الأربعاء, آذار 27, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأربعاء, آذار 27, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

سيّد الإعتدال والحـــوار

تربطني بالسيّد هاني فحص علاقة قديمة تعود إلى منتصف التسعينيات، وحدث أن اختلفنا في الرأي حول قضايا راهنة، لكنه كان دائماً يتمسّك بالحوار، ولم يتوقف مرة عن التواصل سواء أكانت الآراء متفقة أم مختلفة، وهذه واحدة من ميزاته العديدة.

فَقَد لبنان برحيله علماً من أعلام الحداثة والتنوير في زمن الظلمات والعتمة الفكريّة. هو قامة وطنية كبيرة ترجح بين الإنسانية والقومية والعروبة والإسلام، تفتح منافذ الحداثة من دون أن تقفل أبواب التراث، تنادي بالتجديد وتحافظ على التقليد.

غزير الإنتاج والكتابة، يتنقل بالقارئ بين الأسطر من فكرة إلى فكرة بسلاسة وهدوء من دون أن يغفل إمكان استفزازه بمواقف جريئة ندر أن صدرت عن رجل دين في عصرٍ تشوّهت فيه المعالم الدينية، وارتدى التطرف لباس الدين مفككاً معانيه الأساسية في التسامح والمحبة والتعايش.

متقدّم هو في نظرته للدين والدنيا. كلماته الرشيقة تفتح أبواب العقل وكأنه مسكون بإبن رشد الذي ألفّ مرجعاً هاماً بعنوان: «فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال» في مسعى عقلي، مبني على الوعي والإدراك، للجمع بين العقل والدين والقول إنهما لا يتناقضان بل يتكاملان.

فالإيمان العقلاني قد يكون أحد مرتكزات تفكير السيد هاني فحص الذي يرغب دائماً في إعلاء شأن العقل، رافضاً الفهم الضرير لمكونات الفقه الديني من دون العمل البحثي والعقلي الجدي على مختلف المستويات.
يبحث دائماً عن المشتركات والمساحات التي تجمع بين الثنائيات، يأسف لأن يكون المتداول من الأديان والمذاهب هو المستوى التكفيري فيها، ولو أنه يملك مفهوماً قاموسياً وفقهياً لمسألة التكفير.

يرى أن كل جماعة فيها من فئة التكفيريين ومن فئة الحواريين طارحاً السؤال الأهم: كيف نُغلب أهل الحوار على التكفيريين؟ هو الذي قال يوماً: “الطائفة اختيار ثقافي.”

لطالما إلتزم السيد هاني فحص بنهج الإعتدال رغم إدراكه أن «الاعتدال صعب ومكلف، وكلما دفعت الثمن، أحسست بنور الإعتدال وجماله»، على حدّ وصفه. ومع أهمية هذا الإعتدال، فإنه يمتلك الوضوح في الرؤية تجاه قضايا في غاية الحساسية والتعقيد، فيقول مثلاً: «ليس لدي إيمان بالعصمة أمام المقامات»، وهذا القول ينطوي على الكثير من الجرأة والشجاعة في الزمن الذي تحوّل فيه الكثير من «القيمين» على الدين (أو الذين يدعون هذا الدور على الأقل) لا يقبلون نقاشاً أو رأياً مغايراً. فأن يصدر هذا الموقف عن رجل دين معمم، فهذه مسألة مهمة للغاية يجدر التوقف عندها.

حذر دائماً من ضرورة الابتعاد عن الإقصاء لقوى سياسية تحمل مشروع الإسلام السياسي، لكنه دعاها في الوقت ذاته كي لا تعيد إنتاج أخطائها مراراً وتكراراً مثلما حدث في مصر. وقال في هذا الأمر:«الشمولية مهلكة، والإسلام السياسي إذا لم ينتبه إلى نفسه، سوف يلحق بالشيوعيين».

رامي الريِّس

القرصعنة والهندبة البرية

القرصعنّة والهندباء البرية أميرتا الشتاء
غذاء ودواء فلا ترفعهما عن مائدتك

أســـلافنا أخـــذوا من البريـــــة خضـــــار الشتــــــاء
يـــوم لم يكن أحد يشتـري خضــاره من الســوق

تخصص «الضحى» في هذا العدد حلقة خاصة عن عشبتين برّيتين تزخر بهما جبالنا وهما أكثر الأعشاب شعبية خلال موسم الشتاء، إذ يقبل كثيرون على «تسليقهما» أي على نزعهما من الأرض ليس فقط لأن الأعشاب البرية مورد اقتصادي مهم للأسرة بل لأنها طعام لذيذ ودواء للكثير من الأمراض. على العكس من ذلك فإن أكثر الخضار التي نشتريها من السوق ملوثة بشتى أنواع الهورمونات والمبيدات الحشرية والفطرية القانونية وغير القانونية، لهذا السبب فإن في الإمكان جعل الأعشاب البرية التي تؤكل (وهي كثيرة) ركناً من الأركان التي تقوم عليها صحة أفراد الأسرة بمختلف أعمارهم ولاسيما الأطفال والكهول، بل إن من الأفضل لكل من يملك ارضاً تزرع أن يسعى إلى تكثير تلك الأعشاب عبر جمع بذورها في نهاية الموسم ونشرها في الأطراف والأماكن التي لا تطالها عملية الحرث. ومن حسن الحظ أن الأعشاب البرية أصبح لها قيمتها وهو ما يشجع كثيرين من الراغبين في دعم دخلهم على قطافها وبيعها عبر محلات الخضار، ما يجعل هذه النباتات المهمة في متناول قسم أوسع من جمهور المستهلكين.

القرصعنّة

قال عنها داود الأنطاكي:

تزيل السموم وتداوي الـربو والـسعال والـريـاح الغليظـة
والأورام مطلقاً والمغص وأمـراض الكبد والبلغم

موسم القرصعنّة على الأبواب، وغدا يتخذ أهل القرى في الجبل طريقهم إلى البراري يبحثون عن هذه العشبة الشعبية التي تجلس على موائد الكثيرين ابتداءً من أواخر تشرين الثاني وحتى بواكير الربيع حين تتبدل طبيعة العشبة الغضة إلى نبتة شبه شوكية تحمل أزهاراً زرقاء جميلة ثم إلى نبات شوكي تماماً يحمل أشواكاً نجمية مائلة إلى الزرقة الخفيفة.
يعتبر موسم القرصعنّة موسماً مهماً لأهل الجبل وهم يجمعون النبتة من البراري ولكن قسماً كبيراً مما يحصلون عليه منها ينبت في البساتين والأراضي الزراعية لكن في الأماكن والزوايا المهملة التي لا تطالها عملية الحرث السنوية. فالحرث غالباً ما يقتلع القرصعنّة من جذورها فلا تعود تنبت، وفي الأراضي التي يواظب على حرثها لا توجد النبتة إلا نادراً.
القرصعنّة أو الشنداب (وإسمها العلمي Eryngium) جنس نباتي عشبي يتبع الفصيلة الخيمية تنبت في الأراضي الجبلية التي تعلو عن سطح البحر بما في ذلك الأراضي المشمسة لكنها تحب بعض الظل والرطوبة إذ إن أوراقها الغضة تنمو عندها أكثر وتكون أطول وأعرض لكن القرصعنّة لا تنبت في الأحراج الكثيفة الظل. وموسم أكل القرصعنّة يقارب الشهرين وقد يطول أكثر إذا طال موسم الشتاء والبرد. والقرصعنّة تؤكل غضة مع الزيتون مثلما يؤكل الخس أو الهندباء كما تفرم وتخلط بالبصل المفروم والزيت والخل ليصنع منها سلطة لذيذة ومغذية جداً غالباً ما تقدّم مع طبق المجدّرة، وكنا نسمع جداتنا يصفن سلطة القرصعنّة بهذا الوصف:«أنا القرصعنّة كثروا لي زيتي وخلي وقدموني للملوك وانظروا بعد ذلك مكري وفني»!!
وهذا القول الشعبي الذي سمعناه من جداتنا سمعناه أيضاً ممن سبقهن مما يدلّ على التاريخ القديم لهذه العشبة في المطبخ الجبلي. ولا شك أن القرصعنّة كغيرها من الأعشاب البرية مثل الهندباء والزوريتي والبلعسون والكرات كانت لها أهميتها عندما كانت القرى تعيش اقتصاد كفاف وكان القرويون يعتبرون البرية مورداً اقتصادياً في موسم الشتاء فينقون أعشابها ويأتون بها الى الموائد. وكلنا يذكر أن أكثر القرى لم يكن فيها ربما إلا محل بقالة أو خضار أو محلين لأن الناس لم يكونوا يشترون خضرتهم من البقالين بل كانوا عموماً يزرعون ما يأكلون في الصيف ويعتمدون على البرية أو «السليقة» في الشتاء.
العديد من أهل الجبل يصنعون من القرصعنّة «تبولة» لذيذة إذ يفرمون العشبة فرماً دقيقاً ويضيفون إليها البندورة وعصير الحامض والزيت والقليل من البرغل الناعم وربما النعناع اليابس (لعدم توفره غضاً في الشتاء) فينتج من هذا المزيج تبولة لبنانية فاخرة فعلاً وربما يفضلها البعض على التبولة التقليدية.
أخيراً يمكن استخدام عشبة القرصعنّة لحشو الفطائر اللذيذة المخبوزة بالفرن المنزلي أو عبر أفران الخبازين.

في-طورها-الشوكي-هي-الأفضل-لصنع-مقطر-القرصعنة
في-طورها-الشوكي-هي-الأفضل-لصنع-مقطر-القرصعنة

” رشفة فنجان قهوة من مقطر القرصعنّة كافية لتهدئة مغص المعدة وآلامها  “

استخدامها الطبي
أتى داود الأنطاكي (توفي عام 1559) على ذكر العشبة بإسم «قرصعنّة» في كتابه الشهير «تذكرة داود» الذي كان أبرز مرجع لطب الأعشاب في عالم الإسلام لقرون طويلة في وسماها أيضاً بـ «شجـرة أيوب»و قـال عنها: هـو بقل معروف يختلف ببياض الورق وخضرته، وبياض الشوك وزرقتـه ، وكلـه يبسط ورقاً على الأرض، ثـم منه ما يتفرع فروعاً مبسوطة عقدة، ومنه ما له سوق خشنـة وملس ويختلـف طولاً وقصراً مـن شبـر إلـى ذراع. ومنـه نـوع لا يزيـد شوكـه على ستـة يسمى المسدس.. عن فوائدها العلاجية يقول الأنطاكي إنها تخلّص الجسم من السموم القاتلة وتداوي الـربو والـسعال والـريـاح الغليظـة، والأورام مطلقاً، والمغص وأمـراض الكبد والبلغم اللزج.
يدل وصف الأنطاكي للقرصعنّة على أنها موجودة في الطبيعة بأكثر من نوع، وبالفعل فقد أحصى علماء النبات حوالي مائتين وثلاثين نوعاً حولياً ومعمراً منها أكثر من 20 فصيلة معروفة في العالم العربي وفي لبنان، لكن الفارق بين تلك الأجناس قد يكون أحياناً ضئيلاً فلا تلمحه إلا العين الخبيرة، ولاسيما وأن القرصعنّة تمر خلال مراحل نموها بأطوار تتغير فيها أوراقها وشوكها. لكن القرصعنّة على اختلافها فهي عشبة ذات قيمة عظيمة سواء من الناحية الغذائية أم من ناحية فوائدها الطبية.
ذكر عالم النبات الإغريقي ديسقوريدس (40-90 بعد الميلاد)أنها تملك «قوة مسخنة» و«إذا شرب مغليها فإنه يدر الطمث ويهدئ المغص ووجع الكبد. أما العلاّمة إبن رشد فقال عن القرصعنّة «زعموا أن شرب ماء طبخها أمان من أورام الجوف».
وزادت بعض كتب طب الأعشاب القديمة أن القرصعنّة إذا أكلت غضة أو ممزوجة بالعسل فإنها تطيب الأحشاء وتبعث برائحة البدن، وأنها علاج للربو والسعال وأمراض الكبد والمغص. ويستعمل مغلي العشبة في حالات اضطراب النوم والآلام القلبية والمفصلية والسعال والشهقة والتهاب القصبات. ويتم تحضير مغلي القرصعنّة بإضافة 10 غرامات من العشبة الى 200 غرام من الماء وغليه لمدة عشر دقائق يصفى بعدها ومن ثم تؤخذ منه ملعقة كبيرة 4 الى 5 مرات يومياً. إن كل أجزاء القرصعنّة مفيدة للصحة، وتدل الأبحاث المخبريّة التي أجريت على العشبة أنها غنيّة بمضادات الأكسدة، ويفضل استعمال أجزاء النبات من دون تسخين من أجل المحافظة على تلك المضادات المهمة جداً في مقاومة الجسم للسموم الضارة التي يتم إفرازها في الجسم وتدعى Free radicals وهناك عوامل تساهم في زيادة إنتاج هذه السموم مثل التدخين والتلوث والطبخ بأسلوب القلي والمضافات الغذائية وغيرها.

القرصعنّة-في-أول-موسمها-طرية-وخضراء-..
القرصعنّة-في-أول-موسمها-طرية-وخضراء-..

تقطير القرصعنة
بدأ العديد من المهتمين بطب الأعشاب في السنوات الأخيرة بتقطير القرصعنّة وذلك بواسطة الكركي العادية وهي عبارة عن برميلين من الزنك الأول توضع فيه الأعشاب التي يراد تقطيرها والثاني يوضع فوق الأول ويستخدم لعملية تكثيف البخار المتصاعد من البرميل السفلي الذي يوضع على النار. والبرميل العلوي مغلق بقبة مخروطية ويملأ بالماء البارد بما يسمح بتحويل البخار المتصاعد من البرميل السفلي إلى مياه مقطرة يتم جمعها في قارورات أو«قنانٍ» وتحفظ لاستخدامها عند الحاجة.
لكن يجب الانتباه إلى أن أفضل مقطر للقرصعنّة هو من العشبة الناضجة التي بدأت تتحول إلى شبه شوكية وليس من النبتة الغضة، فالمواد الطبية والعناصر العلاجية تكون في ذروتها في النبتة الناضجة التي بدأت الإزهار.
ولقد ثبت بالتجربة أن مقطر القرصعنّة دواء فعال لمغص وآلام المعدة ويكفي لمن يعاني من هذا المغص أن يتناول رشفة نصف فنجان قهوة من مقطر العشبة ثم يتبعه برشفة أخرى بعد نصف ساعة حتى يلاحظ أن الألم قد اختفى تماماً. ويعتبر أثر مقطر القرصعنّة على آلام المعدة أحد أسباب ذيوع خبر العشبة وإقبال الناس المتزايد على تقطيرها أو شراء القناني المقطرة وحفظها كجزء من صيدلية المنزل.
يبقى أن ننصح الذين يجمعون العشبة من براري الجبل أن لا يقتلعوها اقتلاعاً بل أن يقطعوها عند القسم الأعلى من الجذر لأنهم بذلك يحافظون على الأصل الذي سيعود وينبت أوراقاً جديدة في الموسم التالي، وللذين يجدون القرصعنّة في حدائقهم ويريدون إكثارها فإنه يكفي لهم أن يتركوا في كل بقعة لا ينوون حرثها بضعة أصول للنبتة دون قطفها، إذ سينجم عن ذلك تحول النبتة الغضة إلى نبتة شوكية تطلق فروعاً مع أشواك مائلة إلى الزرقة وهذه تحمل مئات البذور التي تطلقها في آخر فصل الصيف وبداية الخريف، وسيفاجأ صاحب الأرض أن حقوله امتلأت بعشبة القرصعنّة في الموسم التالي مما يعطيه حصاداً وفيراً لموسم الشتاء.

الهندباء البريّة

قال عنها إبن سينا:

أنفعها أكثرها مرورة وهي تقوي القلب، وتسكّن الغثيان
وتقوي المعدة وإذا أكلت مع الخل عقلت البطن

لا يضاهي القرصعنّة في موسم الشتاء شهرة إلا شقيقتها نبتة الهندباء البرية ويكاد موسم الهندباء البرية يكون وفيراً مثل القرصعنّة لكنه يتأخر قليلاً عنها حتى آخر «المربعانية» ودخول شهر شباط فالهندباء على عكس القرصعنّة ليست نبتة شتوية بل «ربيعية» يبدأ أهل القرى بقطفها في أواخر كانون الثاني بينما يمكن البدء بحصاد القرصعنّة في منتصف تشرين الثاني إذا كان الخريف ماطراً وفق المعدلات الطبيعية.

تاريخ العشبة
الهندباء البرية من أقدم النباتات التي عرفتها الإنسانية وعرفت مزاياها الغذائية والطبية وقد استخدمها المصريون القدماء قبل 5000 سنة وكتبوا عن مزاياها وذكرها الشاعر الروماني هوراس عندما تحدث عن نظامه الغذائي «البسيط جداً» إذ قال: «أما بالنسبة لي فإن غذائي يشتمل على الزيتون والهندباء والخبَّيزة البرية وهي كافية لتقيم بأودي.
اللافت فيها أنها تستخدم بكامل أجزائها الثلاثة وهي الأوراق والأزهار والجذور وسنعرض لفوائد كل من تلك الأجزاء في ما بعد. ولا بد من القول في بادىء الأمر إن الهندباء البرية هي أكثر فائدة من الهندباء البستانية وهي التي تزرع في الحديقة لكن أهمية البستانية أنها تزرع جنب البيت وفي جميع المواسم وهي ذات فوائد غذائية كبيرة، ومن المهم لذلك تناول الهندباء دائماً فإن وجدتها بريّة فخذها وإن لا فاشتر البذور وازرعها.
تؤكل الهندباء البرية في بلادنا كسلطة أو يتم تناول أوراقها مع الزيتون ويقدمها البعض عبر مزجها بالبصل والكشك البلدي وزيت الزيتون وهي أكلة لذيذة ومغذية. لكن مع الأسف البعض يقدمها مطبوخة أو «مقلّاية» وهذا ما يزيل الكثير من فيتاميناتها وإن كانت المعادن الأساسية تتحمل الطبخ. ويقوم البعض بتقطير العشبة أيضاً (كما في حال القرصعنة) وتناول مقطرها كمقوٍ وكمنظف للأمعاء والكبد.
تحتوي الهندباء على مواد مرة قال أطباء العرب إنها من العناصر الأكثر فعالية فيها كعلاج، كما تحتوي على فلافونيات وألياف ومادة الإينولين المهمة وعلى فيتامينات ودهون وراتنجات وكولين وزيوت طيارة بالإضافة إلى بعض المعادن الهامة مثل الكالسيوم والبوتاسيوم والصوديوم والحديد والمغنيزيوم والمنغانيز والنحاس والفوسفور (راجع الجدول).

رسم-علمي-لنبات-الهندباء-البرية
رسم-علمي-لنبات-الهندباء-البرية

العرب أول من وصفوها
أول من نصح باستخدام الهندباء كعلاج هم الأطباء العرب، وذلك ابتداء من القرن الحادي عشر فقد قال عنها الرئيس الشيخ ابن سينا: «الهندباء منها بري ومنها بستاني وهما صنفان عريض الورق ودقيقه، وأنفعه للكبد أمرُّه، والبستاني أبرد وأرطب، والبري أقل رطوبة. إنه يفتح السدد في الأحشاء والعروق، وليس بشديد ويضمد به النقرس، وينفع من الرمد الحار. وحليب الهندباء البري يجلو بياض العين، ويضمد به مع دقيق الشعير للخفقان، ويقوي القلب، وهو يسكن الغثي ويقوي المعدة، وإذا أكل مع الخل عقل البطن، وهو نافع لحمى الربع والحميات الباردة». وقال ابن البيطار:«كل أصناف الهندباء إذا طبخت وأكلت عقلت البطن، ونفعت من ضعف المعدة والقلب، والضماد بها ينفع للخفقان وأورام العين الحارة، وهي صالحة للمعدة والكبد الملتهبتين، وتسكين الغثيان وهيجان الصفراء، وتقوي المعدة». وقال داود الأنطاكي:«الهندباء تذهب الحميات والعطش والخفقان واليرقان والشلل وضعف الكبد والكلى شرباً مع الخل والعسل، والصواب دقها وعصرها».
أوصت أبحاث علمية نشرت «في مجلة النباتات الطبية» باستخدام أوراق الهندباء كأفضل مادة لإدرار البول، وقام العلماء الألمان بدراسة جذور الهندباء وأثبتوا جدوى الجذور في علاج أمراض الكبد وتنبيه المرارة لإدرار الصفراء (وهو ما كان أطباء العرب قد قالوا به كما يتبين أعلاه) واعتبر الباحثون الألمان جميع أجزاء الهندباء صالحة لعلاج أمراض الكلى وإدرار البول وأثبتت دراسات حديثة أن نبات الهندباء يخفض نسبة السكر في الدم، ونجح الصينيون في أبحاثهم في علاج أمراض الشعب الهوائية والجهاز التنفسي بواسطة استعمال جذور الهندباء.
واستخدم زهر الهندباء في ألمانيا في الطب الشعبي وهو يستخدم كمقوٍ و كعلاج لحصى المرارة واحتقان الجيوب الأنفية ومعالجة الجراح والرضوض. وتحتوي الهندباء على مادة الإينولين Inulin التي قد تفيد في خفض الوزن الزائد وحالات الإمساك وتحسين عمل الأمعاء الغليظ ومناعة الجسم.
جذور الهندباء المغلية بالماء ينتج عنها شاي ذو طعم قوي يستخدم كعلاج لتنظيف الكبد كما أن تناول أوراق الهندباء أو الأونديف البلجيكي (وهو من نفس فصيلة الهندباء) الغضة ينفع في معالجة الصداع القوي وجفاف الفم واحتقان الوجه والحمى.

” الأنطاكي قال إنها تذهب الحميات والعطش والخفقان واليرقان والشلل وضعف الكبد والكلى شرباً مع الخل والعسل، والصواب دقها وعصرها  “

قهوة-جذور-الهندباء-تسوق-مثل-القهوة-المصنوعة-من-البن
قهوة-جذور-الهندباء-تسوق-مثل-القهوة-المصنوعة-من-البن
اترك-هذه-الأزهار-على-امها-لكي-تنشر-البذور-وتزيد-موسم-الهندباء-في-العام-التالي
اترك-هذه-الأزهار-على-امها-لكي-تنشر-البذور-وتزيد-موسم-الهندباء-في-العام-التالي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بعض الوصفات النافعة
لعلاج سوء الهضم ونقص الشهية، تؤخذ ملعقة إلى ملعقتين صغيرتين بعد سحقها أو تقطيعها، وإضافتها إلى كوب ماء مغلي، ثم يصفى الماء بعد 15 دقيقة من وضع أوراق الهندباء في الكوب ويشرب دافئاً. ويمكن نقع الأوراق المسحوقة واستخدامها حيث تضاف ملعقة صغيرة من مسحوق الأوراق إلى كوب ماء بارد ويترك لمدة نصف ساعة ثم يصفى ويشرب.
لعلاج الإمساك تنقع حوالي ثلاث ملاعق من أزهار النبات في حوالي لتر من الماء البارد ويشرب منها كأس قبل كل وجبة.
لعلاج الكبد والصفراء تنقع حوالي ثلاث ملاعق من جذور أو جذامير الهندباء بعد سحقها مع حوالي لتر من الماء وتترك لمدة 5 دقائق، ثم يوضع النقوع بعد ذلك على النار ويترك ليغلي مدة 15 دقيقة، ويشرب منه كأس قبل كل وجبة ويمكن لهذه الوصفة أن تساعد على تفتيت الحصى في المرارة.
يستعمل مغلي الأوراق والأزهار والجذور معاً بمقدار ثلاث ملاعق في لتر من الماء بمعدل كوب صباحاً وآخر مساء، وذلك لعلاج حالات الأنيميا والضعف العام وفقدان الشهية.
يستعمل مغلي الجذور أو الجذامير على هيئة كمادات دافئة لعلاج إلتهابات العين.
يستعمل منقوع الأوراق والأزهار الطازجة في علاج آلام الأطراف بواسطة التدليك.

جذور الهندباء كبديل للقهوة
زاد القرن الثامن عشر في شهرة الهندباء عندما اكتشف إمكان استخدام جذورها كبديل للبن ويعود الفضل للملك الألماني فرديريك الكبير في تحفيز استخدامه القهوة في ألمانيا وذلك عندما منع في العام 1766 استيراد البن إلى الدولة البروسية. بعد ذلك شاع استخدام جذور الهندباء كبديل للقهوة في فرنسا ثم في الولايات المتحدة وأصبحت هناك معامل وشركات تتخصص في تصنيع القهوة المصنوعة من جذور الهندباء.
لكن يجب التوضيح بأن الجذور التي تصنع منها القهوة تأتي من نوع مختلف من الهندباء اسمه هندباء الجذور Chicory root واسمها العلمي Cichorium intybus var. Sativum وهذا النوع من الهندباء يتميز بجذوره الغليظة ولا نعلم إن كان موجوداً في الأراضي الجبلية، لكن يمكن استيراد بذوره وزرعها للمهتمين بإنتاج مسحوق جذور الهندباء لصنع بديل عن القهوة.

قهوة-على-الأصول-.
قهوة-على-الأصول-.

كيف تصنع القهوة اللذيذة
من جذور الهندباء المحمصة؟
انتشر استخدام جذور الهندباء لصنع مشروب بديل للقهوة في مختلف أنحاء العالم ويباع مسحوق الجذور المحمصة في محلات الأغذية الصحية ويقبل عليه كثيرون لطعمه الشبيه بالقهوة وعدم احتوائه على مادة الكافيين الضارة فضلاً عن الخصائص العلاجية الموجودة في جذور الهندباء وخصوصاً المقوية للكبد.
وتتميز قهوة مسحوق جذور الهندباء بأنها أكثر سواداً من القهوة العادية ولها طعم خاص لذيذ يقترب إلى حد ما من طعم قهوة الـ Mocca ويمكن تحليته بالسكر الأسمر أو العسل.

كيف تصنع قهوة جذور الهندباء؟
تقتلع جذور الهندباء في الخريف عندما يتوقف الإزهار ويتم الحصول على جذور غليظة وطويلة أشبه بالجزر أو الفجل الطويل. ويجب أن تقطع الجذور إلى قطع صغيرة وتجفيفها في الشمس لمدة أسبوع تقريباً.
بعد ذلك توضع الجذور المقطعة في الفرن لمدة ساعة أو 90 دقيقة تقريباً على حرارة معتدلة .
والحقيقة بمجرد وضع الجذور في الفرن سيمتلئ المنزل برائحة طيبة تشبه كثيراً رائحة البن المحمص أو مزيج من رائحة القهوة والشوكولا.

الطحن وإعداد القهوة
يمكن طحن الجذور المحمصة بمطحنة قوية يجب أن تكون أقوى من مطحنة البن، لأن الجذور صلبة بعض الشيء. وهناك مطاحن قوية لها “فراش” طحن قاطع ومحرك كهربائي قوي، وإن وجدت صعوبة في الحصول على مسحوق ناعم لا يتضمن قطعاً وشظاياً خشبية فإن في إمكانك طحن الجذور المحمصة لدى مطحنة بهارات متخصصة.
يمكن صنع قهوة الهندباء بآلة صنع القهوة الأميركية percolator أو “الإسبرسّو” بوضع مزيج الجذور المطحونة في العبوة وترك الماء المغلي يمر فيها وينزل في الكوب قهوة سوداء. يمكن أيضاً صنع القهوة عبر سكب الماء المغلي على المسحوق في فنجان أو ركوة معدنية ثم ترك المزيج لفترة 5 دقائق. وعندها ستحصل على قهوة ذات لون أسود يمكن تحليتها بالسكر أو العسل.
البعض في أوروبا (هولندا على الأخص) أو أميركا لا يحتسون قهوة جذور الهندباء وحدها بل يضيفونها إلى القهوة العادية وهم يؤكدون أن ذلك يعطي طعماً خاصاً استثنائياً للقهوة. ويتم ذلك بمزج مسحوق البن بنسبة معينة من مسحوق جذور الهندباء وصنع القهوة بالطريقة المفضلة سواء بواسطة ماكينة صنع القهوة أو بواسطة الركوة المستخدمة في صنع القهوة العادية.

كائنات صغيرة ذكية تهدّد الجنس البشري

كائنات صغيرة ذكية تهدّد الجنس البشري

كيف خسرت المضادات الحيوية
الحرب الطويلة على البكتيريا

العلم مندهش لقدرة الجراثيم بأنواعها على تطوير مقاومتها للمضادات الحيوية

شركات الأدوية تخلّت عن تطوير مضادّات حيوية جديدة واتجهت إلى الأدوية الباهظة الثمن للأمراض المزمنة

كيف يمكن مقاومة الأمراض الجرثومية ببدائل طبيعية بدل المضادات الحيوية التي تراجعت كفاءتها العلاجية

لم تنجح أي من الأدوية والمضادات الحيوية في معالجة كبد المريض الذي كان يخضع للمعالجة على يد الدكتورة سينثيا غيبرت. لقد بذلت جهوداً جبارة لكن بالرغم من أنها جربت كافة العلاجات المتاحة إلا أن دم المريض ظل مشحوناً بالسموم. “لم يعد لدينا أي علاج” تقول الدكتورة غيبرت، المتخصصة بمعالجة الأمراض المعدية في المركز الطبي لقدامى المحاربين في واشنطن أميركا، “مع أن نتائج فحوص الدم أتت سليمة أحياناً، لكن سرعان ما كان دم المريض يمتلئ مجدداً بالسموم والبكتيريا التي لم تعد تتأثر مطلقاً بالمضادات الحيوية”.
أخيراً بات المريض على علم بأن العلاجات كلها لن تحدث أي فارق وأنه سيموت قريباً، ولم يعد أمام الطبيبة سوى إخباره بحقيقة الأمر. فالبكتيريا التي هي أكثر الكائنات الحية بدائية على وجه الأرض تفوقت على المضادات الحيوية، معجزة القرن العشرين الطبية.
هذه الحالة التي أوردتها دراسة علمية لمجلة “نيوزويك” بعنوان “نهاية المضادات الحيوية” ليست حالة معزولة بل هي مثال عما يحدث يومياً في مستشفيات العالم بما فيها مستشفياتنا في لبنان عن الصراع المستميت الذي يخوضه الأطباء أحياناً ضد بكتيريات تجتاح جسد الإنسان ولا يجد الطب إلا بشق النفس وسيلة ناجحة لقتلها. أما السبب فهو أن معظم أنواع البكتيريا المعروفة والمسببة للأمراض أصبحت مقاومة لمعظم المضادات الحيوية وهو ما يتيح لها الانتشار والفتك بالمريض دون أن يكون هناك، مع فشل المضادات، وسيلة بديلة ناجعة لوقف هجومها.
كانت البكتيريات في الماضي السبب الأول في وفاة الملايين سنوياً بشتى الأمراض الناجمة عنها، السل الرئوي أحد هذه الأمراض وكذلك التهاب الشعب الرئوية أو الكوليرا أو التيفوئيد وغيرها وكانت نسبة الوفاة في حالات الالتهاب الرئوي مثلاً 80 % من المصابين، وكانت قوة البكتيريا وقدرتها على التكاثر والفتك بالمريض أمراً مخيفاً وأحد أسباب انتشار الأوبئة.
في العام 1928 اكتشف ألكسندر فلمنغ بالصدفة البنسيلين أول المضادات الحيوية التي يصنعها الإنسان في المختبر. بعدها بقليل خصوصاً أثناء الحرب العالمية الثانية اتسع استخدام البنسيلين في محاربة الأمراض البكتيرية لكن اكتشف في العام 1948 أن بعض أنواع البكتيريا أصبحت مقاومة له فتمّ تطوير مضادات حيوية جديدة لتصبح هذه بدورها غير ذات فائدة مع تطوير البكتيريا لسبل مقاومتها، ومنذ تلك الفترة والطب في سباق مستمر مع البكتيريا يسبقها تارة بمنتج جديد لتعود البكتيريا فتربح السباق مع تطوير سبل مقاومة المضادات الحيوية الجديدة، مع ذلك وبسبب فعالية المضادات الحيوية في القضاء على البكتيريا فقد ساد الاعتقاد لفترة بأن، صناعة الأدوية تمكنت من وضع حد لكل الأمراض والأعراض المسببة للبكتيريا مهما كان نوعها، لكن هذا الاعتقاد سرعان ما تحول إلى وهم وحلّت محل الثقة بالإنجاز العلمي لصناعات الدواء حالة متصاعدة من الخوف بل والذعر إزاء جهود المقاومة الناجحة التي بذلتها البكتيريا في مواجهة حرب الإنسان. لقد نجحت تلك الجهود إلى درجة أن بعض البكتيريات أصبحت مقاومة لأكثر أنواع المضادات. وبالاستناد إلى تقرير المركز الفيدرالي للتحكم بالأمراض CDC فإن أكثر من مليوني أميركي من كل الأعمار تصيبهم أمراض معدية تسببها بكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية كل سنة، ومن أصل هؤلاء فإن 23 الف شخص يموتون سنوياً من جراء فشل المضادات الحيوية في احتواء المرض البكتيري. وفي العام 1992، قضى 13,300 مريض في الولايات المتحدة الأميركية جراء التهابات بكتيرية تمكنت من مقاومة المضادات الحيوية التي أعطيت من قبل الأطباء, وبينما كان الأطباء يعملون جاهدين على تحضير مضاد حيوي يمكن أن يعمل، كانت البكتيريا الهائجة قد سممت دم المريض أو شلّت بعض الأعضاء الحيوية لديه. وبما أن الكلفة المالية لتحضير مضادات حيوية مناسبة لكل مرض مرتفعة جداً، وغالباً ما يفشل أول مضاد حيوي يوصف، فالكائنات الحية الدقيقة هي الفائزة اليوم لأنها أقدم من البشر كما أنها كما يبدو أكثر حكمة منهم!
تكشف هذه الأرقام عن أن الطب الحديث في مأزق، لأن التعويل المفرط على المضادات الحيوية أضعف مع الوقت جهاز المناعة الطبيعي في الجسم فأصبحت صحة الفرد معتمدة بصورة كبيرة على وجود المضادات الحيوية الفعالة وليس على قدرة الجسم نفسه على إنتاج الدفاعات الطبيعية. ولهذا فإن إعلان الأوساط الطبية أن فعالية المضادات الحيوية في مقاومة الأمراض قد استنفدت وبلغت نهايتها ليس خبراً عادياً بل هو كاف لبث الخوف في المجتمعات التي لا تعرف اليوم بديلاً عن المضادات في حماية الصحة الفردية والعامة وها نحن وبعد نحو 86 عاماً على اكتشاف البنسيلين نعود تدريجياً إلى المربع الأول وعاد الناس ليموتوا من جراء أمراض اعتقد العلم منذ مدة أنها وبفعل المضادات الحيوية أزيلت من على وجه الأرض.
ما الذي يمكن فعله في هذه الحال وما هي البدائل المتاحة؟
ما يزيد في خطورة الوضع أن شركات الأدوية الكبرى والتي تملك الإمكانات الهائلة لإجراء الأبحاث والإنفاق على تطوير أدوية وعلاجات جديدة لم تعد مهتمة بإنتاج مضادات حيوية أكثر تطوراً وتأخذ في الاعتبار تراجع كفاءة المضادات الحالية، وذلك لأسباب تجارية محض هي أن تطوير مضاد حيوي جديد يكلف كثيراً ولا يحقق الأرباح المرجوة. في المقابل وجدت الشركات من الأفضل الاستثمار في تصنيع الأدوية الباهظة الثمن للأمراض المزمنة مثل أمراض القلب والسكري والسرطان والتهاب المفاصل وغيرها وهي الأدوية التي يحتاج الإنسان لتناولها على مدى الحياة، بينما لا توجد حاجة لتناول المضادات الحيوية لفترة قصيرة نسبياً.
حتى منتصف الثمانينات من القرن الماضي كانت شركات الأدوية دوماً منهمكة في تطوير مضادات حيوية جديدة باستمرار، لكن جهود الشركات تراجعت بقوة حتى أننا لم نر سوى مضاد حيوي جديد يدخل السوق في العام 2013 كما أن الحكومة الأميركية تبدو وقد فقدت حماستها لتقديم المساعدات لأبحاث المضادات الحيوية خلال السنوات العشرين الماضية. وهذا الواقع في حد ذاته يزيد من حالة التشاؤم السائدة بين المرضى والأطباء الذين تتناقص خياراتهم كل يوم في الحرب الشرسة مع البكتيريات المميتة.
إن فشل المضادات الحيوية المتبقية في مقاومة البكتيريا، ستتسبب بخسائر بشرية كبيرة نظراً لعدم وجود خطة شاملة لتوفير العلاجات البديلة وبالتالي فإن مصير البشرية سيكون في العودة الإجبارية إلى العصر الذي كان سائداً قبل اكتشاف المضادات الحيوية لكن هذه المرة بعد أن خسر الإنسان المناعة التي كانت له في السابق وبعد أن أضيفت إلى المشكلة مشكلات كبيرة تتعلق بتدهور بيئة العيش والنظام الغذائي وتعاظم مصادر التلوث. لكن فشل المضادات الحيوية يجب أن لا يعتبر بمثابة نهاية الطريق للطب المعاصر ولا ينبغي أن يكون مقدمة لكارثة بشرية لأننا ولحسن الحظ نمتلك بدائل متكاملة يمكنها أن تحل في مقاومة البكتيريا محل المضادات التي تتناقص كفاءتها العلاجية يومياً، وسنأتي على ذلك لاحقاً.
لكن لنطرح السؤال أولاً: كيف وصلنا إلى هذه الحالة اليائسة؟ وكيف تمكنت كائنات مجهرية دقيقة من أن تلحق الهزيمة بالعقل البشري وبأبرز العقول والمؤسسات العلمية والطبية؟

” الجراثيم ليس فقط تتعلم مقاومة المضادات الحيوية بل هي تتبادل المعلومات بشأنها إلى حد يجعلها تطوّر مقاومتـــها لمضادات حيوية قبل أن تصادفــه “

البكتيريا تربح الحرب
“منذ عام 1928 عندما اكتشف “الكسندر فلمنغ” البنسيلين، بدأ السباق بين الإنسان والميكروبات” يقول الدكتور ريتشارد وينزل من جامعة أيوا. إنه سباق يتغير فيه الرابح باستمرار فقد يكون هذا المضاد الحيوي أو ذاك اليوم لكن قد تصبح البكتيريا غداً هي الرابح عندما تتعلم كيفية إلغاء مفعول المضاد الحيوي وتتكيف بسرعة في معرض الاستجابة له.
في العام 1948، أي بعد خمس سنوات من انتشار استخدام البنسيلين خلال الحرب العالمية الثانية، اكتشف الأطباء “المكورات العنقودية” التي لم تستجب للدواء. لكنهم لم يتوقفوا عندها، بل اخترعوا مضادات حيوية جديدة أنقذت البشر من أمراض عديدة فتراجعت نسبة الوفيات على الأقل عند الأشخاص الذين بدأوا استخدام المضادات الحيوية قبل بدء الميكروبات بتطوير نظامها الحيوي الخاص. وقد ظن العلماء، في الثمانينات، أنهم استطاعوا احتواء كافة الأمراض المعدية، وبدوا مقتنعين بأن التحدي الكبير يكمن فقط في مواجهة الأمراض المستعصية والمزمنة كالسرطان وأمراض القلب، لكن نصرهم الطبي المزعوم أصبح وهماً في نظر الدكتور شيروين نولاند في كتابه “كيف نموت”.
أصبحت البكتيريا المسببة للأمراض قادرة على مقاومة مضاد حيوي واحد على الأقل من أصل مئة، في حين تقاوم أخرى كافة أنواع الأدوية والمضادات تقريباً.
كائنات ذكية في طرق تطورها
كيف تتطور البكتيريا لتصبح مقاومة للمضادات الحيوية؟
تطوّر البكتيريا مقاومات للمضادات الحيوية بالطريقة ذاتها التي جعلت الغزلان تزيد سرعتها لمواجهة الأسود والهرب منها. فعندما تعالج مستعمرة من البكتيريا بالدواء المناسب لها، تموت معظم البكتيريا متأثرة بالعلاج في حين تنجو قلة منها وتشكّل جينات مقاومة للدواء، تماماً كما تعيش بعض الغزلان بعد هجمات السباع لتنعم بيوم رعي آخر قبل أن تصبح مجموعة أخرى وجبة غذاء جديدة للأسود.

