وُلد الشيخ الجليل التّقي الورع الديّان الشيخ أبو حسين شبلي أبي المنى في بلدة شانيه قضاء عاليه محافظة جبل لبنان في العام 1204 هـ 1788م، نشأ نشأة فاضلة حتى أصبح من المشايخ الأتقياء الأعيان الأجلّاء، امتاز بصدق ديانته ورجاحة عقله وهيبته ووقاره، فكان جهوري الصوت قوي الشخصية محباً للخير وللإخوان راغباً فيما عند الله زاهداً فيما عند الناس، وكانت له عند الأمير بشير الشهابي مكانة وإعزاز وكلمة مسموعة، كان يبذلها لمساعدة كل مظلوم أكان روحانياً أو زمنياً.
بعد فترة من الزمن عقبت وفاة سلفه في مقام مشيخة العقل، كان على أعيان الموحدين الدروز إنتخاب شيخ عقلٍ بدلاً منه. فوقع خاطرهم على الشيخ أبي حسينٍ شبلي أبي المنى في الاجتماع الذي عُقد في مزرعة الشوف، قَبِلَ الشيخ مُكرَهاً بعد الحاحٍ شديدٍ، ولكن ما لبث أن غادر البلاد متجهاً إلى خلوات البياضة الزَّاهرة يخدم إخوانه وينهل من معين المعرفة الإلهيَّة حتى أصبح مقصداً لرجال الدين ومرجعاً بين أبناء العشيرة المعروفية.
دوره البارز في عهد الأمير بشير الشهابي
ورد في كتاب مناقب الأعيان نقلاً عن الشيخ أبوكمال نايف أبي المنى والد سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي أبي المنى، أنّ المرحوم الشيخ أبو حسين شبلي كان يضاهي بوقاره الأمير بشير وقد أضافت العمامة المكولسة على هيبته هيبةً ووقاراً وجمالاً، وزادتها هالة جبهته المنيرة رفعةً وكمالاً وكان الأمير يقدّره ويحترم طلّته ويجلسه إلى يمينه ممّا أثار امتعاض بعض رجال الدين المسيحيين، ففاتحوا الأمير بالأمر أكثر من مرّة حتى وعدهم بأن لا يكرّر ذلك، وكانت المفاجأة عندما زار الشيخ مرّة ثانية الأمير فهُرع نحوه مسرعاً لاستقباله، عندها عاتبه بعض الزعماء المسيحيين فقال لهم هناك قوة خفية دفعتني إلى تكريمه ولم يكن باستطاعتي المقاومة، وهذه الحادثة تكرّرت مع أكثر من شيخ في ذلك العصر، ممّا يدل على قربهم من الله تعالى وتسخير من كان بموقع السلطة لخدمتهم.
محافظته على إخوانه
كان المرحوم الشيخ أبو حسين يتردّد إلى منطقة المناصف في الشوف وتحديداً في بلدة دير بابا حيث كان يحلّ ضيفاً على آل أبي نكد، وكان له سهرة دينية دورية يحييها عادة مساء الاربعاء في خلوات جرنايا قرب كفرحيم وذلك إبّان إقامته المؤقّتة في تلك المحلّة يحيي فيها برفقة مشايخ القرى المجاورة تلاوة الذكر الحكيم وتفسير آيات الكتاب العزيز.
دعاؤه المُستجاب
كان المرحوم الشيخ أبو حسين شبلي أبي المنى، يردّد هذا الدعاء يومياً ويتلوه عند مواجهة الأعداء خاصةً أثناء أحداث 1840 و1845، التي انتصر الموحدون الدروز فيها بعد محاولة الأمير بشير وإبراهيم باشا إبادتهم، وكان يدعو به كلّما احتدم الصراع فيتبارك به المؤمنون المعروفيون، وهذا نص دعاؤه أو ابتهاله رضي الله عنه:
يا قدرة الحق حلّي عَقد ما ربطوا
وشتّتي شمل أعدانا بما ارتبـطوا
يا قدرة الحق سيف الحق قاطعهم
كلّما عَلَوْا في جَبرهم هبطوا.
محافظته وابن عمه المرحوم الشيخ أبو يوسف حمدان أبو المنى على جيرانهم المسيحيين
يُشهد للمرحوم الشيخ أبو حسين شبلي أبي المنى وابن عمه الشيخ أبو يوسف حمدان أبي المنى محافظتهم على حق الجيرة في بلدات الجُرد ولو لم يكن سكانها من بني معروف. يورد الشيخ أبو صالح فرحان العريضي في كتابه مناقب الأعيان أنه بعد انتهاء معارك 1840 و 1845 وانتصار بني معروف دخلت القوات الفرنسية إلى قرى الموحدين الدروز للاقتصاص كما تزعم من مسببي المجازر التي وقعت آنذاك بحق النصارى من قبل الموحدين الذين كانوا في موقع الدفاع عن أنفسهم، ولمّا وصلوا إلى الجرد- مشارف بلدة شانيه فكّر البعض بمغادرة البلدة وتحييد العائلات تفادياً للخطر، إلَّا أنّ الشيخ وابن عمه ورفاقه قرّروا ملاقاة الفرنسيّين عند مدخل القرية، وعند مواجهتهم مع القوات الفرنسية تقدم الشيخ من قائد القوات الفرنسية طالباً منه عدم الدخول إلى القرية حاملاً في قلبه قوة اليقين فأجابه القائد أنّه آتٍ ليقتصّ من قتلة المسيحيين ومن الذين اعتدوا على أملاكهم، فجاوبه الشيخ بكل قوة وبسالة: نحن لم نعتدِ على أحد، أجابه القائد متسائلاً: وما الإثبات على ذلك، عندها قُرِع جرس كنيسة بلدة بحمدون. فقال الشيخ هذا هو الإثبات إذ لو حصل اعتداء على البلدة لما كان جرس الكنيسة صالحاً ليُقرع فأمر القائد الفرنسي قواته بالتراجع عن البلدة وذلك ببركة الشيخ ويقينه وكما قيل «يقيني بالله يقيني».
ابرز كراماته
من أبرز الروايات المُتناقَلة في بلدته شانيه عن أقاربه، أن الشيخ طلب مرّة من حرم ابن عمه وهي شيخة فاضلة أن تُحضّر الزَّلابية وهي من أصناف الحلوى المقليّة بالزَّيت فأجابت لا زيت لدينا في البيت، فقال لها من قلب مليء بالإيمان: «حضّري العجين واتكلي على الله»، فنزلت عند رغبته ولم يمضِ وقت يُذكر حتى وصل ضيوف أجاويد من بلدة بشتفين وهم مشايخ من آل فياض الكرام، كانت تربطهم علاقة قُربى وأُخوّة مع عائلة الشيخ، وقد حملوا معهم هدية زيت زيتون وكأن الشيخ بحدسه وصفاء عقله كان يتوقع تشريف الضيوف وانَّ عليه تكريمهم ولمَّا لم يكن لديهم زيت شعر بأن هدية زواره ستكون زيتاً فتحقّق فيه القول المآثور، «من توكل على الله عز وجل كفاهُ جميع مهمَّاته، وجبر العالمين على مرضاته».
وفاته
شَيّد هذا المقام الجليل
رجا رضا رب الفلك
الشّهم بين أقرانه
يوسف بك عبد الملك.
أمّا ضريحه فيظهر عليه نقش بديع مُتقَن يضم آيات قرآنية كريمة، كُتب على جهته اليمنى «لا إلهَ إلَّا هو فاتَّخذه وكيلاً واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً». أمّا على الجهة اليسرى فكُتِب «إنَّ هّذِهِ تَذْكِرة فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً»، كَما كُتبت آية الكرسي على الشاهد لجهة الرأس وعلى الجهة الأُخرى كُتبت أبيات من الشّعر تؤرّخ لوفاته جاء فيها:
يا زائراً ذوي الفخر السَّني
من فازَ بالأعمال طوباه هني
قد حلّ في الفردوس مقعده لوا
في زمرة الأبرار فوزاً قد جني
أعني به الشيخ الجليل وطاهراً
الحاذق الديّان شبلي أبي بالمني
أهديته مدحاً بتاريخه رقا
فاز بجنَّات النعيم لقد هني (1272 هـ)
هذا غيض من فيض ممّا هو مُتناقَل شفهياً عن هذا الشيخ الجليل رحمه الله ورزقنا وإياكم حُسن الخِتام وعسى أن نكون من المقبولين عند الله عز وجلّ.