا وبهجتــهــــــــــــــــــــــــــــا
ولا أرادوا سنـــــــــــــــاهـــــــــــــــــــا بــــــــــــــــــــل ونزهتهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا ولا استمــــالــهــــــــــــــــــــم حلــــــــــــــــــــيٌّ ولا حِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــللُ
لبسوا ثياب التقى يــــــا حسن ملبسـهــــــــــم وداوموا الذِكر إجهـــــــــــــــاراً بمجلسِـهــــــــــــــــــــــــــــــم
غابوا عن الكون بل عن ذات أنفسهم إذ قد تجلّى لهم محبوبُهـــــــــــــــــم ذُهـِــلــــــــــــــــــــــــــــــوا
(من شعر المرحوم الشيخ علي فارس)

كراماته
كانت طريقة تزَهُّد الشيخ أبو يوسف أمين غير مسبوقة، لكن مجتمع العقال وأهل الدين لاقوها بترحاب كبير وقد اعترفوا للشيخ أبو يوسف أمين بالسبق وعلو الهمة وأفسحوا له في المجالس وأظهروا له توقيراً كبيراً وتسابقوا على خدمته والسعي إلى صحبته وحضور أي مجلس يكون حاضراً فيه وأي سفر يهم به في سياحته الدائمة التي كانت عنوان احتقاره للدنيا وسبيله لمداومة الذكر والإستفادة في مجالس إخوانه من أهل الرشد والنصيحة في مشارق الأرض ومغاربها.
جاهد الشيخ الزاهد وصبر على ترويض النفس ومجاهدتها حتى منّ الله عليه بالتكريم وخصه بالحفظ والعناية والكرامات فكان يسير في ظلمة الليل وطريقه منور بنور رآه الكثيرون فوجلت قلوبهم للمنظر وتأكدوا أن هذا الدرويش السائح كان من أهل الله. لقد اختبر جمهور قوة هذا الشيخ في حكاية موثوقة وردت عنه أنه كان مرة في طريقه من صوفر إلى بيروت قاصداً مجلس آل عبد الخالق الذين كانوا يحبونه ويحسنون وفادته، وقد وقف على الطريق في انتظار من يتكرم عليه وينقله إلى العاصمة بيروت. وكان أن رآه سائق باص ينقل ركاباً من البقاع إلى بيروت فتوقف أمامه، وبعد أن سأله عن وجهته طلب منه أن يصعد إلى الباص. جلس الشيخ مطمئناً إلى أن جاءه الجابي طالباً منه الأجرة فردّ الشيخ أبو يوسف أمين ببساطة قائلاً للسائل: يا بني ليس عندي مال أعطيكم، فإن تكرمتم بأخذي إلى بيروت معكم أكون شاكراً وإن لم ترغبوا فيمكنكم التوقف حتى أترجل وأتابع طريقي والله ييسرني. تشاور الجابي مع السائق وقرر الأخير رفض نقل الشيخ مجاملة فأوقف الحافلة وطلب من الشيخ مغادرتها. اعتذر الشيخ وترجل واستعد لمتابعة السير على مهل وكان يبحث عن بقعة ظليلة يقف فيها في انتظار أن يلمحه فاعل خير. في هذه الأثناء كانت الحافلة قد تعطلت وتوقفت في مكانها وقد جاهد السائق بكل وسيلة لكي يعيد إدارة المحرك لكن دون جدوى. أحد الركاب من ذوي البصيرة تعجب واتجه إلى السائق وسأله ما السبب في انك طلبت من الشيخ مغادرة الحافلة بعدما توقفت لكي تسمح له بالصعود؟ قال السائق: إنه لا يحمل الأجرة. قال الراكب بالله عليك اطلب منه العودة وأنا أتكفل بالأجرة عنه. وبالفعل نودي على الشيخ أبو يوسف أمين للعودة إلى الحافلة فعاد بطيبة خاطر ولم يكن منزعجاً. صعد، وما أن اتخذ مكانه حتى حاول السائق مجدداً فدار المحرك على الفور وانطلقت الحافلة في طريقها كأن شيئاً لم يكن. فوجئ الجميع بهذا المشهد وكان السائق أول الذين بُهِتوا وقد شعر بحرج وخجل شديدين فأصرّ على أن يقدم تلك الخدمة لوجه الله من كرامة لذلك الشيخ الغامض بعد أن فتح عينيه على حقيقته وما بدا أنه يستودعه من سر.