كيف يدافع الميكروب عن نفسه؟
هناك عدة أساليب تمكن البكتيريا من إبطال عمل المضادات الحيوية:
1. إذ يمكنها أن تفرز أنزيماً يؤدي إلى تفتيت الدواء كما يفعل الستافيلوكوكس مثلاً في تعطيل مفعول البنسيلين
2. يمكنها أن تغير جدار خليتها بحيث يتعذر على المضاد الحيوي اختراقه وبالتالي قتل الميكروب
3. يمكنها أن تحدث تعديلات في خصائص أخرى يستهدفها المضاد الحيوي فتعطل مفعوله
4. أخيراً يمكن للميكروب ببساطة أن يتخلص من المضاد الحيوي بضخه إلى خارج الخلية

جرثومة-الستافيلوكوكس-المسببة-للاتهاب-الرئوي-وتسمم-الدم-أصبحت-مقاومة-لأكثر-المضادات-الحيوية
جرثومة-الستافيلوكوكس-المسببة-للاتهاب-الرئوي-وتسمم-الدم-أصبحت-مقاومة-لأكثر-المضادات-الحيوية

بكتيريا الموت

بكتيريا ستافيلوكوكس أوريوس Staphylococcus aureus المسببة للإلتهاب الرئوي وبصورة خاصة لتسمم الدم الناجم عن الجراحات أصبحت مقاومة لكل أنواع المضادات الحيوية بإستثناء مضاد واحد هو الفانكومايسين Vancomycin لكن المصادر الطبية لا تخفي اقتناعها بأن هذا المضاد سيهزم قريباً وأن البكتيريا سيمكنها عند ذاك أن تتكاثر من دون عوائق على الإطلاق.

لكن يجب أن نذكر أنه وعندما كانت الحال كذلك ولم يكن للطب دفاعات ضد هذه البكتيريا فإن نسبة الوفاة في حالات الإصابة بها كانت تتجاوز الـ 80% . لذلك فإن ما يشغل بال المصادر الطبية هو ماذا لو تمكنت هذه البكتيريا من اكتساب المناعة إزاء الفانكومايسين آخر المضادات التي ما زالت قادرة على قتلها؟ السؤال في حد ذاته مخيف والجواب عليه يجب أن يثير الخوف أيضاً.

كيف-تنتشر-البكتيريا-المقاومة-للأدوية
كيف-تنتشر-البكتيريا-المقاومة-للأدوية

وعندما تفلح بكتيريا معينة في تطوير مقاومتها للمضادات فإن الجينات المتحولة تتكاثر بشكل سريع، وتنقل قدرتها على مقاومة الدواء أو العلاج (عبر الجينة المقاومة) الى كل الميكروبات الموجودة في الجسم حتى غير المرتبطة بالمرض منها. وقد ينتج عن تحول البكتيريا إلى مقاومة ما يقارب الـ16.7 مليون جينة خلال 24 ساعة. لقد تبين لنا أن هذه البكتيريات تطور نفسها من أجل اكتساب خصائص مناعة تتغلب بواسطتها على أفضل العقاقير الصيدلانية التي يقدمها الطب الحديث مما جعلها تكسب المعركة بدون أي شكّ.
الأغرب من ذلك، هو أن البكتيريات لا تكتفي فقط بتطوير دفاعاتها بل هي “تتبادل المعلومات” مع أنواع أخرى وتنقل خبرتها لتلك الميكروبات، وهي تقوم بذلك عن طريق إفراز مكون كيميائي يحفّز الخلايا البكتيرية على التقارب في ما بينها وتبادل الجينات المقاومة للدواء، وبهذه الطريقة السهلة، اكتسبت بكتيريا “الكوليرا” صفة المقاومة للتتراسيكلين من بكتيريا “إي كولاي” الموجودة في أمعاء الإنسان. وبصورة عامة فإن استخدام المضادات الحيوية عزز قدرة البكتيريا على التكيّف مع مختلف أنواعها في عملية تكيف وتحول Mutation لا مثيل لها في سجل التاريخ البيولوجي بحسب ما ورد في كتاب الدكتور ستيوارت ليفي “The Antibiotic Paradox” .
لقد برهنت البكتيريات المختلفة على كونها أشبه بشياطين صغيرة ذكية وأظهرت قدرة هائلة على المراوغة والتطور بطرق لم يتوقعها العلماء أبداً. لقد تبين أن الجراثيم ليس فقط تتعلم مقاومة المضادات التي تتعرض لها بل إنها قد تكتسب مقاومة لمضادات حيوية لم تصادفها مطلقاً من قبل. فالنساء اللواتي يحصلن على التتراسيكلين لالتهاب المسالك البولية مثلاً، طورت جرثومة إي كولاي E-coli مقاومتها لمضادات حيوية أخرى لم تعرفها من قبل! وكأنّ البكتيريا أصبحت تتوقع نوع الهجمات التي يمكن أن تتعرض لها وتستعد بالتالي «استراتيجيّاً» لمواجهة أدوية ذات وظائف متقاربة عند مواجهتها لنوع واحد فقط منها.
أكثر من ذلك، لقد ثبت أن بكتيريا معينة تعلمت كيف تقاوم مضاداً حيوياً يمكّنها من أن تنقل خبرتها لبكتيريا من نوع آخر فتصبح هذه الأخيرة مقاومة لنفس المضاد الحيوي قبل أن تصادفه. يحدث ذلك عندما تقوم البكتيريا التي اكتسبت القدرة على مقاوِمة المضاد الحيوي بصنع نسخة من حلقة الحمض النووي الذي يحتوي على جينات المقاوَمة، وعندما تلامس هذه البكتيريا المقاومة جرثومة أخرى فإنها تقوم بنقل تلك الحلقة من الحمض النووي المقاوم عبر جدار خليتها إلى البكتيريا الأخرى، فتصبح البكتيريا الثانية بدورها مقاوِمة للمضاد الحيوي نفسه دون أن تكون قد تعرضت له أصلاً، وذلك بمجرد امتصاصها للجينة المقاومة في جرثومة أخرى اكتسبت تلك الصفة، وهذا يعني أنه في إمكان بكتيريا مسببة لمرض معين تعلمت أسلوب مقاومة المضادات الحيوية أن تنقل خبرتها بواسطة الملامسة أو الاحتكاك الجيني إلى سلالات أخرى من البكتيريا وهذه «التحالفات» التي تحصل بالصدفة بين أنواع البكتيريا تزيد في تعقيد الحرب التي تخوضها شركات الأدوية ضد البكتيريا المكتسبة لصفة المقاومة وهي حرب يبدو، حسب كل الدلائل، أن شركات تصنيع الأدوية شارفت على خسارتها.

الطب الحديث في مأزق
من مفارقات الحرب على البكتيريا أن الأطباء -والمرضى أنفسهم- وبسبب اعتمادهم شبه الوحيد على اكتشاف المضادات الحيوية والتطبيق المتزايد لأنواع جديدة منها كلما فشلت القديمة ساهموا من دون وعي في صناعة «فرنكشتين» من نوع خاص هو البكتيريا التي لا تقهر أو السوبر بكتيريا Superbug المسببة لشتى الأمراض، وهذه الأمراض لم تكن كلها أمراضاً خطرة بل «تحديات» دورية تواجه جهاز المناعة الإنساني وتساهم في تجديده وكانت البدائل الطبيعية وجهاز المناعة البشري يتمكنان في الماضي من التصدي لها لكن مع تردي جهاز المناعة وانهيار الدفاعات الطبيعية للجسد وتطور البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية أصبحت الأمراض العادية عامل تهديد حقيقياً للصحة وبات ممكناً أن تتطور إلى حالات مميتة.

كيف وصلنا إلى الكارثة؟
يمكن القول إن الكارثة التي تواجه السلطات الصحية والأطباء وشركات الدواء والتي تواجه المرضى ما هي إلا نتيجة لمجموعة من العوامل التي ساهمت كل على طريقته في إضعاف عمل جهاز المناعة الذي أودعه الله في الجسد البشري مما يجعل الصحة البشرية اليوم مكشوفة لهجمات مختلف أصناف البكتيريا التي تعلمت كيف تهزم دفاعاتنا الأساسية مما يفتح الطريق أمام تكاثرها دون رادع وتدميرها لأعضاء الإنسان الحيوية، وقد تتمكن هذه الكائنات المجهرية في نهاية الأمر من قتله. ما هي العوامل التي ساهمت في إيصالنا إلى الأزمة؟

الإفراط في استخدام المضادات
إن السبب الأهم لتطور مقاومة البكتيريات المختلفة للمضادات الحيوية هو الاستخدام المفرط وسوء الاستعمال، يقول الدكتور سرينيفاسان إن ما يقارب نصف المضادات الحيوية المستخدمة إما أنها تعطى من دون حاجة لها أو أن المرضى يستخدمون الأنواع الخاطئة منها لمعالجة أمراضهم. وفي كثير من الحالات يقوم الطبيب بوصف المضاد الحيوي دون أن يتأكد إذا كان المرض مسبباً من بكتيريا أو من فيروس، ومعروف أن المضاد الحيوي لا يؤثر في الفيروسات بل يمكنه فقط أن يقتل البكتيريا. وبالطبع كلما ازداد استخدام الجسم للمضادات كلما أعطيت البكتيريات المختلفة الفرصة لتطوير قدرتها على مقاومة تلك المضادات وقد وصلنا الآن إلى وضع بات الطبيب المعالج يضطر فيه إلى استخدام أكثر من مضاد أو تجربة ثلاثة أو أربعة أو خمسة مضادات لأن الفحوصات تدله على أن الأول أو الثاني أو الثالث كلها لم تتمكن من قتل البكتيريا وأن البكتيريا مستمرة في التكاثر بصورة تهدّد حياة المريض.

دور التصنيع الواسع للغذاء
العامل الثاني الأهم في تطور مقاومة البكتيريا للمضادات هو الاستخدام الواسع للمضادات الحيوية في العديد من الصناعات الغذائية مثل اللحوم والطيور وإنتاج الحليب، وتشير إحصاءات نشرتها مجلة «نيوزويك» إلى أن الصناعات الغذائية الحيوانية تستخدم من المضادات الحيوية كميات تبلغ 30 ضعف ما يستخدم في الطب البشري. وكل هذه الصناعات باتت تعتمد على إدخال المضادات الحيوية بصورة منهجية ضمن الأعلاف التي تعطى للحيوانات، ويستعمل نحو 80% من إجمالي المضادات الحيوية لأغراض غير علاج الأمراض، مثل جعل الحيوانات تنمو بسرعة أكبر، لكن الذي يحصل هو أن رواسب المضادات الحيوية وكذلك البكتيريات التي تكون قد اكتسبت المقاومة داخل الحيوان المعالج بالمضادات تدخل جسد الإنسان عبر تناول اللحوم أو الألبان وغيرهما وهذا يعني أننا نتناول المضادات الحيوية يومياً مع طعامنا وإننا بسبب ذلك نخسر مناعتنا الطبيعية باستمرار بحيث أصبحنا ضعفاء وبلا حماية حقيقية عندما تهاجمنا تلك الجراثيم التي تعلمت سبل تعطيل مفعول مختلف المضادات التي قد يسارع الطبيب لمعالجتنا بها.
رغم كل الدلائل على خطورة إضافة المضادات الحيوية إلى علف الحيوانات فقد تراجعت إدارة الغذاء والدواء FDA الأميركية مجدداً عن سحب موافقتها على استخدام تلك المضادات الحيوية في صناعات اللحوم والألبان، وذلك بتأثير الضغوط الهائلة التي يمارسها اللوبي الذي يضم تلك الصناعات ومؤيديها من السياسيين. بذلك أعطت
الـ FDA صفة الشرعية والقانونية لأحد أخطر الممارسات التي تهدد صحة الفرد والمجتمع في الولايات المتحدة معطية الأفضلية لمصلحة الشركات المصنعة على حساب صحة المستهلك وأسرته وأطفاله.

الهندسة الجينية للمحاصيل
لا توجد دراسات معمقة عن الآثار الصحية الناجمة عن تناول الأغذية المعدلة جينياً لكن الدراسات الأولية التي أجريت خصوصاً في أوروبا أظهرت وجود صلة بين تناول تلك الأغذية وزيادة احتمال الإصابة بأمراض المناعة والسرطان، لذلك منعت السلطات الأوروبية الأغذية المعدلة جينياً في أسواقها وفرضت في حالات أخرى لصق معلومات صريحة تشير إلى احتواء السلعة الغذائية على مكونات معدلة جينياً.

معظم-مبيعات-المضادّات-الحيوية-تذهب-إلى-قطاع-اللحوم
معظم-مبيعات-المضادّات-الحيوية-تذهب-إلى-قطاع-اللحوم

 

وتشير الدراسات الأوليّة إلى أن الهندسة الجينية للكثير من الأغذية الأساسية للإنسان تساهم في زيادة مشكلة المناعة لأنها تمكن البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية من إرسال الصفات الجينية المقاومة إلى نظامنا المعوي مقدمة بذلك دعماً كبيراً للبكتيريا وموفِّرة لها البيئة الأمثل لتعلم سبل جديدة لمقاومة المضادات وبقية العلاجات.

أسلوب الحياة المعاصرة
أدى أسلوب الحياة المعاصرة في المجتمعات الحديثة وخصوصاً في المدن إلى ابتعاد الإنسان عن الطبيعة والعمل في الأرض كما ولد ضغوطاً هائلة في مكان العمل أو في البيوت بسبب الانعكاسات النفسية والعصبية الناجمة عن الأزمات الاقتصادية وتفكك الأسر والعلاقات، وقد أثبت الطب الحديث أن الضغوط النفسية والأزمات وحالات الإكتئاب والإرهاق والخوف من المستقبل هي أهم أسباب تراجع نظام المناعة في الإنسان وأنها بصورة خاصة أحد أهم أسباب الانتشار المتزايد لأمراض السرطان. بالمعنى نفسه فإن ضغوط الحياة المعاصرة هي من العوامل الإضافية التي تمكّن البكتيريا من العمل بفعالية أكثر على مقاومة المضادات وإحداث الأضرار في صحة الفرد والصحة العامة.

خيارات متناقصة
إن تزايد البكتيريا والجراثيم المقاومة للمضادات الحيوية يزيد من خطورة الوضع، إذ ينذر بأن البشرية ستجد نفسها قريباً وقد عادت إلى العصر السابق لاكتشاف المضادات الحيوية. سبب ذلك أن معظم تلك الأدوية والعلاجات أصبحت غير نافعة للإنسان مما يضع البشرية في خطر محدق. في هذه الأثناء، وكحل مؤقت، تركز شركات الأدوية على تحسين قدرة المضادات الحيوية على إبطال دفاعات الجراثيم كأن يطلق الدواء أنزيماً يقتل أنزيم المقاومة الذي تفرزه البكتيريا. وقد نجحت الشركات في حالات معينة لكن البكتيريا عادت فأنتجت أنزيماً جديداً أبطل مفعول الدواء. لهذا السبب تعتقد الأوساط العلمية أن أسلوب تحسين القوة الهجومية للمضادات قد تكسبنا بعض الوقت في الحرب مع البكتيريا ربما خمس أو عشر سنوات لكن البكتيريا أثبتت أنها قادرة على التفوق وكسب الجولة الأخيرة.

في المقابل، فإن بعض الشركات تركّز أبحاثها الآن على فهم آليات الدفاع التي تستخدمها البكتيريا ووسائل التواصل وتبادل المعلومات في ما بينها والهدف هو التشويش على تلك العملية مما قد يجعل البكتيريا مكشوفة مجدداً لعمل المضادات والأدوية الأخرى. على سبيل المثال اكتشف العلماء في بريطانيا طريقة تواصل البكتيريا في ما بينها، وهم يتحققون من طرق تعطيل هذه العملية مما يحول دون قدرة المجموعات البكتيرية على التواصل وإحداث الضرر أو نقل العدوى. كذلك، يعتقد العلماء أن هذه العملية قد توصل إلى مضادات حيوية لا تقتل البكتيريا بالضرورة لكن قد تضعف فعاليتها وتبطل قدرتها على التسبب بالمرض.
كن طبيب نفسك
يتضح لنا مما سبق أننا في مأزق حقيقي وأن علينا أن نقوم بخطوات أساسية لتأمين حماية صحتنا وصحة أطفالنا إزاء المخاطر المحدقة. إذا كان الاعتماد على المضادات الحيوية لم يعد ممكناً فإن علينا أن نقرر ما يمكن أن نفعله نحن على سبيل الوقاية وتعزيز جهاز المناعة الذاتية بحيث نصبح أقوياء في مواجهة تلك الجراثيم وبحيث نمكّن آلة الجسد العجيبة من القيام بدورها الدفاعي الذي خلقت من أجله. لنأخذ مثلاً تناول اللحوم والألبان من السوق. إن معظم هذه اللحوم كما يتبين لنا محشوة بالمضادات الحيوية وربما بالبكتيريات المقاومة للعلاجات والأدوية. إن أول أمر يمكن أن نقوم به هو ببساطة الامتناع عن تناول اللحوم التي لا نتأكد أن مصدرها منزلي أو أنها عضوية. قد يكون ذلك صعباً لأن السوق مغرق بتلك المنتجات غير الصحية لكن في إمكان الكثيرين ممن يعيشون في المناطق الجبلية القيام بتربية الطيور والدجاج البلدي أو تربية الأغنام والعجول وفق الطريقة الطبيعية التي لا تتضمن التغذية بالهرمونات أو بالمضادات الحيوية. أضف إلى ذلك أنه في إمكان بعض رجال الأعمال أن ينشئوا صناعات للحوم بالطريقة العضوية والطبيعية أو أن ينشئوا مزارع الطيور التي تربى بصورة طبيعية ولا يدخل في علفها المضادات الحيوية، لأن الطلب سيكون موجوداً في هذه الحال خصوصاً إذا كان الفارق بين المنتج الصحي السليم وبين منتجات المزارع الحديثة والصناعات الغذائية ليس كبيراً.

مضادات حيوية من كل الأصناف، هل فقدت فعاليتها؟
مضادات حيوية من كل الأصناف، هل فقدت فعاليتها؟

” شتى أنواع المضادات الحيوية في علف الحيوانات تنتقل إلى أجسادنا وتضعف جهاز المناعة لدينـــا عند تناولنا لحومها وألبانهــا  “

تربية-الأبقار-على-الأعشاب-فتوفر-لحوما-وألبانا-صحية-وغير-ملوثة-بالمضادات-الحيوية
تربية-الأبقار-على-الأعشاب-فتوفر-لحوما-وألبانا-صحية-وغير-ملوثة-بالمضادات-الحيوية

إن النظام الغذائي هو الأساس وهو المنطلق لإعادة بناء جهاز المناعة في جسدنا ولا بدّ من العمل سريعاً على تنظيف جسدنا من ترسبات المضادات الحيوية وربما البكتيريات المقاومة التي تختبئ في جسدنا. بذلك فقط نضمن حماية نظام المناعة من التعرّض للمضادات الحيوية مهما كانت ضئيلة ونضمن بالتالي عدم إضعاف قدرتنا على مقاومة الهجمات البكتيرية، لأن التعرض المستمر عبر الغذاء إلى ترسبات المضادات الحيوية هو الذي يسمح للبكتيريا بتطوير أشكال مقاومة تضعف قدرتنا على مجابهتها حتى بواسطة أكثر المضادات الحيوية قوة.

عودوا إلى الطبيعة
تزخر الطبيعة الأم بالكثير من الأعشاب والمكونات الحية التي تصلح لأن توفِّر العلاج الشافي للعديد من الأمراض. إن مضادات الميكروبات كثيرة في الطبيعة مثل الثوم، والصعتر والقرفة وعسل المانوكا والبكتيريات النافعة لتنشيط الجهاز الهضمي Probiotics والأطعمة المخمرة (المخلّلات) وأشعة الشمس والفيتامين D كل هذه خيارات يجب تجربتها قبل اللجوء إلى الأدوية بما في ذلك المضادات الحيوية خصوصاً وأن البكتيريا لا تميل الى تطوير المقاومة لهذه الأنواع من العلاجات، لأن الطبيعة هي ربما أذكى مما نتصور عند الحديث عن توازن الجسد ونعمة الصحة التي وضع الله قواعدها في جسدنا منذ فجر البشرية.
المفتاح الأساسي لحفظ صحة جهاز المناعة هو الخيارات الصحيحة لأسلوب الحياة مثل اتباع نظام غذائي سليم وممارسة الرياضة، كذلك يجب التأكد من تناول الأطعمة الكاملة (حبوب ولحومات ونباتات)، وبهذا لن نكون بحاجة الى تناول المضادات الحيوية لأن نظام المناعة القوي والنشط في جسمنا سيقوم بدوره كاملاً وسيتولى حماتنا من هجمات الجراثيم.

غش العسل

غشّ عسل النحل

صناعة رائجة عالمياً.. ومحلياً

معلومات لا بدّ منها لفهم خصائص العسل الطبيعي
وتمييزه عن العسل المغشوش الذي يملأ الأسواق

بعض «العسل» الصيني يباع بـ 3 دولارات للكيلوغرام
ونحالون يمزجون العسل مع شراب الذرة العالي الفركتوز

أكثر الطرق «الشعبية» لكشف غشّ العسل غير فعّالة
والحلّ الوحيد إنشاء مختبرات فحص بتقنيات عالي

العسل الطبيعي الحقيقي هو نتاج عمل جماعات النحل في الحقول دون أي تدخل من الإنسان أو النحال في طريقة جمعه وتصنيعه وتجفيفه وتخزينه. والعسل الحقيقي أي غير المغشوش يأخذ لذلك جهوداً كبيرة من النحل نفسه ومن النحال الذي يتركّز عمله على متابعة الخلايا والكشف الدوري عليها ومعالجتها من الأمراض ونقله إلى الأماكن المعتدلة في برد الشتاء، وهناك ما لا يقل عن عشرين أو ثلاثين مهمة تدخل في عمل النحال الذي يربي خلايا النخل طمعاً في الحصول على العسل العالي النوعية.
العسل الحقيقي سلعة فاخرة ذات قيمة غذائية استثنائية وهو بسبب ما يحتويه من عناصر غذائية وأنزيمات وفيتامينات عامل أساسي لتقوية جهاز المناعة ومعالجة الكثير من المشاكل الصحية. لكن إنتاج العسل الطبيعي الممتاز يتطلب جهوداً وتعباً وهو لذلك له تكلفته وثمنه المرتفع نسبياً ونقول نسبياً لأن سعر العسل اللبناني الجيد لا يزال في حدود 40,000 ليرة للكيلوغرام منذ سنوات طويلة ولم يرتفع في موازاة التضخم وارتفاع أسعار مستلزمات تربية النحل والعمالة وتراجع المواسم وغير ذلك، وهو سعر رخيص إذا قيس بالأسعار التي يباع بها العسل حتى غير الجيد النوعية في بعض بلدان الخليج المجاورة.
لكن السعر الذي يحققه العسل للنحال أصبح عامل إغراء لكثيرين يسعون لدخول السوق بأنواع عسل مغشوشة سهلة التصنيع وتحقيق الأرباح الكبيرة التي لا يمكن للنحال الملتزم بقواعد تربية النحل أن يحققها، وقد اتسع نطاق غشّ العسل في لبنان وفي غيره من البلدان إلى حدّ كبير مع اكتشاف «قراصنة» العسل لوسائل وتقنيات وفنون جديدة تمكّنهم من إخفاء الغشّ على البسطاء وتحقيق أرباح وفيرة من تلك العملية. في أماكن مثل الصين فإن غشّ العسل هو «صناعة وطنية» تحميها الدولة وتحتفظ بأسرارها إلى درجة أن مصانع العسل تعتبر مواقع يحظر الدخول إليها وهي محاطة بالأسوار الشائكة وتحرسها الكلاب البوليسية.
أحد أهم أسباب غشّ العسل هو التطور التقني الذي يمكّن بعض الشركات من تركيب محاليل سكرية وإعطائها لون وطعم العسل ومعالجة المنتج بصورة تجعل كشف الغشّ فيه صعباً، إلا على المختبرات المتطورة. لكن السبب الأهم للغشّ هو شهرة العسل والطلب الكبير عليه ورغبة الناس جميعاً في استهلاكه وافتقاد أكثر المستهلكين لأي خبرة حقيقية في تقييمه سواء عبر تذوقه (وهذا أضعف الإيمان) أو عبر التأكد دوماً من مصدره والسعي لشرائه من مصدره من مؤسسات محترمة ولها سمعتها أو مباشرة من النحالين المعروفين بالمهنية ومراعاة الأصول. أحد الأمثلة على ضعف خبرة المستهلكين بالعسل هو اعتقادهم أن العسل الحقيقي لا يجب أن يتجمد وأنه إذا تجمد (تحت درجات حرارة معينة ) فإنه يكون مغشوشاً بالسكر، بينما الحقيقة هي أن كل عسل طبيعي يجب أن يتجمد في الحالات الطبيعية في درجة حرارة تتراوح بين درجتي 7 و15 مئوية وأن العسل السائل هو الذي يكون قد أخضع لعملية تسخينه إلى ما يقارب 60 درجة مئوية على الأقل لقتل الأنزيمات التي تسبب تجمده في حرارة منخفضة. أضف إلى ذلك أن كل الأعسال المغشوشة هي غالباً في شكل سائل بسبب طرق تصنيعها ولا يمكن بالتالي أن تتجمد بسبب الحرارة المرتفعة في معالجتها. وبسبب اعتقاد المستهلك الخاطئ بأن العسل المتجمد ليس طبيعياً فإن النحالين يبيعون عسلهم سائلاً بعد تسخينه وهو ما قد يفقده الكثير من خصائص العسل الطبية والغذائية والدليل أنه لا يمكنك أن تجد عسلاً متجمداً في السوق حتى في عز الشتاء! لأن المستهلك ببساطة حكم عليه بأنه ليس العسل الصحيح والمحلات التجارية قبلت بذلك وكذلك النحالون في غياب الثقافة الاستهلاكية.
لكل ذلك ونظراً إلى أهمية العسل كغذاء طبيعي وصحي للمستهلك تخصص «الضحى» هذا التحقيق من أجل التعريف بخصائص العسل وتثقيف المستهلك بالعملية المعقدة لإنتاجه من قبل جماعة النحل وفي الوقت نفسه تسليط الضوء على أساليب غشّ العسل وطريقة كشف الغشّ في الكثير منها. ونسارع إلى القول إن غشّ العسل وصل إلى درجة من التطور بحيث بات يصعب كشف غشّه من دون اللجوء إلى المختبرات الحديثة. لكن الكثير من المغشوش بطرق بدائية من قبل بعض الطفيليين والمحتالين يمكن كشفه بوسائل بسيطة وسنتطرق لهذه النقطة في ما بعد.
لكن قبل الحديث عن العسل المغشوش يجب أن نعرف أكثر عن العسل الطبيعي لأن معرفة المستهلك بالعسل الطبيعي وزيادة خبرته به يجعله مع الوقت قادراً على تمييزه عن المغشوش، والمسألة كلها مسألة وقت وتطور خبرة كما في كل شيء وإن كانت ثقافة العسل تحتاج ربما إلى مواهب وصبر وجهود أكبر من أي مجال غذائي آخر.

العسل الطبيعي
للعسل الطبيعي المنتج في خلايا النحل العامل صفات طبيعية أساسية لا يمكن للمراقب الحصيف أن يخطئها وهذه الخصائص الظاهرة أو البديهية تتناول اللون والوزن والطعم والرائحة واللزوجة ومعدل الرطوبة ونسبة الحموضة. وهناك خصائص في العسل لا يمكن كشفها بالحواس كالتلوث الكيميائي بالمبيدات. أما خصائص العسل الطبيعي فيمكن عرضها كالتالي:
أ. لون العسل: يختلف لون العسل باختلاف المراعي والأزهار التي يأخذ النحل منها الرحيق وحبوب اللقاح وباختلاف الحرارة والرطوبة والفترة الزمنية أثناء جمع النحل لرحيق الأزهار وصنعها للعسل داخل الخلايا. ويندرج التصنيف العالمي للعسل تحت سبعة ألوان من الأبيض المائي إلى العنبري الغامق، والذهبي المصفر البني الفاتح إلى الغامق نوعاً ما. وتعود ألوان العسل إلى الصفات الطبيعية التي تنقل إليه من رحيق الأزهار مثل الكاروتين والكلوروفيل والزانثوفيل. والعسل الفاتح يكون ذا قيمة غذائية أعلى من العسل الغامق الذي ربما اكتسب لونه نتيجة طرق إدارية خاطئة من قبل النحّالة، مثل وضع العسل في أماكن مكشوفة للضوء والحرارة والرطوبة، أو وضع براويز وأسس شمعية في الخلية قاتمة اللون، أو وضع خلايا النحل في أماكن حارة وغير محمية.
يستنتج مما سبق أن كل أنواع العسل التي تباع في السوق بلون واحد لا يتغير مثل «لانييزي» و«أتيكي» وغيرهما ليست أعسال «طبيعية» بالمعنى الدقيق لأنه لا يوجد في الطبيعة عسل بلون واحد لا يتغير مع السنين، بل يحدث غالباً أن العسل المستخرج من قفيرين متجاورين يأتي بلونين مختلفين بل بأكثر من لون.
ب. تجمّد العسل: جميع الأعسال (جمع عسل) الطبيعية تتجمد على درجة حرارة ما بين 7 و 15 % وبفترة زمنية قصيرة بين الشهر والثلاثة أشهر. أما العسل الناتج من الندوة العسلية، وهي مادة حلوة تفرزها بعض الحشرات التي تعيش على بعض الأشجار الحرجية، فيكون لونه بنياً غامقاً ولا يتجمد إلا بعد مرور فترة زمنية لا تقل عن السنة.
ت. الوزن النوعي: تتأثر كثافة العسل ووزنه النوعي بدرجات الحرارة وتتناسب عكسياً مع نسبة الرطوبة وزمن قطاف العسل والذي يجب أن يتم بعد انتهاء الأزهار بفترة زمنية لا تقل عن الأسبوعين.
ث. طعم العسل: للعسل الطبيعي أكثر من طعم واحد وذلك حسب اختلاف المرعى والمصادر الرحيقية لكن ومع تنوع طعم العسل فإنه يحتفظ دائماً بطعم مميز يعرفه المستهلك الذي اعتاد على استهلاكه وهو طعم يكون أكثر «عطرية» في عسل الأزهار البرية خصوصاً المستخرج من نباتات مثل الصعتر أو القصعين أو إكليل الجبل والخزامى وغيرها.
ج. الرائحة: ان العسل الطبيعي له رائحة خاصة تميزه عن غيره من العسل المصنع وتكون هذه الرائحة خفيفة نوعاً لكنها رائحة مميزة لا يعرفها ويميِّزها إلا القليل من المستهلكين ذوي الخبرة.
ح. اللزوجة: العسل الطبيعي يجب ان يكون لزج القوام رطوبته ما بين 16 و18% من وزنه ويجب أن يحتوي الغرام الواحد من العسل على عدد كبير من حبوب اللقاح (ما بين 1500 و 5000 حبة)، فإذا خفّت لزوجة العسل وبدا سائلاً رخواً فهذا يعني أنه يحتوي على رطوبة عالية وأنه لم يخضع في القفير إلى عملية التبخير التي تقوم بها العاملات بتحريك أجنحتها فوق العيون السداسية المحتوية على العسل غير المكتمل التصنيع. ويحتوي العسل الطبيعي على نسبة من أنزيمات الأنفرتيز وكلوكواوكسيديز والداياستيز ومهمة هذه الأنزيمات إنضاج الرحيق وتحويله إلى عسل، وتختلف نسبتها حسب نوع ومصدر العسل، إذا لم تكن قد أتلفت بفعل التخزين أو التسخين العالي للعسل.
خ. نسبة الحموضة PH في العسل: يبلغ متوسط الحموضة للأعسال الجيدة نحو 4,32 PH ويتأثر العسل الطبيعي بدرجات الحموضة بحسب نسبة المعادن والأحماض التي يحتويها والمحتوى الغذائي (الذي يكون منتجاً من الرحيق وحبوب اللقاح ) مثل حمض الكلوكونيك والفورميك والعديد من الأحماض الأمينية والعضوية، وتتحكم جميعها بمحتوى السكر في الرحيق. وللمناخ دور في تعديل حموضة العسل فعند ارتفاع الحرارة والرطوبة في الجو ترتفع نسبة الحموضة في التربة وبالتالي في النبتة والأزهار ثم الرحيق الذي يأخذ منه النحل، وتؤثر قوة الخلية ايضاً في معدل الحموضة لأن الخلية القوية تخفض من حرارة ورطوبة جو الخلية. أخيراً فإن وجود الرحيق المتدفق (أي في الجو الرطب تزداد كمية الرطوبة بالرحيق مما يؤدي إلى انخفاض نسبة السكريات وارتفاع نسبة الرطوبة في العسل).
د. هيدروكسي ميثيل فورفورال Hydroxymethylfurfural وهذه المادة إذا وجدت في العسل بنسب أعلى من المقبول تعتبر دليلاً على التسخين غير الملائم للعسل أو الغشّ بالسكريات الأحادية المعدة خصيصاً لهذا الغرض كما ذكرنا أعلاه، والمعدل المقبول لهذه المادة في العسل يختلف بين دولة ودولة، وأغلب الدول المنتجة للعسل لا تسمح أن تتجاوز نسبتها في العسل 40 ملغم/كغم عسل وذلك باستثناء ألمانيا التي تطبق معايير أكثر تشدداً إذ إنها وضعت الحد الأعلى عند نسبة 15 ملغم في الكيلوغرام من العسل.

غشّ العسل صناعة عالمية .. ومحلية
كيف يُغشّ العسل؟ الشركات الموزعة للعسل في الأسواق العالمية تتبع طرق تصنيع على درجات حرارة مرتفعة لأكثر من 100 درجة حرارة مئوية لجعله يبدو حقيقياً. وأكبر الدول المنتجة للعسل الصناعي في العالم هي الصين، ومعظم إنتاجها ملوث بالمبيدات والمضادات الحيوية والمعادن الثقيلة إضافة إلى أنواع المحاليل السكرية المنتجة من السكر غير النظيف ويحتوي على الزيوت ودخان أجهزة المعامل التي تصنع المواد السكرية.
شراب الذرة العالي الفركتوز: يعتبر هذا المنتج الذي اجتاح العالم منتجاً حديثاً إذ لم يكن يعود اكتشافه وتطويره إلى سبعينات القرن الماضي وذلك عندما طورت الصناعة الكيميائية في الولايات المتحدة طريقة استخراج الفركتوز العالي من نشاء الذرة. وبالنظر إلى رخص ثمنه بالمقارنة مع السكر المصنوع من قصب السكر أو الشمندر السكري فقد حل شراب الذرة العالي الفركتوز تدريجياً مكانهما في تصنيع كافة أنواع المرطبات والحلويات والصناعات الغذائية مثل الكاتشاب وغيرها وقفز إنتاج الولايات المتحدة منه من 3 ملايين طن في العام 1980 إلى 8 ملايين طن في العام 1995.

العسل الطبيعي
للعسل الطبيعي المنتج في خلايا النحل العامل صفات طبيعية أساسية لا يمكن للمراقب الحصيف أن يخطئها وهذه الخصائص الظاهرة أو البديهية تتناول اللون والوزن والطعم والرائحة واللزوجة ومعدل الرطوبة ونسبة الحموضة. وهناك خصائص في العسل لا يمكن كشفها بالحواس كالتلوث الكيميائي بالمبيدات. أما خصائص العسل الطبيعي فيمكن عرضها كالتالي:
أ. لون العسل: يختلف لون العسل باختلاف المراعي والأزهار التي يأخذ النحل منها الرحيق وحبوب اللقاح وباختلاف الحرارة والرطوبة والفترة الزمنية أثناء جمع النحل لرحيق الأزهار وصنعها للعسل داخل الخلايا. ويندرج التصنيف العالمي للعسل تحت سبعة ألوان من الأبيض المائي إلى العنبري الغامق، والذهبي المصفر البني الفاتح إلى الغامق نوعاً ما. وتعود ألوان العسل إلى الصفات الطبيعية التي تنقل إليه من رحيق الأزهار مثل الكاروتين والكلوروفيل والزانثوفيل. والعسل الفاتح يكون ذا قيمة غذائية أعلى من العسل الغامق الذي ربما اكتسب لونه نتيجة طرق إدارية خاطئة من قبل النحّالة، مثل وضع العسل في أماكن مكشوفة للضوء والحرارة والرطوبة، أو وضع براويز وأسس شمعية في الخلية قاتمة اللون، أو وضع خلايا النحل في أماكن حارة وغير محمية.
يستنتج مما سبق أن كل أنواع العسل التي تباع في السوق بلون واحد لا يتغير مثل «لانييزي» و«أتيكي» وغيرهما ليست أعسال «طبيعية» بالمعنى الدقيق لأنه لا يوجد في الطبيعة عسل بلون واحد لا يتغير مع السنين، بل يحدث غالباً أن العسل المستخرج من قفيرين متجاورين يأتي بلونين مختلفين بل بأكثر من لون.
ب. تجمّد العسل: جميع الأعسال (جمع عسل) الطبيعية تتجمد على درجة حرارة ما بين 7 و 15 % وبفترة زمنية قصيرة بين الشهر والثلاثة أشهر. أما العسل الناتج من الندوة العسلية، وهي مادة حلوة تفرزها بعض الحشرات التي تعيش على بعض الأشجار الحرجية، فيكون لونه بنياً غامقاً ولا يتجمد إلا بعد مرور فترة زمنية لا تقل عن السنة.
ت. الوزن النوعي: تتأثر كثافة العسل ووزنه النوعي بدرجات الحرارة وتتناسب عكسياً مع نسبة الرطوبة وزمن قطاف العسل والذي يجب أن يتم بعد انتهاء الأزهار بفترة زمنية لا تقل عن الأسبوعين.
ث. طعم العسل: للعسل الطبيعي أكثر من طعم واحد وذلك حسب اختلاف المرعى والمصادر الرحيقية لكن ومع تنوع طعم العسل فإنه يحتفظ دائماً بطعم مميز يعرفه المستهلك الذي اعتاد على استهلاكه وهو طعم يكون أكثر «عطرية» في عسل الأزهار البرية خصوصاً المستخرج من نباتات مثل الصعتر أو القصعين أو إكليل الجبل والخزامى وغيرها.
ج. الرائحة: ان العسل الطبيعي له رائحة خاصة تميزه عن غيره من العسل المصنع وتكون هذه الرائحة خفيفة نوعاً لكنها رائحة مميزة لا يعرفها ويميِّزها إلا القليل من المستهلكين ذوي الخبرة.
ح. اللزوجة: العسل الطبيعي يجب ان يكون لزج القوام رطوبته ما بين 16 و18% من وزنه ويجب أن يحتوي الغرام الواحد من العسل على عدد كبير من حبوب اللقاح (ما بين 1500 و 5000 حبة)، فإذا خفّت لزوجة العسل وبدا سائلاً رخواً فهذا يعني أنه يحتوي على رطوبة عالية وأنه لم يخضع في القفير إلى عملية التبخير التي تقوم بها العاملات بتحريك أجنحتها فوق العيون السداسية المحتوية على العسل غير المكتمل التصنيع. ويحتوي العسل الطبيعي على نسبة من أنزيمات الأنفرتيز وكلوكواوكسيديز والداياستيز ومهمة هذه الأنزيمات إنضاج الرحيق وتحويله إلى عسل، وتختلف نسبتها حسب نوع ومصدر العسل، إذا لم تكن قد أتلفت بفعل التخزين أو التسخين العالي للعسل.
خ. نسبة الحموضة PH في العسل: يبلغ متوسط الحموضة للأعسال الجيدة نحو 4,32 PH ويتأثر العسل الطبيعي بدرجات الحموضة بحسب نسبة المعادن والأحماض التي يحتويها والمحتوى الغذائي (الذي يكون منتجاً من الرحيق وحبوب اللقاح ) مثل حمض الكلوكونيك والفورميك والعديد من الأحماض الأمينية والعضوية، وتتحكم جميعها بمحتوى السكر في الرحيق. وللمناخ دور في تعديل حموضة العسل فعند ارتفاع الحرارة والرطوبة في الجو ترتفع نسبة الحموضة في التربة وبالتالي في النبتة والأزهار ثم الرحيق الذي يأخذ منه النحل، وتؤثر قوة الخلية ايضاً في معدل الحموضة لأن الخلية القوية تخفض من حرارة ورطوبة جو الخلية. أخيراً فإن وجود الرحيق المتدفق (أي في الجو الرطب تزداد كمية الرطوبة بالرحيق مما يؤدي إلى انخفاض نسبة السكريات وارتفاع نسبة الرطوبة في العسل).
د. هيدروكسي ميثيل فورفورال Hydroxymethylfurfural وهذه المادة إذا وجدت في العسل بنسب أعلى من المقبول تعتبر دليلاً على التسخين غير الملائم للعسل أو الغشّ بالسكريات الأحادية المعدة خصيصاً لهذا الغرض كما ذكرنا أعلاه، والمعدل المقبول لهذه المادة في العسل يختلف بين دولة ودولة، وأغلب الدول المنتجة للعسل لا تسمح أن تتجاوز نسبتها في العسل 40 ملغم/كغم عسل وذلك باستثناء ألمانيا التي تطبق معايير أكثر تشدداً إذ إنها وضعت الحد الأعلى عند نسبة 15 ملغم في الكيلوغرام من العسل.

غشّ العسل صناعة عالمية .. ومحلية
كيف يُغشّ العسل؟ الشركات الموزعة للعسل في الأسواق العالمية تتبع طرق تصنيع على درجات حرارة مرتفعة لأكثر من 100 درجة حرارة مئوية لجعله يبدو حقيقياً. وأكبر الدول المنتجة للعسل الصناعي في العالم هي الصين، ومعظم إنتاجها ملوث بالمبيدات والمضادات الحيوية والمعادن الثقيلة إضافة إلى أنواع المحاليل السكرية المنتجة من السكر غير النظيف ويحتوي على الزيوت ودخان أجهزة المعامل التي تصنع المواد السكرية.
شراب الذرة العالي الفركتوز: يعتبر هذا المنتج الذي اجتاح العالم منتجاً حديثاً إذ لم يكن يعود اكتشافه وتطويره إلى سبعينات القرن الماضي وذلك عندما طورت الصناعة الكيميائية في الولايات المتحدة طريقة استخراج الفركتوز العالي من نشاء الذرة. وبالنظر إلى رخص ثمنه بالمقارنة مع السكر المصنوع من قصب السكر أو الشمندر السكري فقد حل شراب الذرة العالي الفركتوز تدريجياً مكانهما في تصنيع كافة أنواع المرطبات والحلويات والصناعات الغذائية مثل الكاتشاب وغيرها وقفز إنتاج الولايات المتحدة منه من 3 ملايين طن في العام 1980 إلى 8 ملايين طن في العام 1995.

أحد-معامل-تصنيع-شراب-الذرة-المرتفع-السكروز
أحد-معامل-تصنيع-شراب-الذرة-المرتفع-السكروز

“سبب ترويج العسل المغشوش ليس فقط براعة الغشّاشين بل الجهل شبه المُطبِق للمستـــهلكين بحقائق العســل وأســراره”

شراب الذرة معدل جينياً!
ويتم تصنيع شراب الذرة العالي الفركتوز عموماً من الذرة المعدلة جينياً وتستخدم في عمليات تحويله أنزيمات معدلة جينياً أيضاً وهذه الأنزيمات في عمليات متتالية تستهدف الانتقال من نشاء الذرة إلى منتج سائل يشبه العسل (!) في لونه وتركيبته السكرية وهو أعلى حلاوة من السكر والعسل على حد سواء.
ما يهم هنا هو أن شراب الذرة العالي الفركتوز HFCS تحول في بلدان مثل الصين أو غيرها إلى “المادة الأوليّة” الرخيصة لإنتاج عسل رخيص ليس له من العسل إلا اسمه إذ إنه يقوم على هذا الشراب بعد معالجته وإضافة منكِّهات وألوان مناسبة له ليكون جاهزاً للبيع كعسل في أنحاء العالم. ومع الأسف فقد انتقلت خبرة التعامل مع شراب الذرة في غشّ العسل إلى بلدان عديدة منها لبنان حيث بات يستورده من الولايات المتحدة أو غيرها في مستوعبات من التنك أو في براميل وبات يستخدم في تصنيع أكثر الحلويات العربية وأنواع الكعك والبتيفور والمربيات وغيرها. لكن الأهم أن استخدامه انتقل على نطاق واسع إلى مربي النحل الذين إما أنهم يقدمونه للنحل لزيادة إنتاج العسل أو إنهم ببساطة يمزجونه مع العسل لزيادة الكمية المنتجة بهذا النوع من الغشّ المكشوف. وهذه بالطبع عملية رابحة لأن سعر الكيلوغرام من شراب الذرة العالي الفركتوز يقل عن دولار ونصف بينما يباع الكيلوغرام من العسل الطبيعي بأسعار تصل إلى 30 دولاراً. بل إن العديد من النحالة باتوا يوفرون على أنفسهم فيستوردون العسل الصيني الذي يباع بأسعار رخيصة جداً ويضيفونه إلى العسل البلدي خصوصاً وأن الصينيين قاموا بعملية الغشّ بصورة علمية تجعل من الصعب اكتشافها وقاموا بالتالي بخدمة الغشّاشين عندنا الذين لا يمتلكون مثل وسائلهم وتقنياتهم المعقدة. ويمكن لأي كان أن يجري بحثاً على الإنترنت عن العسل ليجد إعلانات من الصين بعضها يعرض العسل (نعم العسل!) بسعر دولارين أو ثلاثة دولارات للكيلوغرام.
بسبب انتشار صناعة غشّ العسل في الصين اتخذ الإتحاد الأوروبي منذ العام 2001 قراراً يمنع دخول العسل الصيني إلى الأسواق الأوروبية، كما فرضت الولايات المتحدة الأميركية على العسل المستورد من الصين ضريبة مرتفعة تصل الى 300 في المئة، لكن لا تزال منتجات العسل الصيني تجد طريقها للدخول الى الأسواق الأميركية بسبب انخفاض أسعارها او عن طريق التهريب، علماً أن 75% من العسل المباع في الولايات المتحدة ليس عسلاً بالمعنى الدقيق لأنه لا يحتوي على أي أثر لحبوب اللقاح، إذ يلجأ مصنعو العسل إلى استخدام طرق التصفية القصوى Ultrafiltration لجعل العسل سائلاً محلى مفتقداً لأية خصائص طبيعة محددة وبحيث يسهل إعطاؤه خصائص موحدة ويصبح من الصعب جداً تحديد مصدره ، عندها يصبح سهلاً مزج العسل بشراب الذرة العالي الفركتوز المصنع في الولايات المتحدة وغيرها أو العسل المغشوش بهذا الشراب المستورد بأسعار رخيصة من الصين.
يذكر أن العسل المصنّع له رائحة كيميائية سببها تركيبة الفواكه الكيميائية إذ يضيف الصينيون إلى «العسل» محلولاً من مواد صناعية شبيهة بمستخلص الفواكه الطبيعية، أو طعماً لاذعاً من خلال إضافة حامض الفورميك Formic acid. أما العسل الطبيعي، فله رائحة الزهور البعيدة وهي رائحة مميزة لأنها تعكس التركيب الرحيقي للعسل والخصائص العطرية للأزهار الغالبة ولغيرها من الأزهار البرية الداخلة في تركيبة العسل.

لا يملك “قراصنة العسل” في لبنان أو غيره من بلدان المنطقة التقنيات الحديثة والمتطورة التي تملكها شركات تصنيع العسل أو غشّه في العالم، لذلك، فإنهم يعتمدون أولاً على بساطة المستهلك وعدم خبرته وثانياً على ما تيسر لهم من “وصفات” وأساليب بدائية يتعلمونها أو يسعون لتطويرها وإتقانها بحيث يتفوق أحدهم على غيره من الغشّاشين. ومن الطرق المستخدمة في منطقتنا:
شراب الذرة العالي الفركتوز الذي يتمتع بتركيبة كيميائية قريبة من تركيبة العسل الأمر الذي يغري باستخدامه في غشّ العسل سواء عبر تغذية النحل به مباشرة داخل الخلايا أم عبر مزجه بالعسل لزيادة الكمية، ويساعد في ذلك أن شراب الذرة العالي الفركتوز يتمتع بتركيبة كيميائية قريبة من العسل ويمكن بالتالي أن لا ينكشف بعمليات اختبار التركيبة السكرية للعسل وهو أحد الاختبارات الكثيرة التي باتت متوافرة لكشف غشّ العسل.
خلط قطر السكر بدبس قصب السكر (مكثف عصير قصب السكر) عبر التسخين لمدة معينة على النار مع إضافة أعشاب معينة أو مقطرات إلى المحلول السكري بهدف إعطائه لون العسل ورائحة شبيهة برائحته.

” كل عسل طبيعي يجب أن يتجمد في حرارة 7 إلى 15 درجة مئوية والعسل السائل يخضع لتسخين قد يفقده خصائصـــه الطبيـة “

القطر الملون والمعطر:إحدى طرق غشّ العسل الشائعة تقوم على البدء بتحضير قطر السكر بحيث يُسخَّن ليغلي مع تحريكه وإضافة ملونات له حتى يصبح لونه ذهبياً (عسلي) يضاف له مستخلص رائحة العسل او يضاف إلى المحلول بعض النباتات التي لها طعم ورائحة مرغوبة من المستهلكين الذين تعودوا عليها، أو تضاف بعض المقطرات مثل ماء الزهر والورد والصعتر والشاي للتلوين.
الغشّ «الميداني» وهو الغشّ الذي يمارسه النحال أو التاجر داخل القفير أو في محيطه أو في طريقة وتوقيت القطاف أو في مرحلة ما بعد فرز العسل أو التصنيف والتسميات إلى آخر ما هنالك وأكثر وسائل الغشّ المعتمدة من بعض النحالين الذين لا يمتلكون الإمكانات التقنية والاقتصادية لتصنيع العسل «على الطريقة الصينية» هي التالية:
1.قطاف العسل قبل موعده وقبل إنضاجه من قبل النحل العامل من خلال إضافة العناصر الضرورية له من حبوب اللقاح والأنزيمات وتبخير الرطوبة الزائدة من الرحيق الذي جمعه النحل من الأزهار.
2.تغذية النحل بالمحاليل السكرية بكميات كبيرة من خلال جيوب خاصة توضع داخل القفير وتملأ بالسكر المذاب في الماء وقد يضاف إليه مقطر ماء الزهر أو ماء الورد.

فوارق أساسيّة
بين العسل الطبيعي والعسل المزيّف

فوارق-أساسية-بين-العسل-الطبيعي-والمزيّف
فوارق-أساسية-بين-العسل-الطبيعي-والمزيّف

عسل مزيّف

عسل اصطناعي
لا رائحة أو عطر عسل
لا يحتوي على حبوب لقاح أو شمع أو بروبوليس
يحتوي على قطر السكّر أو شراب الذرة
لا يتجمّد
مضر بالصحة

عسل طبيعي

من صنع النحل
فيه حبوب لقاح
لا يحتوي على سكّر
يحتوي على شمع وبروبوليس
يتجمّد بصورة طبيعية
مفيد للصحة

“شراب الذرة العالي الفركتوز هو المفضل في عمليات غشّ العسل نظراً إلى تشابه لونه ولزوجته وتركيبته السكرية مع العسل الطبيعي”

3.تسخين العسل بدرجة الغليان قبل إنضاجه من قبل النحلات العاملات وذلك عبر تبخير الرطوبة الزائدة وإضافة حبوب اللقاح بمعدل من 1500 حبة إلى حوالي 5000 حبة لقاح في الغرام الواحد وكذلك إضافة الأنزيمات (البكتيريا النافعة) الضرورية للنحل والإنسان، بعد امتصاص الرحيق من الأزهار او امتصاص الندوة العسلية عن بعض الأشجار الحرجية مثل الأرز والسنديان وخوخ الدب
( البرقوق ).
وعادة يحتوي العسل غير الناضج (أي الجاهز للقطاف) على نسبة عالية من الرطوبة تتراوح ما بين 60 و 80% ومن أجل إنضاج العسل تبدأ العاملات التي يكون عمرها اقل من 20 يوماً بسحبه مجدداً من العيون السداسية لبراويز الشمع بواسطة لسانها الأنبوبي لتبدأ العاملات المحيطة بها بتحريك أجنحتها لإنتاج الهواء الذي يبخر الرطوبة من الرحيق عند إعادته إلى العيون السداسية نقطة فنقطة، وتكرر هذه العملية عدة مرات لتصبح نسبة الرطوبة في العسل ما بين 16 و 18%.
4.غلي السكر مع الماء وإضافة بعض النباتات والأعشاب الملونة مثل الشاي او غلي المحلول السكري مع شمع النحل وإضافة بعض المقطرات كماء الزهر وماء الورد لغشّ المستهلك بالطعم والرائحة.
5.مزج القليل من العسل العالي الجودة مع المحاليل السكرية بنسبة 10% لإعطاء المحلول بعضاً من طعم العسل وغليها جميعاً لتصبح لزجة القوام فالغلي يساعد على عدم فصل العسل عن القطر لأن جميع الأنزيمات والفيتامينات المفيدة تكون قد ماتت.
6.الغشّ بالماء: يضاف إلى العسل الطبيعي الماء ثم يسخن ويحرك ليدخل الماء في تركيبته وقوامه، هذه الطريقة يمكن الكشف عليها بالنظر لأن العسل يصبح قوامه سائلاً وإذا وضعت نقطة عسل على ورق يلاحظ أن الورق قد امتص الماء أو يتم استخدام فاحص الرطوبة الذي يظهر ارتفاعها.
7.الغشّ بإضافة النشاء: يضاف الى العسل النشاء المحلول في الماء يحرك مع تسخينه على حرارة مرتفعة مع إضافة الشاي لإعطائه اللون المرغوب، ويكشف النشاء في العسل بواسطة وضع بضع نقط من محلول البوتاسيوم إلى العسل المخفف بما يساوي وزنه ماء فإذا كان العسل يحتوي على النشاء فيعطي لوناً أزرق.
8.الغشّ بإضافة سكر الفركتوز او الغلوكوز او الاثنين معاً وخلطه مع الماء وغلي المزيج حتى يصبح بلزوجة العسل مع الاهتمام بتلوين المنتج النهائي لكي يبدو مثل العسل..
الغشّ بإضافة «العسل الأسود» وهو في الحقيقة عبارة عن دبس قصب السكر قبل تكثيفه وتكريره ليصبح سكر المائدة. يتم تحضير محلول من العسل بتركيز 20% ثم يأخذ منه 5 مليلتر يضاف الى هذه الكمية «خلات الرصاص» (2.5) غرام مع كحول مثيلي 23.5 مليلتر مع رج المحلول جيداً.
الغشّ بشراب الذرة العالي الفركتوز القريب جداً من حلاوة العسل والذي يحتوي على نسبة الفركتوز قريبة من نسبة الفركتوز في العسل الطبيعي التي تكون حوالي 40 % إضافة الى لونه ودرجة حلاوته العالية جداً نسبة للمحاليل السكرية، وأكثرية العسل الموجود في الأسواق العالمية وخاصة أميركا مخلوط بشراب الذرة، والكثير من النحالين يستخدمون شراب الذرة لتغذية النحل خلال موسم الإزهار والجني، ولا يوجد في هذا الشراب أي من المحتويات الغذائية والطبية التي يحتويها العسل إضافة الى الضرر الذي يسببه لخلايا النحل وهو أحد أسباب هجرة النحل من الخلايا. يمكن كشف هذا الغشّ للعسل بواسطة التحليل المخبري الحديث وخاصة فحص حبوب اللقاح او البروتين الموجود في العسل.

كيلو-العسل-الصيني-بدولارين-فقط
كيلو-العسل-الصيني-بدولارين-فقط

طرق كشف الغشّ في العسل
أضف قليلاً من العسل إلى كوب ماء بارد ولاحظ الفرق: العسل الطبيعي يكون خيطاً سميكاً في قاع الكوب وهذا يدل على اللزوجة العالية للعسل وعدم احتوائه على مكونات غير طبيعية. وإذا بدأ العسل في التشتت في الماء، فهذا دليل على انه مغشّوش أو على الأقل محتواه المائي أعلى من المقرر في المواصفات القياسية للعسل.
يذاب مقدار من العسل في خمسة أضعافه ماءً مقطراً، ويترك إلى اليوم الثاني فإذا وجدنا في قاع الوعاء ترسبات غريبة مثل فتات صغيرة من المعادن في القاع فإن ذلك يدل على أن العسل مغشوش، أما إذا كان المحلول رائقاً ولا توجد ترسبات فهذا يعني أن العسل جيد وطبيعي.
يذاب العسل في سبيرتو معدل التركيز حتى 55 في المئة، يترك الخليط إلى اليوم التالي، فإن وجدت رواسب دقيقة في أسفل الإناء دل ذلك على أن العسل مغشوش.

” الاتحاد الأوروبي منع دخول العسل الصيني منذ العام 2001 والولايات المتحدة فرضت عليه ضريبة 300%  “

كشف الغشّ بالعسل الأسود أو الدبس: تحرك عبوة العسل او تمال جانباً لبضعة دقائق فإن تركت مواداً مترسبة على جدار العبوة فهذا دليل واضح على ان النحل تمت تغذيته بالدبس أو خلط مع العسل.
اللافت أن بعض تجار العسل المغشوش يحاولون الترويج لاختبارات ملفقة ولا أساس لها لـ «كشف» غشّ العسل لأن هذا في صالحهم ولأنهم يريدون تضليل المستهلك عبر تعليمه اختبارات لا تفيد شيئاً، كما أن بعضاً منهم يعلم الناس اختبارات الهدف منها ضرب العسل الطبيعي وإظهار أنه هو المغشوش وليس العسل المفبرك الذي يبيعونه. من هذه مثلاً الترويج لفكرة أن العسل الذي يجمد مغشوش! أو أن اللون الطبيعي للعسل هو الغامق أو الداكن «الأسود» وليس الفاتح علماً أن العكس هو الصحيح إذ أن العسل المنتج من الأزهار البرية يكون لونه فاتحاً بدرجات مختلفة، أما العسل الغامق فهو يدل أنه من الندوة العسلية المنتشرة في الأحراج المحيطة أو أن العسل غير طبيعي وخضع لعمليات تصنيع.
يتبع بعض المستهلكين اختباراً تم الترويج له وهو غمس ملعقة صغيرة في العسل وأثناء سحبها إلى أعلى فإنها يجب أن تشكل خيطاً لا ينقطع، فإذا انقطع الخيط فإن ذلك يدل على أن العسل مغشوش، وهذا الاختبار غير سليم لأن نتيجته تعتمد على نسبة الرطوبة في العسل فإن زادت فإن خيط العسل قد ينقطع لكن دون أن يعني ذلك أن العسل مغشوش، كما أن وسائل الغشّ أصبحت تضمن أن يأتي العسل المغشوش بلزوجة وخصائص قريبة من العسل مما يجعل «اختبار الملعقة» في صالح تجار العسل غير الطبيعي لأن العسل يمكن أن يكون مغشوشاً بالكامل ويجتاز فحص الملعقة.
وهناك اختبار آخر يروّج له هو غمس عود ثقاب (كبريت) في العسل ومحاولة إشعاله، فإذا اشتعل العود مباشرة بعد إزالة العسل عنه يدل ذلك على أن العسل جيد وهذا في حال أن كان العسل يحتوي على نسبة الرطوبة المعروفة لكن قد يكون العسل محتوياً على رطوبة أعلى من المعتاد كما إن وسائل غشّ العسل أصبحت قادرة على اجتياز هذا الاختبار لأن التركيز السكري في العسل المغشوش قد يجعل عود الثقاب قابلاً للإشتعال!.
طريقة اخرى يعتمدها بعض المستهلكين، وهي وضع نقطة من العسل على الرمال فإذا تجمعت على بعضها بشكل كرة يعني ذلك أن العسل جيد وهذه الطريقة لا قيمة لها للأسباب التي ذكرناها سابقاً. وهناك طريقة قديمة ومهمة لتحديد أوقات قطاف العسل، وهي وضع نقطة من العسل على ورقة لوقت لا يتجاوز الساعة فإذا ابتلّ مكانها وأحدثت دائرة من الرطوبة على الورقة، دلّ ذلك على أن العسل مقطوف قبل أوانه لأن رطوبته ما زالت مرتفعة.
بعض التجار يطلبون من الزبون تذوق العسل وملاحظة أنه يحتوي على طعم شمع النحل مما يدل على أن العسل طبيعي، لكن هذا المؤشر لا قيمة له لأنه لا يدل على أن العسل طبيعي لأنه في الإمكان تغذية الخلايا بالمحلول السكري في مواسم الفيض، بذلك فإن قرص الشمع يكون طبيعياً لكن العسل الذي وضعه النحل داخله ليس طبيعياً لأنه عبارة عن محلول سكري قدّم للنحل في الخلايا نفسها.

ضجة-في-أميركا-حول-تسرب-العسل-الصيني-المزيف-والغش-بشراب-الذرة
ضجة-في-أميركا-حول-تسرب-العسل-الصيني-المزيف-والغش-بشراب-الذرة

” كثير من العسل المتداول في السوق مغشوش بشراب الذرة أو هو عبارة عن قطر سكر ملون ومعطر بأعشـــاب أو مقطرات عطريــة “

خبراء العسل
كما أن للنبيذ في فرنسا أو غيرها خبراء يتذوقونه ويمكنهم من رشفة صغيرة معرفة من أي عنب صنع وأي سنة واي تاريخ كذلك يوجد «ذواقة» للعسل يمكنهم أن يخمنوا نوع الأزهار الغالبة في العسل وبالتالي الارتفاع الذي كانت فيه الخلايا ولزوجة العسل وحموضته وغير ذلك بمجرد تذوق العسل. وفي بريطانيا وفرنسا وبلاد أوروبية أخرى تنظم معارض للعسل فيأتي النحالون بنماذج من إنتاجهم ويعرض الكل على لجنة تحكيم تتذوق كل صنف ثم تعطي علاماتها الخاصة باللون واللزوجة والطعم والشفافية والنقاء وغيرها وتعلن عن النوعيات المعروضة الفائزة في نهاية المسابقة.
عندما يتناول الإنسان العسل يكوّن فكرة عن مصدره، مثلاً إذا كان عسلاً من الحمضيات أو البرسيم (النفلة) أو الندوة العسلية او الأزهار البرية المتنوعة حيث تظهر هذه النكهة بوضوح في العسل.

العلم هو الحل الوحيد
كل ما سبقت الإشارة إليه من وسائل اختبار العسل كانت رائجة في غياب الوسائل العلمية ونحن ننصح بعدم الركون إلى أي منها لأنها غير دقيقة وقد تعطي انطباعاً غير صحيح سلباً أو إيجاباً عن العسل المقصود. لقد وصل غشّ العسل إلى مستوى من التطور بات من الصعب حتى على الخبراء كشف كل تفاصيله. لذلك فإن الحل الوحيد لكشف غشّ العسل ولمعرفة المواد التي دخلت في غشّه أو كشف الترسبات الكيميائية مثل بقايا المبيدات أو المعادن أو غيرها هي إخضاع العسل للفحوصات المخبرية. وهناك اليوم مختبرات حديثة يمكنها كشف أدنى غشّ في العسل بما في ذلك الذي يتم في العسل الصيني وهذه المختبرات تجري عادة أكثر من اختبار وعلى أكثر من جهاز لأن كل جهاز متخصص في كشف شكل من أشكال الغشّ دون غيره وبسبب هذا التخصص فقد أتقن العلم سبل فضح الغشّاشين، ونحن ندعو إلى اعتماد هذه الوسائل في لبنان عبر تزويد معهد الأبحاث الزراعية بأحدث التقنيات أو عبر استحداث مركز متخصص بتقييم العسل وإصدار الشهادات الرسمية بمواصفات العسل ورفض التصديق على أنواع العسل التي لا تكون مطابقة للمواصفات المقرّة رسمياً لأن في ذلك حماية للمستهلك ولسمعة العسل اللبناني كما أن فيه حماية للنحالين الملتزمين بالأصول العلمية والأخلاقية المتوارثة لهذه المهنة العريقة والذين إذا استمر غشّ العسل على النطاق الحاصل اليوم سيكونون في أزمة لأنهم لن يستطيعوا بيع إنتاجهم الجيد العالي الكلفة في مواجهة المنافسة الساحقة للعسل الكاذب الذي بدأ يملأ رفوف المحلات.

شجرة الكرز الكريمة

شجــرة الكـــرز الكريمــة

محاصيـل لـ 100 عــام وتكلفــة قليلــــــة

متطلباتها الضوء والتربة العميقة والتسميد
وتزرع بعلية لكن الري بعد العقد يزيد إنتاجها

الفرعوني وقلب الطير منتشران بكثرة في لبنان
و الـ ” بينغ” أصبح مرغوباً للذة طعمه وكبر حبته

زيت بذور الكرز مفيد كدهن ضد الروماتيزم والدمامل
ولكن حذار أكل لب البذرة لأنه سام وقد يكون مميتاً

تأثير-الصقيع-على-أزهار-الكرز
تأثير-الصقيع-على-أزهار-الكرز

الكرز فاكهة شهية، وفي لبنان هي فاكهة ضيافة بإمتياز ولا شيء يعادل منظر قصعة الكرز الملآنة بتلك الثمار اللامعة والجميلة الألوان على طاولة الضيافة وقد يكون عندنا تعلق بالفاكهة على أنواعها لكن إذا حضر الكرز تجد الأيادي تذهب إليه بحركة لا شعورية إذ إن كل شيء في هذه الثمرة يدعوك لتناولها. لكن بينما ننجذب إلى الكرز كفاكهة، فإن المزارع البعيد النظر يجب أن يفكر بشجرة الكرز كإستثمار وأن يسارع إلى غرسها على نطاق واسع إن كانت له أرض مناسبة لها أو أن يزرع منها شجرتين أو ثلاثاً في حديقة داره إن كانت صغيرة.
اقتصادياً لا توجد شجرة تعمّر وتعطي ثمارها لسنوات طويلة مثل شجرة الكرز، إذ أن شجرة الكرز تعطي ثمارها لمدة 100 سنة على الأقل فهي على الأرجح شجرة يمكنك -وبعد عمر طويل- أن تورثها كما يمكن لأبنائك بدورهم أن يتركوها لجيل ثالث وقد تنتقل منهم إلى جيل رابع أيضاً. إنها شجرة «بنت أصل» كريمة ولا تحتاج إلى كثير من المعاملة لكن لا تحاول زرعها في التربة غير العميقة لأنك لن تجني منها الكثير فهذه الشجرة تمتاز في كونها تحب التربة العميقة بسبب جذورها الوتدية التي تنزل عمودياً في التربة ولا تقبل بتراب تقل سماكته عن 170 أو 200 سنتمتر وهو الأفضل. فما الذي تعرفه عن شجرة الكرز وخصائصها وفوائدها الغذائية والطبية وما هي أنواعها العديدة وكيف يمكن زرعها والعناية بها وما هو المردود الاقتصادي الذي يمكن للمزارع أن يحققه منها؟ هنا أهم ما يجب أن نعرفه عن هذه الشجرة لعلّه يشكل حافزاً للمهتمين بإدخالها ضمن زراعاتهم الاقتصادية ومواسمهم الوفيرة.

تعتبر أشجار الكرز من أهم أشجار الفاكهة التي تنمو في الجبال وتأتي في الأهمية الاقتصادية بعد أشجار التفاح في المناطق التي يزيد ارتفاعها على 1100 متر فوق سطح البحر، لأنها تعطي مردوداً اقتصادياً وفيراً، وقد زاد الطلب على هذه الفاكهة الفاخرة وبالتالي على غرسها في فترة شهد فيها لبنان ازدهار الحركة السياحية وهو ما ولّد طلباً قوياً على الكرز من السياح والمصطافين والمطاعم والقطاع الفندقي بشكل خاص. والكرز صنفان: حلو المذاق وهو يمثل نحو 95% من السوق وهو الذي يلاقي الطلب عليه من قبل المستهلكين وهناك كرز حامض وهو لا يشكل أكثر من 5% من الكرز المزروع في لبنان ويدخل في بعض الوجبات الغذائية والأدوية وأنواع السكاكر وليس له سوق للبيع طازجاً.
توجد في لبنان أصناف عديدة من مجموعة الكرز الحلو مثل: الكرز الذهبي وقلب الطير ونابليون والاسطنبولي والنواري والطلياني وقوس قزح.. ويختلف زمن نضج الثمار بين منطقة وأخرى من نفس الصنف، فكرز قوس قزح يبدأ بالنضج في منتصف شهر حزيران على ارتفاع 1200 متر عن سطح البحر وعلى ارتفاع 1600 متر يبدأ بالنضج في منتصف شهر تموز، هذا يوضح الفرق في النضج بين منطقة وأخرى حسب الارتفاع عن سطح البحر. وعادة تبدأ بعض أصناف الكرز بالنضج خاصة المبكرة منها، في منتصف أيار وتمتد حتى أواخر شهر تموز في الأصناف المتأخرة جداً والتي ادخلت حديثاً الى لبنان مثل: أراشي وسويت هارت. وبعد التأصيل والتهجين لبعض أصناف الكرز والكرز البري أصبح ممكناً زرعه في مناطق الإرتفاعات المتوسطة ابتداء من 600 متر وما فوق.

20 نوعاً عالمياً
يوجد في العالم حالياً عشرون نوعاً تقريباً من أنواع الكرز المعروفة والتي تحتل مركزاً متقدماً اقتصادياً من حيث الجودة وكبر الثمار وكمية الإنتاج ولذة الطعم. وعلى الرغم من أن معظم الأنواع تمّ تهجينها بالأصل من أنواع برية فإن دراسات قامت بها وزارة الزراعة الفرنسية تفيد أن الشجرة البرية الأساسية التي تم تهجين معظم الأنواع منها ولدت في جبال الهيمالايا في آسيا. لكن هذه الدراسات لم تحدد زمنياً الفترة التي تم نقل هذه الشجرة فيها إلى مناطق مختلفة من العالم إذ توجد أنواع في دول يساعد مناخها على زراعة هذه الشجرة وأهمها إيران وفرنسا وألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية واليابان وهنغاريا وسويسرا وكندا والجمهورية التشيكية.

شجرة تلفت النظر
تتصف أشجار الكرز بشكلها الجميل وبحجمها الكبير بحيث يمكن أن يصل ارتفاعها إلى 10 أمتار، وهي من الأشجار المتساقطة الأوراق وتنتمي إلى مجموعة اللوزيات. وتتميز الشجرة بمحور قوي تتوزع عليه الأغصان الهيكلية التي تعطي الشجرة شكلها المميز. ويلاحظ أن لون الجذع بني مائل إلى الاحمرار أو هو رمادي محمر بينما تتميز الطرود (النموّات الحديثة) بلون بني مع احمرار خفيف في بعض الأصناف أو رمادي مخضر في أصناف أخرى. أما الأوراق فهي رمحية الشكل أو متطاولة مسننة الحواف لونها اخضر في الوجه المقابل للضوء وأخضر فاتح في الجهة السفلية المقابلة. وتزهر أشجار الكرز قبل أن تورق، ويعطي البرعم الزهري من 4 إلى 8 أزهار وهي ثنائية الجنس أي تحمل أعضاء التذكير والتأنيث على نفس الزهرة. وتتخذ الثمرة شكلاً كروياً تقريباً وهي ملساء ناعمة، يختلف لونها من صنف إلى آخر فمنها الأسود والأصفر والأحمر والأصفر المحمرّ، ومنها ما يحمل خطاً داكن اللون يتوسط الثمرة. وتحمل الثمار بذرة واحدة في داخل كل ثمرة وهي نواة صغيرة لوزية الشكل مرّة الطعم.

أصناف الكرز
أهم أصناف الكرز المتداولة في العالم هي التالية ولا يوجد إلا عدد من هذه الأصناف على نطاق تجاري في لبنان.
1- سويت أرلي Sweet Early وهي أشجار قوية النمو، غزيرة الإنتاج مكبرة النضج لكن ثمرتها قليلة الصلابة والحلاوة وهي تبدأ بالنضج في منتصف أيار.
2- أرلي لوري Early Lorry وهي أشجار قوية النمو، غزيرة الإنتاج، مكبرة النضج، الثمرة متوسطة الحجم والصلابة والحلاوة، حساسة للصقيع، تبدأ بالنضج في منتصف أيار.
3- بورلا Burlat غزير الإنتاج، نموها جيد، يحتاج الى أصناف أخرى من الكرز للمساعدة في التلقيح، الثمار صغيرة نسبياً قليلة الصلابة، حلاوتها وسط، ينضج في أواخر ايار.
4- الطلياني: متوسط النمو والإنتاج، يساعد في التلقيح، عنق الثمرة قصير، لون الثمار أحمر داكن، حلو المذاق متوسط الحجم، ينضج في أواخر أيار.
5- أرلي ستار: Early Star صنف قوي في النمو، غزير الإنتاج، الثمار كبيرة الحجم، شديدة الصلابة، لونها أحمر داكن، مذاقها وسط، تنضج في أواخر أيار وأوائل حزيران.
6- جورجيا: Georgia متوسط إلى متأخر في الإزهار، قوي النمو، بحاجة إلى أصناف مساعدة في التلقيح، الثمار متوسطة إلى كبيرة الحجم، لونها أحمر غامق، شديدة الصلابة، مذاقها وسط، يمكن إبقاء الثمار على الأشجار لفترة طويلة بعد النضج الذي يتم عادة في الثلث الأول من حزيران.
7- نيو ستار: New Star صنف متوسط النمو، غزير الإنتاج، ذاتي التلقيح، الثمار كبيرة الحجم، متوسطة الصلابة، لذيذة المذاق، ينضج في الثلث الأول من حزيران.
8- بينغ: Bing مرغوب جداً لمذاقه اللذيذ، أشجاره قوية النمو، متوسطة الإنتاج، يساعد في تلقيح الأصناف الأخرى، لون الثمار أحمر خمري، متوسطة إلى كبيرة الحجم، حساس للصقيع الذي يؤدي إلى تشقق الثمار، النضج في منتصف حزيران.
9- الفرعوني: منتشر بكثرة في لبنان، غزير الانتاج، قوي النمو، مقاوم لمرض المونيليا، الثمار متوسطة إلى كبيرة الحجم، قلبية الشكل، لون الثمار حمراء داكنة مائلة للأسود، صلبة وطعمها لذيذ، النضج في منتصف حزيران.
10-السكري: صنف قديم في لبنان، قوي في النمو، غزير في الانتاج، بحاجة الى مساعدة في التلقيح، الثمار متوسطة الحجم، شديدة الصلابة، لونها أحمر داكن، مذاقها حلو ولذيذ، ينضج بعد منتصف حزيران.
11-إيراني: قوي النمو، بحاجة لمساعدة في التلقيح من أنواع كرز أخرى، ثماره متوسطة الى كبيرة الحجم، لون الثمار أحمر مخملي شديدة الصلابة، النضج آخر حزيران.
12-زهر: ناتج عن طفرة وراثية قوي النمو، غزير الانتاج، الثمار متوسطة الى كبيرة الحجم، حلو المذاق، النضج أواخر حزيران.
13-مكحل أو قوس قزح: قوي النمو، غزير الانتاج، الثمار متوسطة إلى كبيرة الحجم، لونها زهري محمر، يتوسط الثمرة خط أسود اللون، على إحدى جهتيها، طعمها حلو ولذيذ، النضج في أول تموز.
14-سويت هارت Sweet Heart قوي النمو، غزير الإنتاج، متأخر في الإزهار، الثمار متوسطة الحجم، لونها زهري غامق، تأخذ شكل القلب، شديدة الصلابة، طعمها حلو، تتحمل أعمال التوضيب والشحن والتبريد، النضج بعد أوائل تموز.
15-ارأشي: متوسط إلى قوي النمو، متأخر الإزهار، غزير الانتاج، الثمار متوسطة الحجم، لونها زهري مصفر، قلبية الشكل، شديدة الصلابة، سكرية الطعم، تتحمل أعمال التوضيب والشحن، النضج بعد أوائل تموز.

كرز سويت هارت قوي النمو غزير الإنتاج لكنه يتأخر حتى تموز
كرز سويت هارت قوي النمو غزير الإنتاج لكنه يتأخر حتى تموز

المتطلبات البيئية
الحرارة: أشجار الكرز غير محبة للحرارة والرطوبة الزائدة ومحبة للمناطق المرتفعة عن سطح البحر التي تعطي الكرز فترة جيدة من السكون والراحة خاصة في فصل الشتاء وبعد تساقط اوراقها. ولكن في مرحلة ازهار الكرز للصقيع أثر ضار عليها بحيث تموت الأزهار وتتساقط في حال تعرضها لدرجة حرارة صفر لمدة تزيد على 20 ساعة.
الضوء: أشجار الكرز من الأشجار التي تحب الضوء وتحتاج إلى إضاءة جيدة. الأشجار المزروعة في المناطق التي لا يتوفر فيها الضوء بكميات لازمة تصاب عادة بتضرر الفروع وتعريتها وموت البراعم الثمرية الحديثة مما يؤدي لقلة الإنتاج. لذا من الضروري تقليم التربية في السنوات الثلاث الأولى وإعطاء الاشجار الشكل الكأسي، وفي السنوات التالية يتركز التقليم على إزالة الأغصان المتشابكة لفسح المجال لدخول أشعة الشمس اليها.
الرطوبة: تنمو أشجار الكرز بشكل عام دون ري خاصة الأشجار المطعمة على المحلب أو الكرز البري الحامض خاصة في المناطق التي يزيد فيها معدل تساقط الأمطار على 500 ملم في السنة. ولكن الأشجار التي تروى كري تكميلي بعد العقد وبعد انقطاع الأمطار لفترة تزيد على الشهر تعطي إنتاجاً عالي الجودة في الحجم والشكل والطعم.
التربة: تنمو أشجار الكرز بشكل جيد في الأراضي العميقة والخصبة، جيدة الصرف، متوسطة الرطوبة ومفككة، ولا تنمو اشجار الكرز في التربة الرطبة الثقيلة وسيئة الصرف وقليلة العمق لأنها تحمل جذوراً وتدية تنمو عامودياً في التربة.

كرز البينغ صنف جديد يزداد شعبية بسبب كبر حبته ومذاقه الجيد
كرز البينغ صنف جديد يزداد شعبية بسبب كبر حبته ومذاقه الجيد

إكثار الكرز
تتكاثر أشجار الكرز بعدة طرق أهمها:
البذرة: تجمع بذور الكرز من الثمار الناضجة في فصل الربيع ويتم تنضيدها بإزالة بقايا اللب اللاصقة عليها وتزرع في فصل الخريف في مشاتل بعد تهيئة الأرض ضمن خطوط تبعد عن بعضها بعضاً حوالي 70 سم والبذرة عن الأخرى حوالي 25 سم لتطعم في العام التالي بالأصول ذات المردود الاقتصادي المرغوب.
الجذر: تؤخذ أجزاء من جذور بعض أشجار الكرز البرية الحامضة وتزرع على خطوط كما في البذرة.
التطعيم: يتم تطعيم بادرات الكرز بالقلم في اوائل الربيع عند انتفاخ البراعم على شكل لساني او لحائي، او بالرقعة او البرعمة خلال شهر حزيران بعد نضج البرعمة اللحائية والخشبية في الطرود التي نمت خلال فصل الربيع.
التقليم: أشجار الكرز بحاجة لتقليم تكويني في السنوات الثلاث الأولى على الشكل الكأسي لدخول الضوء اليها، ثم تقتصر عملية التقليم على إزالة الفروع والأغصان المتزاحمة والمتشابكة والمريضة والتي تكسرت من جراء تراكم الثلوج عليها.
التسميد: تحتاج أشجار الكرز لكي تنمو جيداً إلى تسميد عضوي مخمَّر وللتسميد العضوي أثر جيد على تحسين خواص التربة ومواصفات الجودة في الإنتاج. وتحتاج الشجرة بعمر 15 سنة لحوالي 20 كلغ من السماد الحيواني المخمر سنوياً. بالنسبة للأسمدة الكيماوية فتضاف حسب حاجة الأشجار خاصة الأسمدة المركبة npk (آزوت – فوسفور – بوتاس). تحتاج شجرة بنفس العمر الى حوالي نصف كلغ من السماد المركّب توزع الأسمدة في خندق دائري حول جذع الشجرة بتوازي تفرع اغصانها على عمق حوالي 15 سم ثم تطمر. أما أوقات وضع الأسمدة العضوية فتكون خلال فصل الخريف بعد اكتفاء الأرض من مياه الأمطار والأسمدة الكيماوية توضع خلال شهري كانون الأول والثاني.

مربى-الكرز
مربى-الكرز

” حفار الكعب (الكابنودس) والمونيليا والتصمُّغ آفات تصيب الكرز ويمكن الوقاية منها بإتباع الإرشــادات والعلاجـــــات اللازمة وفي وقتها  “

آفات الكرز
تصاب أشجار الكرز بعدة حشرات نذكر أهمها التي تؤثر على نمو وإنتاج الأشجار:
حفار الساق وجذور الكرز وهي الحشرة الكاملة للخنفساء ذات القرون الطويلة (الكابنودس) وهذه تضع بيوضاً ملقحة في أسفل جذع الشجرة (على مستوى التراب) وهذه البيوض تفقس في الربيع وتتجه نزولاً نحو كعب الشجرة وجذورها الأساسية فتبدأ بقضمها وتعرية الكعب الأمر الذي يتسبب بيباس الشجرة وموتها. أهم طريقة لتجنب هذه الآفة هو الكشف السنوي على كعب شجرة الكرز للتأكد من عدم وجود الإصابة ونزع الديدان وقتلها في حال وجدت وتعقيم الحفرة. وعلى سبيل الوقاية يتم طلاء جذوع الأشجار في منتصف شهر نيسان بمزيج من الكلس وأوكسيد النحاس (الجنزارة) يصنع منهما طلاء بكثافة اللبنة ويطلى به جذع الشجرة إلى علو 40 سنتمتراً مع تغطية الكعب نزولاً إلى عمق 10 سنتمترات تحت التراب.
ذبابة البحر الأبيض المتوسط: تصيب الثمار عند بداية نضجها وتضع داخلها عدداً كبيراً من البيوض (20 الى 30 بيضة) وبعد فقس البيوض، تتغذى اليرقات على لب الثمار ويؤدي ذلك إلى تلفها. يمكن مكافحة الذبابة طبيعياً بواسطة المصائد الفيرومونية أو برش الثمار بمزيج من مسحوق الفليفلة الحرّة واللاذعة جداً مع مقطر الصعتر وصفوة الرماد وهذه الطريقة ناجعة ومجربة إذا طبقت في وقتها. وبالطبع فإن وسائل الوقاية بالمبيدات متوافرة لكن يجب الانتباه إلى التزام التعليمات بدقة وعدم الإفراط في استخدامها.
أمراض الكرز
أهم الأمراض التي تصيب شجرة الكرز هو مرض تصمغ اللوزيّات: أسبابه طبيعية مثل الرطوبة الزائدة في التربة، وجود طبقة صلبة في التربة لا تتمكن الجذور من اختراقها، الممارسة الخاطئة بجرح أشجار (الكرز) نتيجة لإعتقادات لا أساس لها عند البعض والحقيقة أن جرح الكرز يؤدي إلى إضعافه ويتسبب بتسرب الأمراض إليه . من الأسباب أيضاً التقليم بقطع الأغصان عشوائياً، أو الإصابة بالأمراض الفطرية.
يكافح مرض تصمغ اللوزيات بالتالي:
1. زرع أصول مقاومة للآفات
2. معالجة الأسباب المشكو منها
مرض المونيليا: يسببه وباء فطري يصيب البراعم الزهرية عند تفتحها والأفرع الفتية ويؤدي الى يباس الازهار والفروع والبراعم، تبقى معلّقة على الشجرة.
سبل انتشار المرض: يمضي مرض المونيليا الشتاء داخل الثمار المصابة المتساقطة والمطمورة بالتراب وعلى البراعم المصابة لينتشر بالأمطار وحرث الأرض..
يكافح مرض المونيليا كالتالي:
1. قطع الفروع وجمع الثمار المصابة وحرقها.
2. رش الأشجار بمادة أوكسيد النحاس (الجنزارة) والكبريت الغروي في أول الربيع بعد انتفاخ البراعم الزهرية، لكن قبل ظهور الإزهار والأوراق.

حمانا-أحيت-مهرجان-الكرز-لسنوات-طويلة-2
حمانا-أحيت-مهرجان-الكرز-لسنوات-طويلة-2

إنشاء بستان الكرز
تهيّئة الأرض: يتم تحضير الأرض بعد نقبها على عمق 100 سم لأن جذور الكرز الوتدية تحتاج لتربة عميقة جداً. تنظف الأرض من الأحجار وجذور الاشجار البرية بعد الحراثة بواسطة السكك على عمق 40 سم. تقسم الأرض الى خطوط متوازية لتحديد مواقع الغراس مع الأخذ في الإعتبار المسافة بين الشجرة والأخرى وبين الخط والخط. إن افضل وأنسب الأشكال الهندسية لزراعة الاشجار المثمرة بشكل عام هي المثلث والمربع. فإذا كان الشكل المعتمد من قبل المزارع المربع، نأخذ نفس المسافة بين الشجرة والأخرى وبين الخط والآخر من 4 الى 6 امتار حسب طبيعة الصنف والأصل. أما اذا كان الشكل “المثلث” وهو المفضل لأنه يسمح بزرع عدد أكبر من الغراس، تبقى المسافة بين الشجرة والأخرى نفسها بينما تنخفض المسافة بين الخط والآخر الى أقل من ذلك أي من حوالي 3,5 إلى 5 أمتار. يتم إعداد الحفر في المكان المحدد لها على عمق 50 سم وعرض 50 سم في فصل الخريف بعد ارتواء الأرض بمياه الامطار، ويوضع 2 كلغ تقريباً من السماد العضوي المخمر في قاع الحفر بالإضافة الى حوالي 100 غرام من السوبر فوسفات الثلاثي وخلطها مع التراب في قاع الحفرة..
غرس الأشجار: تغرس أشجار الكرز في الحفر المهيأة على أن تكون الغراس مستقيمة ويجب ان تكون منطقة الالتحام (الإتصال) بين الأصل (المطعم عليه) والمطعوم على مستوى سطح التربة حتى نمنع حدوث إنبات فروع من الأصل البري إذا ما كان مرتفعاً عن سطح التربة، وعدم السماح للطعم بإنبات الجذور إذا ما طمرت منطقة الطعم تحت سطح التربة. ويؤدي ذلك الى عدم مقاومتها للأمراض والجفاف وعدم قدرتها على تكوين مجموع جذري كبير.

إنتاج أشجار الكرز
تدخل اشجار الكرز في الإنتاج في عمر 4 سنوات ويتزايد إنتاجها تدريجياً وتعطي الأشجار انتاجاً وفيراً اذ يصل معدل انتاج الشجرة الواحدة بعمر 20 سنة الى حوالي 150 كلغ في حالة التلقيح الكامل، وتنخفض الإنتاجية كثيراً في الأشجار التي لا تزورها حشرات النحل لعدم تلقيحها.

شجر-الكرز-الياباني-مشهور-بأزهاره-الرائعة
شجر-الكرز-الياباني-مشهور-بأزهاره-الرائعة

” يمكن تبريد الكرز في برادات خاصة على حرارة نصف درجة فوق الصفر ولمدة تصل لغاية شهر ويســـاعد ذلك على بيع الموســــم بأسعار أفضـل  “

قطاف الكرز
إن لجني ثمار الكرز تقنية خاصة لأنها لا تقطف إلا في مرحلة النضج الكامل ومن الضروري جداً أن تجمع مع أعناقها تحاشياً لتلفها مباشرة بعد القطاف، مع الانتباه لإبقاء البراعم الثمرية التي تعطي الباقات الزهرية في السنة المقبلة.
يجب استهلاك الكرز مباشرة بعد القطاف ولمدة لا تتعدى الأسبوع على الاكثر.

تسويق الكرز
تحتاج عملية تسويق الكرز إلى عدة أيام : اليوم الأول قطاف – الثاني والثالث سوق الجملة – وباقي أيام الأسبوع في المحال التجارية. أما إذا أراد مزارع الكرز تسويقه لمناطق بعيدة، داخل او خارج لبنان، فيجب أن ينقل بواسطة شاحنات مبرّدة على درجة حرارة ما بين الصفر والواحد فوق الصفر.

الاهمية الاقتصادية للكرز
لشجرة الكرز اهمية اقتصادية كبيرة اذ لا تحتاج الى أعمال زراعية خاصة كما إن عمرها الاقتصادي قد يمتد لحوالي 100 سنة اي تبقى تعطي انتاجاً وفيراً ومردوداً اقتصادياً جيداً لارتفاع اسعارها وازدياد الطلب عليها اذ تعطي الشجرة الواحدة بعمر 20 سنة تقريباً حوالي 150 كلغ. ويقدر المعدل الوسطي لسعر الكيلوغرام الواحد, 3 آلاف ليرة لبنانية. (3,000 ل.ل. * 150 كلغ = 450,000 ل.ل. للشجرة الواحدة) هذا عند تسويقه بصناديق كبيرة (شرحات) تتسع الواحدة لحوالي 15 كلغ، أما اذا تم تسويقه في صناديق صغيرة تتسع الواحدة لـ 5 كلغ كحد أقصى فإن المعدل الوسطي لسعر بيع الكيلوغرام الواحد يزيد على 4,000 ل.ل.
اما الثمار غير المرغوب فيها من قبل المستهلك فيمكن للمنتج تصنيعها على شكل كمبوت أو مربى أو شراب الكرز كما يتم إدخالها في أنواع عديدة من الحلويات.
يمكن تبريد الكرز في برادات خاصة على حرارة نصف درجة فوق الصفر ولمدة تصل لغاية شهر، وهذا ما يساعد في التحكّم بالسوق وعرض الكرز في أوقات لا يكون متوفراً فيها طازجاً ويكون الطلب عليه لا يزال قوياً من المستهلك.

حقل-من-أشجار-الكرز-مغروس-وفق-خطوط-متوزايةمع-حفظ-المسافات-المطلوبة-بين-الأشجار
حقل-من-أشجار-الكرز-مغروس-وفق-خطوط-متوزايةمع-حفظ-المسافات-المطلوبة-بين-الأشجار

الأهمية الطبية للكرز
تحتوي ثمرة الكرز على فيتامينات وأحماض ومعادن عديدة مما يجعلها عنصر تنقية للدم ومقاومة للسموم وإراحة للخلايا المتعبة والكرز منشط للعضلات والأعصاب ومضاد للعفونة ومجدد للأنسجة ومقاوم لداء المفاصل. ويمكن لتناول الكرز على الريق أن يسهل عملية الهضم، كما تستخدم سيقان الكرز في طب الأعشاب الأوروبي في حالات التهاب المثانة والكلى. والكرز مفيد في علاج الصداع إذ يتم هرسه واستخدامه في كمادات توضع على الجبهة. أما زيت بذور الكرز فهو مفيد كدهن ضد الروماتيزم والدمامل والبقع الجلدية ولكن حذار تناول لب البذرة لأنه سام جداً لاحتوائه على مادة السيانيد Cyanide السامّة وفي بعض الحالات قد يكفي تناول لب بذرتين من بذور الكرز فقط للتسبب بالوفاة!! وعلى العموم وبمناسبة الحديث عن بذور اللوزيّات فإنها على العموم سامة في مجموعها وهذا يشمل لب بذور المشمش المرة والخوخ والدراق على أنواعها.

سوق الكرز اللبناني

40 ألف طن سنوياً معظمها يستهلك محلياً

البقاعي يسبق الجبل إلى السوق ويقطف سعرا أعلى
لكن كرز الجبل يسود بعدها ويحقق أعلى الأسعار

مواسم قطاف الكرز وأسعاره حسب مصدر الإنتاج  (أسعار الجملة بالدولار الأميركي)
مواسم قطاف الكرز وأسعاره حسب مصدر الإنتاج
(أسعار الجملة بالدولار الأميركي)

قبل سنوات أصدرت مؤسسة بحثية لبنانية دراسة حول جدوى زراعة الكرز في لبنان أكدت فيه أن لبنان مهيأ لإنتاج أصناف فاخرة من الكرز من ناحية الطعم والقساوة مما يجعلها مثالية للتصدير، مشيرة إلى أن الكرز اللبناني يحظى بإقبال شديد في الأسواق الخارجية وبالأخص العربية.
وأظهرت الدراسة المعطيات الأساسية التالية:
إن الإنتاج الفعلي لبستان الكرز لا يبدأ إلا بحلول السنة الثالثة للزراعة، وتزيد إنتاجية شجرة الكرز تدريجياً بعد السنة الخامسة إذ يمكن أن تصل إلى 20 كلغ بالشجرة ومع حلول السنة السابعة يمكن للشجرة أن تعطي نحو 50 كلغ من الكرز.
بدأت زراعة الكرز اللبناني لأغراض تجارية منذ بداية الثلاثينات من القرن الماضي واستمرت حتى بلغت أوج ازدهارها في الأربعينات من القرن العشرين خاصة مع النجاح الكبير الذي كان يلقاه مهرجان الكرز السنوي في حمانا البلدة الواقعة في المتن الأعلى من جبل لبنان. وقد استمر هذا الازدهار حتى بداية الحرب اللبنانية حيث بدأ بعدها بالتراجع. إلا أن طاقة لبنان على التصدير ما زالت عالية لكن الحروب التي امتدت على نطاق المنطقة في السنوات الأخيرة خصوصاً العراق وسوريا أثرت كثيراً على خطوط التصدير باتجاه الأسواق العربية.
تتوزع بساتين الكرز بين مختلف المناطق اللبنانية خاصة بين ارتفاع 900 و1400 م عن سطح البحر. وتقدر المساحة المزروعة بالكرز بحوالي 4784 هكتاراً تؤمن إنتاج ما يقارب الـ 40 ألف طن من الكرز سنوياً. ويتم استهلاك أكثر من 90% من موسم الكرز في السوق المحلية من المستهلكين والصناعة التحويلية ويستورد لبنان كميات قليلة خلال فصل الشتاء من أسواق خارجية مثل أستراليا وتشيلي.
تتعرض زراعة الكرز إلى مخاطر عدة طبيعية وتجارية ويعتبر تقلب المناخ أحد المخاطر التي قد تؤثر على الموسم ولاسيما الأمطار في الوقت غير الملائم للشجرة إذ يمكن لهذه الأمطار أن تؤدي إلى تعطيل عملية التلقيح بواسطة النحل وإلى تعفن الأزهار والحبوب وتشقق الثمار الناضجة. كما يعتبر الصقيع أحد المخاطر التي تواجه زراعة الكرز خصوصاً في فترة ما بعد العقد حيث لا يمكن للكرز أن يتحمل حرارة تقل عن واحد تحت الصفر درجة مئوية. ويمكن للرياح القوية أن تتسبب بأضرار كبيرة كسقوط الثمار أو تشوهها خصوصاً إذا حصلت عند اقتراب موعد القطاف.
إن نجاح المزارعين اللبنانيين في عمليات التصدير وفتح الأسواق يتوقف على معرفتهم بالمعايير ومواصفات الجودة والتعليب التي تطبقها أسواق الاستيراد. ويتأثر الكرز بسرعة من جراء سوء التوضيب أو من جراء ارتفاع درجات الحرارة أثناء القطاف. لذلك يجب أن يقطف في الصباح في درجات حرارة معتدلة وأن يباع في فترة أقصاها يوم أو يومين. كما إن وجود دودة الكرز التي تظهر في معظم الأحيان بعد القطاف يؤدي إلى تلف كميات من المحصول في الأسواق.
المنافسة
تتركز المنافسة المحلية على مستوى النوعية والسعر وتاريخ الإنتاج وتسليمه إلى السوق. وبصورة عامة فإن الكرز المنتج في منطقة البقاع يصل إلى الأسواق قبل عشرة أيام من نضوج الكرز في المناطق الجبلية، وهذا الكرز ذو النوعية المتوسطة يباع عادة بأسعار مرتفعة. لكن بعد نضوج الكرز الجبلي ذي النوعية الجيدة في بداية شهر حزيران يحتل هذا الأخير المرتبة الأولى في الأسواق من حيث الجودة والسعر المرتفع

يونس امره شاعر العشق

يونُـــس أمــــرِه

شاعر المحبة والأخوة الإنسانية

من أشهر أقواله: سامِح المخلوق إكراماً للخالِق !

طلب من الصوفي حاجي بكتاش بذوراً لحقله
فعرض إعطاءه «عشرة أنفاس» بدلاً منها

إعتبرته الأونسكو بين أعظم الشخصيات الثقافية
واختارت عام 1991 ليكون عام يونُس أمرِه

شعره العذب مزيج من الحب الصوفي والإنساني
الرافض بقوة للتعصب ولجمود المؤسسة الدينية

يعتبر الشاعر الصوفي يونُس أمرِه Younus Emre من أكثر شعراء الصوفية شهرة لكن في الوقت نفسه من أكثرهم غموضاً، وقد بلغت شهرته مختلف البلدان وترجمت أشعاره إلى لغات عديدة واعتبرته منظمة الأونسكو إحدى أهم الشخصيات الثقافية في العالم واختارت عام 1991 ليكون «عام يونُس أمرِه» ونظمت الندوات والملتقيات حول العالم بهدف التعريف بفكر هذا الشاعر الكبير ورسالته وتعليمه الروحي. لكن رغم مكانة الشاعر، فإن الروايات الكثيرة المتناقضة أحاطت دوماً بحقيقته وبحياته وعلى عكس شعراء الصوفية الذين توجد سير كاملة عن حياتهم، فإن تاريخ أمرِه هو مزيج من الوقائع والأساطير التي نسجت حوله في البيئة الثقافية والخيال الخصب لأهل الأناضول. يكفي للدلالة على ذلك أن مئات القرى التركية تدَّعي كلٌّ منها أنها مسقط رأس الشاعر كما أن مئات البلدات تدعي أنها تحتوي على مثواه الأخير. وهناك مصادر متضاربة حول تاريخ ميلاده وفي أي قرن عاش، إذ أن الكل يتنافس على شرف أن تكون له صلة زمان أو مكان بهذا الشاعر الذي جعل من الحب دينه وديدنه، حب الله والتحقق في أنواره وحب البشر وخلق الله من أجل الله وحُبّاً لله وهو صاحب القول الشهير «سامح المخلوق إكراماً للخالق».
حياته
رغم الغموض المحيط بحياة الشاعر، فإن المصادر الأكثر موثوقية تقدر أنه ولد في عام 1240 أو 1241 م، وأن وفاته كانت في العام 1320 أو العام 1321 مما يعني أنه عاش ما بين ثمانين واثنين وثمانين عاماً. ويبدو مؤكداً أن الشاعر عاش في مقاطعة كرمان، وأنه جاء من أسرة هاجرت من خراسان إلى قرية اسمها شيخ حاجي إسماعيل . ويعتقد أن القرية تأسست على يد شيخ العائلة التي ينتمي إليها يونُس وكان يدعى شيخ حاجي إسماعيل وسميت بالتالي بإسمه بعد أن أقام في الأناضول مع عدد من أتباعه.
في ما عدا ذلك، فإن الطريقة التي أمضى فيها يونُس أمرِه بقية حياته غير معروفة، فالبعض يعتقد أنه كان صوفياً سائحاً في الأرض، والبعض الآخر يعتقد أنه كان شيخ زاوية لكن لا يُعرف اي طريقة صوفية انتسب إليها، وكيف عاش حياته وكيف نظّم شعره وكيف مات فهذه كلها ما زالت من الأسرار التي تحيط بشخصيته الفريدة.
وبالنظر لغياب المصادر والمعلومات الموثوقة عن حياته فقد رأى مؤرخون كثر أن هذه التفاصيل ليست مهمة بقدر أهمية الرواية التي كوّنها أهل الأناضول عن شخصيته والحكايات التي تناقلوها عن حياته وشعره، بينما رأي مؤرخون آخرون في تلك القصص التي نسجت حول شخصية الشاعر دليلاً على أن يونُس أمرِه الشخص نما وتحوّل إلى أسطورة بفضل الإضافات والروايات الكثيرة التي ألصقت بإسمه مع السنين في ظل المناخ الفلسفي والروحي التسامحي والإنساني الذي كان منتشراً في بلاد الأناضول في تلك الفترة.

طريق التصوف
ربطت إحدى القصص الشعبية غير المثبتة أو ربما غير الحقيقية بين دخول يونُس أمرِه طريق التصوف وبين لقاء مفترض تمّ بينه وبين حاجي بكتاش وهو شيخ حكيم يعتبر مؤسس الطريقة الصوفية البكتاشية، وتروي تلك القصة أن يونُس كان يعيش عيش الكفاف وأنه في إحدى السنوات استهلك كل شيء ولم يعد عنده بذور يزرعها للموسم التالي، فجال البراري وجمع كمية من الثمار البرية ومضى بها إلى حاجي بكتاش يريد مقايضتها بالبذور. لكن الشيخ عرض عليه أن يعطيه مقابل تلك الثمار «نَفَس» والكلمة ترمز إلى الإمداد الروحي الذي يعطيه الشيخ لطالب الحكمة ومعه بركة الشيخ. لكن يونُس رفض تلك الصفقة وطلب الحصول على البذور. فعرض حاجي بكتاش أن يعطيه «عشرة أنفاس» لكن يونُس بقي على رغبته في الحصول على البذور، عندها أمر الشيخ بإعطائه كمية كبيرة من البذور عاد بها إلى منزله. لكن يونُس تعجب كثيراً من كرم الشيخ وأحسّ بأنه وليّ ورجل أسرار فعاد إليه بالبذور وقال له: إنني قررت أن أعيد إليك البذور وأريد منك أن تعطيني «عشرة أنفاس» بدلاً منها وفقاً لعرضك السابق. عندها أجابه الشيخ: لقد تأخرت لأنني أحلت وديعتك إلى «تبتوك أمرِه» فاذهب إليه.

بين البكتاشية والمولوية
لم يذكر أمرِه في شعره خبر لقائه بحاجي بكتاش غير أن شعره يتضمن مديحاً لـ «تبتوك أمرِه» مما يوحي أنه الشيخ الذي تعهده بالتعليم والإرشاد الروحي. لكن كثيرين اعتبروا قصة ما جرى بينه وبين حاجي بكتاش رمزية تحكي قصة انتقال يونُس من الغفلة إلى المعرفة والحقيقة وكيف بادل نفسه الجسمانية (الثمار البرية) بالحقيقة التي يُرمَز إليها في القصة بالبذور وهي ما يغرسه الشيخ في قلب المريد من العلم اللدني والكشوفات والأحوال. ونظراً إلى إنتشار الطريقة البكتاشية في تلك الأيام في منطقة الأناضول فقد كان طبيعياً أن يسعى أهل الطريقة وتابعوها إلى نسب يونُس إليها، بل إن البكتاشية التي كانت معاصرة للطريقة المولوية في منطقة الأناضول، وخصوصاً في قونيا سعت إلى إظهار تفوقها على المولوية أولاً من خلال تبني شاعر كبير يمكن مقابلته بجلال الدين الرومي ثم من خلال إظهار تفوق الشاعر أمرِه (الذي أصبح الآن حسب دعواهم بكتاشياً) على الرومي. وأدخلت لهذا الغرض حكاية عن لقاء مزعوم جرى بين الرجلين انتقد فيه يونُس ضخامة كتاب المثنوي (أبرز دواوين جلال الدين الرومي الصوفية) قائلاً له إنه كان سيختصر كتاب المثنوي كله ببيتين إثنين هما كالتالي:
اتخذت شكل اللحم والعظام
وظهرت إلى الوجود كـ «يونُس»
وتمضي القصة لتقول إن الرومي أقرّ لـ «يونُس أمرِه» بذلك وأضاف أنه لم يبلغ في شعره قمة جديدة إلا وجد أن يونُس سبقه إليها.
هذه القصة الملفقة تقدم مثلاً عن المدى الذي بلغه تعظيم أهل الأناضول في القرن الثالث عشر الميلادي لشخص يونُس أمرِه، لكنها تشير أيضاً إلى أن معاصري الشاعر لم يترددوا في تأليف القصص والروايات عنه وربما العديد من القصائد التي تحاكي أسلوبه وفلسفته وقد إتخذوا من شخصه وشهرته سبيلاً سهلاً لترويج تلك الفلسفة الإنسانية المتسامحة التي كانت تياراً فكرياً له تأثيره الكبير في تلك الحقبة وأصبح يونُس أمرِه الممثل الأهم له.

الحب-ديني
الحب-ديني

حكاية له مع مرشده تبتوك
وتضم الروايات والأساطير الشعبية عن يونُس أمرِه قصة مثيرة أخرى هي قصة لقائه بمرشده تبتوك أمرِه وتكرسه لخدمة زاويته والمريدين بقطع الحطب والعمل اليدوي لتوفير الأود للدراويش. وقد ظل على تلك الحال، حسب الرواية الشعبية، نحو أربعين سنة، إلا أنه في يوم شعر بالملل من الموسيقى التي كان يعزفها شيخه تبتوك فترك الزاوية وهام على وجهه. إلا أن معجزة حدثت له أكدت له مكانة مرشده فرجع نادماً يريد متابعة عمله في خدمة الدراويش في الزاوية. لكنه خاف أن يردّه الشيخ فذهب يستشير زوجته التي طلبت منه أن يلقي بنفسه على عتبة بيت الشيخ وينتظر خروجه إلى وضوء صلاة الفجر. ولما كان نظر تبتوك شحيحاً فقد توقعت المرأة أن يمر المرشد على جسد يونُس وعندها فإنه سيسأله من أنت؟: فيجيبه:يونُس؟ قالت له المرأة: إن أجابك بالقول: من يونُس؟ فهذا يعني أن عليك أن تغادر الزاوية ولا تعود إليها أبداً لأن سؤاله يرمز إلى أنه لم تعد لك أمانة لديه. أما إذا أجاب بالقول: «هل أنت يونُس صديقنا؟» فهذا يعني أنه غفر لك تركك الدراويش وأن في إمكانك أن تعود إليه. وقد عمل يونُس بنصيحة زوجة الشيخ وألقى بنفسه على عتبه دار شيخه، وبالفعل تعثر به الشيخ الشحيح النظر لدى خروجه إلى الوضوء فسأل: من أنت فقال له الشاعر: يونُس. أجاب الشيخ بالقول: «هل أنت صديقنا يونُس؟» عندها فرح الشاعر كثيراً وذرف دمع الشكر وعاد إلى الزاوية خادماً للدراويش متابعاً عمله في قطع الحطب والقيام بالأعمال الأخرى في خدمة الزاوية.
ويعتبر البعض أن قصة ترك يونُس للزاوية ثم توبته وعودته إليها قد تكون أيضاً موضوعة على سبيل الرمز لصعوبة الطريق والمنزلقات الكثيرة التي قد يسقط فيها المريد ومخاطر الملل وضعف العزيمة التي تواجه الكثيرين فتقطعهم عن المسار الطويل.

شعره وفلسفته
يعتبر شعر يونس أمرِه مزيجاً من روحانية الشعر الصوفي المتعارضة مع تشدد الاصولية الدينية والمؤسسة الدينية الرسمية ومن الروح الإنسانية التي شكلت ربما إحدى خصائص التسامح الديني في الأناضول في تلك الفترة من الزمن وانعكست في شعر متصوفة عظام مثل جلال الدين الرومي ويونُس أمرِه. وقد عظَّم هؤلاء الشعراء الصوفيَّة قدر الإنسان باعتبارها مظهر وجود الحق وعبروا عن رؤية إنسانية عميقة تقوم على المحبة الشاملة وعدم التمييز بين شعب وآخر والتسامح ورفض الظلم والعنف وإصدار الأحكام حتى على الخطائين داعين إلى خُلُق العفو والصفح من قبيل التخلق بأخلاق الله تعالى وأولها الغفران والرحمة.
ومثّل شعر أمرِه تحدياً لممثلي التفكير الديني المتزمت واعتبره العديد منهم خارجاً عن النهج الديني القويم واستغرب البعض الآخر جرأته في تعظيم الإنسان ووضعه المحبة والعدل والأخوة الإنسانية في مكانة أعلى من التدين الشكلي المفتقد إلى الرحمة والمحبة الإنسانية. لكن أمرِه لم يتزحزح عن رؤيته السباقة والواضحة التي جعل فيها الدين محبة وأخوة في الإنسانية وتخلقاً بالحلم والأدب الرفيع وتضحية من أجل الآخرين وإحساناً وبساطة وفقراً. بذلك استحق هذا الشاعر الذي لا نعرف سوى القليل عنه شهرة لم يبلغها إلا القليل من شعراء الصوفية في جميع الأزمان.
في القسم التالي من هذا المقال، نورد مقاطع من شعر يونُس أمرِه تظهر بوضوح معاني اختباره الروحي وتقدّم مثالاً عظيماً لزماننا الحاضر المبتلى بكل أشكال العنف والتوحش والعصبية الجاهلية. وقد قمنا بتعريب المقاطع الشعرية من الترجمة الإنكليزية لشعره الأصلي باللغة التركية وحرصنا كل الحرص على أن تحتفظ تلك التعابير الشعرية بمعناها ونبضها الأصلي.

(رئيس التحرير)

من شعر يونس أمرِه

صورة-تخيلية-للشاعر
صورة-تخيلية-للشاعر

1. إذا كنت عاشقاً حقاً
كل أهل هذا الكون الواسع يعشقون هذا الذي نعشقه
إذا كنت عاشقاً حقاً فكن صديقاً لصديق الصديق1
وإلا فستكون ظالماً لصديقك إن بقيت على حالك

إذا كنت عاشقاً حقاً فابذل نفسك لجميع الخلق
لكي يقتنع أهل العشق بأنك مخلص في سعيك
وإن كنت حقا عاشقا لربك فإنه سيفتح لك الأبواب

اترك هذا الفخر الأجوف ومزِّق أناك الفظة حتى القلب
الحاكم والمحكوم المطيع والعاصي كلهم عبيد لله
لقد حفظ يونُس جيداً هذه الكلمة من الكنز المخفي:
عاشقو الحبيب لا يكترثون بهذا العالم ولا بالعالم الآخر

2. بحر العشق
أيها الصديق الحبيب دعني أغوص في بحر العشق
دعني أغرق في ذاك البحر وأسير على الماء
دع العالَميْن يصبحان ملعبي

دعني أصبح العندليب الذي يشدو
وروحاً منعتقة من رغائب ذلك الجسد الميت
دعني أدفن رأسي في يدي هاتين
دعني آخذ طريق الوحدانية وأسير فيه

3. رأيت وجه المحبوب
حمداً للسماء لقد رأيت الوجه العذب للمحبوب2
وشربت مدام لقاء الأحبة من يديك
يا لسوء حظي إذ أغادر هذه المدينة
وأمضي بعيداً

ها هو يونُس يتقلب في عذابات العشق
بين جميع العذابات أصعبها احتمالاً عذابه
لكن سقمي له دواء ودواؤه الوحيد لديك
وإني أحيل نفسي رماداً من أجل ذلك الدواء

إذهب وأخبر العاشقين في كل مكان
بأنني أنا الذي بذلت روحي في العشق
أصبحت مثل طير بري يحلق بنار الشوق
وأنا أسرع الطيور غوصاً في سماء المحبين

من أمواج البحر آخذ الماء
وأنثره في كل أنحاء السماء
بخشوع التسبيح ارتفع في الفضاء مثل غمامة
انا ذاك الذي يطير إلى السماوات العلى

4. أسمي يونُس وقد أضعت عقلي
كل من قال رأيت لم ير وإن أقسم أنه رأى
وذاك الرجل لا يعرف رغم زعمه أنه يعرف
وحده الواحد هو الذي يعلم ويظهر علمه
أما أنا فإني ذاك الذي أصبح عبداً للعشق

للعاشقين الصادقين هذه الأرض جنة
والذين يعرفون يجدون فيها صروحاً وقصوراً
يهيمون ذاهلين خاشعين مثل النبي موسى
أما أنا فأمكث بحبور فوق طور سيناء

إسمي يونُس وقد أضعت عقلي
العشق وحده أصبح دليلي حتى آخر الطريق
وحيداً في سبيلي إلى الصديق العظيم
أسير وأقبّل الأرض ثم أصل

5. إبحث عنه في داخلك
الله الحي القيوم في كل شيء
لكنه لا يكشف حقيقته لأحد
أفضل لك أن تبحث عنه في داخلك
أنت وهو لستما منفصلين بل أنتما واحد

العالم الآخر لا تدركه الحواس
أما هنا على الأرض فعلينا أن نعيش واقفين
المنفى حنين وعذاب واضطراب فكر
ولا أحد يعود بعد أن يغادر هذا العالم

تعال يا صاح فلنكن أصدقاء ولو لمرة
لنجعل الحياة سهلة وهنيئة لنا
لنكن عاشقين ومعشوقين
فهذه الأرض لن يرثها أحد

ما يقوله يونُس لك شديد الوضوح
ومعناه يصل إلى أذن قلبك:
علينا جميعاً أن نحيا حياة طيبة هنا
لأن لا أحد سيعيش إلى الابد

6. ما الذي ينبت في قلب من صخر؟
إسمعني جيداً أيها الصديق
العشق مثل شمس ساطعة
أما القلب الذي لا يحب
فهو مثل صخر أصم

ما الذي ينبت في قلب من صخر؟
رغم أن الحديث يبدأ ناعماً
فإن كلمات السم سرعان ما تثور
وتنقلب سريعاً إلى حرب

الروح المصابة بالعشق تحترق
وتذوب في احتراقها مثل الشمع
أما قلوب الصخر فإنها مثل الشتاء
مظلمة وقاسية لا دفء فيها

أهل الحقيقة رجال الله هم مثل المحيط
وعلى العاشقين أن يغوصوا في ذلك البحر
وحتى الحكماء عليهم أن يغطسوا فيه
لكي يخرجوا بأنفس الجواهر

لقد توجهنا إلى أولئك الحكماء ثانية
لكي نأتي بالجواهر من الأعماق
الصائغ وحده يعلم
كم هي نفيسة تلك الكنوز

لقد بحث محمد عن حقيقة الله
فوجد الله في حقيقة ذاته
الله موجود في كل مكان
لكن لا بدّ من عين مبصرة لكي تراه

حكماء الحقيقية يؤلفون الكتب
حبراً أسود على أوراق بيضاء
لكن جميع فصول كتابي مكتوبة
بمداد قلوب العاشقين

7. أنا هنا من أجل الحب
لم آت إلى هذا العالم لكي أقيم فيه
بل دخلته لكي أغادره
أنا تاجر ولدي الكثير من البضائع
أبيع لأي إنسان يرغب في الشراء

لم آت إلى هذا العالم لأثير المشاكل
أنا هنا من أجل الحب لا غير
القلب بيت مريح للصديق
أتيت لأشيد بعض القلوب
وأشعر بالثمالة من تلك الصداقة

أي عاشق حقيقي سيعرف أي حال انا فيه
جئت لكي أبادل إثنينيتي
ولكي أزول في الواحد
إنه مرشدي وأنا مريده

أنا العندليب في حديقته
وقد جئت إلى حديقة المرشد
لكي أفوز بالفرح وأموت شادياً

يقولون إن أرواح المحبين هنا
تعرف بعضها هناك
ولقد جئت لكي أكون محباً لأستاذ
وأعرض عليه نفسي كما هي

8. وحشة المنفى
أهيم على وجهي هل من أحد هنا؟
هل من غريب هنا تائه كحالي
بقلب جريح وأعين تذرف الدمع
غريباً مستوحداً كحالي؟

لا يكونن أحد غريباً وحيداً مثلي
فيذوي باكياً في وحشة المنفى مثلي
أيها المعلم آمل أن لا يكون أحد
غريباً مستوحداً كحالي

سيقولون يوماً : لقد مات ذاك الغريب المحزون
وسيعرفون ذلك بعد ثلاثة أيام
سيجدونني ويغسلون جدثي بماء بارد
غريباً مستوحداً كحالي

لا عون ليونُس ولا إشفاق
ولا دواء لمصيبته
هائماً من مدينة إلى مدينة
غريباً مستوحداً كحالي

9. كل ايامي ستصبح أعياداً
أمرغ وجهي في التراب
قمري3 الجديد سيرتفع في السماء
وسيصبح الشتاء والصيف ربيعاً
كل أيامي ستصبح أعياداً

لن تلقي أي غيمة بظلها
على الأنوار المشعة لقمري
إنه بدر مكتمل ولن يطاله الشحوب
وشهب أنواره صاعدة بين السماء والأرض

أرى قمري الآن أمامي على الأرض
فما الذي سأفعله بهذه السماوات
مطر الرحمة ينهمر علي
من هذه الأرض4 التي أسمر عليها ناظري

ماذا لو كان يونُس عاشقاً؟
كثيرون هم عاشقو الله
ويونُس أيضاً يطأطئ رأسه
لأن عاشقي الله تذيبهم نار العشق

10. إن أخبرتك عن أرض للحب
إن أخبرتك عن أرض للحب
هل ستتبعني يا صديقي وتأتي معي؟
في تلك الأرض توجد كروم عنب
تنتج خمراً قاتلاً
لا يمكن لكأس أن تحمله
هل ستتجرع ذلك الخمر كشفاء؟

في تلك الأرض على الناس أن يجاهدوا أنفسهم
هل ستقدم أحلى المشروبات للآخرين
وتبقي الشراب المر لنفسك؟

لا توجد في تلك الارض أقمار ولا شموس
لا كواكب هناك تنمو بدوراً ثم تضمحل
هل ستسلم هناك كل خططك
وتنسى فنون الغواية؟

هنا على هذه الأرض نحن جُبلنا
من الماء والتراب والنار والهواء
يونُس أخبرنا: هل هذا حقاً ما صنعت منه؟

إحدى-القرى-الجبلية-في-مقاطعة-كرمان-التي-ولد-فيها-الشاعر
إحدى-القرى-الجبلية-في-مقاطعة-كرمان-التي-ولد-فيها-الشاعر

11. لا تتباه بعلمك
أن تعرف يعني أن تعرف الكل
المعرفة هي أن تعرف نفسك القلب والروح
إن لم تفلح في أن تعرف نفسك
فإن كل ما تقرأه سيطيش بك عن الهدف

ما الهدف من قراءة كل تلك الكتب؟
هو أن يتوصل الإنسان إلى معرفة الواحد الجبّار
فإن قرأت لكنك أخفقت في أن تفهم
فإن كل تلك القراءات ستكون جهداً بلا فائدة

لا تتباه بقراءتك أو تبحرك في العلوم
أو بصَلاتِك أو بعباداتك الأخرى
إن لم يتحقق لك أن الإنسان هو وجه الحق
فإن كل ما تتعلمه لن تكون فيه أي فائدة لأحد

سر معنى الكتب السماوية الأربعة
تجده في أول حروف الأبجدية
أيها الواعظ أنت تتحدث عن ذلك الحرف الأول
هل يمكنك أن تقول لي ما هو معناه؟

يونُس أمره يقول لك أيها المتفقه
يمكنك إذا شئت أن تحج إلى مكة
مئات المرات لكن إن سألتني سأقول لك
إن زيارة أحد القلوب هي الأفضل بالنسبة لي

12. ثروة السالك هي الفقر
دع الأصم يستمع إلى الأبكم
لا بدّ من روح لكي تفهم كلامهما

لقد فهمنا كل شيء بلا استماع
وبلا فهم قمنا بكل ما هو مطلوب

ثروة السالك في هذا الطريق الفقر
عشقنا وأصبحنا عاشقين
ثم أصبحنا معشوقين أيضاً
عندما تكون الحياة في فناء لحظة بعد لحظة
من يملك الوقت الكافي ليشعر بالضجر؟

لقد قسم الله أمته إلى اثنين وسبعين لغة
فقامت الحدود بين الممالك
لكن الفقير يونُس يملأ الارض والفضاء
وتحت كل حجر يختبئ موسى

13. عندما يرفع الحجاب
لتذكر اسم الله في جميع الأوقات
ثم فلتنظر ما الله فاعله
لتأخذ الطريق على الدوام
فلتنظر ما الله فاعله

عندما يكون ذلك آخر ما تتوقعه
فإن الحجاب يُرفع فجأة
ويأتي الترياق في الوقت المطلوب
فلتنظر ما الله فاعله

ماذا فعل يونُس؟
ماذا فعل؟
لقد وجد صراطاً مستقيماً
وأمسك بيد مرشد كامل
فلتنظر ما الله فاعله

14. الروح ضيف الجسد
حياتي الآفلة جاءت ثم ها هي ذاهبة
مثل ريح يهب ّعليك ثم يمضي
الآن أشعر كم أنها كانت قصيرة
كأنها لم تكن أكثر من ومضة عين

لقد نطق الرب بالحق
إذ قال إن الروح هي ضيف الجسد
وإنها يوماً ما ستغادر الضلوع
وتحلق مثل عصافير حررت من أسر القفص

انظر إلى الحياة يا صديقي
كأنها حقل زرعه الفلاح
بذور ملقاة في كل زوايا التراب
بعضها سينبت وبعضها سيموت

لو تسنى لك أن تعطي الماء
لرجل سقيم يحتاج إلى العناية
فإنه بإذن الله سيلقاك بألف سلام

حلقة-للذكر-والتأمل-في-شعر-يونس-أمره
حلقة-للذكر-والتأمل-في-شعر-يونس-أمره

15. شريعتنا
شريعتنا ليست مثل بقية الشرائع
وعقيدتنا فريدة ولا مثيل لها
بين العقائد الإثنتين والسبعين
علامات مختلفة تقودنا في الطريق
في هذا العالم وفي العالم الآخر

دون تطهر بالماء الظاهر
بلا أي حركات من اليدين أو الرجلين أو الرأس
نعبد الله مخلصين له الدين

سواء وقف الناس في الكعبة أو الجامع او الصلاة الجامعة
فإن كلاً منهم يحمل أمراضه
في أي مقام أو منزلة يقف كل من هؤلاء
الله وحده يعلم
وفي الغد سيُعرَف من الذي ترك الدين
يونُس، جدد روحك وليتذكرك الناس كصديق
تمسك دوماً بهذه القوّة:
استمع دوماً بأذني القلب

16. ملاك الموت
لا علم لنا من منا الذي يأتي دوره
بينما الموت يسرح طليقاً بيننا
يقطف حياة الناس كما لو كانت بستانه
ينتقي ويقطع من شجرة الحياة من يريد

ها هو يسحق الناس
ويلوي ظهورهم من الحزن
ويجعل الألوف يذرفون دموع الفجيعة
وهو الذي يحيل الضياع والممالك قفاراً
ولا ينيبه من ذلك أي ندم
يضرب بقوة ويعتصر الحياة من هامات الرجال

قبل أن يهرم الأبطال وتنحني ظهورهم
يرميهم الموت بسهم ويرسلهم إلى القبر
يأتيهم بغتة فلا مبلِّغ ولا نذير
عيناه تلتمعان سروراً بفنون المكر

17. سكان القبور
اجتزت في سفري بلاد الله الواسعة
ورأيت أقواماً كثيرة في القبور
القوي والضعيف يرقدان هناك
ومن كانت ترتعد لمرآهم القلوب

بعضهم كانوا كهولاً
وبعضهم يافعين أبطالاً
بعضهم وزراء أو معلمين
كلهم ذهبوا
وقد لف الليل أيامهم المُنَّورة
ها هم هنا يرقدون أسياداً وعبيداً
كلهم سلكوا أخيرا الصراط المستقيم للموت
لقد حملوا القلم وخطوا بيدهم صحفاً
وأنشدت ألسنتهم مثل العندليب
لكنهم تحت التراب يرقدون الآن
حكماء وصناديد

القوي البطاش والضعيف كلهم يبكون
عندما قضى أولئك القادة الأبطال
إنكسر قوس القتال على قبر كل منهم
وسقط الشجعان مثل السهام الطائشة

كانت جيادهم تثير سحب الغبار الهوجاء
وقارعو الطبول يسيرون في أثرهم
وقد اعتزت البحار والبراري بعظمتهم
لكن هؤلاء الأمراء يبيتون الآن
في كهوف الموت المعتمة

18. مسلك الدراويش
من أنعم الله عليه بمسلك الدراويش
ليتوقف كل عمله وليسطع بالنور

فليصبح نَفَسُه مسكاً وعنبراً
ولتجمع القرى والدساكر
الثمار الطيبة من أغصانه

فلتصبح أوراقه عشباً شافياً لكل عِلَّة
وليحصد الناس نيل الأرب في ظلاله
لتصبح دموعه ينبوعاً رقراقاً
ولينبت قصب الناي بين أصابع قدميه

وبين جمهرة الشعراء وطيور العندليب
في حديقة الصديق الأعظم
سيكرج يونُس مثل طائر الحجل.

تحقيق عرمون

عرمـون مدينـــة التنوخييـــن
وحاضـــرة الغـــرب الزاهـــرة

اختــارها الأمــــراء عاصمــــة بسبــب موقعهــا الحصيــن
وسيطرتها على عقدة الطرق التي تربط الساحل بالجبل

الاقتصــــاد الزراعــي تقهقــــر أمام تقــدم العقــــار
وهجــرة الشبــاب وسيطــرة الاقتصــاد الريعــي

عهد الرئيس شهاب خطط دوحة عرمون كمنطقة فيللات
لكن الحرب أطلقت فوضى العمران وأسلوب الأبنية العالية

في عرمون 25 ألفاً 35% منهم من السكان الأصليين
والباقي في معظمهم مالكون جدد من كافة المناطق اللبنانية

تقع بلدة عرمون في الجهة الجنوبية الغربية من قضاء عاليه، وكانت في زمن متصرفية جبل لبنان إحدى بلدات قضاء الشوف التابعة لمديرية الغرب الأقصى، حيث كانت تُعرف بإسم عرمون الغرب، وقد يكون هذا الإسم تمييزاً لها عن بلدة تقع في شمال كسروان تدعى عرمون.
أما الاسم فقد يكون، وفقاً لما أورده المؤرخ الشيخ كمال أبو مصلح1، مصغّر “العرم” وهو الأكمة أو التل، ولا تزال “القبّة” وهي إحدى تلال عرمون شاهدة على ذلك، ويرى آخرون2 أن عرمون كلمة سريانية (ARAMONA) وهي تصغير “ARMA” وتعني الأرض الوعرة، إلا ان احتمال كون الإسم مرادفاً لكلمة “التل” هو التفسير المرجّح.

الموقع الجغرافي
تعتبر بلدة عرمون من البلدات شبه الساحلية نظراً إلى قرب خراجها من شاطئ البحر، وهي ترتفع تدريجياً من الخط الساحلي حتى 400 متر عن سطح البحر، وتعدّ عرمون من أكبر بلدات قضاء عاليه بعد مدينتي عاليه والشويفات، وهي ذات مساحة واسعة تصل إلى 11 الف هكتار، وتحدّها خلدة والشويفات من الغرب، وبشامون وسرحمول من الشمال، أما من الشرق فتحدها البساتين وعين كسور، ومن الجنوب بلدات الناعمة وعين درافيل وعبيه. ويتداخل خراج عرمون مع خراج بلدة الشويفات في الضاحية المسماة “الدوحة” التي نشأت بعد الخمسينات من القرن الماضي، وهي تعمر بعدد كبير من السكان الذين قدموا إليها من العاصمة بيروت وسائر المناطق البعيدة من لبنان بغية السكن قرب أماكن عملهم وأشغالهم. وتعتبر عرمون بلدة متوسطة الموقع، إذ لا تبعد عن وسط بيروت أكثر من 17 كلم، وعن مركز القضاء في عاليه 11 كلم، وعن مركز المحافظة 10 كلم.

السكان والعائلات
يبلغ عدد سكان عرمون ما يقارب 15 الف نسمة حالياً، وقد يصل العدد إلى 20 الف نسمة إذا أضيف إليها عدد القاطنين في ضواحيها الجديدة. أما سكان عرمون الأصليون فهم من الدروز والمسيحيين3 ويتوزعون على العائلات الرئيسية التالية:
§جوهري، مهتار، يحيى، أبو غنام، حلبي، دقدوق، حلواني، قبلان (دروز)
§عبدالكريم، ناصيف، طبنجي، عرموني، خوري، عبدالله، واكيم، خيرالله، يوسف، أبو سمرا (أورثوذكس)، وهناك عائلات من الطوائف الإنجيلية والكاثوليكية والمارونية.

أحياء البلدة القديمة
تتألف بلدة عرمون من عدد من الحارات أو الأحياء التي يسكن كلاً منها عائلة معينة أو عدد من أبناء العائلات المذكورة آنفاً، أما الضواحي الجديدة التي نشأت مؤخراً في عرمون بسبب التوسّع العمراني فهي: عريض العين الذي يمتد من عين البلدة حتى العقبة، والبويدرات، وهو سهل واسع في جوار العقبة، والرابية والزقاق (في جوار البويدرات) ودوحة هيلز ودوحة عرمون ودوحة الحصّ ومنطقة قبرص (في جوار محطة الكهرباء) والجوار وحرج الصنوبر وشارع جاد الله الجوهري وشاحميا.
كانت عرمون القديمة عبارة عن منازل موزعة بين البيدر (وهو وسط البلدة حالياً) والعين في وادي البلدة، ولم يكن ارتفاع المنزل اكثر من طابق واحد ودور داخلي ولا تتعدى مساحته الثلاث غرف اي ما يقارب مئة متر مربع .. واذا تميز احد المباني عن الآخر فكان عبر قبو داخلي للمواشي او علية صغيرة على سطح المنزل . وبقي العمران في البلدة متواضعاً إلى أن اعتمدها التنوخيون مقراً لهم، وهو ما حرّك فيها العمران على نطاق واسع إذ شيّدت فيها القصور والقلاع، وأشهرها القلعة التي بنيت في منطقة القبة وكان لها ممر سري الى عين عرمون، وبعدها نشطت الحركة العمرانية والاقتصادية فتحولت القرية الى بلدة كبيرة ثم إلى مقصد فعاصمة إمارة.

من الاقتصاد الزراعي إلى الريعي
في أقل من خمسة عقود انتقلت عرمون من الاقتصاد الزراعي إلى ما يمكن تسميته الاقتصاد العقاري أو الريعي وذلك في تطور يذكّر بما حدث ويحدث في مختلف أرياف لبنان، لقد تراجعت الزراعة كمصدر يمكن الاعتماد عليه وحلّت محلها مصادر عيش بديلة مجزية أهمها “تسييل” العقارات التي كانت زراعية في الماضي وأصبحت غالية الثمن حالياً، وكذلك الهجرة ولاسيما إلى منطقة الخليج وبات اقتصاد الهجرة مهماً و يتمثل بتحويلات المغتربين واستثمارهم لمدخراتهم في بناء المنازل أو إنشاء أعمال جديدة في الصناعة أو الخدمات أو المقاولات أو غيرها. وبالطبع هناك مصادر جديدة للدخل عوّضت عن تراجع الاهتمام بالزراعة ومن أهمها العمل الوظيفي في القطاعين العام والخاص. إن قرب عرمون من بيروت وعاليه وكونها نقطة وسط يسهلان على أبنائها البحث عن فرص عمل في الدولة أو في القطاع الخاص في العاصمة أو الضواحي.
يمكن القول إن تسارع تحول عرمون عن الاقتصاد الزراعي إلى العقاري نجم بصورة خاصة عن “قدرها” الجغرافي ولاسيما قربها من بيروت، إذ جعلها ذلك تتحول إلى ضاحية للعاصمة وإلى منطقة يمكن للكثيرين أن يتملكوا فيها الشقق السكنية بأسعار مقبولة بينما لم يعد ممكناً إلا للأثرياء شراء شقة في بيروت، بذلك زاد الطلب الخارجي للمستثمرين على عقاراتها وتحوّلت عرمون مع الوقت إلى ورشة بناء كبرى مستمرة وجزء من “حزام الضواحي” المحيطة بالعاصمة وإلى مكان إقامة بديل لبيروت. وقامت في المنطقة المدارس الراقية والمستشفيات ومراكز التسوق والأسواق التجارية وبنية الخدمات الأمر الذي زاد في جاذبيتها للوافدين.

“قرب عرمون الجغرافي من بيروت، جعل منها ضاحية للعاصمة يمكن للكثيرين أن يتملكوا فيها الشقق السكنية بأســعار مقبولة مما أطلق فورة عقارية مستـــــمرة فيها”

تاريخ بلغة الحجر
تاريخ بلغة الحجر

دوحتا عرمون والحصّ
كانت حدود عرمون تصل إلى البحر، وشاطئ خلدة كله تقريباً لملاكي عرمون وتتواصل البلدة مع الشويفات وبشامون عبر الساحل , وكانت هناك منطقة تتميز بأنها قاحلة ومكسوّة بالأشواك والأشجار الحرجية وهذه المنطقة تُعرف اليوم بإسم “دوحة عرمون” وقد أصبحت تضم اكبر تجمع عمراني.
والمنطقة الأخرى التي أصبحت من أهم المناطق السكنية في الشحار الغربي هي منطقة دوحة الحص وهذه المنطقة هي بوابة عرمون الجنوبية، وكانت من السهول الخصبة التي تزرع بالقمح وكان أهالي البلدة يحصدونه سنوياً ويذكر بعض المعمرين أن هذه المنطقة كانت ولزمن غير بعيد مغطاة كلياً بالمحاصيل حتى أنه لم يكن في إمكان المكاري أن يجد فيها مربطاً لدابة أو شجرة يتفيّأ ظلها، أما الآن فقد أصبحت منطقة “البيادر” حيث كانت تتم دراسة القمح والحبوب تجمعاً سكنياً لا يستهان به يضم ما يقارب الـ500 شقة سكنية.
وعرمون أيضاً كان لها امتداد على الجبال المجاورة للعين كجبل القبة الذي يميّزها وعليه أقيمت أهم القلاع كما أقيمت عليه حارة المسيحيين في العصور الحديثة. والجبل الأهم والأعلى، والموقع الذي يرتفع فوق عرمون ويطل على العاصمة وترى من خلاله جبال صنين وشاطئ صيدا هو تلة المونسة والتي كانت مجلس ذكر وعبادة للموحدين المسلمين الدروز منذ عهود قديمة، وقد أصبحت المونسة نتيجة لموقعها وإطلالتها على الجبال وعلى البحر من أهم المناطق السكنية وفيها العديد من القصور الفخمة وتقطنها شخصيات عرمونية بارزة .

بلدة عرمون وتبدو تلال المونسة في أعلى الصورة إلى اليسار
بلدة عرمون وتبدو تلال المونسة في أعلى الصورة إلى اليسار

عرمون القديمة
أما عرمون الضيعة أو عرمون القديمة، فإنها تقوم حول الساحة الرئيسية أو ساحة العين التي أصبحت الآن مركز البلدة وفيها اكتظاظ عمراني حيث تطالعك منذ أن تدخل البلدة من الجهة الشمالية صفوف متراصة من البيوت في تراكب جميل وفريد من نوعه في القرى الجبلية، وكان العمار المتلاصق نهجاً متبعاً في جميع قرى الجبل لأسباب تتعلق بروابط القربى وتضامن الجماعة وكذلك لأسباب عسكرية، إذ كان يسهل كثيراً الدفاع عن تجمعات سكنية مترابطة ضد أي هجوم بالمقارنة مع البيوت المشتتة والتي لم يبدأ ظهورها إلا في عصور متقدمة بعد تطور المواصلات والخدمات وانتقال مسؤولية الأمن إلى الدولة المركزية. ومن المؤكد أن عرمون لم يتم اختيارها من قبل التنوخيين كأول عاصمة عن طريق الصدفة، بل بسبب موقعها الحصين وتلالها المترابطة وسيطرتها على مختلف الطرق التي تقود من الساحل إلى منطقة الشحّار وعاليه والمناطق العالية الأخرى.

تاريخ العمارة في البلدة
هناك مبان وآثار في عرمون يعود تاريخها لأكثر من الفي سنة والكثير من الباحثين عن الآثار وجدوا فيها مغاور وأواني فخارية وآثاراً قديمة جداً حتى قيل إن فرنسا يوم انتدبت لبنان اخذت الكثير من الآثار وايضاً يقال إن الجنود الإسرائيليين أقاموا وقت الاحتلال طوقاً محكماً على مغارة قريبة من سواحل خلدة وتعرف اليوم بمغارة اليهود وأخرجوا منها الكثير من الذهب والآثار والأحجار الكريمة مما يؤكد وجود دلائل ووثائق بين أيدي الغربيين حصلوا عليها عبر الحروب او ما شابه على أهمية عرمون وتاريخها القديم ولا علم لنا بالكثير مما تتضمنه من معلومات تاريخية.
دخلت عرمون القرن العشرين الماضي مرحلة عمران جديدة، إذ وصل عدد البيوت فيها بعد قدوم آل الحلبي وآل الجوهري وانضمامهم الى عائلات البلدة مثل يحيى وأبو غنام وغيرهما، وتقول مصادر تاريخية إن عدد البيوت المتلاصقة بلغ نحو ثلاثمائة بيت وأكثر من مئة بيت في الأحياء التي ظهرت حديثاً كحي آل الجوهري وحي آل المهتار وحارة المسيحية .
ومع دخول الإنتداب الفرنسي والاختراعات الجديدة مثل السيارة إلى لبنان بعد الحرب العالمية الثانية حصل تحول جديد وحاسم في عرمون إذ بدأ التوجه لأول مرة لاستيطان مناطق جديدة خارج الاطار المعروف وبدأ التوسّع الى الجوار الذي ما زال يعرف الى يومنا هذا بحي “الجوار” جنوباً وشمالاً باتجاه الشكارة حالياً. في تلك الفترة ارتفع عدد سكان عرمون إلى ألفي نسمة تقريباً كما ارتفع عدد الوحدات السكنية في القرية القديمة وبدأ التفكير الجدي في إقامة المباني السكنية في دوحة عرمون والهضاب المطلّة على العاصمة بيروت.
بسبب تلك التطورات التاريخية بدأت أهمية عرمون القديمة بالتراجع تدريجياً كما تراجعت البيوت المبنية من الصخور والخشب والمدود وبدأ الإتجاه إلى عمارة المباني الإسمنتية خصوصاً في مطلع الستينات من القرن الماضي وما بعدها وبدأت العمارات بالارتفاع من طبقتين وثلاث وأكثر ولكن حتى عام 1980 لم يتجاوز أي مبنى في عرمون اكثر من خمسة طوابق.

مشروع إيكوشار
أدت الحرب الأهلية وانهيار سلطة الدولة إلى انفجار موجات من البناء العشوائي وبشكل سريع وكثيف، وفي أقل من عشر سنوات وصل عدد المباني في دوحة عرمون إلى ما يقارب الثمانمئة مبنى تضم نحو 4800 وحدة سكنية. يذكر أن عرمون كانت مشمولة بمشروع إيكوشار للتخطيط العمراني، وكان المشروع ينص على اعتبار مداخل البلدة من جهة البحر (أي المنطقة التي باتت تسمى دوحة عرمون) منطقة فيللات فخمة كان يمنع فيها أن يرتفع البناء أكثر من طابقين وقد تم تخطيط المنطقة في عهد الرئيس فؤاد شهاب كجزء من خطة لتطوير ضواحي بيروت بما يخفف الإزدحام في العاصمة ويسهم في تنمية المناطق المحيطة لكن وفق أسس عصرية وعمرانية متقدمة. وبالفعل بدأ تطوير فيللات في منطقة دوحة عرمون وفق المقاييس المعتمدة من مخطط إيكوشار التوجيهي، وأنشئت الطرقات الواسعة والأرصفة وزرعت الأشجار على جوانب الطرق، لكن الحرب الأهلية أودت بهذا المخطط ليحلّ محله انفلات العمران وقيام الأبنية الشاهقة بارتفاع يزيد على عشر طبقات أحياناً.
أصبحت عرمون اليوم نتيجة للتطور العمراني المتسارع حاضرة كبيرة تمتد أطرافها في كل اتجاه وهي تتألف اليوم من المناطق الرئيسية التالية:
الجوار الذي يتكون من الشارع الرئيسي ومدخل عرمون , شارع جدالله الجوهري , مشاريع البركة والحلبي وتجمع المباني والمشاريع مع حي العقبة وشحميا ومدينة العرائس: ما يقارب الألف مبنى .
حي آل الجوهري , الحي المغلق بشارع رئيسي يشكل نصف البلدة تقريباً مع امتداده الى المونسة وصولاً الى مدخل عرمون من جهة البساتين، وهو يضم ما يقارب خمسمائة مبنى.
الضيعة , الشارع الرئيسي مع حي العين والساحة وبيوت البستان وحي الخلة والتمدد الى المناطق الزراعية ومن ثم الشكارة والأحياء الممتدة باتجاه القلع ، وهو يضم ما يقارب الألف وثلاثمئة مبنى سكني .
حي القلع الجديد المتجدد بلغ عدد سكانه من عرمون ما يقارب المئة وفيه حوالي المئة وخمسين مبنى .
دوحة عرمون الجديدة بعد فصل نصفها لتنضم إلى بلدية الشويفات، وهي تضم وفق الإحصاءات الأخيرة نحو ثلاثة آلاف شقة سكنية ويجب إضافة نحو 300 مبنى جديد أقيمت وتقام ما بين الدوحة ومنطقة البيادر ورأس الزيتون.
دوحة الحص، وقد سميت على إسم رئيس الوزراء السابق الدكتور سليم الخص الذي كان بين أوائل من بنوا لأنفسهم فيها منزلاً وقد تبعه كثيرون فأصبحت في الدوحة منازل وفيللات لأكثر من خمسين شخصية لبنانية وعربية وهي تضم الآن ما يقارب المائتي فيللا وأكثر من ثلاث مئة وحدة سكنية سوبر دولكس وهي منطقة راقية بالمقياسين العمراني والسكاني.
الدوحة هيلز والأبراج , من جهة الدامور تدخل الى عرمون عبر دوحة الحص وتمر عبر طريق ترتفع عليها عشرة ابراج بمنطقة الخروبات وهي من أهم واضخم المشاريع السكنية في قضاء عاليه ، وفيها نموذج لمدينة مصغرة تسمى الدوحة هيلز وتمتد هذه الظاهرة الى منطقة الرابية التي فيها مشاريع الرابية والقرية الكندية ومشاريع متفرقة يصل عددها إلى ما يقارب الثمانمئة شقة سكنية وصولاً الى مدرسة عرمون الرسمية والملعب الذي بدأ تنفيذه كنادي الصفاء الدولي.
المونسة , وهي المنطقة الأعلى في عرمون والمطلة على العاصمة وفيها أقدم الخلوات التوحيدية كما تضم منازل وفيللات أنيقة لأبناء عرمون، لكن المشاريع الجديدة فيها معدودة ولا تتجاوز الخمسة عشر مشروعاً أو ما يقارب الخمسين منزلاً، وفيها تقطن شخصيات بارزة من البلدة أو من الجوار.
على سبيل الإجمال فإن عرمون تتألف من ثماني مناطق جغرافية تتميز كلها بالإكتظاظ السكني وبات يسكن البلدة ضمن رقعة لا تعتبر شاسعة نحو خمسة وعشرين ألف نسمة لا يمثل السكان الأصليون منهم سوى ثمانية آلاف نسمة أو نحو 32 % من المجموع، أما البقية فهم في قسم كبير منهم مالكون جدد ومن كافة المناطق اللبنانية ومنهم من استوطنوا عرمون وركّزوا أعمالهم وتجارتهم فيها، علماً أن أهل عرمون يحبون الوافدين والضيوف ويتعاملون معهم اقتصادياً أكثر من تعاملهم في ما بينهم وهذا ما يشجع الكثيرين على القدوم إليها.

حي آل الجوهري كما يبدو من غوغل
حي آل الجوهري كما يبدو من غوغل

“المونسة، مركز العبادة الشهير أصبحت نتيجة لموقعها وإطلالتها على الجبال وعلى البحر منطقة سكنية راقية تضم العـديد من القصور الفخمة لشخصـــيات عرمونية”

قلب المدينة كما يبدو من غوغل
قلب المدينة كما يبدو من غوغل

الدور الفاعل لبلدية عرمون
أنشئ أول مجلس بلدي في عرمون في 28 آب 1955 وكان على رأسه المرحوم الشيخ سعيد سلمان المهتار وتلاه المجلس البلدي الثاني المنتخب في 30 حزيران 1963، وكان برئاسة المرحوم جاد الله الجوهري الذي كانت ولايته من أطول ولايات رؤساء البلديات في لبنان، إذ استمر في منصبه حتى تاريخ وفاته في 29 أيلول 1994 فتولى الرئاسة مكانه نائب الرئيس المرحوم الشيخ توفيق مصطفى المهتار (توفي في 19 كانون الثاني 1998) وفي شهر أيار من العام 1998 جرى إنتخاب المجلس البلدي الثالث وكان برئاسة الأستاذ سليم المهتار، أما المجلس البلدي الرابع فتم إنتخابه في عام 2004 وكان برئاسة السيد فضيل الجوهري. ثمّ في العام 2010 جرى إنتخاب المجلس البلدي الحالي وأعيد انتخاب السيد فضيل الجوهري رئيساً له. وفي حوار مع “الضحى” قال السيد الجوهري إن البلدية، رغم مواردها المحدودة بالقياس إلى الحاجات، استطاعت أن تؤمن الخدمات والبنى التحتية التي يحتاجها التطور العمراني، وعلى الأخص في ما يتعلق بمشاريع مياه الشرب والكهرباء والطرقات والصرف الصحي، والسهر على أمن المواطنين. ومن الخطوات التي أنجزتها البلدية تعزيز عناصر الحرس الليلي وعناصر الشرطة لمنع السرقات والأعمال المخلة بالأمن والسعي لإسترجاع مساحات شاسعة من المشاعات العامة من المؤسسة العامة للإسكان، هذا بالإضافة إلى تشجيع الإستثمارات وخاصة من قبل مغتربي البلدة، وتشجيع عمل هيئات المجتمع المدني وتأمين الدعم اللازم لها، وقد منحت الجمعية الثقافية في عرمون، وجمعية سيدات عرمون مراكز لها ضمن مبنى البلدية، مع الإشارة إلى تشجيع مهجري البلدة من إخواننا المسيحيين على العودة بعد أن تمت المصالحات كافة، كما تمّ استحداث طرق جديدة وتأهيل شبكة مياه الشرب وصيانتها، وكذلك تأهيل شبكة الصرف الصحي وإقامة الحدائق العامة على مداخل البلدة ووسطها.
وأضاف الجوهري أنه سبق للبلدية أن أسهمت في إنشاء مبنى ثانوية عرمون عن طريق تقديم مساهمة لا تقل عن 10آلاف متر مربع، كما قامت باستكمال مبنى القاعة العامة للبلدة التي أسهم في بنائها على نفقته الخاصة المحسن الشيخ المرحوم أبو غازي فرحان دقدوق، بحيث أصبحت هذه القاعة صالحة للاستعمال في المناسبات العامة بعد أن ضاقت القاعات الخاصة بالعائلات وباتت لا تستوعب العدد الكبير من سيارات الضيوف بسبب عدم توافر المواقف المناسبة لها .
ومن المشاريع التي تعمل البلدية عليها حالياً استكمال مشروع بناء القاعة العامة وتأمين مياه الشفة وخدمة الـDSL من أوجيرو وإنشاء سنترال لهذه الغاية في عرمون وهناك جهود مبذولة لاسترجاع حرج الصنوبر إلى ملكية بلدية عرمون، وهناك أيضاً مشروع قيد التحضير لإنشاء مدافن حديثة قرب القاعة العامة وبناء سور حول المدافن القديمة، ولكن هذا المشروع بحاجة إلى موافقة أهالي البلدة.

عرمون البلدة عام 1945
عرمون البلدة عام 1945

المكتبة العامة
أبصرت مكتبة عرمون العامة النور بعد أن وقّع رئيس البلدية فضيل الجوهري على بروتوكول التعاون الخاص بإنشائها مع وزارة الثقافة والجمعية الثقافية الاجتماعية في البلدة. وتبنّت البلدية المشروع على نفقتها، وجهزت المكتبة وانطلقت في الطبقة السفلى من متوسطة عرمون الرسمية المختلطة. وقامت المكتبة بأنشطة عدة، أهمها إفساح المجال أمام طلاب العلم والقراء والباحثين لإستعارة الكتب وقراءتها وتصفّح الإنترنت وطباعة وتصوير ما يشاءون من الصفحات من دون مقابل، إلى جانب إحيائها، بالتعاون مع الجمعية الثقافية والبلدية، أسبوع المطالعة كل سنة. لكن يلاحظ أن تجاوب المواطنين لا يزال ضعيفاً ويدل على ذلك ضآلة عدد الذين يزورون المكتبة ويستفيدون من تسهيلاتها. ويعتبر البعض فتور الإقبال على المكتبات العامة جزءاً من ظاهرة سيطرة الإعلام المرئي والإلكتروني (الإنترنت) وأنظمة الاتصال وخدماتها المتعددة، لذلك فإن تحدي المكتبة العامة هو اليوم الابتكار وإيجاد وسائل لاجتذاب الزوار خصوصاً من صغار السن بما في ذلك إدخال وسائل الإنترنت ووسائل القراءة الرقمية على شبكة الإنترنت وتطوير مهارات البحث والتفاعل مع البيئة المعلوماتية.

ثانوية عرمون مؤسسة حديثة تخدم المنطقة
ثانوية عرمون مؤسسة حديثة تخدم المنطقة

ثانوية عرمون الرسمية
أبصرت ثانوية عرمون الرسمية النور عام 1986 بدعم من النائب وليد بك جنبلاط، ويروي الأستاذ ناظم الحلبي مدير الثانوية مسيرة التطور الصعبة التي اجتازتها الثانوية من إيجاد المبنى المؤقت إلى استقطاب الطلبة والأساتذة وتأمين انتظام سير العمل وذلك بالتعاون مع الهيئة التعليمية، وينوّه بصورة خاصة بالدور الذي لعبه الأستاذ أنور ضو الذي تسلّم رئاسة مكتب التربية والتعليم في الجبل وكان له دور أساسي في تحقيق استقلال ثانوية عرمون الرسمية في العام، 1998 وبموجبه لم تعد فرعاً لثانوية الشويفات. ونظراً إلى النجاح الذي لاقته الثانوية فقد تزايد الطلب عليها بصورة فاقت الطاقة الاستيعابية للمبنى المؤقت الأمر الذي تطلب العمل على استحداث مبنى عصري للثانوية تتوافر فيه المساحات والتجهيزات وإمكان استيعاب النمو في المستقبل. وتمت إقامة المبنى الجديد على عقار مستملك من وزارة التربية بمساحة عشرة آلاف متر مربع بدعم من فعاليات البلدة ورئيس البلدية والعميد أنور يحيى ومعالي وليد بك جنبلاط ووزير السياحة آنذاك عطوفة الأمير طلال أرسلان. ونتيجة لتضافر تلك الجهود الخيّرة صدر قرار عن مجلس الوزراء يحيل موضوع إنشاء مبنى جديد للثانوية إلى مرحلة الإقرار والتنفيذ وذلك في عام 2005 وقد تمّ استلام المبنى الجديد بتاريخ 8 آب 2009 من قبل مدير ثانوية عرمون الرسمية الأستاذ نظام الحلبي. وخلال إنطلاقة الثانوية الجديدة تجاوبت بلدية عرمون ورئيسها السيد فضيل الجوهري مع طلبات إدارة الثانوية لتأمين احتياجاتها كما أن الثانوية شاركت في الكثير من نشاطات البلدية التي نظمتها على الصعيدين الإنمائي والتربوي..

مدير ثانوية عرمون نظام الحلبي ..حلم تحقق
مدير ثانوية عرمون نظام الحلبي ..حلم تحقق

متوسطة عرمون
تعتبر متوسطة عرمون المختلطة التي تديرها السيدة آمال الجوهري مثالاً للمؤسسة التربوية الناجحة إذ إنها تستقطب التلامذة من مختلف المناطق المحيطة وتمثل نموذجاً للتعايش والانصهار الوطني. ولهذه المدرسة تاريخ عريق إذ إنها أنشئت في العام 1943 أي في عام الاستقلال وما زالت تقوم بدورها التربوي المميز على مدى عقود وقد تقلب عليها عدد من المديرين الأكفاء وكان لها الفضل على الكثير من أبناء المنطقة.

مؤسسات المجتمع المدني
تزخر عرمون بجمعيات ومبادرات مدنية متعددة من أبرزها: «الجمعية الثقافية الاجتماعية»، «المشروع الخيري الاجتماعي – آل المهتار»، رابطة سيدات عرمون، الدفاع المدني – جهاز المتطوعين، الجمعية التعاونية للنحالين، رابطة عرمون، جمعية سواعد، جمعية اليد الخضراء.
ملف المهجرين
نتيجة لجهود مستمرة منذ حلول السلام في الجبل والشروع في معالجة ملف المهجرين تمّ على مراحل ختم الملف في عرمون عبر إخلاء منازل المسيحيين من شاغليها، وقد كان قسم كبير منها قديماً وقد أصابه التصدّع وبات بالتالي غير صالح للسكن، لذلك تمّ هدم تلك البيوت بهدف إعادة إعمارها من أصحاب الحقوق فيها الذين حصلوا على التعويضات لغرض إعادة بنائها.
وفي 6 تشرين الثاني 2004 وضع الحجر الأساس لكنيسة مار الياس الأورثوذكسية برئاسة متروبوليت جبل لبنان للروم الأورثوذكس المطران جورج خضر. وتّم إجراء المصالحة بين أبناء البلدة وبات الطريق بالتالي مفتوحاً لإعادة اللحمة وعودة المواطنين المسيحيين ليشكلوا كما كانوا دائماً جزءاً أساسياً من النسيج الاجتماعي لعرمون وحياتها المشتركة القائمة على التسامح والإنفتاح. لكن برغم تلك الخطوات فإن أكثرية المسيحيين لم يعودوا بعد إلى البلدة ويعود ذلك لأسباب مختلفة أهمها الهجرة أو تأسيس أعمال في مناطق خارج البلدة أو إحتياجات التعليم، لكن أحد الأسباب المهمة هو وجود جيل كامل من الشباب الذين ترعرعوا خارج البلدة ولم يألفوا أجواءها وهم يجدون أنفسهم بالتالي مشدودين إلى البيئات التي تربّوا فيها، وهذا يعني أن مشكلة عودة المهجرين معقدة وتحتاج إلى أكثر من العمل السياسي المباشر على المصالحات وهناك مصلحة مشتركة للموحدين الدروز والمسيحيين في إعادة بناء المجتمع العرموني ومجتمع الجبل عموماً على أسس الشراكة التاريخية التي ربطت بين الجماعتين الروحيتين على مدى الأزمان.

,واجهة بيت مع نحت قديم
,واجهة بيت مع نحت قديم

“أكثرية المسيحيين لم يعودوا بعد وهناك مصلحة مشتركة للموحدين الدروز والمسيحيين في إعادة بناء المجتمع العرموني ومجتمع الجبل عموماً على أسس الشراكة التاريخية”

شارك في إعداد هذا الملف الشامل مشكورين كل من المهندس الأستاذ زياد أبي غنام والأستاذ حسن أبو غنام والأستاذ نظام الحلبي مدير ثانوية عرمون

الحركة الشعرية في عرمون

برز في بلدة عرمون عبر السنين أعلام ومفكرون وأدباء وشعراء مجلّون كتبوا في الصحف والمجلات، ولكن على قلّة من الدواوين. نكتفي هنا بذكر أبرز شعراء الفصحى من أبناء عرمون مع نماذج مما توافر لدينا من أشعارهم.

المربي المرحوم الأستاذ شفيق محمد الجوهري ( 1985-1918)

عمل في سلك التعليم حيث أسس فرعاً للمدرسة الداودية في أغميد لعدة سنوات، ثم هاجر إلى بلدان الإغتراب وعاد ليستقر في بلدته عرمون يرصد الأحداث وينظم الشعر وقد ترك قصائد مميزة لم تنشر حتى تاريخه.
يقول في قصيدة نظمها في بداية الحرب الأهلية، وذلك بعد أن وصلت الأوضاع إلى الحدّ الذي لم يكن في الحسبان. يقول مخاطباً شريكه في الوطن:
تعــــــــال إلــيّ لا خوف عليكــا وأن تبطئ ذهبت أنا اليكـــــــا
تعـــــال إلى الحوار بلا تواني لنطرح ما لديّ وما لديكــــــــــا
بلادي كي نصون المجد فيها علي النصف والباقي عليكــــا
ومن شعره من وحي القضية الفلسطينية يقول:
بسنان الرمح لا سن البراعة يصرع البغي على أيدي الجماعة
لا يــردّ القدس مـن مغتصب منـــــــبـر يـرقـى ولا صـوت إذاعــة
إنـمـا النــصـر الـذي نــنشده لــو عـلمـتم هو فـي إيـمـان سـاعـة

المربي المرحوم الشيخ سليم قاسم يحيى (2005-1910)

دَرَس المربي الأستاذ سليم يحيى في الجامعة الوطنية في عاليه على يد الأديب الكبير مارون عبود، ثم عمل في سلك التعليم فكان مربياً ومديراً لمدرسة عرمون الرسمية حتى تقاعده في العام 1974.
نشر بواكير شعره في جريدة الصفاء لصاحبها إمام اللغة العربية العلامة الشاعر الكبير أمين آل ناصر الدين، وبعد التقاعد انصرف إلى المطالعة والتأليف الشعري والتزم التوجه الديني وكتب كتاباً صوفياً فيه بعنوان (قف معي في النور كي تقرأني). وقد أصدر أبناؤه بعد وفاته ديوانه الشعري بعنوان “ تلهّف الشعر والنثر”.
يقول في إحدى قصائده:
جنيت من المدارس رَجفَ كفّي وإلصاق الزجاج على عــيونـي
ونـلـت من الوزارة ما تــجــنـّــــى على عمري وأكثر من شجوني
ومن قصيدة له في عيد المعلم يقول:
كاد المعلم أن يسلم به الســـــأمْ ويــذوب بـيـن معذبيـه من الألمْ
أعطوا المعــــلم حقه فالعــــــلم لا يرضى تداس حقوقه او تُهتَضمْ

العميد القيم الدكتور طلال عامر المهتار

بالإضافة إلى تاريخه العسكري المشرّف تميّز الدكتور طلال المهتار بغزارة إنتاجه الشعري وجزالة ألفاظه ونفسه الشعري الطويل وحواراته الشعرية التي نال عليها الجوائز القيّمة. وفي قصيدة له موجّهة إلى المرحوم عارف النكدي يقول:
إن غاب “عارف” فالآثار باقية تـظـــــــل للـنـاس تأكـيـدا وبـرهـانــا
أعـمـالـه الـغرّ للأجـيال شاهـدة من غيره، مثلها، من قبل اسرانـا
ومن قصيدة له حول تصنيف المواطنين في لبنان يقول ساخرا:
يا من يصففنا من حـيث قلّتنا في ذيـل قـائـمة أو نـص إعلان
حتى الوزارات في توزيعها شطط لم يختلف حول هذا الأمر إثنان
بـأي مـقيـاس، او كــيلٍ تــكـيل به؟ وأي مـعيـارٍ بـل فـي أي ميزان

المرحوم الأستاذ محمد عباس يحيى (1983-1908)

ولد في عرمون وتلقى علومه في مدرسة الكبوشيين في عبيه ثم في الداودية ثم في الجامعة الوطنية. ظهر عنده ميل إلى الأدب واللغة والشعر فنماه فيه أستاذه مارون عبود.
عمل في مجال التعليم الرسمي معلماً في وزارة التربية وعُين مديراً لمدرسة كيفون الرسمية حتى تقاعده عام 1972.
من قصيدة له وردت في كتاب “ شعراء من جبل لبنان” للأستاذ نجيب البعيني قالها في عيد المعلم منها:
ما العيد عندك غير يوم تحفزّ للبـذل فيه تضاعف المجهودا
مــن كـالمعـلم بـاذل من نفسه ومجـــــددا آمــالـنـا تـجــديــدا
ومن شعره الوطني يقول:
الطـائـفـيـة فـي السـياسـة عـلة من دونها الطاعون والسرطان
انا لست من لبنان تحت سمائه يـتــنـازع الإنــجـيـل والـقــرآن

الأستاذ حسيب محمد الجوهري. توفاه الله في المهجر مؤخراً

شاعر مطبوع له ديوان شعري بعنوان “أشواك” وضع فيه خلاصة تجاربه في الحياة ومعاناة الهجرة يقول في قصيدة عن وطنه لبنان ألقاها في إحدى الأمسيات:
أمــدد يــديــك إلى السمــــاء وامــــــــلأ جــيـوبـــــــك انـجـمـا
لـبنــــــــان مــعـجزة الــزمــان تـــــــــــــأخــرا وتــقــــــــــــدمــــــــا
لــــــــبنـــان أهــــــــــــــــــــــــــــــواه ولــــســـــكـــنـــي أذوب تـــألمــــــا

ينابيع غزيرة وطاقة مهدورة

من المعالم التاريخية والأثرية التي لا تزال شاهداً بارزاً على تراث عرمون الطبيعي هي عين البلدة التي تقع في وادي نهر البستان، والتي سبق أن سكن حولها وجوارها العديد من الأمراء التنوخيين الذين تمتعوا بمياهها العذبة وإطلالتها الجملية على منطقة البستان الفسيحة التي كانت تغص بالمزارعين ليلاً نهاراً لإرواء مزروعاتهم التي كانت تنتشر في هذه المنطقة كأنها بساط سندسي عابق بالاخضرار والجمال.

كانت هذه العين، كما يروي الآباء والجدود، عبارة عن نبع غزير المياه تتدفق مياهه من باطن الأرض بشكل رائع، وتتجمع مياهه في بركة واسعة يستقي منها المواطنون وتروي بعض الأراضي المنتشرة حولها. وفي وقت لاحق، تلاشت جهود أهالي البلدة وقاموا بإنشاء قبو حسن البناء لجمع المياه فيه حيث تتدفق المياه بغزارة من ثلاثة مزاريب، وأمامه فسحة مصونة ببلاط من الحجر تحيط بها “درابزينات” ولها مدخلان من جهتي الشرق والشمال على هيئة جميلة، كان يمتد خارج “الدرابزين” لجهة الغرب حوض طويل عال نسبياً تصبّ فيه حنفية ماء خاصة لسقاية الحيوانات وينبسط أمام هذا الحوض دار واسعة بالإضافة إلى دار أخرى لجهة الشرق. وكان أبناء البلدة بالإضافة إلى استخدام مياه هذه العين للشرب فإن المزارعين كانوا يستخدمون مياهها الفائضة لري مزروعاتهم وأراضيهم.

وحيث إن هذه العين كانت رفيقة المزارعين الدائمة، فقد تمّ إستخدام نظام متطور للريّ، بحيث يتمّ إرواء كل الأراضي الزراعية الواقعة في منطقة البستان بشكل متواز، وذلك عن طريق توزيع حصص المياه وفقاً لمساحة كل قطعة أرض، وكانت “القصبة” وحدة المساحة المعتمدة آنذاك. وكان صاحب الأرض يحصل على ساعات الري اللازمة والكافية له، وكان “الدور” المعتمد للري سواء في الليل أو النهار، بحيث جعل المواطنين يعملون وفق هذا النظام لفترة طويلة. وتجدر الإشارة إلى أن نظام الريّ هذا بقي معمولاً به حتى بداية التسعينات من القرن الماضي حيث توقف العمل به بشكل نهائي بسبب إهمال العمل في الزراعة وإنصراف الجيل الجديد إلى الإنخراط في الوظيفة أو في الأعمال والمهن الحرة، تاركين أراضيهم العامرة بالإخضرار منطقة مهملة معدومة الإنتاج يغزوها الشوك والنباتات البرية الضارة.

وعلى الرغم من قيام بلدية عرمون في الماضي القريب بإعادة ترميم هذه العين وتجميلها، بقيت مياهها الغزيرة تنساح في وادي نهر البستان هدراً من دون أية إستفادة تذكر.

وبالإضافة إلى مياه “عين البلدة” التي أشرنا إليها هناك مياه أخرى تذهب هدراً. ففي عرمون منطقة زراعية هامة تدعى “الدوير” يروى أراضيها “نبع الدوير” الغزير المياه، ولكن ما أصاب “عين البلدة” أصاب “عين الدوير” التي تذهب مياهها في النهر المجاور لهذه المنطقة.

ويقول أحد مواطني البلدة إنه في الوقت الذي توقفت فيه الأعمال الزراعية، فبالإمكان قيام مشاريع مائية عن طريق جرّ هذه المياه إلى خزانات في أعالي البلدة، الأمر الذي قد يحل مشكلة شح المياه المتوقعة مستقبلاً.

وأخيراً نقول إن “عين البلدة” التي هي جزء من الطاقة المائية المهدورة، لن تبقى قيد الإهمال، فهذه العين باركتها الست سارة، وستعود إلى سابق عطائها بأي شكل من الأشكال وسيعود المواطنون إليها عاجلاً أم آجلاً.

الغجر في العالم العربي

الغجر في العالم العربي

لغز قديم وحياة شقاء ..وموسيقى

ثاروا على العباسيين في القرن التاسع الهجري
وملك أميرهم مصر متمرداً على الخليفة المأمون

إنطلقوا من الهند إلى أكثر من 45 دولة في العالم
في أكبر موجات نزوح لشعب في تاريخ البشرية

تعرضوا للإضطهاد والعزل في المجتمعات الأوروبية
لكنهم نعموا بحرية وأجواء التسامح في العالم العربي

يعتبر الغجر المنتشرون في العالم أحد أغرب ظواهر المجتمع البشري وعلاماته الفارقة، إذ نشأ إلى جانب الحضارات البشرية المختلفة شعب جديد له ثقافته ولغته وأسلوب عيشه ومعتقداته لكنه شعب لا يمتلك أرضاً أو مستقراً معيناً فهو لذلك في ترحال مستمر لا يحلّ في مكان حتى يبدأ بعد أسابيع أو أشهر رحلة جديدة بين الأمكنة، وهو شعب يختلف عن البدو الذين لا يخرجون عن نطاق مكاني معين و«يمتلكون» عملياً مراعي وواحات أو يتشاركون فيها فيرعون فيها إبلهم وأغنامهم ويمارسون التجارة أحياناً. أما الغجر فإنهم لا يمتلكون أرضاً وهم شعب متنقل في نطاقات جغرافية أوسع وغير ثابت في مكان ولا يوجد له لهذا السبب نشاط اقتصادي محدد أو واضح، ولهذا فقد طور الغجر «اقتصاداً» خاصاً بهم يلائم طبيعة حياتهم غير المستقرة وأمزجتهم وتقاليدهم، علماً أن الكثير مما يقومون به حملوه معهم من المناطق التي انطلقوا منها في جنوب الهند ومنطقة السند قبل أكثر من ألفي عام. بصورة عامة، يعيش الغجر من مهن وحرف بسيطة مثل الغناء وإحياء الأعراس وقراءة الطالع وصنع الحلي وحدادة الكير وصنع بعض الأدوات الموسيقية وعلاج البهائم ‏ وصناعة المراجيح وتجارة الخردة والعطارة‏,‏ وألعاب السيرك مع حيواناتهم المدرّبة من قردة وكلاب وثعابين‏,‏ وعندما تضيق الحال بهم فإنهم يدفعون أطفالهم إلى التسوّل وقد اتهموا في بعض المجتمعات بإحتراف النشل وقد برعوا فيه إلى درجة أنهم باتوا مضرب مثل في خفة اليد فبات الناس يحذرون حتى الاقتراب منهم في الأسواق.
لكن من الخطأ وضع جميع الغجر في سلة واحدة، فهم أصلاً تحولوا إلى فروع كثيرة لكل منها ما يميّزه في أسلوب عيشه وفي الأعمال التي يقوم بها وقد استقر الكثير منهم وتوقفوا عن الترحال الدائم وتحول الكثير إلى العمل في مهن ثابتة كالزراعة أو بعض الصناعات بعد أن اندثر العديد من الحرف التي تميزوا بها في الماضي فلم يعد هناك مثلاً من يشتري الطبول أو يصلح طباخات الكاز (الكيروسين) أو يعالج أسنانه عند الغجر أو يشتري منهم الخردة وبعض العدة المصنوعة من الحديد المحمى، فكل هذه الأمور اختفت مع تقدّم أساليب العيش في العالم. وقد اختار عدد قليل من الغجر الاستقرار في المدن ونال بعضهم التعليم واندمجوا لكن غالبيتهم ما زالت تفضل حياة الحرية والتنقل، إذ أن روح الغجر وشخصيتهم وثقافتهم وأسلوب عيشهم لا تزال مرتبطة بأسلوب التنقل والحرية التي يوفرها لهم.

هجرات الشعب الغجري بين سنتي 900 و 1720
هجرات الشعب الغجري بين سنتي 900 و 1720

لكن الخطأ في النظر إلى الغجر كان على الدوام اعتبارهم شعباً متجانساً لأنهم وإن كانوا يتحدّرون جميعاً من الهجرات التي جاءت من جنوب الهند ومنطقة السند فإنهم تفرقوا مع مرور القرون على عشرات البلدان وتعايشوا مع حضارات مختلفة فنشأت الفوارق الكثيرة بينهم حتى على مستوى اللغة والعادات وهناك من يحصي اليوم أكثر من 30 أو 40 عشيرة أو فرعاً من الغجر في العالم يختلف كل منها في الكثير من الأمور، وبطبيعة الحال هناك فارق بين الغجري الذي يعيش في بريطانيا أو ايرلندا أو رومانيا وبين ذلك الذي يعيش في مصر أو في جنوب العراق أو لبنان.
ولا يوجد إحصاء محدد لعدد الغجر في العالم لأن الكثيرين منهم سعوا للإندماج بالمجتمعات التي يقيمون فيها وأخفوا أصلهم الغجري وكذلك لأن الغجر لا يمتلكون وثائق هوية في بعض البلدان وهم ليسوا مشمولين بتعداد السكان، لكن مصادر مؤسسات الغجر وأهمها الاتحاد العالمي للغجر تقدر أعدادهم ما بين 12 مليوناً في العالم منهم نحو 1.3 مليون يعيشون في العالم العربي.

مصدرهم وهجراتهم
يتفق جميع الباحثين والمؤرخين على أن الغجر هم من الشعوب الهندو-آرية وقد يكونون من الفئات الدنيا التي كانت مكلفة بالأعمال الوضيعة أو من طبقة المنبوذين Untouctables أو الـ Harijans الذين كانوا يعاملون معاملة أقرب إلى العبيد ويتعرضون للتمييز الطبقي الشديد. وقد أظهر تحليل جيني أجري عام 2012 على فئات مختلفة من الغجر أنهم قدموا من شمال غربي الهند وأنهم من أصل عرقي واحد وقد قدموا كمجموعات من شمال غربي الهند قبل نحو 1500 عام، علماً أن لغة الغجر تدل على أنهم جاءوا من منطقة راجستان. وقد تكون الهجرات الغجرية الأولى حصلت على نطاق ضيق في القرن الثالث الميلادي عندما تمكّن ملك فارس أردشير من احتلال أقسام من الهند (تمثل اليوم معظم باكستان) في العام 227 ميلادي، ويبدو أن فارس كانت تعاني من نقص في العمالة وقد تكون شجعت على الهجرات الأولى للغجر باتجاه الغرب. وبعد 200 عام من ذلك التاريخ سعى ملك فارس بهرام غور (420-438م.) لاستقدام الآلاف من الغجر من الهند للعمل في إيران في مهن الرقص والغناء ويقال إنه استقدم نحو 10 آلاف منهم وأعطاهم عند وصولهم ثيراناً وأتاناً وقمحاً بحيث يمكنهم تأمين معيشتهم بالعمل في الأرض، في المقابل كان على هؤلاء الهنود أن يرفِّهوا عن فلاحي الإمبراطورية الفارسية بالغناء والرقص دون مقابل، إلا أن الموسيقيين الهنود وجدوا من الصعب القيام بالعملين في آن واحد بحيث انتهت السنة الأولى بعد قدومهم دون أن يتمكنوا من حرث وزرع الأراضي التي أوكلت إليهم، عندها طلب منهم الملك أن يتركوا الأرض ويتنقلوا في البلاد على حميرهم ويخيموا أينما شاءوا على أن تكون مهمتهم دوماً إدخال الحبور إلى حياة الفلاحين ورعايا الملك، ونظراً إلى أن ترك الزراعة وحياة الترحال الدائم يجعلهم بلا عمل يؤمن عيشهم فقد سمح الملك لهم بتقاضي أجور على أعمال الترفيه وخدمات إحياء الأفراح غناء ورقصاً وتقاضي المال على بعض الخدمات والأعمال الأخرى.

الهجرات الكبرى
لكن الهجرات الكبرى لهم بدأت في القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي وقد توجهت تلك الهجرات غرباً قاطعة مناطق فارس باتجاه جنوب العراق وتركيا، وتابع قسم منهم طريقه بإتجاه البلدان الأوروبية وتحوّل قسم بإتجاه الشرق فإتجه إلى دول البلقان وروسيا، وتظهر الخريطة المرفقة الطرق المفترضة لهجرات الغجر والتاريخ الزمني التقريبي لتوجههم نحو المقاصد التي اختاروها. وتظهر الخريطة أن هجرات الغجر انطلقت جميعها من الشرق باتجاه الغرب والشمال لكن حصلت بعد ذلك هجرات معاكسة عندما استولى اليونان البيزنطيون على أنطاكية في العام 855 فأطلق ذلك حركة هجرات جديدة، إذ توجه بعض الغجر إلى اليونان في طريقهم إلى البلدان الأوروبية بينما هاجر البعض الآخر إلى كريت حيث عادوا منها إلى لبنان وفلسطين ومن هؤلاء مثلاً الزغاري وهم من الغجر الذين يعيشون الآن في إيران.
أما هجرة الغجر جنوباً باتجاه القارة الأفريقية فلم تبدأ إلا في الربع الأخير من القرن العاشر الميلادي، أما هجراتهم إلى العالم الجديد في الولايات المتحدة وأميركا الجنوبية فقد بدأت في مطلع القرن التاسع عشر واشتدت مع العام 1860 وهو تاريخ الحرب الأهلية وتحرير العبيد في الولايات الأميركية الجنوبية.
اللافت أن الغجر الذين خرجوا من الهند ربما بسبب الاضطهاد والفقر الشديد اعتبروا أنفسهم بعد ذلك بمثابة «سادة الأرض» وهم إلى اليوم يفتخرون بإنتمائهم الغجري وينتقصون من قيمة غيرهم من الأقوام ويطلقون عليهم كلمة (Gadjo) ومعناها بلغتهم «غير المهذب» أو «المتعجرف». وهذه الكلمة تدل على أنهم احتفظوا بنوع من الكره لأسيادهم السابقين وعبروا عن ذلك بإلصاق تهمة العجرفة أو التكبر على الأقوام التي احتكوا بها، وقد يكون في هذه التسمية شيء من الصحة إذا عرفنا أن الغجر الذين هربوا من الهند طلباً للحرية والكرامة الإنسانية تعرضوا إلى أنواع اضطهاد جديدة كانت أقسى أحياناً في البلدان التي حلّوا فيها خصوصاً في أوروبا.

تاريخ اضطهاد
ففي القرنين الخامس عشر والسادس عشر كان الغجر أو «الروما» عرضة للاضطهاد في أكثر بلدان أوروبا الغربية بل كان وضعهم أقرب إلى العبيد، وأدى تكاثر أعدادهم إلى إثارة مخاوف الحكومات وكان الرأي العام معادياً لهم وقد نسجت حولهم روايات مثل قيامهم بخطف الأولاد وامتهانهم السرقة والنشل وغير ذلك فابتعد عنهم الناس، وتحت تأثير تلك المشاعر المعادية أخرجت سويسرا جميع الغجر من أراضيها وحرّمت عليهم دخولها بقانون نص على أن أي غجري يعثر عليه في سويسرا يتم إعدامه فوراً، وقامت بريطانيا بترحيلهم ثم أصدرت قانوناً مشابهاً للقانون السويسري في العام 1554وكذلك فعلت ألمانيا والسويد وفرنسا والدانمارك ورحّلهم البرتغاليون إلى مستعمراتها البعيدة وراء البحار. ورغم التحسن النسبي في أوضاعهم، إذ سمح لهم بالتجوال في عرباتهم، فإن التصنيف الرسمي للغجر بقي يضعهم في فئة العبيد، فكانوا في بعض دول أوروبا يقطعون جزءاً من آذان نسائهم كعلامة فارقة لتمييز الغجريات عن الحرّات وكان يتم دمغ رجالهم كما تدمغ المواشي وتمّ تنظيفهم عرقياً في عدد من المناطق. بفعل هذه الأجواء المعادية توجه قسم كبير منهم نحو شرق أوروبا مثل بولونيا وروسيا حيث تلقوا معاملة أفضل طالما واظبوا على دفع الضرائب إلى خزائن الدولة. في وقت لاحق ومع تحسن أوضاع الهجر نسبياً برز في وجههم خطر جديد هو محاولات دمجهم قسراً بالمجتمعات القائمة وذلك عن طريق تقييد حريتهم في الترحال والتجول وتخصيصهم بأماكن محددة واتخذت محاولات الدمج القسري في ألمانيا ثم إسبانيا شكل فصل الأسر عن بعضها، وكانت الحكومات تأخذ أطفال الغجر قسراً إلى معسكرات تعليم وتنشئة للدولة بحيث يتم إعدادهم ليكونوا مواطنين عاديين وينسوا تقاليدهم الغجرية، لكن كل تلك المحاولات فشلت واحتفظ الغجر بشخصيتهم وهويتهم وثقافتهم وتقاليدهم. كما أجرى الأوروبيون محاولة لخلق «وطن للغجر» في مناطق بين رومانيا وبولونيا والمجر، لكن الغجر رفضوا ذلك من منطلق حماية أسلوب عيشهم الحر والتنقل وعدم الإنتماء إلى مكان محدد.
لكن شعب الغجر أنشأ اتحاداً عالمياً يمثلهم في كل البلدان ويستهدف مناقشة قضايا وجودهم وحماية حقوقهم كما تبنى غجر العالم تسمية واحدة للغجر في جميع البلدان هي «الروماني» Romani كما صنعوا لأنفسهم علماً يرمز إلى أمة الروماني، وكان من اللافت أن علمهم يشبه إلى حد كبير علم الهند كما يبدو في الصورة المرفقة، إذ تتوسطه عجلة ذات 16 شعاعاً بينما العلم الهندي تتوسطه عجلة ذات 24 شعاعاً ويرمز اللونان الأخضر والأزرق في علم الغجر إلى الحقول الخضراء والآفاق الواسعة وبالتالي حال الترحال الدائم في بلاد الله الواسعة.

الغجر في التاريخ العربي
المكان الوحيد الذي وجد فيه الغجر مجالاً للعيش بصورة طبيعية نسبياً كان المنطقة العربية والدولة الإسلامية التي كانت بطبيعتها دولة جامعة وتعمل بمبدأ أخوة الدين ولا توجد فيها عنصرية قومية مثل العنصريات الأوروبية، وكان مظهر الغجر الرحل (وكانوا يسمون «الدوم») شبيهاً بمظهر البدو، علماً أن العديد منهم استقروا في ضواحي المدن الكبيرة مثل البصرة والقاهرة وكانت لهم مهن ودخل قسم كبير منهم في الجيش وشارك في الحملات العسكرية للملوك والخلفاء. وقد اشتغلوا في البصرة كشرطة وحراس سجون، وقد اختصوا أيضاً بالعمل في الملاحة البحرية، واستقر بعض السبابجة مع ذريتهم في البصرة حتى أن أحد أحيائها يحمل اسمهم ، فيما قطن البعض الآخر أهواز العراق ليعملوا في الزراعة ورعي الأغنام.

ثورة الغجر على العباسيين
من مفارقات تاريخ الغجر في المنطقة أنهم بلغوا في مطلع العصر العباسي درجة من القوة والإنتشار العددي شجعتهم على إحداث قلاقل وفوضى عارمة في جنوب العراق وكان الغجر يسمون في المنطقة «الزطّ» والغجري «زِطّياً».
في العام 201 هـ (816م) ثار الزطّ على الخليفة العباسي المأمون وقطعوا الطرق بين وسط العراق وجنوبه ونهبوا الغلال، وتعاظمت ثورتهم وانضم إليهم فقراء ومَوالون إلى أن تمكنوا في العام 205هـ (820م) من التحكم بمنطقة جنوب العراق بكاملها وفشلت جيوش المأمون في إخماد الثورة التي استمرت بصورة متقطعة حتى عهد الخليفة المعتصم وأثرت في هيبة الدولة العباسية وكانت ربما مع ثورة الزِنج لاحقاً (255-270 هـ / 869-883م)، أحد أسباب انهيارها. وقد أرسل المعتصم الذي كان قائداً عسكرياً ماهراً في العام 219هـ (834م) أحد أشهر قواده وهو عجيف بن عنبسة لحرب الزطّ، فعمد الأخير إلى جمع المعلومات عن أماكن تجمعهم وقطع عنهم المياه وهاجمهم فهزمهم وأسر وقتل الكثيرين واستسلم الزطّ له فنقلهم من مناطقهم بزوارق إلى بغداد وعددهم اثنا عشر ألف مقاتل وخمس عشرة ألف امرأة وطفل، وكانت الزوارق تمرّ بموكب لثلاثة أيام وهم ينفخون بأبواقهم، ومن بغداد نقلتهم الدولة العباسية إلى أنطاكية لمواجهة الدولة البيزنطية ولتخفيف خطرهم على الاستقرار والإفادة من قوتهم.
لكن حين هاجم الروم أنطاكية عام 241هـ (855م) فإنهم ساقوا جميع الزطّ مع ما كانوا يمتلكونه من ماشية ومتاع إلى داخل بلاد الروم، ولم يفلت منهم إلا قليل وكان نقل شعب الزط أو الغجر إلى بيزنطة إيذاناً بموجة هجرات تالية بلغت بهم بلدان أوروبا الغربية ثم الشرقية حيث توزعوا في القارة واتجهوا إلى حياة مسالمة، لكن لم يرحل كل الزط من العراق بل بقيت قلة منهم وخرج منهم عام 295هـ (907م) رجل يدعى حاتم الزطّي والتحق ببقايا القرامطة بعد هزيمتهم على يد الفاطميين وتزعّمهم، ويحكى انه حرّم عليهم الثوم والبصل والفجل والكرّاث، كما حرّم عليهم إراقة دماء الحيوانات.
المفارقة الأغرب هي أنه بينما كان الزطّ يثيرون القلاقل في وجه الخليفة المأمون فإن أحد أبرز قادته الذين شاركوا في فتح مصر كان زطّياً وكان يدعى السّريّ بن الحكم بن يوسف الزطّي، وقد دخل مصر مع الجند الخراسانيين المرافقين لليث بن الفضل عامل الرشيد عام 182هـ ، وحين نشبت الفتنة بين الأمين والمأمون تزعم الزطّي الجند الخراسانية ودعا للمأمون واستولى على غرب الدلتا وصعيد مصر، وبعد موت السريّ خلفه ابنه أبو نصر محمد الذي مات عام 206هـ وأعقبه أخوه عبيد الله بن السريّ فاستولى على مصر كلها بعد حروب دامية، ولما أراد المأمون أن يقره والياً أعلن العصيان واستقل بالملك، وفي سنة 221هـ، (835م) توجه المأمون عبد الله بن طاهر إلى مصر فهزم الزطّي الذي طلب الأمان ثم رحل إلى العراق ليقضي نحبه في سامراء عام 251 هـ.

الغجر-انتقلوا-من-الخيم-إلى-البيوت-النقالة-التي-تجرها-الخيل-أو-السيارات-وهم-يعتنون-كثيرا-بتزيينها
الغجر-انتقلوا-من-الخيم-إلى-البيوت-النقالة-التي-تجرها-الخيل-أو-السيارات-وهم-يعتنون-كثيرا-بتزيينها

 

 

من اليمين علم الغجر مستوح من علم الهند التي يعتبرونها وطنهم الأصلي كما أنه يظهر العجلة في الوسط كرمز ترحالهم الدائم بينما يرمز اللونان الأخضر والأزرق الى السفر في بلاد الله الواسعة
من اليمين علم الغجر مستوح من علم الهند التي يعتبرونها وطنهم الأصلي كما أنه يظهر العجلة في الوسط كرمز ترحالهم الدائم بينما يرمز اللونان الأخضر والأزرق الى السفر في بلاد الله الواسعة

الغجر في ظل الدولة العثمانية
عرف الغجر في ظل الدولة العثمانية الحياة الحرة غير أن السلطان سليم في عام 1530م اصدر فرماناً يضبط فيه بقاء الغجر في عدد محدد من مقاطعات الإمبراطورية، وأعفى ابنه السلطان سليم الثاني الغجر العاملين في مناجم البوسنة من الضرائب، ولكن مع تراجع موارد الدولة العثمانية في أواخر القرن السابع عشر ازدادت الضرائب عليهم حتى أثقلتهم ، إلا ان حياتهم بقيت في ترحال مستمر وتعدّدت أعمالهم وتحوّلت من الصناعات التعدينية إلى صناعة المكانس وتنظيف مداخن المنازل ، كما عملوا موسيقيين وراقصين ومدربي دببة وحدّادين . وفي البلاد العربية أعفاهم العثمانيون من الضرائب والتجنيد، وعاشوا كما يشاءون يمارس بعضهم التسوّل والتنجيم ويقيمون الحفلات الساهرة، ويصنعون الطبول والغرابيل ويصنعون الخناجر والمقصّات ويعالجون الأسنان.

الغجر في العالم
الغجر في العالم

تسميتهم
كان الغجر يسمون في بلادهم الهند الـ«دوم» Dom وهو إسم مشتق من كلمة Doma السنسكريتية التي تدلّ على أناس مكلفين بأعمال وضيعة وهؤلاء الناس موجودون في الهند على نطاق واسع ضمن نظام الطبقات ويدعون الهاريجان harijans ويعود الفضل إلى المهاتما غاندي في تحريرهم إذ قاد حملة وطنية للتآخي معهم واعتبارهم بشراً لهم نفس الحقوق. بعد ذلك ومع توجههم نحو أوروبا تحول اسم Dom إلى روم Rom فعرفوا به هناك لكن الإسم الذي عرفوا به في منطقة الشرق الأوسط هو “دوم” Dom أو دومي وأصبح دومري، ومن المألوف في لبنان مثلاً أن يقال عن مكان بعيد وغير مسكون (ما فيه ولا دومري!) ويعتقد أن موجات الغجر انقسمت في القرن السادس الميلادي وأدى ذلك إلى تسميات مختلفة لهم حسب المنطقة التي انطلقوا إليها.
في المنطقة العربية يسمى الغجر بأسماء عدة منها الكالور والقرباط والزط والزرغاري وهذه الأسماء تشير أكثر إلى أنساب قبلية فكان الغجري يسأل عن أصله فلا يقول «غجري» بل يقول «زرغاري» أو «قرباط» لأن ذلك يوحي بإنتمائه إلى شعب معين وكان هذا أفضل من أن يقول «دومي» التي تعني غجرياً بالمطلق. وأطلق عليهم أيضاً إسم السبابجة وفي العراق الكاولية وفي بعض مناطق الخليج الصلبي، والسبابجة صفة أطلقت على بعض الزط بسبب لون بشرتهم الأسمر الداكن، والفرد من هذه الجماعة يقال له «سبيجي». لكن الكلمة الأكثر انتشاراً في بلاد الشام هي كلمة «نَوَر» وهي جمع «نَوَري» والنور تستخدم أحياناً كإهانة أو للدلالة على أشخاص لا قيمة لهم أو هم في أدنى سلم الاعتبار. وفي إيران تستخدم كلمة «كولي» بنفس المعنى أي للحط من قيمة شخص عبر تشبيهه بالغجر.

لغتهم ولهجاتهم
أظهرت الدراسات اللغوية والإثنية أن لغة الغجر تشبه في الكثير من تعابيرها اللغة الهندية Hindi وهناك مفردات عديدة مشتركة بين الهندية ولغة الغجر وهذا ليس مفاجئاً إذا أخذنا في الاعتبار أن موجات الغجر هي هجرات لشعوب شمال غربي الهند ووسطها، أما قواعد اللغة الغجرية فهي أقرب إلى قواعد اللغة البنغالية.
لكن الدوم أو الغجر ومع احتفاظهم بأساسيات اللغة التي حملوها معهم من الهند فإنهم أخذوا بلغة الشعوب التي هاجروا إليها لذلك ليس مستغرباً أن ترى بعضهم يتكلم لغتين أو ثلاثاً لكنهم عموماً لا يتعلمون القراءة والكتابة بلغة البلد الذي يقطنون فيه فهم لذلك أميّون بالمعنى الفعلي. لكن بالإضافة إلى التحدث بلغة البلدان التي يعيشون فيها أو انتقلوا إليها فإن الدوم يتكلمون عادة إحدى لهجات اللغة المشتركة لغجر العالم، لكن اللهجات تباعدت مع مرور الزمن بحيث افترقت وتمايزت حسب المناطق الجغرافية، ولهذا السبب اتخذ الاتحاد العالمي للغجر قرارات بتوحيد لغة «الروماني» كما تسمى في أوروبا ووضع أسس كتابتها وقواعدها بما يحفظها من احتمال التحول إلى لغات عديدة لا يمكن للناطقين بها أن يتواصلوا في ما بينهم. في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي يتحدث الغجر بلغة الدومري (وهي اللغة المميزة لغجر المنطقة) داخل مجتمعهم ومع أفراد أسرهم، وقد تمكنوا من الحفاظ عليها بسبب تقليد التحدث الشفهي بها من جيل إلى جيل. ويستخدم تعبير نوري للدلالة على شعب الغجر لكن كلمة «النوري» هي عملياً إحدى لهجات اللغة الدومرية، واللافت أن غجر الشرق الأوسط يتحدثون العربية بلهجة البلد الذي يعيشون فيه، فهم يتحدثون باللهجة المصرية في مصر وبالسورية في سورية وباللبنانية في لبنان، وتستخدم اللغة الدومرية أيضاً في أفغانستان وروسيا وأوزباكستان.
بالطبع معرفة الغجر السطحية بلغة البلاد وأهلها وغياب أي تقليد للكتابة أو النقل باللغة الدومرية جعل الغجر مجموعة ضعيفة وهامشية، إذ أن القدرة على التواصل بالكتابة كانت عبر التاريخ ولا تزال أهم واسطة لحفظ الهوية والتاريخ الخاص بشعب بحيث يمكن تناقله من جيل إلى آخر. لذلك تجد قليلاً من شعب الدوم يمكنه اليوم أن يحكي تاريخ شعبه لأن انعدام الكتابة حرمهم من التدوين، كما أن عدم وجود هذا الإرث المكتوب يجعل الغجر غير قادرين على شرح حقيقتهم وتاريخم وتميزهم الثقافي، لذلك تراهم غالباً يسعون للتعبير عن أنفسهم بالرقص والغناء أما في المجتمعات العربية المحافظة يحتاج الغجر إلى التواصل مع أهل البلد وشرح هذا الإرث وإلا فإن العرب المسلمين في أكثريتهم سينظرون نظرة نفور أو عدم رضى إلى تقاليد الدوم نساء ورجالاً في الرقص والغناء.
وتعتبر لغة الدومري في الأصل قريبة من الهندية لكن أضيفت إليها في المنطقة التعابير الفارسية والتركية والعربية، وهي لغة تكاد تندثر بسبب لجوء الغجر المتزايد لاعتماد لغات ولهجات الشعوب التي يعيشون بالقرب منها، وقد أدت حالات الاضطراب والحروب التي ألمت بالعراق وسوريا إلى تأثر الغجر بصورة كبيرة نظراً إلى تشكك الجماعات الأصولية في صحة إسلام الغجر واتهامهم بالتقية وبإهمال ممارسة الفرائض والشعائر الإسلامية.

الموسيقى-حياتهم
الموسيقى-حياتهم

” افتقاد الغجر للغة مكتوبة حرمهم أهم وسيلة للتعبير وكتابة تاريخهم الخاص وجعلهم بلا أي رواية يمكن نقلــــها إلى أجيالــــهم عبر الســـنيـن  “

موسيقى-للعيش
موسيقى-للعيش

حياتهم وعاداتهم
حافظ الغجر في كل مكان على ستار من الكتمان والغموض حول عاداتهم وأساليب عيشهم فهم يتكلمون لغتهم الخاصة في وجود الأجانب ولا يتحدثون إلى الصحافيين ويكرهون أي اهتمام غير عادي بهم أو باعتقاداتهم، لكن مراكز الأبحاث والجهات الرسمية تمكنت عبر الزمن من رصد مجموعة من الخصائص التي تميز حياة الغجر وتفسر كونهم شعباً أو إثنية مختلفة لها عاداتها واحترامها لهويتها.
من أهم سمات حياتهم أنهم يخافون البحر ويفضلون عبور الصحارى مراراً على عبور نهر ولو مرة واحدة، هذا مع العلم أنهم اضطروا لركوب البحر للوصول إلى الأميركيتين الشمالية والجنوبية وقد يكون ذلك بسبب اشتغال نفر قليل منهم بالبحرية أو صيد الأسماك.
إحدى المشكلات التي تواجه الغجر هي عدم وفرة المياه بسبب عزلة مضاربهم وكثرة الترحال، لذلك فإن المياه عندهم مخصصة للشرب وسقي الحيوانات والطبخ، وهي تعتبر ثمينة يحافظون عليها ويتجنبون هدرها.
يعطي الغجر أهمية كبرى لعذرية الفتاة ويشجعون الزواج المبكر وعلى أهل العريس أن يدفعوا مهر الفتاة لذويها، وكان الغجر يطبقون تقليد تزويج الصغار وهي عادة متبعة أيضاً في الهند وهو ما أثار بعض الجدل في أوروبا لكن هذه العادة لم يعد معمولاً بها إلا نادراً. وزواج الغجر يتم بأسلوب الخطف أو «الشراء» حيث يبيع الأب ابنته لقاء ثمن أو بإتفاق العائلتين وهو الأكثر شيوعاً. وزواج الغجري أو الغجرية بغير الغجر منكر ويطرد فاعله من العشيرة، وفي حفل الزواج يقوم رئيس الجماعة بكسر رغيف خبز قسمين ويضع ملحاً داخل كل قطعة ويقدمها للعروسين ويقول لهما (عندما تملّان هذا الخبز والملح يملُّ أحدكما الآخر) ثم يتبادل العروسان القطعتين قبل الأكل ولهذا الطقس أهمية خاصة في مجتمع الغجر تقترب به من الحفل الديني تجعله في مرتبة طقوس مقدسة، والحامل الغجرية تعفى من جميع الشؤون المنزلية.

ترحيل-الغجر-من-ألمانيا-النازية-عام-1940
ترحيل-الغجر-من-ألمانيا-النازية-عام-1940
الغجر في العالم العربي
الغجر في العالم العربي

مفهومهم للطهارة
يعتقد الغجر بأن الأجزاء السفلية من الجسم مثل الأعضاء التناسلية غير طهورة وهم لذلك يغسلون الثياب التي تستخدم في الجزء السفلي من الجسد على حدة ولا يمزجونها مع بقية الثياب، كما أن الولادة عندهم تعتبر ناقضة للطهارة لذلك يستحسن أن تحصل الولادة خارج المنزل وتبقى المرأة التي أنجبت غير طاهرة لمدة أربعين يوماً.
والموت عند الغجر يفسد الطهارة أيضاً وهو يؤثر على جميع أفراد أسرة الميت الذين يبقون غير طاهرين لمدة معينة بعد الدفن. وعلى عكس أجدادهم الهنود فإن الغجر يدفنون موتاهم ولا يحرقونهم فهذا الأسلوب غير متبع أو مسموح به في الإسلام ولا في المسيحية وهي المجتمعات التي يعيشون غالباً في ظلها.
وللغجري ثلاثة أسماء الأول (سري) والثاني (بين أفراد العشيرة) والثالث (بين الناس) وفي السجلات والقيود وتهمس الأم بالاسم الأول (السري) في إذن الوليد مرة واحدة عند الولادة وذلك لتضليل الأرواح الشيطانية الشريرة وعند بلوغه سن الرشد.
ولا يموت الغجري تحت خيمته أو في فراشه أو عربته بل يأخذونه إلى خارج الخيمة ويحضر الشهود وتغسل جثته بعد الوفاة بالماء المالح ويلبسونه ثياباً جديدة وبعد إعلان الشهود وفاته تجتمع العشيرة للبكاء والنحيب وتدفن معه الشوكة والملعقة والكمان ويعزف عليه لحن حزين وتوزع النقود على الشهود وينسى بعد موته.

ديانتهم ومعتقداتهم
يميل شعب الدوم عموماً لتبني الديانة الشائعة في البلد الذي يعيشون فيه. ففي الشرق الأوسط يعني ذلك تبني الدين الإسلامي، وهم غالباً ما يحجون إلى مكة المكرمة لكن بينما يوجد بينهم مسلمون مؤمنون حقاً وممارسون فإن أكثريتهم مسلمون بالإسم فقط ولا يقومون بالفرائض الدينية مثل الصلاة والصوم، فهم يعتبرون أن الدين مسألة خاصة وهم لا يحبون الحديث في أمر الدين مع أي كان لكنهم يتأثرون كثيراً بفكرة سيطرة الأرواح على حياة البشر ويفسرون كل ما يحدث لهم أو للعالم بتأثير أرواح شريرة أو لعنة معينة، لذلك ترى قارئات الطالع من نسائهم يعرضون على الزبون إعطاءه شراباً يقيه من العين ومن الخط ونوايا الشر وغير ذلك. ولا يوجد بين الدوم العرب إلا عدد قليل جداً من المسيحيين وذلك لسبب بديهي هو عدم اهتمام المجتمع الغجري بالدين وثانياً لأن تحول الغجري أو الدومي إلى مسيحي في بلد مسلم يجعله عرضة لضغوط كثيرة ولاسيما وأن أكثر تلك الحالات القليلة تتم بواسطة مبشرين محليين أو أجانب.
حتى في الدول الأوروبية حيث تبنوا الديانة المسيحية لا يوجد بين الغجر رهبان أو قساوسة أو حتى كنائس وما زال كبير السن بينهم وهو غير زعيم العشيرة- المرجع الأول في أمورهم وتوجيههم وهو الحكم في نزاعاتهم، ويعتقد الأوروبيون أن الغجر ما زالوا يمارسون طقوس «الشاكتية» التي حملوها من الهند. وتعتبر الشاكتية أحد أربع أكبر تيارات دينية في الهندوسية وهي تتصل بفرع اليوغا الهندية المسمى Tantric yoga التي تقوم على التحكم بالفكر والجسد وتطهير النفس واتباع تلك الطريقة يمكنهم من الحصول على قوى غير عادية ومن قراءة المستقبل والقيام بالكثير من الأمور التي يعجز عنها الإنسان غير المتمرس بطرق اليوغا.

” ديانتهم موروثة من اليوغا الهندية مع إيمان بالأرواح وقدرتها على التأثير سلباً وإيجاباً في مصير البشر “

لوحة-الغجرير-النائم-لهنري-روسّو-تظهر-حياة-السعادة-التي-يعيشها-الغجري-في-الطبيعة-وتناغمه-التام-مع-الحياة-البرية
لوحة-الغجرير-النائم-لهنري-روسّو-تظهر-حياة-السعادة-التي-يعيشها-الغجري-في-الطبيعة-وتناغمه-التام-مع-الحياة-البرية

مصادر عيشهم
يتميز نمط عيش الغجر العرب بتنوع واسع فمنهم من يزال يعيش نمط العيش المتنقل (رحّل) وهؤلاء يقدمون خدماتهم في إحياء الحفلات كموسيقيين أو كعمال معادن للأماكن التي يخيمون فيها أو لمجموعات أخرى من الغجر الرحّل وبسبب نمط عيشهم المتنقل فإن هذه الفئة يتم التعامل معها بكثير من الشكوك والحذر. في المقابل هناك منهم من يعمل كعمال موسميين مثل المساعدة في قطاف المحاصيل في وادي الأردن أو في قطاف التبغ في شمال الاردن. وهناك غجر من سكان الخيام يتنقلون في لبنان بين سهل البقاع وبين المناطق اللبنانية كما يفعل البدو الرحّل، وغالباً ما يرتبط ذلك بإعتبارات موسمية في القطاع الزراعي علماً أن قليلاً من الغجر العرب يعملون في الارياف ويعيشون حياة المزارعين لأن مفهوم امتلاك الأرض لا يدخل في نمط حياة الترحال الذي يغلب عليهم. وفي بعض البلدان مثل العراق فمن المألوف ان تشاهد قوافلهم من الجمال والحمير تنتقل من منطقة إلى أخرى تقدم خدمات الأعراس وحفلات الرقص والغناء وقراءة الطالع وأعمال الخفة والأعمال البهلوانية، لكن عدم امتلاك الغجر للأراضي التي يقيمون مخيمهم عليها يجعلهم دوماً عرضة لضغوط تضطرهم لإخلاء مواقعهم والانتقال إلى مكان آخر.
بعض الغجر يمكن اعتبارهم يعيشون حياة ترحال جزئي أو موسمي فهم يعيشون في بيوت قريبة من المدينة خلال العام (في فصل الشتاء) بينما يعيشون في خيامهم في العراء بقية أيام السنة. أحد الأمثلة على ذلك غجر منطقة كرمان في إيران فهم يؤمنون عيشهم كحرفيين أو كباعة ووسطاء أو قارئي الطالع أو راقصين وغير ذلك من المهن الصغيرة، وبينما يمارس الرجال أو النساء هذه الأعمال فإن أطفالهم ينتشرون في الشارع للتسول ولا يذهبون إلى المدارس.
بين الغجر الذين يمكن اعتبارهم متوطنين ثابتين أي أنهم تركوا حياة الترحال الغجر القاطنين في لبنان وفلسطين وقبرص. وهؤلاء يعيشون في أكواخ أو في شقق في مناطق شعبية في المدن أو القرى. وبالطبع فإن الغجر المتوطنين لديهم فرص أكبر للتعليم والحصول على أعمال دائمة لكن العديد منهم يصعب عليهم إيجاد عمل بسبب تصنيفهم غجراً لكن السبب الأهم هو أن معظمهم أميّون ولا يملكون أي مهارات تؤهلهم للاستخدام في عمل ثابت وهم لذلك يسعون للعمل المياوم ويعرضون خدماتهم لأصحاب العمل في الزراعة أو غيرها.
في لبنان يعيش قسم من هؤلاء في مناطق بائسة مثل مخيم شاتيلا وهو مخيم يتألف من بنايات مهدمة بفعل القصف وأكواخ تم بناؤها باستخدام الأنقاض إذ لا يسمح بإدخال مواد البناء إلى المخيمات. ويقع مخيم شاتيلا في نطاق مشروع حكومي طموح لإعادة تخطيط وإعمار ضواحي بيروت والمسمى مشروع «أليسار» وهو ما قد يعني إجبار الغجر القاطنين في المخيم على مغادرته.
ويعتبر غجر قطاع غزة من الغجر المتوطنين وتشتهر نساؤهم بالرقص في الأعراس وقد أنشأن اتحاداً أو نقابة لهن بهدف منع المنافسة على الأسعار.
بسبب النظرة المعادية للغجر المنتشرة في المنطقة العربية فإنهم حيثما وجدوا يسعون لإخفاء هويتهم وتبني شخصية أو هوية بديلة فهم في لبنان مثلاً يحبون أن يعتبروا من شعوب البدو الرحل وفي إيران ينسبون أنفسهم إلى شعب الكاشكاي وفي فلسطين المحتلة يسمون أنفسهم عرباً وفي الأردن ينسبون أنفسهم إلى التركمان .
أما الغجر أنفسهم فيتميزون في صفوفهم بين مجموعات أو «عائلات» مختلفة من الدوم. فالقرباط والنور يعيشون في أماكن متجاورة في سوريا لكنهم يختلفون كثيراً في طريقة عيشهم وأعمالهم ولغتهم وثقافتهم الشعبية. القرباط مثلاً طوروا لأنفسهم مهناً وحرفاً مثل العلاجات الأولية للأسنان والأشغال المعدنية والنجارة وأعمال البناء بينما يستمر النور في التركيز على الترفيه موسيقى ورقصاً وتسولاً كما تفشت بين نسائهم بعض المهن غير الأخلاقية وهم يفتقدون أي شعور بالإنتماء إلى شيء أو مكان أو اعتقاد سياسي أو ديني. لهذا فإن قرباط سوريا يرفضون نسبتهم إلى النور ويعتبرون ذلك إهانة لهم.

خاتمة
يمكن القول إن الغجر تمتعوا في العالم العربي في ظل الممالك الإسلامية والدولة العثمانية بحرية أكبر مما نعموا بها في أي مكان في العالم، وقد اعتاد المجتمع العربي وبسبب الإسلام وتسامحه تجاه الشعوب المختلفة على الاختلاط بمختلف الأقوام التي كانت تفد إلى الحواضر العربية من كل مكان في العالم فكان مألوفاً وجود الأفارقة بسحنتهم السوداء أو السمراء ووجود الآسيويين والفرس والروم والهنود والتركمان والأرمن وغير ذلك وهذا التنوع الكبير في الحواضر العربية الكبرى التي كانت مراكز للتجارة والثقافة استفاد منه الغجر ونعموا بالمناخ المنفتح الذي كان يوفره وقد بلغ التسامح مع الغجر حداً شجعهم على إثارة القلاقل وخلق المتاعب للدولة العباسية التي اضطرت إلى إخماد تمردهم بالقوة، لكن في ما عدا تلك الفترة فإن الغجر رافقوا التاريخ العربي لكنهم عاشوا على الدوام على هامشه ولم يساهموا فيه بسبب طبيعة انتشارهم وأسلوب عيشهم وميلهم الطبيعي للإنغلاق. أما في الظروف الحالية للمنطقة فإنهم يعانون ولا شك بسبب حالة الفوضى وانهيار الأمن وهم يجدون أنفسهم في ظروف خطرة لم يعتادوا عليها منذ مئات السنين، ولا يملكون ما يعينهم على اتقاء شرورها. إنها لعنة الشتات وافتقاد حماية المكان وعصبية الجماعة والتي لا يوجد من دونه أمان في زمن اختلاف الدول وانهيار المجتمعات وسيطرة الفوضى.

بيتـــــــــي كان الطريق الفسيح
وكنت أهيم في الأمكنة
لكنهم منعوا التجوال عليّ
أشعر الآن أنني ميت

محجوز ومقموع
كأنني أعيش في حفرة
سجين أحزاني
أنشد شيئاً واحداً: الحرية

يمكنني أن أرى الأشجار
لكن لا أرى نحلاً كثيراً
لأن النحل يطير كما يحلو له
وليس مقيداً مثلي
يمكنني أن أرى المطاحن
لكن لا يمكنني أن أسير في التلال
لأنني ممنوع عن ذلك
بأمر القانون

يمكنني أن أرى الأبراج
لكن لا يمكنني أن أشمّ رائحة الأزهار
فأنا لست معتبراً
جزءاً من هذه الطبيعة

يمكنني أن أرى العشب الأخضر
لكن فقط من خلال زجاج النافذة
كم أشتهي أن أقترب منه
وأتأمل خضرته على الدوام

يمكنني أن أرى السماء
والسحاب السابح في أرجائها
أشعر بالحسد وأنا أتأمل
كيف أن كل شيء حر هناك

أرى العصافير تقطع زرقة السماء
لا تدري ربما كم هو سهل عليها
أن تذهب أو أن تعود من أي مكان
أنظر إليهم أسراباً فأخرج تنهيدة حسرة
وأتمتم بكلمات مرة

” غجر لبنان وفلسطين وقبرص توقفوا في معظمهم عن الترحال وانتقلـــوا إلى أماكن ســــكن ثابتـة  “

الغجر وفن الرقص الشرقي

يعتبر الغجر ولاسيما عشيرة الغوازي منهم المؤسسون الحقيقيون للرقص الشرقي وقد قامت نساؤهم بتطوير هذا الفن فانتشر بسببهن في المجتمعات العربية حتى أصبحت له مدارسه ليس فقط في المنطقة بل في الدول الغربية أيضاً وتكرس كأحد فنون الرقص العالمية. وكان للغجر أيضاً تأثير كبير على تطور رقص الفلامنكو الإسباني والموسيقى البوهيمية أو التسيغان في أوروبا الشرقية وخصوصاً في هنغاريا ورومانيا وبولونيا.
وكان للغجر تأثير كبير على تطور الرقص الشرقي في مصر بل إن البعض يعتبر أنهم ساهموا مساهمة كبيرة في حفظ الغناء الشعبي المصري إذ احترفوا إنشاده‏، كما برعوا في الربابة والمزمار‏,‏ ومن النادر أن تجد عازف مزمار أو راوي سيرة شعبية أو مداحاً في مصر لا يكون منهم، ‏وفي غزة أنشأت الراقصات الغجريات نقابة بهدف توحيد أسعار الخدمات التي يقدمنها ومنع المنافسة بينهن. وفي العراق كتبت الصحف في بداية التسعينات عن غزو الغجريات للمسرح القومي كممثلات بارعات وسمي أحد أحياء بغداد بحي «الطرب» بسبب وجود مجموعة من الغجر تمارس فنون الغناء والعزف والرقص وتقطن فيه.

مآثر وعبر

مآثـــر وعبـــر
هل جميعكم بهذا الإيمان؟!
أنا أضعفهــــــــم

هل-جميعكم-بهذا-الإيمان
هل-جميعكم-بهذا-الإيمان

 

السؤال طرحه إبراهيم باشا المصري الذي كانت قواته تخوض قتالاً مريراً ضد الموحدين الدروز وتحاول إخضاعهم، والجواب هو ردّ به المرحوم المجاهد الشيخ حسن البيطار على قائد الحملة المصرية وابن محمد علي باشا. وقد حصلت المقابلة بين الرجلين بعد معركة وادي جنعم وموقعة البيرة بين الثوار الدروز بقيادة شبلي باشا العريان والقائد المصري. قبل ذلك كان الدروز قد تعرضوا لهزيمة مؤلمة على يد القوات المصرية في معركة وادي بكّا عام 1838 بقيادة الشيخين حسن جنبلاط ونصر الدين العماد الذي استشهد في المعركة. وقد هزم الموحدون الدروز بسبب خديعة مدبّرة ووشاية عن مكان تواجدهم من قبل أحد القرويين المتعاطفين مع المصريين، وكان ثمن تلك النكسة غالياً، إذ قتل في تلك المعركة نحو 640 ثائراً من بينهم 41 جوز أخوة ستة منهم من بلدة شوفية واحدة.
هذه المعركة الفاصلة كانت السبب في تراجع الثوار إلى منحدرات جبل الشيخ الوعرة، ومنها وادي جنعم السحيق والذي تحدّ به من الشرق قمم جبل الشيخ الشاهقة، ومن الغرب الجبل الوسطاني، وعند آخره لجهة الجنوب تقوم بلدة شبعا المختلطة آنذاك بسكانها من المذاهب السنية والدرزية والمسيحية الأورثوذوكسية وفي البلدة كما هو معروف بقايا من الجنود الصليبيين الذين فروا من الخدمة بعد معركة حطين واعتنقوا الدين الإسلامي ثم استقروا واندمجوا وتزاوجوا وخصوصاً مع العائلات السنية، ومنهم من لم يزل يحمل الإسم الأجنبي الغربي كآل مركيز وسواهم..
القائد إبراهيم باشا لم يكتف بانتصاره في معركة وادي بكّا، بل أراد أن يلحق بالثوار إلى أماكن تواجدهم في منطقة جنعم الحصينة. وكان الثوار الدروز يواجهون وضعاً صعباً بسبب تناقص أعداد المقاتلين وتضعضع الباقين منهم وانسحاب قادتهم إلى الجولان. لكن مع ذلك، فإنهم انتصروا على القوة الشهابية الآتية من حاصبيا المساندة لجيش إبراهيم باشا بأمر من الطاغية الحاقد الأمير بشير الشهابي الثاني وعلى رأسهم حفيده الأمير مسعود ابن الأمير خليل، فكان أن فاجأهم الثوار بمكمن صخري في منطقة في خراج بلدة شويا تُدعى البيرة، فقتل أحد قادتهم الشيخ فضل الخازن وسبعة عشر رجلاً وهرب الباقون وعادوا من حيث أتوا. وغنم الثوار أسلحتهم وأمتعتهم، كما يشير بذلك المؤرخان طانيوس الشدياق والدكتور أسد رستم 1.
بعد ذلك، وصلت قوات إبراهيم باشا بقيادة الضابط الأرناؤوطي مصطفى باشا لنجدة الشهابيين، ولما كان عدد الثوار قليلاً بالمقارنة مع الجيش المصري الجرّار، فقد انسحبوا إلى بلدة شبعا التي تقع جنوب وادي جنعم وهناك وقع قتال ضار طوال النهار والليل حتى انبلاج فجر اليوم التالي قبل أن يتمكن إبراهيم باشا وجنوده من دخول البلدة المذكورة في ما انسحب الثوار المقاتلون إلى إقليم البلّان بينما اختار آخرون الالتحاق بالثوار السوريين في جبل اللجاة من أعمال جبل الدروز.
ويروي المؤرخ فيليب عن هذه الموقعة في كتابه “ لبنان في التاريخ” قائلاً : “ هاجم إبراهيم باشا قرية شبعا التي تقع جنوب شرقي حاصبيا ونهب خلواتها والتي تعدّ من أقدم خلوات الدروز وأعظمها احتراماً وتكريماً، وحمل مخطوطاتها التي استقر بعضها في مكاتب مصر والبعض الآخر وصل إلى أوروبا على يد الجنرال الملقب سليمان باشا وهو جنرال فرنسي كان يقود الحملة المذكورة ويعرف بإسم الجنرال سيف الفرنسي” 2…
بعد دخول بلدة شبعا من قبل القائد إبراهيم باشا طلب مستشاره الشيخ جرجس الدبس الاتصال بالثوار ومفاوضتهم على الاستسلام مقابل السلام والأمان وذلك بقصد تصحيح الأخطاء التي ارتكبت من قبل ولاته في السابق وتحسين صورة الحكم المصري وغايته أن تبقى بلاد الشام جزءاً من مملكة والده محمد علي باشا بعد فصلها عن الإمبراطورية العثمانية. وفي هذا الصدد يقول الشيخ الدبس أنه بينما كان سائراً إلى الثوار شاهد في خراج بلدة شبعا اثنين من عساكر الأرناؤوطي ممسكين بإمرأة فرجع مسرعاً وأخبر الباشا الذي طلب من اليورجي أن يردعهما عنها فلم يمتثلا، فما كان من إبراهيم باشا أن قاد بغلته بنفسه نحوهما، وما إن وصل إليهما حتى أمر بقتلهما3.
أثناء إقامة العسكر في بلدة شبعا ، وبعد أن غادرها القائد ابراهيم باشا، أمر الضابط المسؤول عن الفرقة المتواجدة مختار البلدة السيد ابراهيم الخطيب والوجيه الأورثوذوكسي الشريف شاهين هدلا أن يجلبا إليه النساء القاطنات في البلدة كونهن في نظره سبايا حرب لأنهن من أتباع الثوار، غير أن السيدين المذكورين ردّا عليه قائلين: “يهون علينا تسليم نسائنا وبناتنا على أن نسلم من هم للشرف آياته وللعرض حماته”4.
وفي هذا الصدد أيضاً يقول المؤرخ ميخائيل مشاقة5 إن الدروز أرسلوا الشيخ حسن البيطار من بلدة راشيا، وهو من المقربين من شبلي باشا العريان، ليتفاوض مع القائد إبراهيم باشا حول التقارب وإنهاء النزاع، فذهب الشيخ المذكور وقابل الباشا، وبعد أن جلس وإيّاه طويلاً حيث استلطفه وانشرح لحديثه ولباقته. ويضيف مشاقة القول إن عباءة الشيخ حسن البيطار كانت بها خروق من البارود والرصاص فقال له إبراهيم باشا : هل كنت تشارك في الحرب؟؟” أجابه الشيخ :
– نعم..
– وهذه الخروق؟؟
– إنها بارود ورصاص جنودك
– ومع هذا لم تزل حياً !!
– إذا الله تعالى لم يأمر بالموت فلا قوة في الأرض تقدر على ذلك، وإذا شئت موتي فأنا بين يديك.
هزّ القائد إبراهيم باشا برأسه مطولاً ثم سأل الشيخ وقد امتلأ بالإعجاب لهؤلاء القوم الذين دوّخوا عسكره:
– هل جماعتك كلهم بهذا الإيمان؟
– ربما كنت أضعفهم يا سيدي القائد..
بعد هذا الحوار قال القائد للشيخ: أنا لا أريد الموت لأحد، ولكن جماعتك يسعون إلى قتل أنفسهم.
أجاب البيطار: هم الآن يلتمسون من جانبكم السلام والأمان.
قال الباشا: شرط تقديم السلاح..
قال الشيخ: إنهم ملتزمون بما تأمرون به، فليصدر أمرك بالسلام ووقف القتال وليذهب معي بعض جنودك كي يجمعوا السلاح وتسليمكم إياه. وهكذا حصل وسلّم الدروز أربعمائة بندقية فكرّم القائد إبراهيم باشا قائد الثوار شبلي باشا العريان الذي وُلّي على إمارة الرُّها في العراق.
بعد تلك المعارك لباس أضعفت قوى الموحدين الدروز وخصوصاً في بلدة شبعا، كان أن رحل معظمهم والتحقوا بأقاربهم وأنسبائهم في قرى وادي التيم، ومنهم من انتقل إلى بلاد الجولان وإقليم البلان وضواحي الشام وسواها من أماكن تواجد الموحدين الدروز.
ولتاريخه لم تزل تعرف ثلاث عائلات في حاصبيا بـ “دروز شبعا” وفي هذا الصدد لا نعلم طبيعة الصلة بين كثير من العائلات في بلدة شبعا حالياً والتي تحمل على سبيل المثال اسم آل ماضي وآل الخطيب وآل سرحان وآل حمدان وآل السعدي وآل وهبه وآل نصر الله وآل غانم وآل زهيري وآل برغشه وسواها.. ومع هذا نجد العديد من الصداقات والمودة التي تجمعهم، وهم ينادون بعضهم بعضاً بأبناء العم والله أعلم .

يللــــي بيخِفّــــو رجليــــه بيتعــــب راســــو

إحفــــظ لسانـــك
فهـــو حصانــــك

أيام الترام الكهربائي ركب أحدهم من ساحة البرج إلى الحرج لزيارة بعض الأصدقاء.في وطى المصيطبة، جاء عامل قطع التذاكر، وكانت قيمة تذكرة الركوب يومها خمسة غروش سورية حجر. أدخل الراكب يده في جيبه وأخرج ما اعتقد أنه قطعة الخمسة غروش المطلوبة، لكنه في الحقيقة أعطى الجابي خطأ ليرة ذهبية وكانت هذه تشبه بحجمها قطعة الخمسة غروش السورية بالشكل واللون. وبعد عودته إلى منزله تفقد دراهمه فإذا به يكتشف أنه قد أخطأ ودفع ليرة ذهبية لجابي التذاكر بدلاً من الخمسة غروش.
إحتار في أمره وبدأ يفكر بوسيلة تساعده على استرجاع القطعة الذهبية الثمينة، ولم يجد في نهاية الأمر سوى التوجه إلى مدير الترام وكان آنذاك السيد فيليب رزق الله ومركزه ساحة البرج. أخبره بما حدث معه. فأجابه المدير: هل تعلم رقم الترام والساعة التي ركبت بها؟ أجابه بلا حتى وأنني لا أعرف الرجل الذي قبض مني الأجرة.
إستمهله المدير وطلب منه أن يأتي بعد ساعتين إذ “ربما نكون قد اهتدينا إلى الموظف المذكور ونعيد الليرة”.
في نهاية الوقت المحدد رجع الرجل إلى المدير فنقده الليرة عينها فتعجب الرجل لهذه السرعة والتوقيت ثم تجرأ وسأل المدير : كيف وجدتم الليرة؟
أجاب المدير: الذي قبضها منك افتقد الدراهم المجموعة معه بعد انتهاء نوبته من العمل فرأى الليرة فأرجعها لي قائلاً إنها ليست له فهي بذمة الشركة إلى أن يظهر صاحبها.
سرّ الرجل بالطبع لأمانة الموظف ولهمة إدارة الترام لكنه سأل المدير قائلاً: عندما أتيت إليكم وقصصت عليكم الأمر طلبتم مني أن أغيب ساعتين ثم أرجع إليكم، فما الداعي إلى غيابي هذه المدة والليرة كانت بحوزتكم؟
أجاب المدير لربما لسانكم قد خانكم وسبب لكم ما أقلقكم. قال الرجل : بالله عليكم أخبروني كي أتعلم من أخطائي.
قال المدير: يبدو أنكم أخبرتم سواكم بما حصل معكم فأتى أحدهم فوراً إلينا وطالب بما طالبتم فأمهلناه الوقت ذاته لاعتقادنا أنه ربما لها صاحب آخر أحق منه فيأتي فيطالب بها. وكوننا اقتنعنا بإجابتكم وبأنكم صاحب الغرض المفقود لهذا أعطيناكم الليرة وإن كان بعد تأخير ساعتين من الزمن.
كان درساً ثميناً من المدير يذكّر بالحديث النبوي الشريف:”استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”. وكم من مرة ينزلق لساننا بأخبار أو أمور ثم نعود ونندم على ما قلناه. وفي أمور المال والتجارة فإن هذا المبدأ أساسي ومعروف وأكثر التجار الحصيفين يلتزمون به فأنت لا يمكنك أن تأخذ منهم لا حقاً ولا باطلاً في كل ما خص تجارتهم وهذه الحكمة يتوارثونها أبا عن جد.
أثناء الحرب الأهلية اللبنانية المشؤومة ما بين العامين 1976 – 1989 زار الدكتور هنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية آنذاك بيروت عدة مرات، وكان معروفاً بخبثه ودهائه وطول باعه في السياسة الدولية كما أنه كان باعتباره يهودي الأصل متعاطفاً مع إسرائيل.
في إحدى زياراته إلى لبنان استقبله في مطار رياق العسكري رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك سليمان فرنجية، وبينما كان الرجلان يتباحثان في الوضع اللبناني وأوضاع المنطقة تشعب الحديث وإذا بالدكتور كيسنجر يطرح على الرئيس فرنجية سؤالاً مفاجئاً. قال له: “فخامة الرئيس، في رأيكم من أولى بحماية الأماكن المقدسة في إسرائيل: اليهود أم المسيحيون أم المسلمون؟”
أجاب الرئيس فرنجية دون تردد: المسلمون. تعجب كيسنجر وسأل عن السبب: فردّ الرئيس فرنجية بجواب مفحم فاجأ وزير الخارجية الأميركي إذ قال: السبب واضح وبسيط. اليهود لا يعترفون بالمسيحية ولا بالإسلام، والمسيحيون لا يعترفون بالإسلام، بينما المسلمون يعترفون بالديانتين الكريمتين ويقدسون أنبياءهما معاً فهم وليس غيرهم المؤهلون للحفاظ على القدس والمعالم التاريخية للأديان السماوية الثلاثة.

حكايات الامثال

حكايــــــــات الأمثــــــــــال

الحلقة الرابعة

في هذه الحلقة الرابعة نعرض لبعض حكايات الأمثال الطريفة عن النساء القديرات وتحكمهن برجالهن وما ينجم عن ذلك من مواقف محرجة.

من قِلة الرجال سمينا الديك بو قاسم

مثل يضرب في الرجل الضعيف يحتل مكاناً مرموقاً، لا لعلو همته ومقدرته، وإنما لعدم وجود من يحتل هذا المكان غيره لسبب ما . وحكاية المثل وردت عند سلام الراسي وأنقلها بتصرف:
فما روي أنه بعد خلق الخليقة كان لا بدّ من تنظيم مملكة الطيور فوجه الملاك «جبريل» عليه السلام نداء إلى ذوات الأجنحة للمثول بين يديه، لإنتخاب أركان دولتهم .
وبلغ الخبر مسامع الديك، فجمع حاشيته من الدجاج، ومشى أمامهن مختالاً، وأخذ يحادث نفسه:
« النسر هو أعظم الطيور، ولا يجوز أن أنافسه، حتى لا يحدث انشقاق في المملكة، فهو الملك. أما الباز فله الإمارة . وتبقى لي مشيخة الدجاج لأنه لا يوجد ديك غيري . وهنأ نفسه سلفاً وقال: قبل أن تغيب الشمس سيصير إسمي « أبو قاسم الديك».
وصار يتبرع بالألقاب فيوزّعها على الدجاجات : هذه شيخة وهذه شويخة، وهذه فرخة وهذه فريخة . فدب الحماس في نفوس الدجاجات، وانتظمن في صف واحد يغنين:
« يا شيخ بو قاسم يدوملك هالعز القمح المصوَّل فضلتك والرز»
وحدث أن هوجم الخم، فهربت الدجاجات وبقي الديك وحيداً في المعركة، فأخذ يصيح: « يا شيخة يا شويخة . يا فرخة، يا فريخة فسمعته البومة، فجاءت إليه تقول:
« يا شيخ بو قاسم الديك! شيخة وشويخة، وفرخة وفريخة، لشو هالدويخة، من عازة الرجال سموك بو قاسم، وعند الضيق لا رفيق ولا صديق» .
فأصبح كلام البومة قولاً مأثوراً1 .
غير أن سلام الراسي نفسه وفي كتابه « حيص بيص» يورد للمثل حكاية، ربما تكون ملفقة هي الأخرى، لكنها أكثر وجاهة من حكايته السابقة . وهو يرويها عن لسان أبي يوسف، فيقول:
يحكى أن امرأة كانت قد تزوجت رجلاً من أصحاب الغنى والوجاهة، وعاشت معه سنوات قليلة بالعز والكرامة، ثم انقلب دولاب الزمان، وانسدت أبواب الرزق في وجه زوجها، وما لبث أن مات وانقطع الناس عنها، حتى أخوتها وأقاربها فانطوت على نفسها وعاشت وحيدة .
وحدث أن اختل الأمن في البلاد، وكثر اللصوص وطارقو الأبواب. فتزايد قلق المرأة على كرامتها، وعلى ما تبقى من أسباب عيشها ، فلجأت إلى حيلة تردّ عنها كيد الأشرار الذين قد يخطر على بال أحدهم التعرّض لها أو إيذاءها. .
وكان عند المرأة ديك في مزرب داخل البيت، يصيح في الليالي، ويؤنسها في وحشتها، فسمته «أبو قاسم» وصارت إذا سمعت ليلاً وقع أقدام قريبة من منزلها، أو أوجست خيفة من أبناء السوء، راحت تحادث الديك أبو قاسم بإسمه، بصوت مرتفع، بحيث يظن قاصد السوء من خارج البيت أن رجلاً اسمه أبو قاسم موجود في الداخل، ويقول في نفسه: «لعل أبو قاسم هذا من صناديد الرجال، ولا يؤمن جانبه في النزال» فيمضي في سبيله.
وحدث أن جاءت إحدى جاراتها ليلاً تستعير منها بعض الحاجات، فسمعت المرأة في الداخل وقع أقدام جارتها في الخارج، فظنتها رجلاً يريد بها سوءاً، وأخذت تنادي أبو قاسم: « يا بو قاسم طبخت لك مهلبية، أتريد يا بو قاسم أن تتعشى الآن؟ البارودة في الخزانة، إذا فتحت الخزانة انتبه للبارودة يا بو قاسم».
التقطت الجارة وهي في الخارج اسم «أبو قاسم» ورجعت وأخبرت أختها . والأخت أخبرت أمها، والأم أخبرت جارتها . وما لبث خبر أبو قاسم أن بلغ مسامع الأخوة فقالوا: «هذا عار لا يغسله إلا دم أبو قاسم» وصبروا حتى أرخى الليل ستاره وجاؤوا بكامل أسلحتهم . وقبل أن يطرقوا باب أختهم سمعت هي من الداخل وقع أقدامهم، فقالت: « لعل هؤلاء من أبناء السوء أيضاً» وراحت تنادي أبو قاسم مراراً وتكراراً حتى تيقن أخوتها من وجود أبو قاسم في الداخل، عند ذلك اقتحموا الباب، ودخلوا، وصرخوا بأختهم : اخرجي أبو قاسم هذا الذي تخبئينه عندك!!
قالت المرأة:
-مهلاً سأدلكم عليه كي تفعلوا به ما تشاؤون، ولكن انتم أشقائي، والشقيق وقت الضيق، وأنتم تعلمون أن زوجي قد مات منذ سبع سنوات، وقد ساءت ظروفي، وما زالت تسوء يوماً بعد يوم . بينما كثر عدد المتلصصين في الليالي، بالإضافة إلى فارضي الضرائب والخوات، وهادري الأعراض والكرامات، فلم يتحرك وجدانكم، ولم تدبّ النخوة في رؤوسكم إلا عندما بلغتكم أخبار أبو قاسم؟! .
ونهضت المرأة وفتحت المزرب، وأطلقت أبو قاسم الديك في وجوه أخوتها وقالت:
-هذا هو أبو قاسم، إن كنتم رجالاً فاذبحوه. فذهل القوم، وعندما هدأ روعهم سألوها
ـ ولمِ سميتِ الديك أبو قاسم ؟! . فقالت:
ـ «من قِلّة الرجال.
ومنذ ذلك الزمان صرنا نقول : «من قلة الرجال سمينا الديك بو قاسم 2 »
ويقولون في هذا المعنى : «من قلة الخيل شدوا عالكلاب سروج» والمثل الأخير ورد في معجم تيمور بالرواية نفسها .

إلي بيطاوع مرتو بيضمن آخرتو

يضرب هذا المثل في معرض التندر من الحالات التي تقوى فيها سلطة المرأة على سلطة الرجل، والمثل يفترض أن المفروض، وفق قواعد الطبيعة وأحكام الشرع والأعراف أن تكون الكلمة العليا في البيت للرجل، فإذا اختل هذا الميزان أصبح الرجل وضعف شأنه في البيت مثار تندر في المجتمع.  وغالباً ما يتهم الرجل المستسلم لأمر زوجته بالبساطة أو بالغفلة لأنه لو كان «قد حاله» لما سمح للأمور أن تفلت من زمامه.  وحكاية المثل التي سأرويها تتضمن هذا المعنى، إذ يبدو الرجل الضعيف في بيته غشيماً للغاية. وقد سمعت هذه الرواية من الكبار عندما كانوا يتسلون بذكر حالات مماثلة ويعلقون عليها. وفيها أن فلاحاً بسيطاً أراد أن يشتري حماراً ليركبه ويضع على ظهره عدة العمل حين يذهب إلى كرمه، أو حينما يقصد صديقاً بعيداً أو يطلب أغراضاً أخرى، وقال في نفسه إن هذا الحمار سيخفف عني عناء السير وحمل العدة وسيكون لي عوناً على قضاء أموري.
لكن الفلاح المسكين لم يكن «يمون» على المصروف لأن زوجته كانت هي المتصرفة في شؤون البيت، وتقوم بدور وزير الداخلية والخارجية والمالية  فتضع مصروف البيت في زنارها، ولما كان خائفاً من أن «تكسفه» فلا تنقده المال اللازم لشراء الحمار فقد احتال وغافل يوماً امرأته أثناء نومها  واقتنص ثمن الحمار من الزنار، ومضى إلى السوق يطلب حاجته . وبالفعل سرعان ما وقع على حمار معتبر، فدفع الثمن وأخذ يقتاد الحيوان وعاد به مسروراً إلى البيت .
وكان أن ترصّده لصان محترفان فتبعاه حتى خرج من السوق، وغدا وحيداً في الزقاق المؤدي إلى بيته . فتقدم أحد اللصين وانتزع الرسن من رأس الحمار، ووضعه في رأس زميله، ثم مضى بالحمار بعيداً، بينما تابع اللص الآخر السير وراء الفلاح مقوداً بالرسن على أنه الحمار المزعوم .
وحينما وصل الرجل إلى البيت، وأراد أن يفاجئ زوجته بالحمار الذي اشتراه، أسقط في يده، فقد غدا حماره رجلاً فالتفت إليه قائلاً:
-على حد علمي أنني اشتريت حماراً، فمن أنت؟ . فاجاب اللص
-أنا ذلك الحمار الذي اشتريته يا سيدي . فذهل الفلاح وقال له :
-وما الذي جعلك الآن رجلاً . فقال اللص :
-اعلم يا سيدي أنني رجل، لا حمار، لكنني أغضبت زوجتي يوماً حينما طلبت مني حاجة، فلم ألبها لها ولأن غضب النسوان من غضب الرحمن كما يقولون، فقد غضبت مني زوجتي، ودعت علي أن أصير حماراً،  فاستجيب دعاؤها فصرت في هيئة حمار.  لكن يبدو أنها الآن قد ندمت على فعلها، ورضيت عني، فأعدت بقدرة قادر إلى صورتي السابقة.  فأرجوك يا سيدي أن تتركني حتى أعود إلى زوجتي وأولادي الذين ينتظرونني .
رقّ قلب الفلاح الساذج للرجل، وأطلقه، بعد أن أوصاه ألا يغضب زوجته مرة أخرى . وعاد في اليوم التالي إلى السوق، يبتغي شراء حمار جديد، ففوجئ بحماره الذي كان قد اشتراه البارحة، وقد اقتاده اللص الآخر يريد بيعه . فأمسك بالحمار من أذنه، وقال له:
-كأنك عدت إلى إغضاب زوجتك فمسخت حماراً من جديد. ألم تتعلم من المرة الأولى؟! وتابع الفلاح البسيط نصحه للحمار الذي كان يظنه السارق بالقول:  يا بني ! سأعطيك هذه النصيحة لوجه الله فاحفظ دوماً هذا المثال واعمل به: «إللي بيطاوع مرتو، بيضمن آخرتو»

فجرت عبارة الفلاح مجرى الأمثال.

بدك تستريح، شو ما قالت مرتك قول مليح

يضرب المثل في حال التندر بسلطة المرأة على الزوج، وذلك بوجوب عدم مشاكسة المرأة لأن المرأة لا تُعانَد وإن عاندتها فلن يأتيك من ذلك إلا وجع الرأس وفي النهاية ستقبل بالأمر الواقع!!
تقول الحكاية إن أحد الملوك كان يعيش في قلق دائم وتفكير عميق، يكادان يجعلانه ينصرف عن شؤون الرعية وسبب ذلك أن زوجة الملك المحبوبة كان لها رأيها في إدارة شؤون المملكة، تتدخل بالصغيرة والكبيرة وكانت تصدر الأوامر والتعليمات لأهل البلاط والحاشية ولقواد الجيش: أنت اعمل كذا، وأنت لا تعمل كذا، والملك يتفرج حائراً لا يدري كيف ينتهي من هذا الواقع الذي بدأ يسترعي انتباه أهل القصر وتتسرب أخباره إلى الناس. فهو يحب زوجته ويقدرها ولا يريد أن يغضبها لأنها تحبه أيضاً وتخلص له لكنها لا تقبل أن تكون زوجة فحسب بل تريد نفسها «ملكة» مثل الملك بل تظن أنها ربما أقدر منه على إدارة شؤون الحكم والرعية وإن لم تكن تقول ذلك له صراحة على سبيل الاحترام واتقاء المشاكل.
المشكلة أن جميع المحيطين بالملك كانوا بدأوا يخشون الملكة ويسايرونها فلم يجرأ أحد منهم أن يعطيه النصيحة أو يقدم له رأياً في كيفية مواجهة الوضع. أخيراً بلغ الضيق بالملك حداً جعله يوماً يقرر أن يتنكر في ثياب الدراويش ويخرج من القصر فيزور بسطاء الناس لعله يجد بينهم من يعينه بنصيحة أو فكرة تساعده على معالجة الوضع الذي يؤرقه. وقد ساقته قدماه إلى بيت أحد الفلاحين خارج المدينة فرآه سعيداً يتنقل بين ماشيته وبيته وقبو الغلال بنشاط وهو يغني المواويل.تعجب الملك من منظر هذا الفلاح فقرر أن يسأله عن سبب سعادته فأجابه هذا على الفور دون أن يعرف انه الملك:
-سبب سعادتي أنني لا أخالف لزوجتي أمراً، ثم نصح له قائلاً:«بدك تستريح؟ شو ما قالت مرتك قول مليح»!
فجرى كلام الفلاح مثلاً إلى يومنا هذا .

طبخة بهلول

تقال في طعام المضيف إذا تأخر نضوجه، أو تأخر إعداده، وقد يحدث ذلك لأن اللحم المطهو لحم دجاج عتقي «أي كبير العمر» أو لحم شاة كبيرة وربما كان تأخر النضوج سوء تدبير من المشرف على الطبخ، وأياً كان الشأن، فيضرب هذا المثل عند تأخر تقديم الطعام .
بطل الحكاية شخص يدعى بهلول وهو أحد مجانين الكوفة وقد جعلته الأسطورة مثالاً على المجنون العاقل3 الذي يكون مظهره وربما طريقة عيشه الجنون لكنه يخفي في داخله حكمة وهو غالباً من الصعاليك الزاهدين بالدنيا والذين لا يعيرون أي اهتمام لقواعد سلوك المجتمع فهم «أحرار» في ما يفعلون. .ومن هذه القصة ومثيلاتها قيل «خذوا الحكمة من أفواه المجانين» كما قيل أيضاً إن الجنة نصفها بهاليل».
وقد حاكت شخصية بهلول شخصية جحا من حيث طبيعة الرجلين الساخرة لكن التي تحمل دوماً حكمة عميقة من حكم الحياة. وقد ذكر الجاحظ بهلول فقال عنه:
« هو من مجانين الكوفة، وأنه كان يغني بقيراط، ويسكت بدانق4 ».
والحكاية التي نحن في صددها هي أن رجلين تباريا في أيهما أصبر على البرد، فاشترط أحدهما على الآخر أن يبيت الليلة في رأس الجبل، عارياً، شريطة ألا يشعل ناراً ـ وكانت ليلة باردة من ليالي الشتاء ـ وبعد ذلك ينال مكافأة اتفقا عليها .
وفي صباح اليوم التالي للرهان جاء الرجل إلى صاحبه في أعلى الجبل، فوجده كما اشترطا، لم يشعل ناراً . فأقسمه على أنه لم ير النار تلك الليلة، فقال له :
ـ بلى ! لقد رأيت ضوءاً في ذلك الجبل البعيد، لا أدري ما هو، لعله كان ناراً أو ربما ضوء سراج أو قنديل بيت. فسارع رفيقه عندها إلى القول:
-لقد بطلت مكافأتك، لأنك أخللت بالشرط وأنت تعترف أنك البارحة تدفأت على نار .
وبعد جدال، اتفقا على التقاضي، فقصدا بهلولاً وقصّا عليه حكايتهما واشتكى الرجل الذي قضى الليلة الباردة في الجبل من سعي رفيقه لحرمانه من مكافأة يستحقها وقد تعب من أجل الحصول عليها. لكن الرجل الآخر أصرّ على أن رفيقه أخلّ بالشرط.
استمهلهما بهلول وقال لهما اعذراني فقد حلّ وقت الغداء فلم لا تبقيان هنا وتتناولان الغداء معي وسأقضي إنشاء الله بينكما بعد ذلك. وأفهمهما بهلول أنه وضع قدر الطعام على النار .
لكن مرّ الوقت، وحان الظهر، ثم اتجهت الشمس إلى المغيب، لكن الطعام لم يحضر. أخيراً جاع الرجال فعلاً فسألاه متى سيأتي الطعام؟ قال لهما:
ـ إنه على النار لكنه لم ينضج بعد
ولما نفد صبرهما قالا له :
ـ ما هذا الطعام الذي يطبخ يوماً كاملاً لكنه ما زال حتى الآن لم ينضج ؟!
عندها اصطحبهما بهلول إلى حيث القدر، ففوجئا به وقد وضع قدراً مرفوعاً على قائمتين بعلو شجرة عالية والنار تشتعل على الأرض، تحت القدر . فقال الرجل الذي عليه أن يدفع الشرط
ـ سبحان الله! كيف تظن أن هذا الطعام سينضج والنار بعيدة عنه ؟!
فأجابه عندها بهلول:
ـ كيف تزعم إذاً أن صاحبك تدفأ على نار توقد في الجبل المقابل؟ إن حكمي هو أنه عليك أن تدفع له الشرط. وقد فوجئ الرجل بمكر بهلول وحنكته. لكنه بعد تلك الحادثة أصبح يقول في من يؤجل دفع الحقوق أو يتباطأ في عمل: «مثل طبخة بهلول»
فذهب قوله مثلاً.

حلّة حبل

عبارة تقال حين تهبط المصائب فجأة على قوم وهم لا يعرفون من أين أتت لأنها غالباً تبدأ من حادث صغير سرعان ما يتطور إلى فتنة كبيرة. وعندها يحصل مثل هذا الأمر فإنهم يصفون تنامي المصائب بالعودة إلى المأثور الشعبي بقولهم على سبيل التعجب «حلِّة حبل» وربما قالوا في هذا المجال : «الله يجيرنا من حلة الحبل» . فما هي حكاية حلة الحبل؟ .
يقول سلام الراسي نقلاً عن الخوري يوحنا سكّاب في إحدى عظاته :
كانت هناك قرية تعيش في سلام ووئام، وكان عند الشيطان ولد بلغ سن الرشد، فأراد الشيطان أن يمتحن شيطنة ابنه هذا، فطلب منه أن يستعمل شيطنته بأيسر السبل لإثارة فتنة في القرية الآمنة .
وما هي إلا ساعات حتى نشب خلاف في القرية، تطور إلى شجار، فعراك وانقسم أهل القرية بموجبه إلى فريقين متقاتلين . فاستدعى الشيطان ابنه، وسأله: ماذا فعلت لإثارة هذه الفتنة في القرية ؟ فقال الشيطان الصغير :
-حللت الحبل فقط، وتركت الباقي على أهل القرية .
فسأله أبوه:
-أي حبل حللت ؟ . فقال :
رأيت إحدى نساء القرية تحلب البقرة بعدما منّعت 5 عجلها وربطته جانباً . فتسللت وحللت الحبل الذي ربطت به العجل، فأفلت العجل، وركض يرضع ضرع أمه، فقلب سطل الحليب، فانسكب الحليب على الأرض، فغضب الزوج واتهم زوجته بالإهمال، وأنها لم تحكم ربط الحبل جيداً حتى أفلت العجل . وأضاف الشيطان الصغير: بقية القصة تعرفها الآن.
وبالفعل نتيجة لحلّ الحبل وهدر الحليب على الأرض وقعت الزوجة المسكينة في مأزق كبير مع زوجها. وقد حاولت عبثاً التأكيد لزوجها أنها ربطت العجل جيداً كما تفعل كل يوم، لكن الرجل لم يكن لديه تفسير كيف أن الحبل حلّ «من دون سبب» ولم يكن بالطبع يعرف انه بفعل الشيطان الصغير فأصرّ على اتهام زوجته البريئة وبلغ به الإنفعال والغضب حد ضربها، فصاحت المرأة خوفاً من أن يصعد الزوج تأديبه، فوصل صوتها إلى أخوتها الذين يقيمون في الجوار فهرعوا لنصرة شقيقتهم، وأطبقوا على الرجل.
وبسبب الهرج والمرج الذي ارتفعت أصواته في الحي بلغ الخبر أهل الرجل، فجاء أخوته ينتصرون له، واشتبك هؤلاء مع أولئك وما لبثت المعركة أن تطورت، حتى شملت جميع أبناء القرية .
منذ ذلك الوقت، صرنا نقول كلما وقع حادث وحاولنا تطويقه خشية أن يؤدي إلى أزمة أكبر «حلّة حبل» أي أن السبب لا يستأهل أن يسارع الناس للتقاتل من أجله لأنهم لو عرفوا أصل المشكل لهدأت مشاعرهم، أما إذا خشينا أن تفلت الأمور ولا تفلح كل محاولات الصلح وثارات الإنفعالات فإننا عندها نقول: « الله يجيرنا من حلة الحبل6».

صورة من التراث

صورة من التراث
صورة من التراث

القاضي والنقاب

“القاضي والنقاب” للدكتورة عايدة الجوهري

عن قاض فذ وابنته المكافحة لعتـــق المـــرأة فـي السنـــوات الأخيرة لزمن الدولة العثمانية

يتأرجح كتاب الدكتورة عايدة الجوهري “القاضي والنقاب” بين كتابة السيرة وبين تحليل التاريخ الاجتماعي لمنطقة بلاد الشام في فترة انتقالية دقيقة شهدت آخر مراحل الدولة العثمانية واندلاع الحرب العالمية الأولى ثم التغييرات المزلزلة التي ضربت بلدان المنطقة بعد الحرب وإزالة الدولة العثمانية عملياً من الوجود.
أما السيرة فهي تتناول شخصية فريدة في تاريخ القضاء العثماني ثم اللبناني (فترتا الانتداب والاستقلال) هو القاضي سعيد زين الدين. لقد انكبّت المؤلفة على تدقيق وتحقيق الوقائع والتواريخ والوثائق فعادت إلى الصحافة اليومية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن وأضافت معارفها التاريخية والاجتماعية الواسعة بهدف تقديم وصف تفصيلي وجامع في آن واحد لتلك الشخصية الفذّة في إطارها الزمني والجغرافي السياسي. بسبب هذا المجهود قدّمت الدكتورة الجوهري مساهمة مهمة تعين على تتبع وفهم سيرة القاضي زين الدين ومواقفه والآثار التي تركها في كل بلد تسلّم فيه مناصب قضائية، وعرفنا من الكتاب قدر المثالية التي كان يتمتع بها والاعتزاز بعمله وبإستقلاليته واستقامته في أمور العدل وإحقاق الحقوق، إلى حدّ تحذيره لجمال باشا من التدخل في شؤون عمله والقضاء عموماً. ولا بدّ لمن يطلع على الكتاب أن يشعر فعلاً بالفخر لهذا التاريخ الناصع لرجل يكاد يقترب بصمت ودون ضوضاء من أبطال القصص الشعبية، وهو بالفعل عومل كبطل شعبي فتظاهر أهل القدس يتقدمهم المفتي ووجوه العائلات المقدسية احتجاجاً على قيام الآستانة بنقله من مدينتهم، وفي حلب تنصب أقواس النصر وتنشر المقالات في الصحف وتعلق اليافطات للترحيب بقدوم القاضي زين الدين الذي كانت سمعته تسبقه إلى أي مدينة يتم تعيينه فيها.
من ميزات الدكتورة الجوهري، إضافة إلى ذكائها ونضجها الفكري، نزاهة علمية وأمانة في عرض الوقائع دون تدخل من أفكارها هي أو ما تشتهي أن تراه. ونحن أمام مؤرخة وباحثة لا تبدو مهتمة بدفع أي أجندة مواقف أو قناعات بل التنقيب وعرض الوقائع، وفي هذا أظهرت الجوهري في كتاب “القاضي والنقاب” درجة كبيرة من جدية الباحث وصرفت على الأرجح وقتاً طويلاً في جمع مادتها وتحقيقها ثم كتابتها وترتيبها. لكن حماس الدكتورة الجوهري للتحقيق التاريخي جعلها في النهاية تراكم مادة ثرية فعلاً أكثرها جديد وغير منشور بهذا الاتساق والسلاسة والوضوح.
وبينما يتعلق الكثير من تلك المادة بخدمة الهدف الأصلي وهو عرض سيرة القاضي سعيد زين الدين وابنته نظيرة فإن الكثير من تلك المادة تناول الفترة الزمنية الواسعة التي عاش فيها القاضي بكل تفاصيلها وتحولاتها المثيرة. ولذلك نعتقد أن الدكتورة الجوهري انتهت من بحوثها وتنقيبها بمادة ضخمة يمكن أن تكون أساساً لعدة كتب لكن المؤلفة غلبت ميلها إلى تقديم مادة تاريخية غنية وممتعة على “الاستخدام الاقتصادي” لمادة البحث، فكان أن أصبحت لدينا في النهاية مجموعة كتب في كتاب. واحد عن سيرة القاضي زين الدين وآخر عن سيرة ابنته نظيرة التي خاضت، بدعم من والدها التقدمي التفكير، معركة الحجاب ورفع نير سوء الفهم والتحجر الفكري عن كاهل المرأة وقدراتها وإنسانيتها وهذا هو السبب في تسمية الكتاب “القاضي والحجاب”. وهناك مادة لأكثر من كتاب في شق البحث المتعلق بتداعي بنيان الدولة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وقد أضاءت المؤلفة بدقة على تلك الفترة بما في ذلك الإصلاحات التي أدخلتها الدولة العثمانية في محاولات يائسة لرد شبح الزوال، واللافت هو اعتراف المؤلفة بشجاعة بفضل السلطان عبد الحميد في إدخال أكثر الإصلاحات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية جذرية في التاريخ الأخير للسلطنة وهي صورة تناقض تماماً الصورة النمطية المعادية التي لفقها بعض أدعياء الغرب والمفتونين بالإستعمار الأوروبي.
على سبيل الختام، نقول إن كتاب الدكتورة الجوهري جاد وممتع في آن ويفتح الأعين على حقائق جديدة في التاريخ المضطرب لمنطقتنا. إنه في نظرنا إضافة لا بدّ منها إلى مكتبة أي مثقف أو باحث في التاريخ الاجتماعي للبنان وبلاد الشام.

ر.ح.

العدد 10