الشيخ محمد أبو شقرا في ذكرى مرور 25 عاما على وفاته
شيخ العصر
الشيخ محمد أبو شقرا طبع زمانه بطابع لا يمحى
وأعطى الموحدين مؤسسات وأنظمة وهيبة وكرامة
يوافق الرابع والعشرون من تشرين الأول 2016 الذكرى الخامسة والعشرين لوفاة الشيخ محمد أبو شقرا عن عمر إحدى وثمانين سنة قضاها في الجهاد والبذل والتضحية وخدمة طائفته ووطنه والقضايا العربية والإسلامية.
نتذكّره في هذه المناسبة ونترحّم عليه كما نتذكّره ونترحّم عليه عند ذكر مآثره ورؤية إنجازاته واستعراض مواقفه. إنه أحد الرموز الروحية والوطنية. والرموز خالدة في صفحات التاريخ، ماثلة في الذاكرة الشعبية حيّة في ما تركته من أعمال، وخصوصاً من مؤسّسات تدرُّ الخير العام والنفع المستدام.
الشيخ العلم
أشتهر العديد من الرؤساء الروحيين عند الموحِّدين ( الدروز) منذ أن برزوا طائفة إسلامية لها خصوصيتها الناتجة من تفسيرها الخاص لبعض آيات القراَن الكريم. وعُرف هؤلاء الرؤساء الروحيون بلقب شيخ العقل منذ أواسط القرن الثامن عشر، وكان لمعظمهم شهرة في أحد الميادين التالية: الفقه، والعلم، والأدب، والشعر، والزهد، والتقوى والتصوّف، والمواقف من أرباب الأمور، وأشهرهم وأشهر أولياء وعلماء الموحِّدين ( الدروز) قاطبة هو الأمير جمال الدين عبد الله التنوخي المعروف بالأمير السيد ( قدّس الله سرّه).
ومع تبدّل الزمان والأحوال والدول، والانتقال الى الحكم النظامي في لبنان الصغير منذ سنة 1861، ثمّ في لبنان الكبير منذ سنة 1920، صار لمشيخة العقل دور رسمي تمثيلي، قُدّر للشيخ محمد أبو شقرا أن يقوم به وأن يجلّي فيه بما كان عنده من صفات ومزايا وقوّة شخصيّة وحسن تمثيل، وبما أقام من مؤسسّات وأحدث من إصلاحات وتنظيمات، وإتخذ من مواقف جريئة ووطنيّة حتى يصح القول إنّه ظاهرة قد لا تتكرّر، وقد لا يجود الزمان بمثله.
إن الحديث عن الشيخ محمد أبو شقرا يتطلّب أكثر من مقالة مهما كانت طويلة حتى إنه يتطلّب أكثر من كتاب، ذلك أنه تصعب الإحاطة بجميع جوانب شخصيّته وحياته الحافلة بالنشاطات المتعدّدة والإنجازات الكثيرة، وبالجهاد في ميادين مختلفة منذ أن حمل السلاح، وهو فتى، في سنة 1925 ليجاهد في الثورة السورية الكبرى التي أعلنها وقادها سلطان باشا الأطرش، وليجاهد بعد ذلك في سنة 1945 مدافعاً عن مدينة دمشق ضد اعتداءات الفرنسيّين عليها، ومنذ أن انبرى إلى ساح العمل الخاص فأسّس شركة للنقل وغدا رئيساً لمجلس أرباب العمل والعمال لنقابة السيارات والسائقين في الجمورية العربية السوريّة، ثمّ حين تسلّم مشيخة العقل في لبنان نزولاً عند طلب أبرز القادة الروحيين والسياسيين الدروز، فكان الشيخ العلم، وكان شيخ العقل في الطائفة، وعقل الشيخ في الوطن، لدوره الكبير على صعيد الطائفة وعلى صعيد الوطن لبنان.
بداية المسيرة
أُنتخب الشيخ محمد شيخ عقل في اجتماع حاشد في مقام الأمير السيد عبد الله (ق) بتاريخ 29 نيسان 1949 ضم كثيراً من رجال الدين وعلى رأسهم شيخ العقل الشيخ محمد عبد الصمد، والكثير من الفعاليات الزمنيّة، وعلى رأسهم الأمير عادل أرسلان وكمال بك جنبلاط. وكان الشيخ محمد مسمّى، بناءً على ثنائيّة مشيخة العقل التي كان معمولاً بها، إلا أنه أعلن منذ البداية نهجه المتحرّر من الفئويّة والغرضيّة ووضع نفسه في خدمة الجميع بقوله في أول خطبة له عند استقباله في دار المختارة لدى قدومه من سورية بتاريخ 5 حزيران 1949،وهو أنه لا يعتبر نفسه ممثلاً لحزب دون آخر، أو لفئة معيّنة أو منطقة، بل يعتبر نفسه مسؤولاً لدى كل فرد من أبناء الطائفة، عما فيه خير المجموع، وعبداً مأموراً من الحق سبحانه للتوجيه نحو الخير حيثما وجد، والسعي إلى الإصلاح وتوحيد الكلمة.
كان الشيخ محمد يعرف حاجات الدروز ومتطلّباتهم، وبين تاريخ إنتخابه وتاريخ قدومه إلى لبنان، تعرّف أكثر إليها بدراسة أوضاعهم الخاصة والأوضاع العامة، فوضع منذ البداية برنامج عمل من عدة بنود أساسية يحدّد كيفية قيامه بمصالح الطائفة، وتحصيل حقوقها ورعاية شؤؤنها، وإنشاء ما تفتقر اليه من مؤسسات، ووضع ما تحتاج اليه من أنظمة وقوانين، والنهوض بها في شتّى المجالات.
لقد رسم الشيخ محمد الخطوط العامة لمسيرته، وحدّد المبادئ التي يلتزم بها، والأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، والدور الذي يمكن أن تقوم به مشيخة العقل على عتبة النصف الثاني للقرن العشرين. وما كانت المبادئ عنده شعارات تُرفع وتُطلق، بل هي ترجمة عمليّة لصفات تحلّى بها، وإيمان صادق راسخ في النفس يترجم سعياً مخلصاً وعملاً دؤوباً. وما كان برنامج العمل موادَّ كُتبت على الورق، وإنما هو خُطط مدروسة ستنفّذها عزيمة صادقة، وإرادة صلبة تتغلب على الصعوبات مهما كبرت، وإدارة حكيمة وسليمة تتوّخى السبل والمساعدات الضروريّة.