كان يحب بعقلين بسبب رفاقه المشايخ المقيمين فيها ومنهم الشيخ أبو محمد جواد ولي الدين. وأين ما وجد الشيخ أبو يوسف أمين كان المشايخ يتوافدون للقاء به وقيام الليل معه. وقد كان واعظاً في السهر، وكان يقرأ من سيرة الشيخ الفاضل وشعره ويروي سير مشايخ الصوفية مثل إبراهيم بن أدهم والجنيد وذي النون المصري وسير الصالحين. كان يحب الاقتداء بالسلف الصالح، من أقواله هذه الطائفة قائمة ومستمرة بسر التوحيد وسر أنفاس السلف الصالح. كان شديد التقدير للسلف الصالح “حتى تبقى النفوس حية بسيرتهم”. كان يأتيه شباب طلباً للنصيحة وكان كريماً في الوعظ وفي الإرشاد علماً أن سيرته في حد ذاتها كانت موعظة وتعليماً. في المقابل فإنه لم يكن مكترثاً بالأمور العامة والدنيوية مهما بلغت جسامتها، وكانوا يأتون إليه ليخبروه عن أمر أو حدث ويسألوه رأيه وكان جوابه دوماً:”الله تعالى أخبر” وهذا سلوك المشايخ الأجلاء عندما يحولون إلى الله تعالى بالقول”لعله خير” معترفين بعجزهم وبضآلة علمهم مؤثرين الصمت على الكلام. قارن ذلك بما نراه اليوم من خوض الناس في كل أمر ومجادلتهم في كل شيء بغير علم أو دليل.
كان المشايخ يسهرون معه ويمضون شطراً طويلاً من الليل في الذكر والعبادة والتأمل. وكان الجميع حتى لو سهروا حتى الثانية صباحاً يحرصون على أن يستيقظوا قبل الفجر من أجل ذكر الله. وكان أحد المشايخ المعتبرين يقول في التشجيع على قيام الليل: “إن من يذكر الله في العشاء هو مثل من يقدم ديكاً أما من يذكر الله قبل الفجر فهو كمن يقدم خروفاً”.
كان نومه قليلاً لكنه كان مع ذلك ينام لكي يفسح للساهرين معه بالنوم ولا يثقل عليهم بالسهر معه، حتى إذا أخلد أهل الدار للنوم يقوم وينصرف إلى الصلاة والذكر مجدداً وقد كان حسب الذين رافقوا حياته من المجاهدين في قيام الليل حتى ما بعد الفجر.

شاهد-الضريح
شاهد-الضريح

على حبيبي سلامي
علــــــــــــــــــــى حبيبــــــــــــــــــــــــــــــــــــي ســـــــــــــــــــــــــــــــــــلامي ونــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــور عيني وكســـبــــــــــــــــــــــــــــــــــي
وروح روحــــــــــــــــــــــــي وقلبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
من زاد فيـــــــــــــــــــــــــــــــه هيامـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي وسحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت فيه بحبّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
وقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد تمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلّك لبّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
من عظم فرط غرامــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي جسمـــــــــــــــــــــــــــــي ضني بالسقـــــــــــــــــــــــــــــــام
أنظــــــــر فحالــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيَ يُنبــــــــــــــــــــــــــــــــي
فالحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبّ صــــــــــــــــار طعامــــــــــــــــــــــــي والشـــــــــــــــــــــــــــــــــــوق عين مدامــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
دع يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا عذولــــــــــــــــي عتبــــــــــــــــي
ولا تزد لملامــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي وانظـــــــــــــــــــــــــر لرســـــــــــــــــــــــــــــم عظامـــــــــــــــــــــــــــي
يكفيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك معظــــــــــــــــــــــــم سلبــــــــــــــــي
(من شعر المرحوم الشيخ علي فارس)

ضريح-الشيخ-أبو-يوسف-أمين-أقيم-في-الخلوة-التي-كان-يتعبد-فيها-في-أواخر-أيامه
ضريح-الشيخ-أبو-يوسف-أمين-أقيم-في-الخلوة-التي-كان-يتعبد-فيها-في-أواخر-أيامه

مرضه ووفاته
نالت سنوات الجوع وسهر الليل والسياحة في الأرض من صحة الشيخ تدريجياً حتى إذا ما بلغ عامه الواحد والثمانين أصابه مرض بدأ يؤلم جسمه لكنه لم يفصح عنه لأي كان بل صبر عليه. وقد عرف الأجاويد بمرضه عندما كانوا يغسلون جسده الشريف فأحسوا أنه تألم في موضع معين من جسمه وطلب منهم أن يحيدوا عن تلك الناحية. وكان الشيخ لا يظهر عورته لأحد ويغتسل ساتراً لها. وكما كانت حاله دائماً فقد أبى أن يراه طبيب أو يعطى دواء على اعتبار أن الطبيب هو الله تعالى. {وإذا مرضت فهو يشفين} (الشعراء:80) وقد بقي الألم معه واشتد مع الوقت إلى أن منحه المولى الفرج ففارقت روحه السعيدة جسده المتعب يوم 29 نيسان 1969 في الخلوة التي كان يبيت فيها ويتعبد في أواخر أيامه وقد دفن في محراب عبادته وأقيمت له حجرة متواضعة في الخلوة التي تحمل إسمه الآن وهي على مسافة قصيرة من ساحة الخريبة.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading