الخميس, أيار 9, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, أيار 9, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الشيخ محمد أبو شقرا

الشيخ محمد أبو شقرا

مؤسس الدور الجديد لمشيخة العقل
في مرحلـــة ما بعد الاستقلال

وضع فور انتخابه برنامج عمل لترتيب شؤون البيت
وإطلاق نهضة روحية وخلق المؤسسات الحيوية للطائفة

ارتبط اسمه بثلاثة إنجازات كبيرة بقيت من بعده
دار الطائفة في فردان والمؤسسة الصحية في عين وزين وقرية المعروفية بين الشويفات وعين عنوب

دعا رجال الدين للتزوّد بالعلوم الزمنية كما الدينية وترك السياسة
ومنع عليهم ارتداء الزي أثناء القيام بأعمال لا تنسجم معه

لم يكن الشيخ محمد أبو شقرا، الذي تولّى منصب شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز لمدى 42 عاماً، خرّيجاً للأزهر، ولا خرّيج جامعة روحية أو زمنية، لكنه عوّض عن كل ذلك بالثقافة الواسعة، والمطالعة المستمرة، والتعلّم من دروس الحياة وتجاربها، تساعده في ذلك ذاكرة قوية، وعقل متوقّد، وسرعة بديهة، وقوة شخصية وشجاعة ملفتة. فكان إذا ما حدّث يُصغى إليه، وإذا ما حاور يأخذ ويعطي ويتفّهم الآخرين ويتسع صدره لجميع الآراء، وإذا ما وقف خطيباً يلفت الانتباه بلهجته، وكلماته البليغة، وأسلوبه الجامع بين السلاسة وعمق المعاني، وإذا ما طرح أفكاراً وقدّم مقترحات اعتبرت جديرة بالمناقشة أو مؤهلة للاتفاق حولها، لأنها نتيجة دراسة وخبرة. وقد جاء الشيخ محمد إلى مقامه هذا في ظروف تأسيسية دقيقة كان يمر بها لبنان وسيعيش ليشهد أيضاً أزماته وحربه الأهلية، لكنه فوق كل تلك الظروف سيترك بصمات لا تمحى على تاريخ بني معروف، إذ نتجت عن حصافته وإقدامه وطاقته الهائلة على العمل جملة من الإنجازات التي أعلت من شأن الموحدين الدروز وعززت كيانهم وأطلقت مؤسساتهم ونظمت شؤونهم وصانت حقوقهم، كما حفظت كرامتهم من الافتراءات والدسائس.
فمن هو الشيخ محمد أبو شقرا، وما هي أبعاد الدور الكبير الذي لعبه في تاريخ المشيخة والموحدين ولبنان؟

الرئاسة الروحية عند الموحِّدين (الدروز) إمتداد تاريخي لفكرة الإمامة، ولها ألقاب عدة، هي الشيخ، والشيخ الأكبر أو الشيخ الكبير، وشيخ المشايخ، وشيخ العصر، وشيخ البلدان، ومنذ القرن الثامن عشر الميلادي بدأت ترد في المدوّنات بلقب “شيخ العقل” والأصح شيخ العقّال، على اعتبار أنها مشيخة للعقّال الذين هم الأجاويد. والعقّال، جمع عاقل، هم الذين عقلوا الأمور الدينية، أي فهموها. والأجاويد، جمع جويّد تصغير جيد، هم أجواد في الناس وأخيار.
من الرؤساء الروحيين شيوخ برزوا بالتقوى والتعبّد والتصوّف، وشيوخ برزوا بالمواقف، خصوصاً مع الحكام وولاة الأمور، وآخرون برزوا بالأدب والعلوم، والتفسير الديني. وأبرزهم جميعاً الأمير جمال الدين عبدالله التنوخي الملقب بالسيّد (1417 – 1479)، الذي ترك تفسيرات دينية، وحدّد كيفية سياسة الأخيار (الأجاويد أو العقّال)، ودرّس مجموعة من الشيوخ غدا بعضهم رؤساء روحيين، وأحدث نهضة روحية، وتميّز، بالاضافة إلى ذلك، بأدبه وشعره ومعارفه الطبية والمعجمية، وبتقواه وتديّنه وصبره الذي أصبح مضرب مثل، وذلك عندما قضى ولده الوحيد الأمير عبد القادر من رفسة فرس في يوم عرسه. كل هذا جعله أشهر العلماء، والرؤساء الروحيّين، والأولياء عند الموحِّدين، وتحوّل ضريحه في بلدته عبيه إلى مقام، يُزار للتبرّك، وتقدّم له النذورات والتبرّعات.