باستعراض ما قام به الشيخ محمد أبو شقرا خلال مسيرته في مشيخة العقل بين سنة 1949 وسنة 1991، نرى أنه حقّق معظم نقاط البرنامج، وأن ما لم يستطع تحقيقه يعود سببه إلى الواقع السياسي والواقع الاجتماعي الدرزي، وتعاقب الأحداث العامة والخطيرة وخصوصا بعد سنة 1975. كما يعود أيضاً إلى الحدود السياسية التي اصطدم بها، وإلى التشدّد في بعض أوساط الطائفة، وإلى محاربته ممن خَشَوْا تعاظم دوره وشأنه. ومع هذا يكفيه فخراً ما قام به، وهو بريء الذمة أمام الله والناس مما لم يستطع القيام به لأنه حاول جهده في ذلك.


“جاهد في الثورة السورية الكبرى سنة 1925 ثم جـــــاهد مدافعاً عن دمشق ضد إعتداءات الفرنسيين سنة 1945”
رعاية شؤون الموحّدين
كان الشيخ محمد أبو شقرا الراعي الصالح لجميع الموّحدين ( الدروز) أنّى وُجِدوا، سواء في لبنان أم في سورية وفلسطين وشرق الأردن، أم في جميع بلدان الاغتراب ، وبناءً على ذلك، وعلى اهتمامه بالكثير من النواحي بشكل غير مسبوق، وبنسبة عالية، تتصف رعايته بالشمول، كما أنّ من الطبيعي أن يأخذ الدروز اللبنانيون القسط الأكبر منها لأن الشيخ محمد هو شيخ العقل عندهم.
تعود المكانة الرفيعة التي حظي بها الشيخ محمد إلى دوره الريادي في الاهتمام بشؤون الموحِّدين الدروز بالوجوه المألوفة سابقاً، وفي وجوه استدعتها الحداثة وسنّة التطور، وأوجدها عقله الخلاّق ونشاطه المميّز. وهي رعاية للشؤون الدينية والاجتماعيّة، واهتمام بالقضايا المعيشيّة، واتصال مباشر وفعّال بالناس، ورعاية لنشاطاتهم، ومطالبة بحقوقهم، والدفاع عن قضاياهم، والدفاع عن كرامة الطائفة ضد المسيئين والمفترين، وتنظيم شؤون الدروز، مما سيجري الحديث عنه.
الرعاية الدينية والاجتماعيّة
كانت الزيارات التي يقوم بها شيوخ العقل، والسهرات التي يحيونها في المساجد ( المجالس) والخلوات، وأحياناً في البيوت، محدودة وتقتصر على القيام بالفروض الدينيّة. لكن الشيخ محمد كثّفها وجعلها متتالية وأحياناً شهرية أو أسبوعيّة، يحدّد مكانها وزمانها في السّهرة أو الزيارة الحاصلة، حتى بلغ عددها المئات، منها عدة زيارات للقرية الواحدة، وشملت الأكثرية الساحقة من القرى اللبنانيّة المأهولة بالدروز. كما أنّه طوّرها إلى لقاءات مع الزمنيين، والى مناسبات وعظٍ وإرشاد يلقي فيها الخطب والمواعظ والإرشادات.
إن تلك الزيارات والسهرات والاجتماعات الدينية، بمختلف وجوهها وأمكنتها، كانت مناسبات للتثقيف الديني والتوجيه الاجتماعي، والتوعية، والدعوة إلى التمسّك بأهداب الدين والعمل بنواهيه، كما كانت واحداً من المجالات التي شاءها الشيخ محمد لمعالجة بعض المشكلات الاجتماعيّة وإبداء وجهة نظر الدروز في القضايا المطروحة والأمور المصيريّة وتبليغ الرسائل إلى الجهات الرسميّة وإلى غيرها من الجهات. ومن هذه المجالات النداءات والبلاغات المتكرّرة التي تحضّ على التشبّث بالعادات والتقاليد والقيم والفضائل، وتظهر مساوئ الآفات المتفشيّة بقوّة وبسرعة في جميع المجتمعات.
هناك أمر آخر من الرعاية الاجتماعيّة هو رعاية الشيخ محمد لعشرات المصالحات في القرى، وقد كثرت إبّان الأحداث اللبنانيّة بين سنتي 1975 و 1990. وكانت كل من هذه المصالحات تنهي النزاعات الدمويّة بشكل جذري، وذلك بصفح ذوي القتلى، وبعدم مطالبة العديدين منهم بحقوق ماديّة إكراماً لراعي المصالحة الشيخ محمد وقد تم العديد من تلك المصالحات بمساهمة الزعيم وليد جنبلاط وكان يشارك الشيخ محمد أحياناً في الرعاية بعض زعماء الدروز أو وجهاء ومشايخ أبرزهم المرجع الروحي الشيخ أبو حسن عارف حلاوي.
يضاف الى ذلك وجوه شتّى من الرعاية، منها تقديم المساعدات للمنكوبين من خلال صناديق ولجان شكّلها الشيخ محمد أو اشترك في تأسيسها، كمساعدة منكوبي جبل العرب إبّان اعتداء الشيشكلي عليهم في سنة 1954، ومساعدة منكوبي زلزال آذار 1956 ، ومساعدة منكوبي المتن الأعلى على يد القوات الكتائبية في أواخر سنة 1976، ومساعدة المتضرّرين من الأحداث اللبنانيّة بتأسيسه مع الأمير مجيد أرسلان ووليد بك جنبلاط صندوق الطوارئ سنة 1982، والمؤسسة الدرزية للرعاية الاجتماعية سنة 1983. ومن وجوه الرعاية رعاية المؤسسات والجمعيات والنشاطات الفكرية، التي أولاها الشيخ محمد اهتماماً كبيراً ودعمها ورعى مناسباتها.
الاهتمام بالمغتربين
إن اهتمام الشيخ محمد أبو شقرا بالمغتربين، والتواصل المستمر معهم، ورعاية نشاطاتهم ومؤتمراتهم، ومتابعة جميع شؤونهم، أمور غير مسبوقة من قبل مشيخة العقل. وقد بدأ الشيخ محمد بذلك بعد أشهر من تسلّمه لمهامه، فعيّن بالاتّفاق مع نظيره الشّيخ محمد عبد الصمد المعتمدين من قبل مشيخة العقل ليقوموا بممارسة الطقوس الدينية في المغتربات. وناشد الشيخان المغتربين في ندائهما الأول لهم أن يرعوا حرمة العهود، ويثبتوا على المألوف من دأب الدروز وتقاليدهم.
كما أولى الشيخ محمد أبو شقرا شؤون المغتربين عناية كبيرة فراسلهم وراسلوه، وطرح له معتمدو مشيخة العقل المشكلات والصعوبات فساعدهم في حلّها وفي التكيف مع الواقع الجديد دون التخلّي عن الأصالة والمبادئ وما فعله في هذا المجال عزّز صلات المغتربين بالمقيمين وصلتهم بالوطن الأم، وزاد التحام الفروع بالجذوع والجذور، وساعد المغتربين على التمسّك بعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم وبهويتهم الدينية والوطنيّة، وساهم أكثر في اتّحادهم في المغتربات، وفي تأسيس الجمعيات والنوادي والبيوت العامة التي تجمعهم في المناسبات، والتي عُرف كل منها في المدينة التي أُقيم فيها باسم “ البيت الدرزي”.
المطالبة بحقوق الطائفة
من مآثر الشيخ محمد أبو شقرا مطالبته بحقوق الدروز كأفراد لكلٍّ منهم الحقّ بتسلّم وظيفة او مركز في الدولة هو أهل له، ومطالبته بحقوق الطائفة ككل لدى الدّولة والمؤسسات، ومطالبته بتنفيذ المشاريع وإيصال الطرقات إلى القرى والمناطق المأهولة بالدروز. وقد قدّم في هذا المجال عشرات المذكّرات والعرائض والاحتجاجات والنداءات إلى المسؤولين، مرفقة ببيانات إحصائية تظهر عدد الوظائف والمراكز في كل قطاع أو مؤسسة وعدد الدروز فيها، مما يظهر الغبن اللاحق بهم. وهذه البيانات والإحصاءات اعتمدها وزراء ونواب الدروز وقدّموا على أساسها المذكرات موّقعة منهم ومن الشيخ محمد الذي كان أبرزهم في المطالبة بحقوق الطائفة لانشغالهم بالأمور العامة وبحقوق المناطق والناخبين أكثر من انشغالهم بحقوق الطائفة العامة.
علّق الشيخ محمد على سياسة الإهمال والإجحاف المعتمدة إزاء الدروز فقال: إن ما يؤخذ من الدروز لا يفقرهم، ولا يغني من أخذه، ولكن العدل جميل والإنصاف واجب والتوزيع يجب ان يكون، في النظام الطائفي السائد في لبنان، قائماً على أساس النسب المقرّرة للطوائف. وكان يحرص، من أجل حفظ حقّ الدروز، على استمرار هذا النظام واستمرار توزيع المناصب والوظائف على الطوائف على أساسه “كي لا تأكل السمكة الكبيرة السمكة الصغيرة” بحسب قوله.


“رعى خلال سنوات الحرب عشرات المصالحات التي تكللت بإنهاء النزاعات وصفح ذوي القتلى وأسقاط الكثيـــــرين للحقــــوق المادية إكراما لـــه”
الدفاع عن كرامة الطائفة
كان الشيّخ محمد أبو شقرا أبرز رجال زمانه في الدفاع عن كرامة الطائفة، لأنه كان مركّزاً على كل ما يعنيها، ومتابعاً أكثر من غيره لما يسيء إليها وينال من كرامتها. وقد تصدّى للمفترين والمسيئين، وكان يمنع نشر أي كتاب أو منشورة تتضمن إساءة ولو بجملة إلى الدروز، ويوقف تمثيل أي مشهد لمسرحية فيه شيء من هذا القبيل، ويطلب من كل مسيء، عن قصد او عن غير قصد، الحضور إليه لتقديم الاعتذار أو نشر الاعتذار في وسائل الإعلام، حتّى بات الجميع يتهيّبون الأمر ويمتنعون عن نشر وتمثيل وتصوير ما يتضمن إساءة للدروز معلنة كانت او مضمرة.
وكثيرة هي الكتب التي مُنعت وأوقف بيعها،وتلك التي أُتلفت، لأنّها تتضمّن افتراءات واتهامات وأباطيل تشّوّه عقيدة الموحّدين وتنسب إليهم ما هو بعيد عن مفاهيمهم وقيمهم، ومناقض للحقيقة وللواقع، حتى إن الشيخ محمد طلب إحراق ألف نسخة من كتاب فيه إساءة إلى المعتقد عن جهل وعن غير قصد، لكنه عوّض على المؤلف ثمن تلك النسخ.
وكان الشيخ محمد يطلب ممن يعتمدون على كتب مؤلّفين مغرضين أو يعوزهم الاطلاع الكافي أن يعودوا إلى المراجع والمصادر الصحيحة، وأن يعتمدوا في ما يكتبون على ما يصدر من الدروز، وعلى ما يكتبونه، وهو من أجل هذا كان يوضح، في بعض ما يكتبه من مقالات وما يقوله من خطب، حقيقة مسلك التوحيد، ويؤكّد على إسلام الموحِّدين لدحض افتراءات واتهامات الجاهلين والمغرضين. كما أنّه كان يشجّع أي مؤلّف يوضح ذلك أو يكتب تاريخ الدروز الصحيح.
كان الدفاع عن الكرامة الشخصيّة لأي درزي، والدفاع عن الكرامة العامة للدروز، نهجاً سار عليه الشّيخ محمد قبل أن يتولّى مشيخة العقل، وتابعه بشكل أعم وأشمل، ومن موقع القوّة والمسؤولية بعد أن تولاّها. وقد ثارت ثائرته وحرك فعاليات جبل العرب في سورية للاحتجاج والتظاهر في العام 1951 ردا على التعرض بالإساءة من موظف حكومي للمرحوم عارف النكدي الذي تسلّم وظائف رفيعة عدّة في الجمهورية العربية السورية.
وفي آذار من السنة المذكورة، وبعد حادثة الباروك التي افتعلتها السلطة اللبنانيّة لإفشال المهرجان الذي أقامه الزعيم كمال جنبلاط في البلدة، أوقف حاجز للدرك مقام في سهل السمقانية وفداً من نخبة رجال الدين وفتّشهم. فانبرى الشيخ محمد للدفاع عن الحرية المضطهدة في الباروك، ثمّ انبرى للدفاع عن الكرامة المهانة على حاجز قوى الأمن، وحرّك عموم الدروز فقدّموا العرائض الاحتجاجيّة، وصرّح يومها بأن رجال الدين الدروز لا يُهرّبون السلاح ولا يحملونه، لكنهم سيحملونه للدفاع عن الكرامة إذا اقتضى الأمر، وهدّد بالثورة، ووقف الى جانبه زعماء الدروز في لبنان وسورية والمعارضون للحكم من سائر الطوائف. وفي مناسبة لاحقة للحادثة وجد نفسه أمام بعض رجال السطلة فخاطبهم قائلا: بلّغوا رئيس الجمهورية أن من الخير له وللبلاد أن يضع حدّاً لهذه التصرّفات وإلا سيكون لنا معه شأن آخر. فما كان من رئيس الجمهورية بشاره الخوري الا أن أرسل إليه محافظ جبل لبنان فؤاد صوايا للاعتذار منه ومن رجال الدين المجتمعين معه في بلدة عبيه، ثمّ أعطى الأمر بمنع تفتيش رجال الدين الدروز.


تنظيم شؤون الطائفة
رأى الشّيخ محمد أبو شقرا ضرورة مركزة القرار الديني في مشيخة العقل، وتطوير بعض الطرائق المتبعة، ووضع أنظمة جديدة تتماشى مع روح العصر وسنّة التطوّر، فطرح الأفكار والمشاريع على نظيره الشيخ محمد عبد الصمد ، وجرى تنفيذها باسم مقام مشيخة العقل، وقد استطاع خلال هذا التعاون المشترك تحقيق بعض الأمور، كما استطاع بالتعاون مع القيادات السياسيّة تحقيق أمور أخرى. وهذا أهم ما تحقق في مجال تنظيم الشؤون الدرزية.
• توحيد الطقوس الدينية: يقترن باسم الشيخ محمد أبو شقرا توحيد الطقوس الدينية في لبنان وسوريّة، وذلك بتوحيد نص عقد الزواج وخطبته ومقدّمة الوصيّة، وتوحيد نص الصلاة على الميت، والقيام بالصلاة من قبل مصلّين يتقنونها. وقد رأى الشيخ محمد توحيد الرحمة على الميت عند الصلاة عليه، لأنّها في الأصل دعاء لله تعالى واستغفار منه تحوّل مع الزمن إلى تأبين للميت وشهادة به مبنيّة على حسن الظن، وقد رأى ضرورة إعادتها إلى الأصل وإخراجها من دائرة التأبين والشهادة، لأنها كشهادة كثيراً ما تخضع لمزاج المصلّين وللعوامل السياسيّة والمصلحيّة، وكثيراً ما يساء إعطاؤها فيزاد منها لغير المستحق وينقص للمستحق.
• تنظيم رجال الدين: رأى الشيخ محمد أبو شقرا ضرورة تنظيم رجال الدين وفق صيغة بعيدة عن التنظيم الإكليريكي عند المسيحيين، وفي إطار يتوافق مع مسلك التوحيد العرفاني البعيد عن المظاهر والطقوس والوجاهة. لقد عمل على إحصاء رجال الدين وتدوين أسمائهم في سجلات، وتحديد كيفية الانتساب إلى سلكهم بطريقة تركّز على الجوهر لا على المظهر. وكان يرى أن هناك خطأ في تصعيب دخول المريد إلى السلك المذكور، وتقييده بالزِّيّ فيما يتعلّق بالموظّفين والمجنّدين والعاملين، لأن الزِّيّ عنده مظهر لا يوصل الى الجنّة، وعدم التقيد به لا يحرم منها. لذا كان يسهّل دخول المريدين من هؤلاء شرط تزيِّيهم بالزيّ الديني عند أداء الفروض الدينية مع إخوانهم. كما طلب من رجال الدين عدم الانغماس في الشؤون السياسيّة، لأن ذلك منافٍ للتعاليم الدينية التوحيديّة، ولأن عند رجل الدين ما يكفيه عن ذلك، ولأن السياسة لا تدخل شيئاً إلا وتفسده.
كما حرص الشّيخ محمد على ألّا ينتسب إلى سلك الدين ويستمر فيه إلا من يستطيع القيام بشروطه الأساسية والحفاظ على كرامة الشعار الديني. كما رأى ضرورة إنشاء مدرسة للعلوم الدينية تخرِّج مشايخ علماء متديِّنين، وهذا الأمر الذي لم يتحقق في عهده تحقق في سنة 2014 بإنشاء “معهد الأمير السيِّد للعلوم التوحيدية” برعاية المجلس المذهبي ومشيخة العقل الحالية في عبيه، لكنه عوّض عن ذلك بما كتبه من مقالات وخطب ومواعظ في السهرات والاجتماعات والمناسبات والندوات، بهدف الإرشاد والتوجيه والتوعية الدينية.
• إنشاء الهيئة الروحية العليا: تألفت هذه الهيئة في 23 تشرين الأول 1949 من شيخي العقل في لبنان: الشيخ محمد أبو شقرا والشيخ محمد عبد الصّمد، ومن شيوخ العقل في سورية: الشيخ أحمد الهجري، والشيخ أحمد جربوع، والشيخ يحيى الحناوي. وهذه الهيئة هي صاحبة الحق المطلق بمعالجة القضايا ذات المساس بكيان الطائفة العام، أو بمصلحة رجال الدين دون تفريق في الأمكنة والأقاليم.
• إنشاء المجلس الروحي الأعلى: عرض الشيخ محمد أبو شقرا فكرته بتأسيس هذا المجلس في صيف 1950، وتمت الموافقة على نظامه بصفته النهائية في 10 ايار 1952. وغايته العمل على رفع مستوى الهيئة الروحيّة، وتنظيم المعابد والمؤسسات الدينية العامة، وإنشاء المدارس الروحيّة ومعالجة قضايا الطائفة الملّية. لكنه استثني من التشريع القانوني فيما بعد.
• وضع نظام إنتخاب شيخ العقل في سنة 1953: وقد هدف الشيخ محمد أبو شقرا من هذا النظام انتخاب شيخ العقل بموجب أسس قانونيّة ووفق شروط محدّدة، من أجل تجنيب الدروز أزمات هذا الاستحقاق، كالأزمة التي جرت في سنة 1946 عندما انتُخِب الشيخ محمد عبد الصمد خلفاً للشيخ حسين حماده، والأزمة التي جرت في سنة 1949 عند انتخاب الشيخ محمد أبو شقرا نفسه خلفاً للشيخ حسين طليع، والأزمة التي ستجري لاحقاً في سنة 1954 عند انتخاب خلف للشيخ محمد عبد الصمد.
• وضع قوانين تنظيم القضاء المذهبي والمجلس المذهبي وإنتخاب شيخ العقل: كان للشيخ محمد أبو شقرا فضل كبير في إصدار هذه القوانين. وقد صدر القانون الأول في 5 اَذار 1960. وصدر القانونان الأخيران في 13 تموز 1962، وتم إنشاء المجلس المذهبي بموجبهما، وهما يتفقان مع معظم ما طرحه الشيخ محمد من قبل في نظام المجلس الروحي الأعلى ونظام انتخاب شيخ العقل.
تأخر الرئيس فؤاد شهاب في إصدار هذه القوانين وماطل وأخلف بوعود كثيرة قطعها للشيخ محمد، مراعياً بذلك خواطر المعارضين لها، والتوازن بين أفرقاء الدروز المختلفين حول نصوصها، مشترطاً أخذ موافقة جميع النواب الدروز. لذا لامه الشيخ محمد على موقفه هذا، وهاجمه بالرغم من تقديره له وتأييده لمواقفه السياسية، حتّى إنه قال له عند مماطلته بإصدار قانون تنظيم القضاء المذهبي: “هل نحن في مقام رئاسة الجمهوريّة أم في سوق النوريّة”. فكان هذا حافزاً للرئيس على إصدار القانون المذكور بعد أيام.
وكان للشيخ محمد أبو شقرا الفضل الأكبر في وضع ملاكي المجلس المذهبي ومشيخة العقل وبقي العمل بموجبهما حتى صدور قرار تنظيم شؤون طائفة الموحدين الدروز بتاريخ 12/6/2006 المعمول به حالياً والذي وحّد مقام مشيخة العقل.
الاهتمام بالبناء
تميّز الشيخ محمد أبو شقرا عمن سبقه من الرؤساء الروحيين، وعن الكثير من أعيان الموحِّدين (الدروز) ومسؤوليهم، باهتمامه بالبناء.لذا تقترن باسمه مجموعة من الأبنية، منها بناء يحمل اسم “المؤسّسة”، ومنها قرية، الأمر الذي يحمل على القول إنه رجل البناء، وإنه ذو عقل مؤسساتي.
إن اهتمام الشيخ محمد بالمقامات الدينيّة يدخل في صلب مهامه، ومن ذلك تحسين مقام النبي أيوب وإضافة الطوابق والغرف العديدة عليه وإيصال المياه والكهرباء والطريق إليه، وإعادة بناء مقام الأمير السيد في عبيه بعد عبث “القوات اللبنانيّة” فيه خلال حرب الجبل. وإن بناء دار عماطور يندرج في إطار كونه إبن هذه البلدة، وعليه الاهتمام بكل موضوعاتها ومشاريعها، ولكن الفضل الأكبر له هو إصراره على بنائها لتكون داراً لجميع العماطوريين، ومعارضته إقامة أية دار عائلية. وهذا يدلُّ على نهجه الذي عبّر عنه منذ قدومه من سورية إلى لبنان، ووصوله إلى عماطور في 5 حزيران 1949، إذ قال لأبنائها إنه يريدهم كتلة واحدة في سبيل مصلحة البلدة دون أي تمييز بينهم. وهذا ترجمة لنهجه العام الذي تعبّر عنه الأمور الصغيرة كما الأمور الكبيرة. كما أنه حدّد قواعد استعمال الدار، فهي لإقامة المناسبات الثقافية والندوات ولإقامة المآتم دون ندب، والأفراح دون رقص وغناء وموسيقى في داخلها، وهذه القواعد اقتبستها بعض القرى.
أما الأبنية التي شادها الشيخ محمد أبو شقرا ببادرة منه، أو كان له الفضل الأكبر في إقامتها، فهي التالية بحسب التسلسل الزمني لبدء العمل بها:
• دار الطائفة الدرزية في بيروت: وهذه الدار هي من جملة بنود برنامجه الموضوع في سنة 1949. وقد باشر ببنائها معوّلاً على أريحية بني معروف ( الدروز)، ومعتمداً على مبلغ من المال قدّمه له رئيس الجمهورية بشاره الخوري لينفقه كيفما يشاء، فحوّله لبناء دار عامة في العاصمة بيروت تكون للدروز مرجعاً وملتقى بعد أن كانوا يحارون أين يجتمعون في المناسبات وأين يستقبلون زوارهم من الشخصيات الكبيرة، ولتكون أيضاً مقراً لمؤسساتهم وهيئاتهم، ومرجعاً للمّ الشمل وتعزيز الكرامة وإحياء المآثر. وقد احتُفل بوضع حجر الأساس لها في 16كانون الثاني 1953، ودُشنت في 4 نسيان 1965 ، وارتفع عليها العلم الدرزي المخمّس الألوان، كأول بناء درزي يرتفع عليه، كما ارتفع من قبل، ولأول مرّة ،على سيارة مشيخة العقل بوضعه على مقدّمة سيارة الشّيخ محمد.
• قرية المعروفيّة: بوشر العمل بها في سنة 1957 لتكون بيوتاً للنازحين من أبناء جبل العرب بعد أن أُجبروا على ترك الخيام التي أقاموا فيها في محلّة “ وطى المصيطبة” في بيروت. وكان للشيخ محمد فضل فك اشتباك هؤلاء مع قوى الأمن، وفضل تحصيل حقوق قتلاهم وجرحاهم، وتأمين التعويضات لبناء بيوت لهم في مكان اختاره بين الشويفات وعين عنوب حيث عرف باسم “ المعروفيّة” نسبة إلى بني معروف.
• المؤسسة الصحيّة للطائفة الدرزيّة: وهذا المشروع كان كدار الطائفة من جملة بنود برنامج الشيخ محمد. وقد باشر بتنفيذه معتمداً كما اعتمد في بناء الدار على أريحية بني معروف وعلى مبلغ من المال قدّمه له المحسن إلياس شربين أثناء الحوادث اللبنانية لينفقه في سبيل خير الدروز، فجعله لمصلحة مؤسسة تأوي عجزتهم وتستقبل مرضاهم ومرضى سواهم، وقد جرى الاحتفال بوضع حجر الأساس لها في 16/05/1978 ،وجرى الاحتفال بافتتاحها في 04/06/1989.
“بذل جهوداً كبيرة في ما كان يكتبه من مقالات أو يلقيه من خطب، لتوضيح مسلك التوحيد، والتأكيد على إسلام الموحِّدين ودحض افتراءات واتهامات الجاهلين والمغرضين”
“اقترن اسمه ببناء المؤسسات وتوحيد الشعائر الدينية ووضع قواعد السلوك والتحذير من السياسة والمظاهر وبإعفاء الموظفيـن والمجندين والعاملـين من الزيّ الدينـــي”


التميّز في تمثيل الطائفة
كانت مهمة الرئيس الروحي لطائفة الموحّدين (الدروز) محدودة النطاق في الماضي، لا تتعدّى الإطار الدرزي، إلا عندما يضطر هذا الرئيس للوفود إلى ولاة الأمور. ومع شيخ العقل الشيخ حسين حماده (1858-1946) ازداد حضور مشيخة العقل على صعيد رسمي، ثمّ ازداد أكثر مع الشّيخ محمد أبو شقرا مما عزّز موقع الطائفة بين الطوائف. وأسباب ذلك تعود إلى قوّة شخصيّته ومهابته ووقاره ولباقة حديثه وذكائه وحيويّته وشجاعته واشتراكه في الأكثرية الساحقة من القمم الإسلامية الروحيّة، والقمم الإسلامية الروحيّة السياسيّة، والقمم الإسلاميّة المسيحيّة، والعديد من الاحتفالات بالأعياد والمواسم الدينيّة الإسلاميّة، بسبب ازدياد تعاطي رؤساء الطوائف في الشؤون السياسيّة، ولاسيما في الحوادث اللبنانيّة التي جرت بين سنتي 1975 و 1990.
كان الشّيخ محمد ديّنا تقيّاً حافظاً للكتاب الكريم، عاملاً بتعاليمه، وكان على يقين أن الأجر لا يتأتى من العبادة والتقوى فقط، بل يتأتى من العمل لأجل الآخرين ولأجل تحقيق مصالحهم، وأن الأجر الكبير يتأتّى بحسن أداء المسؤوليّة التي يتولّاها المرء وبحسن تمثيل طائفته والوفاء بالتزاماته إزاءها. لذا لم يرَ ضيراً في التعاطي بالشؤون السياسيّة، لأنه تعاطى فيها بهدف خدمة الوطن والمساهمة في حلّ مشكلاته، ومن زاوية “تديين” السياسة لا تسييس الدين، كما تعاطى فيها من موقعه الرسمي التمثيلي لإظهار انفتاح طائفته على الآخرين، وتحقيق مصالحها وتعزيز كيانها.
مثّل الشيخ محمد الطائفة في مناسباتها الخاصة، وترأس قممها الدينية والسياسية، ومثّلها في الكثير من المؤتمرات والقمم داخل لبنان، لكنه لم يمثّلها في أي مؤتمر خارجه إلا في سورية فقط، لأنها الجار والشقيق، ولأنها الوطن البديل الذي عاش فيه ست عشرة سنة. وما عدا ذلك كان ينتدب من يمثله في المؤتمرات التي دُعي إليها في الدول العربية والأسيوية والاتحاد السوفياتي.
كان الشيخ محمد يتميّز في أي مؤتمر أو اجتماع يحضره أو في أيّة قمة يمثّل الطائفة فيها. وكثيراً ما ارتفعت يده مع يد مفتي الجمهوريّة اللبنانيّة ويد رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، يعلنون إتحاد المسلمين، وكان هو يركّز على إلغاء مقولة: مسلم وشيعي ودرزي، الّتي يقصد بها تفريق المسلمين الدروز عن إخوانهم السنّة والشّيعة، ويؤكد على إسلامية الموّحدين وعلى أنهم كالسنة والشيعة طائفة إسلاميّة.
كان الشّيخ محمد أبو شقرا كبيراً مع كبار من رؤساء الطوائف في لبنان عاصرهم والتقى بهم في المؤتمرات والاجتماعات والقمم، وهم المفتي محمد علايا، والمفتي حسن خالد، والإمام موسى الصدر، والإمام محمد مهدي شمس الدين، والبطريرك مار بولس بطرس المعوشي، والبطريرك مار أنطون بطرس خريش، والبطريرك مار نصر الله بطرس صفير، والبطريرك أغناطيوس الرابع هزيم، والبطريرك مكسيموس حكيم، وجارى سائر الرؤساء الروحيين في الانفتاح على بعضهم البعض، وفي تبادل غير مسبوق للزيارات حيث زار مقر البطريركيّة المارونيّة، وزاره البطريرك الماروني. كما زار هو مفتي الجمهوريّة اللبنانيّة ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، اللذين زاراه في منزله وفي دار الطائفة الدرزية، التي عقدت فيها كما في دار الفتوى وفي مقر المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بعض القمم الروحية والقمم الروحيّة السياسيّة.
وكان الشيخ محمد أبو شقرا ممثلاً كبيراً لطائفة قامت بدور كبير قبل أن تصبح الطائفة الخامسة في العدد في لبنان. لذا كان حين يتكلّم في المؤتمرات والمناسبات يتعملق بشخصيّته القويّة وبأطروحاته ومنطلقاته التي يرتكز فيها على تاريخ الطائفة الدرزيّة ودورها وقيمها ومفاهيمها. وكان يتكلم مع المسؤولين على مختلف مستوياتهم بناءً على ذلك. قال ذات يوم في أحد المؤتمرات إنّه كان أول طلب له من رئيس الجمهوريّة هو الحفاظ على الأخلاق. وتكلم في أول مؤتمر إسلامي حضره، وعُقد في 5 كانون الثاني 1952 استنكاراً لمطالبة المحامين تحويل بعض صلاحيات المحاكم المذهبيّة إليهم، فأدهش الحاضرين واستحسنوا كلامه وصفقوا له طويلاً، وقال رئيس المحكمة الجعفرية الاستئنافيّة العليا محمد جواد مغنيّة: إن المسلمين لديهم كافة أنواع الأسلحة إلا أنهم تنقصهم “القنبلة الذريّة” فوجدوها الآن بشخص الشيخ محمد.
قابل الشيخ محمد أبو شقرا الكثير من رؤساء الدول والوزراء والسفراء والقناصل ورؤساء البعثات والهيئات، وزاره الكثير من هؤلاء فأعجبوا بشخصه وبلباقة حديثه وجرأته. وضمّن حديثه ذات يوم مع السفير الفرنسي كلاماً باللغة الفرنسيّة، فقال له بيتين للشاعر الفرنسي كورناي مدلولهما أن عمر المرء لا يقاس بعدد السنوات وإنما بروحه الفتيّة. وتكلّم في أحد مؤتمرات المغتربين الذي انعقد في دار الطائفة الدرزيّة بالإنكليزيّة ليرحّب بهم، لأنّه علم أن الكثيرين منهم لا يعرفون العربية، ثم دعاهم إلى تعلّم اللغة الأم.
رجل المواقف
كان الشيخ محمد أبو شقرا شفافاً في تصرّفاته، صريحاً في كلامه حتى لو إتسم بالقسوة، شجاعاً في قول الحقّ حتّى على الأقوياء الذين يهابهم الناس، مبدئياً في سلوكه وفي تعاطيه، لا يتردّد في اتخاذ الموقف الملائم حتى ولو أبعد المحبين عنه وأغضب الكثيرين منه وأتت نتائجه على حسابه. وقد كان محبّوه يلفتونه إلى ضرورة تخفيف لهجته، وعدم اعتماد الصراحة دائماً وتسمية الأشياء بأسمائها، فكان يجيب أن من واجبه أن يكون صريحاً، وأن يمسك بمبضع الجرّاح لإنقاذ المريض، وأن يقول الحق لأن الساكت عن النطق به شيطان أخرس، وأن يجاهد لإحقاقه ضد مغتصبيه وضد الظلمة، وأن المؤمن القوي المجاهد خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف المستكين.
اتخذ الشيخ محمد أبو شقرا الكثير من المواقف الشجاعة مع المسؤولين وفي المحطّات الصعبة والخطيرة، وأدلى بالكثير من التصريحات والأقوال التي سكت عن قولها الكثيرون، وواجه رؤساء الجمهورية ورؤساء الوزارات وسائر المسؤولين وكبار القادة الروحيين والزمنيين بصراحته وصدقه المعهودين.وقد تعدّدت مواقفه الشجاعة في مخاطبة الكبار وفي إبداء آرائه وفي إظهار موقف الطائفة الدرزيّة في المحطات الصعبة والخطيرة وإزاء القضايا الوطنيّة والعربيّة والإسلاميّة. ومن الصعب استعراض جميع هذه المواقف وأقوال الشيخ محمد فيها التي كثيراً ما تردّدت ولا تزال تتردد على ألسنة الناس، لذا نكتفي بذكر بعضها كنماذج.
منذ أن طُلب الشيخ محمد لتسلّم مشيخة العقل، وقبل أن تبدأ مسيرته فيها، اتخذ موقفاً يدلُّ على شممه وإبانه، وحرصه على كرامة المشيخة التي يجب أن تولّى لا أن تُطلب، وهو رفضه الوصول إليها من باب أية زعامة، ورفضه القدوم من سورية إلى لبنان إلا بصفة شيخ عقل.
كان الشيخ محمد رجل المواقف التوحيديّة الدرزيّة، يشدّد دائماً على وحدة طائفته ويعمل على تحقيقها وعلى إزالة الخلافات الداخلية وكل ما ينال منها، وكثيرة هي دعواته لِلمِّ شملها وجمع أبنائها تحت شعار التوحيد مما حمل بعض القادة الدروز على القول عنه إنّه كان “يلفُّهم بعباءته”. فلقد تمكن مثلاً في سنة 1958 بوقفته الشجاعة في الباروك أن يعيد إلى الدروز وحدتهم التي حاول الرئيس كميل شمعون وأعوانه زعزعتها، وإحداث الفتنة بين الدروز. وحاول مراراً رأب الصدع الدرزي الناتج من الخلاف حول انتخاب شيخ العقل سنة 1954 إلى أن أثمرت جهوده وجهود سائر القادة عن المصالحة السياسيّة والروحيّة العامة في أواخر سنة 1966.
انسجم الشيخ محمد في الكثير من المبادئ والمواقف مع القائد كمال جنبلاط، والتقى وإياه في العديد من المواضيع الإصلاحيّة على صعيد لبنان، وفي المواضيع الإصلاحيّة على صعيد الطائفة الدرزيّة. وقد آزره في إنهاء عهد الرئيس بشاره الخوري، وفي عدم التجديد للرئيس كميل شمعون، والتقى وإياه في تأييد الرئيس فؤاد شهاب. كما آزر وليد بك جنبلاط في قيادته الناجحة للطائفة خلال الأحداث اللبنانيّة. ومما يذكر عنه نزوله من عماطور، بعد تسلّمه للمشيخة بقليل، لمؤازرة كمال جنبلاط عندما جرى التحامل عليه في المجلس النيابي، وخرج منه غاضباً، وبهذا وقف إلى جانبه ضد سياسة الإرهاب الفكري. ومما يؤثر عنه عدم استقباله وفد الحكومة السوريّة التي قامت بالانفصال عن الجمهوريّة العربيّة المتحدة سنة 1961 ،معتبراً هذا الانفصال ضربة للوحدة العربيّة.
عمل الشيخ محمد مع مفتي الجمهوريّة اللبنانيّة ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى على تحقيق وحدة المسلمين. كما عملوا مع رؤساء الطوائف المسيحيّة على تحقيق وحدة اللبنانيين حين تصدّعت بسبب الاختلاف حول انطلاقة العمل الفلسطيني المسلّح ضد إسرائيل من لبنان، وحين زاد تصدّعها بعد نشوب الحوادث اللبنانيّة في سنة 1975.
قدّم الشيّخ محمد مشروع حلٍّ لإنهاء الحوادث اللبنانيّة رحّب به أكثر القادة، إلا أنّ الرئيس إلياس سركيس لم يسر به. ومن أجل منع قيام حرب الجبل بين الدروز والمسيحيين زار الشيخ محمد القصر الجمهوري وقابل الرئيس أمين الجميل وقائد “القوات اللبنانيّة” فادي إفرام، وعرض عليهما مشروع حلٍّ متكامل لقضية الجبل انطلاقاً لحل المشكلة اللبنانية، لكن اليد الدرزيّة الممدودة عبر الشيخ محمد إلى المسيحيين وإلى الحكم الذي يهيمنون عليه، لم تقابل يبد ممدودة، لأن “ القوات اللبنانيّة” اختطفت القرار المسيحي، فكان ذلك من أهم أسباب حرب الجبل.
لم يترك الشيخ محمد مناسبة إلا وذكّر فيها بضرورة وحدة المسلمين والعرب لجهاد الصهاينة الذين كان يعتبر الجهاد ضدّهم فرض عين، ويكفل الدروز في القيام بذلك. وقد توجّه إلى دروز فلسطين عند قيام حرب تشرين المظفَّرة في سنة 1973، طالباً منهم المسارعة إلى الثورة على الصهاينة. وتكلّم في الاحتفال بحلول القرن الخامس عشر الهجري، في 9 كانون الأول 1979، فناشد العاهل السعودي الملك خالد أن يدعو إلى مؤتمر في مكّة المكرّمة منطلق الهجرة الأولى للمسلمين، لإقرار ما يجب عمله. وقد قوبلت بالتصفيق مراراً كلمته الحماسية التي تذكّر بأسباب قوّة المسلمين عند انطلاقة الإسلام وبأسباب ضعفهم الحالي، والتي تدعو إلى عدم التأخر في إعلان الجهاد المقدّس لتحرير فلسطين.
اشتهر الموّحدون الدروز عبر تاريخهم بالاتجاه العربي الإسلامي، وعبّروا عنه قولاً وفعلاً. ويكتسب التعبير عنه على لسان رئيسهم الروحي الشيخ محمد أبو شقرا أهمية كبيرة في مرحلة إقامة الكيان الإسرائيلي في فلسطين واشتداد أخطاره على جميع الدول العربيّة مما يستدعي من جميع القادة والمسؤولين والفعاليات الزمنية والروحية حشد القوى في مواجهة هذه الأخطار وسواها من الأخطار الخارجيّة.


الدور الكبير
إن دور أي منصب أو موقع ديني أو سياسي ِأو اجتماعي أو عسكري يزداد فعاليّة أو ينقص تبعاً لشخص متسلّمه ومقدرته وكفاءته. فهو عند البعض اعتيادي أو دون ما يستحقه المنصب أو الموقع، وهو عند النخبة كبير، كما هو متألق عند القّلة من هذه النخبة. وهكذا كان دور الشيخ محمد أبو شقرا الذي تألق بأعماله وإنجازاته ومواقفه التي جرى الحديث عن بعضها فتألقت معه مشيخة العقل وتعملقت، وبلغت على يده عصرها الذهبي وتعزّز شأنها بين الرئاسات الروحيّة.
تألّق دور الشيخ محمد أبو شقرا إبان ثنائية مشيخة العقل بين سنتي 1949 و 1954، وتألّق في ثلاثيتها بين سنتي 1954 و 1970، ثم تألّق أكثر عندما توحّدت المشيخة بشخصه من سنة 1970 إلى حين وفاته في سنة 1991. وقد ترافق توحّدها هذا مع توحّد القيادة السياسيّة بشخص وليد بك جنبلاط. وتكاملت هاتان القيادتان وعملتا معاً في سبيل مصلحة الطائفة الدرزيّة واجتيازها بنجاح أصعب المراحل التاريخيّة.
تعدّى دور الشيخ محمد أبو شقرا الإطار الدرزي فعمل على حل مشكلة المقاصد الخيرية الإسلاميّة القائمة بين الرئيس صائب سلام ومعارضيه. وطٌلب منه إنهاء النزاع بين الإمام موسى الصدر وكامل بك الأسعد. كما إنه قبل طلبا من عائلات زغرتا للتوسط وإنهاء نزاع بينها أدى الى وقوع عشرات القتلى، وقد نجح الشيخ محمد في تحقيق المصالحة التي تمت بإشرافه ومباركته. بل أن دوره تعدّى الإطار اللبناني عندما طلب توّسطه بين الهند وبنغلادش لإطلاق سراح الأسرى الباكستانيين المحتجزين لدى الهند.
قُدِّر للشّيخ محمد أبو شقرا أن يتسلّم مشيخة العقل لمدّة طويلة بلغت الاثنتين والأربعين سنة حفلت بعطاءات وإنجازات كانت على مستوى عزمه وحيويته ونشاطه الذي لا يعرف الكلل ولا الملل حتّى بدا كأنّه فريق عمل. وكانت أيضاً على مستوى التحديات والمراحل الصعبة والمحطات المصيريّة. وكان من حسن حظّ الموحِّدين (الدروز) وجود الشيخ محمد قائداً روحياً لهم في هذه المراحل والمحطات.
اختلف الناس بشأن الشيخ محمد كما اختلفوا بشأن أي رجل عظيم. لكن المختلفين بشأنه متفقون على أنّه قائد عظيم وشيخ علم بارز من شيوخ الموحِّدين الدروز وعلم من أعلام الوطنيّة، أشاد به الكثيرون في حياته، وأشاد به الكثيرون في يوم مأتمه، وأصدرت الضحى عدداً خاصاً في أربعينه تضمن أهم مواقفه وما قيل في مدحه والثناء عليه. ومن أفضل القصائد التي قيلت فيه قصيدة الشاعر أديب العطّار، التي قالها بمناسبة افتتاح المؤسسة الصحيّة في عين وزين ومنها البيت التالي:
لـــــم تعرف الأجيــــــــــال مثـــــلك سيّـــــــــــــــــــــدا للعقل من بعد الأمير السيّد.