تبدّل الأدوار
توالى بعد الأمير السيد مشايخ عقل عديدون، إذ لم تخلُ هذه الطائفة العريقة يوماً من عَلَم مستنير وعاقل يوجه أمورها ويعضد أفرادها في الملمات فيكون لهم ناصحاً ومرجعاً. لكن دور شيخ العقل تبدل مع تبدل ظروف الحياة والظروف السياسية، وعلى سبيل المثال فقد اجتمعت في الأمير السيد الزعامتان السياسية والدينية، وكان بذلك إستثناء لم يتكرر، إذ أن الدنيوي انفصل مع الوقت عن الديني وأدت قوة الزعامة السياسية إلى عودة شيخ العقل إلى دوره الروحي والعقيدي، ولهذا السبب ربما لا يعرف الجمهور الكثير عن سير مشايخ العقل السابقين.
إلا أنه ومع حصول لبنان على استقلاله وقيام البلد على أسس طائفية اكتسب موقع مشيخة العقل من جديد بعداً سياسياً لكنه بعدٌ رسمت له حدود واضحة تسهل تنظيم التوافق بين شيخ العقل وبين الزعامة السياسية في زمانه.
بهذا المعنى، فإن الشيخ محمد أبو شقرا كان مثالاً على الدور المستجد لمشيخة العقل في إطار الكيان السياسي الناشئ، إلا أنه كان مثالاً ناجحاً جداً بحيث أمكنه تكريس مكانة الموقع والدور الجديد بهمته العالية وجرأته والهيبة التي تمتع بها في علاقاته بالمراجع الروحية الأخرى أو بالمراجع السياسية. ونظراً للمدة الطويلة التي استغرقتها ولايته كشيخ عقل للطائفة (نحو 42 عاماً) فقد أتيح للشيخ محمد أن يعزز خبراته ومعرفته بالوضع اللبناني الذي عمل فيه، وأن يلعب دور المؤسس للكثير من المؤسسات والتشريعات والمرافق التي ارتبطت كلها بإسمه وبإسم الزعيم الراحل كمال جنبلاط، إذ عمل الرجلان دوماً بتنسيق تام وتفاهم كامل.

” وضع نظاماً لانتخاب شيخ العقل وأنشأ الهيئة الروحية العليا من شيوخ عقل لبنان وسوريا ووحّد الطقوس الدينية وأسس المجلـس الأعلى الروحي للموحدين في لبنان  “

انتخابه
بعد أربعمائة وسبعين سنة من وفاة الأمير السيد، جرى في مقامه في بلدة عبيه، وبتاريخ يوم الجمعة الواقع في 29 نيسان 1949، انتخاب الشيخ محمد أبو شقرا شيخ عقل خلفاً لشيخ العقل الجنبلاطي الشيخ حسين طليع. المكان مكان فضيل هو أول مقام عند الموحِّدين بعد مقامات الأنبياء. واليوم يوم فضيل، هو يوم الجمعة الذي يجتمع فيه العقَّال أسبوعياً لأداء الفروض الدينية. والذين اختاروا الشيخ محمد كانوا حوالي ألف رجل دين، بينهم الشيوخ الكبار والاتقياء، ولم يسبق أن اجتمع مثل هذا العدد في انتخاب شيخ العقل، إضافة إلى خمسمائة رجل من الزمنيين وفعّالياتهم، وعلى رأسهم الأمير عادل أرسلان والمعلم الشهيد كمال جنبلاط. وكان في علم الغيب يومذاك ما سيكون من الشيخ محمد، فإذا به ذو شأن ودور كبيرين، ومسيرة حافلة بالمآثر في تاريخ مشيخة العقل، وتاريخ الطائفة، وشخصية إستثنائية، وأحد الرموز الدينية، وأحد الأعلام اللبنانيين.

برنامج عمل
حين تسلّم الشيخ محمد مشيخة العقل ما كان عند الموحِّدين من تنظيمات لشؤونهم سوى قانون الأحوال الشخصية، الذي صدر في 24 شباط 1948. فشيخ العقل لا يوجد قانون ينظِّم انتخابه، ويحدّد صلاحياته، وإنما يجري انتخابه وفق أعراف “تفاهمية” مما قد يسبّب نشوء الأزمات. وهي لا مقرَّ لها (إذ كان مقرّها بيت الشيخ) ولا سجلات، وليس هناك مجلس ملّي يشرف على الأوقاف التي كثيراً ما عانت من الفوضى والإهمال والتسيّب، ولا مستشفى يهتم بمرضى الموحِّدين، ولا مأوى لعجزتهم وشيوخهم، ولا مقر عام يجتمعون فيه في المناسبات.
درس الشيخ محمد أوضاع الموحِّدين، وعرف متطلّباتهم، والنواحي التي يجب إصلاحها وتطويرها، فوضع في الأسابيع الأولى من عهده بالمشيخة برنامج عمل لترتيب شؤون البيت الداخلية، وتنظيم رجال الدين، وإحداث نهضة دينية، وإيجاد بعض المؤسسات الضرورية والحيوية، والقيام بكل ما يعزّز شأن الطائفة. كان يعلم أن صلاحياته المرسومة بالاعراف والتقاليد محدودة، لكن أي دور عام، دينياً كان أم اجتماعياً أم سياسياً، مرهون بمقدرة صاحبه وكفاءاته ومؤهلاته. وعند الشيخ محمد كان الدور كبيراً لكبر طاقاته، وعظيم مؤهلاته، وقد تألق بجليل الأعمال وخالد المآثر والانجازات، وفي ما يلي بعض ذلك بإيجاز.

النهج
لم يكن الشيخ محمد يطمح إلى تولّي أي منصب، وقد رفض تولّي المناصب في سوريا التي أقام فيها بين العامين 1923 و 1949، وفضّل تعاطي العمل الخاص، وهو لم يطلب منصب مشيخة العقل في لبنان، وإنما طُلب إليه، وتسلّمه بتأييد أكثرية من بينها أكثرية رجال الدين التي تضم كبار الشيوخ وأتقياءَهم. وحدّد نهجه منذ البداية بأنه لن يكون لفئة دون أخرى، بل سيكون للجميع، وقال في أول خطاب له في لبنان وأول إطلالة على الموحِّدين، يوم إستقباله في دار المختارة بتاريخ 5 حزيران 1949 عند قدومه من سوريا، ما يلي:
“ما المركز السامي الذي قُدّر لي أن أنتسب إليه سوى مسؤولية تُلقى، لا منصب يُرقى، ووسيلة للخدمة والإصلاح، لا واسطة للزهو أو النفع الذاتي. انني لا أعتبر نفسي ممثلاً لحزب دون آخر، أو لفئة معينة، أو لعائلة، أو منطقة، بل اعتبر نفسي مسؤولاً لدى كل فرد من أبناء هذه الطائفة الكريمة، عمّا فيه خير المجموع، وعبداً مأموراً من الحق سبحانه للتوجيه نحو الخير حيثما وُجد، والحؤول دون الشر والإضرار بالغير أينما كان المصدر، والسعي إلى الإصلاح، والدعوة إلى الألفة، وتوحيد الكلمة في جميع الظروف”.

اتفاقه مع المعلم كمال جنبلاط
كان الشيخ محمد يعرف طبيعة منصبه، وهو كان لذلك متوافقاً مع الزعامة الدرزية لكنه كان ضد مظاهر الانقسام على أساس الغرضية، وهو عمل بذلك على لمّ شمل الموحدين الدروز حول قضاياهم، وكان في نهجه الإصلاحي متفقاً مع المعلم الشهيد كمال جنبلاط الذي قال له كل ما تقرّره من إصلاحات على الصعيد الدرزي نقرّه، لأنها جزء من الإصلاح الذي نعمل لأجله على الصعيد العام.

تنظيم شؤون الموحِّدين
بدأ الشيخ محمد، بالتعاون مع نظيره الشيخ محمد عبد الصمد، في تنظيم شؤون الموحِّدين، فتم إنشاء الهيئة الروحية العليا من شيوخ عقل لبنان وسوريا لتكون مرجعية لشؤون الموحِّدين في هذين البلدين، وجرى توحيد الطقوس الدينية لهم بتوحيد نصوص الصداق والوصية والصلاة على الميت. ثم أسّس المجلس الروحي الأعلى للموحِّدين في لبنان في سنة 1952، وهو شبيه إلى حدٍّ ما بمجلس ملّي، من صلاحياته، بموجب نظامه الداخلي، تنظيم الشؤون الدينية والإشراف على الأوقاف. ووضع نظام انتخاب شيخ العقل في سنة 1953، لتلافي أزمات مثل تلك التي حصلت في سنة 1946 عند انتخاب خلف للشيخ حسين حماده، وفي سنة 1949 عند انتخاب خلف للشيخ حسين طليع، وكما سيجري عند انتخاب خلف للشيخ محمد عبد الصمد في سنة 1954. وإن كان هذان النظامان لم يوفِّرا الحل المنشود بسبب معارضتهما من قبل البعض، فإن روحهما وأهدافهما وبعض موادهما دخلت في قانون إنشاء المجلس المذهبي، وقانون انتخاب شيخ العقل، الصادرين عن المجلس النيابي في 13 تموز 1962، وكان للشيخ محمد فضل كبير في صدورهما، مع الإشارة إلى أنهما لم يتضمّنا توحيد مشيخة العقل. وكان له دور بارز في تنظيم القضاء المذهبي واستكمال ملاكاته.
عمد الشيخ محمد إلى تنظيم شؤون مجالس الذكر، وشؤون أئمتها (السوّاس) ففضّل وجود مجلس واحد في كل قرية. وحدّد واجبات الإمام، وواجبات رجال الدين. وباشر بإحصاء رجال الدين، وتدوين أسمائهم في سجلات ليشاركوا في انتخاب شيخ العقل، بحسب النظام الذي وضعه، وطلب منهم التزوّد بالعلوم الزمنية كما الدينية، والإبتعاد عن السياسة. كما منع التزي بزي الدين أثناء القيام بأعمال لا تنسجم مع هذا الزي، وأفسح المجال أمام الموظفين والمهاجرين وأصحاب المهن ليصبحوا من رجال الدين من دون أن يتقيدوا بالزي الديني إلا عند أداء الفروض الدينية.

مع المعلم كمال جنبلاط
مع المعلم كمال جنبلاط

الرعاية الشاملة
وجد الشيخ محمد أن الصلة بين مشيخة العقل ورجال الدين ضعيفة جرّاء ضعف التواصل، وقلة اللقاءات والإجتماعات، فكثّف من الاجتماعات والزيارات والسهرات، بحيث أصبحت أحياناً أسبوعية، تشمل بعض الزمنيين أيضاً. وبلغ ما قام به في هذا المجال مئات اللقاءات في المجالس والخلوات والمقامات والبيوت، حتى إنه زار بعض القرى حوالي عشر مرات بين جولة تفقدية، وسهرة دينية حاشدة، وزيارة لتلبية إحدى الدعوات، وإجراء مصالحة. وما كانت الزيارات والسهرات تقتصر على التعارف، والتعرّف على أحوال الموحِّدين ومواضيعهم، ولا على المذاكرة وفروض العبادة فقط، وإنما كان يتخلّلها وعظ وإرشاد ونصح، وإلقاء كلمة معدّة من الشيخ محمد، ضمن سياق كلمات هي سلسلة محاضرات تثقيفية أو من خلال النداءات والبيانات عبر مجلة “الضحى”، أو عبر غيرها من وسائل الإعلام.
شملت رعاية الشيخ محمد الجمعيات والنوادي والمؤسسات، كما شملت رعاية المقيمين والمغتربين أيضاً، إذ أوجد منذ سنة 1950 مركز وكيل مشيخة العقل في كل مدينة أو منطقة من بلدان العالم يتواجد فيها الدروز، وأذن له كتابة الصداق والصلاة على الميت حسب الطقوس المحدّدة. وكان على اتصال دائم بالوكلاء والجمعيات والمسؤولين عن البيوت الدرزية، كما رعى المؤتمرات التي أقامها المغتربون في بلدان الاغتراب، أو في لبنان، وأرسل الموفدين ليمثّلوه فيها، وكانت له في بعضها كلمات تُتلى نيابة عنه، أو بالصوت والصورة.
ساعد الشيخ محمد المنكوبين في الحوادث الطبيعية كما في زلزال سنة 1956، وساعد ايضاً المنكوبين في الحوادث الأمنية نذكر المساعدات التي قدمها لأبناء جبل العرب إبّان عدوان الشيشكلي على الجبل سنة 1954، وللمنكوبين إبّان الأحداث اللبنانية بين العامين 1975 و 1990، وكذلك المنكوبين في الإعتداءات الاسرائيلية على سوريا والأردن، وكانت هذه المساعدات تتأمن من خلال تشكيل اللجان وجمع التبرّعات.

من أقواله
“ليس للسنّي ولا للوهابي ولا للدرزي ولا للجعفري أية منّة أو أفضلية في إسلامه، وليس من حق أي مسلم أن يُكفِّر غيره. فالجميع مسلمون ما دام القرآن كتابهم وما داموا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وحسابهم جميعاً على الله”

الدفاع عن الحقوق
نصّت المادة 95 من الدستور اللبناني، الموضوعة بصورة موقتَّة، على تمثيل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وتشكيل الوزارة. لكن التوزيع لم يجرِ بعدالة بين الطوائف اللبنانية، فأخذت بعض الطوائف، ومنها طائفة الموحدين الدروز، أقل مما تستحق من النواب والوزراء والموظفين على اختلاف فئاتهم. لذلك ركّز الشيخ محمد على ضرورة تطبيق القواعد الميثاقية في تخصيص الوظائف والمناصب بصورة عادلة بما يحفظ حقوق الأقليات عموماً، وحقوق الموحدين الدروز الذين طالب بأداء حصتهم كاملة. وأدلى الشيخ محمد بالتصريحات وأرسل الرسائل والبرقيات إلى مختلف المسؤولين وقدّم إلى رؤساء الجمهورية ورؤساء مجلس النواب ورؤساء مجلس الوزراء المذكّرات المعزّزة بالأرقام، التي تظهر عدد الوظائف الإجمالي في الإدارات العامة، والمؤسسات التابعة للدولة والتابعة للقطاع الخاص، وعدد الوظائف المعطاة للموحدين الدروز، وما يعتيره من إجحاف. وقد اعتمد وزراء الدروز ونوابهم أحياناً، لا سيما الأمير مجيد أرسلان والمعلم كمال جنبلاط، الإحصاءات التي جمعها الشيخ محمد، وتبّنوا المطالب والمذكرات التي وضعها، وكثيراً ما قابلوا معه المسؤولين للمطالبة بهذا الشأن. وفي هذا السياق لم يكن الشيخ محمد ليسكت عن أي تدبير في الإستقبالات، أو في ترتيب الكلمات، يستشفُّ منه تقصير إزاء مشيخة العقل لأنه كان يعتبره تقصيراً في حق العشيرة وليس المنصب فقط. وهذا ما ألزم القيّمين على الأمور مراعاة الأصول. ما كان الشيخ محمد يسلّم بأن يتقدّمه أحد من رؤساء الطوائف اللبنانية، وهذا كان أحد أهم أسباب عدم ذهابه في الوفود إلى مؤتمرات خارج لبنان تقتضي إجراء ترتيبات بروتوكولية إزاء رؤساء هذه الوفود، وإيفاد من يمثّله.

رد الافتراءات
كان صوت الشيخ محمد قوياً في الرد على الإفتراءات والإساءات الصادرة عن عمد، أو عن جهل للحقائق سواء في مشهد من مسرحية، أو في كلام منشور في الصحف والمجلات والكتب، وكان غالباً ما يلزم المسيئين بتقديم الإعتذار عن إساءاتهم، أو يستصدر من الجهات المختصة القرارات بمنع الكتب المسيئة الصادرة في لبنان وخارجه.
ومما قام به الشيخ محمد في مجال التصدّي للإساءات إلى الدروز إرساله العرائض والرسائل إلى المسؤولين السوريين إحتجاجاً على التوقيف التعسّفي لبعض رجال مجدل شمس وللشيخ فرحان الشعلان، في سنة 1951، على أثر وشاية مغرضة، وإرساله الرسائل إلى زعماء جبل العرب ورؤسائه الروحيين طالباً تقديم المساعدة للموقوفين الذين يتعرّضون للضغط في السجون، وتكليفه أربعة محامين لبنانيين للدفاع عنهم.

صورة-جامعة-للمؤسسة-والأبنية-التابعة-لها-في-عين-وزين-2-copy
صورة-جامعة-للمؤسسة-والأبنية-التابعة-لها-في-عين-وزين-2

 

 

دار الطائفة في فردان أحد أهم إنجازات الشيخ محمد أبو شقرا
دار الطائفة في فردان أحد أهم إنجازات الشيخ محمد أبو شقرا

 

 

 

 

 

 

توحيد مشيخة العقل وازدياد شأنها
كان من أسباب تمنّع الشيخ محمد أولاً عن الترشّح لمنصب مشيخة العقل، إيمانه بضرورة توحيدها، ثم أنه أمل بذلك بعد تسلّمه المنصب، وكان يرى أن وجود شيخ عقل واحد، مؤيد من جمهور الدروز، مدعوم من زعمائهم الزمنيين، أكرم للطائفة، وفيه تعزيز لشأنها، وانسجام مع المفهوم التوحيدي.
وقد سنحت فرصة لتوحيد مشيخة العقل بالشيخ محمد بعد وفاة نظيريه، الشيخ رشيد حماده في 4 نيسان 1970، والشيخ علي عبد اللطيف في 4 حزيران 1970، وتم ذلك لأسباب عدة، منها صعوبة تطبيق قانون انتخاب شيخ العقل الصادر سنة 1962 وغير المرضي عنه، واتفاق الزعيمين الكبيرين، الأمير مجيد أرسلان والمعلم الشهيد كمال جنبلاط، على توحيد المشيخة. وبتوحيد مشيخة العقل بشخصه ظهر الموحِّدون موحَّدين على الصعيد الروحي طوال الفترة المتبقية من حياته، كما ظهروا موحَّدين على الصعيدين السياسي والنضالي، بقيادة الزعيم وليد بك جنبلاط بعد وفاة الأمير مجيد أرسلان في سنة 1983، وذلك في إحدى أصعب المراحل التاريخية التي مرّوا بها، ومرّ بها لبنان.

يتقبل تعازي الرئيس شارل حلو بالشيخ رشيد حماده في 17 نيسان سنة 1970 مع المعلم كمال جنبلاط والأمير مجيد أرسلان
يتقبل تعازي الرئيس شارل حلو بالشيخ رشيد حماده في 17 نيسان سنة 1970 مع المعلم كمال جنبلاط والأمير مجيد أرسلان

رجل البناء
اقترنت بإسم الشيخ محمد أبو شقرا ثلاثة إنجازات مهمة هي بناء دار الطائفة الدرزية، وقرية المعروفية، وإطلاق المؤسسة الصحية للطائفة الدرزية في عين وزين.
كان الموحدون الدروز يحتارون أين يقيمون مناسباتهم العامة، وأين يستقبلون ضيوفهم، فهذا مكان بعيد، وهذا في الساحل، وذاك في الجبل، ناهيك عن الانقسام، والصراع على النفوذ، والتنافس لكسب الوجاهة، وهذه أمور كانت تحول دون الاتفاق على مكان معين. لذا استقبلوا لجنة الاستفتاء الدولية (لجنة كنغ – كرين) في تموز 1919 في العراء في عيناب، واستقبلوا المفوّض السامي هنري دى جوﭬنيل في أواخر سنة 1925 في منزل قاضي المذهب ملحم حمدان، في بيروت، بعد استعراض الأمكنة والتشاور. وكان المفوّض السامي يريد مفاوضة زعمائهم حول عوامل الثورة السورية الكبرى، وحول كيفية إنهائها.
ظل مشروع إقامة دار عامة فكرة تُطرح من حين إلى آخر، وحلماً يراود الكثيرين، إلى أن جاء الشيخ محمد وجعل الحلم حقيقة، والفكرة مجسّدة في بناء ضخم في قلب العاصمة اللبنانية بيروت بفضل تبرّعات الدروز المقيمين والمغتربين، هو دار الطائفة التي وضع حجر أساسها في 16 كانون الثاني 1953 في احتفال حاشد، في حضور رئيس الجمهورية كميل شمعون، ودُشّنت في 4 نيسان 1965 في احتفال ضخم، تلاه بعد أيام استقبال رئيس الجمهورية شارل حلو الذي جاء يهنئ الدروز بعيد الأضحى المبارك، وبدارهم التي غدت مفخرة لهم، ومكان اجتماعاتهم المهمة واستقبالاتهم للضيوف.
وعند وضع حجر الأساس سأل الشيخ محمد من المولى تعالى أن تكون دار الموحدين الدروز جامعة للقلوب والشمل، معتبراً هذا الصرح “حاجة ماسة لحفظ كيانهم، ومصدراً لتمكينهم وعزتهم ورفعة شأنهم وكرامتهم، ودليلاً على تطوّرهم ومماشاتهم لركب الحضارة في القرن العشرين”.

حادثة الباروك

ثار الشيخ محمد عندما بلغه توقيف مجموعة من رجال الدين، بينهم شيوخ اتقياء، على حاجز لقوى الأمن، بعد مهرجان الباروك الذي أقامه المعلم كمال جنبلاط في آذار 1951 حين سقط بعض القتلى جرّاء تدخل السلطة واعتدائها على مناصريه بقصد إرهابهم.
هاجم الشيخ محمد السلطة بعنف ووصف مسؤوليها بالطغاة المارقين، المثيرين للفتن، والباعثين للفساد، والمهدّمين لكيان هذا الوطن. وهدّد بالدعوة إلى حمل السلاح لإخماد الباطل، وحفظ الكرامة، فما كان من رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري إلا أن أعطى التعليمات بعدم تفتيش رجال الدين الدروز، وعدم توقيفهم، وأرسل محافظ جبل لبنان فؤاد صوايا للإعتذار من المشايخ الذين كانوا مجتمعين في حضور الشيخ محمد في منزل المرحوم الشيخ أبي حسين محمود فرج في عبيه.

في اجتماع النبي أيوب عليه السلام عام 1974
في اجتماع النبي أيوب عليه السلام عام 1974

وفي 4 أيلول 1957 تناهت إلى سمع الشيخ محمد الذي كان مقيماً في محلّة المصيطبة في بيروت، أصوات رصاص منبعثة من محلّة وطى المصيطبة، تنبئ عن اشتباك بين نازحي جبل العرب المقيمين في أكواخ التنك، وبين شرطة بيروت، وذلك بسبب محاولة الشرطة إخلاءَهم بالقوة تمهيداً لتسليم الأرض التي يقيمون عليها إلى أصحابها.
سارع الشيخ محمد ونزل إلى محلة الوطى، وتوسّط الفريقين وسط إطلاق الرصاص من الشرطة، وفضّ الاشتباك الذي أسفر عن قتيلين درزيين وعدد من الجرحى، واتصل بالمسؤولين، واتفق وإياهم على حل يقضي بالتعويض العادل على النازحين، ثم عمد إلى شراء أرض بين الشويفات وعين عنوب سجّلها بإسمه وقسّمها إلى عقارات وهبها لهم لإقامة بيوتهم عليها، وبهذا نشأت قرية جديدة إسمها “المعروفية” نسبة إلى بني معروف.
المؤسسة الصحية
كان الشيخ محمد يتألم لسماع أخبار عذابات أبناء طائفته في الانتقال إلى بيروت وغيرها للطبابة، ويحزُّ في نفسه موت عجزتهم وشيوخهم في المستشفيات والمآوي. فدعم “جمعية مشروع الليرة” التي رعاها الزعيم كمال جنبلاط بهدف العمل لإقامة مستشفى عام. وقد اختلفت آراء الأطباء يومها حول مكان إقامة المستشفى المنشود بين خلدة وبيروت. لكن جاءت الأحداث اللبنانية سنة 1975 لتفرض بناء المستشفى في قلب الجبل بعد أن تردّى الوضع الأمني وقطعت الطرقات واقيمت خطوط التماس ولم يعد سهلاً الوصول إلى مستشفيات بيروت وضواحيها، وصيدا. فأخذ الشيخ محمد موضوع إنشاء المؤسسة الصحية على عاتقه، واعتمد في البداية على مبلغ قدّمه اليه المحسن الياس شربين في سنة 1976 لينفقه في سبيل الخير، ففضّل جعله نواة لإقامة المستشفى على تفريقه مساعدات اجتماعية لها فائدة وقتية. وعوّل على أصحاب الغيرة من خيار الموحّدين الذين كانوا دعموا بناء دار الطائفة فكانت البداية، وكان وهب الأرض من المحسنين، وتدفّقت التبرّعات من أبناء الطائفة، المقيمين والمغتربين، وأتت مساعدات من الخارج وأكبرها مساعدة من المملكة العربية السعودية.
وُضع حجر الأساس للمؤسسة الصحية في 7 تموز 1978، وافتتحت في 4 حزيران 1989، وبدأت بالعمل والتطوّر وبالتوسّع في البناء. وفي الاحتفال ببدء العمل فيها وصفها الزعيم وليد بك جنبلاط بأنها “مؤسسة جميع الوطنيين والعروبيين والمخلصين” ووجّه الكلام إلى الشيخ محمد قائلاً: بوركت أياديك يا سماحة الشيخ”، التي كانت على مدى أربعين عاماً وستبقى، لإعلاء شأن بني معروف في لبنان ووحدة بني معروف، وعزّة بني معروف، وليس بغريب عليك أنت الذي جاهدت فكنت المجاهد الأكبر في سبيل وحدة الشأن، شأن بني معروف، ووحدة الموقف العربي الوطني الشامل في لبنان.

مستقبلا البطريرك خريش في دار الطائفة
مستقبلا البطريرك خريش في دار الطائفة

التشديد على إسلام الموحِّدين
كان للشيخ محمد فضل كبير في نقض المقولة التي تميّز بين الموحِّدين وسائر المسلمين، وهي القول التالي: مسلمون ودروز، فيما الموحِّدون الدروز من المسلمين لا فئة مستقلة عنهم، فهو يقول عن إسلام الموحِّدين ما يلي: “نحن مسلمون موحِّدون”، ويستشهد بكلام الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الذي قال: “الدروز الموحِّدون مسلمون موحِّدون، والذين يشككون هم مفسدون”. والدروز بحسب رأي الشيخ محمد، الذي أوردته مجلة “الضحى”، في عدد تشرين الأول 1971 ص 18-19، ” تقبلوا الإسلام ديناً، واتخذوا الفاطمية مذهباً”. وهو لا يرى أفضليةً لمسلم على مسلم، ولا ضرورة لتمييز مسلم عن آخر، ومن الخطأ تكفير مسلم لآخر.
وفي رأيه الذي اوردته مجلّة “الضحى”، في عدد نيسان 1981 ص 14، هو أنه وقد حضر الشيخ محمد المؤتمرات والقمم الإسلامية وذكرى عيد المولد النبوي الشريف، لا بصفته واحداً من الفعاليات الروحية التي تحضر هذه المناسبات من قبيل المشاركة البروتوكولية، وإنما بصفته أحد رؤساء الطوائف الإسلامية الثلاث، الذين يحيونها لبحث شؤون المسلمين، والذين ارتفعت أيديهم في إحداها متشابكة مع بعضها بعضاً لتؤكد وحدة المسلمين. يومها ظهر المفتي حسن خالد رافعاً بيده اليمنى يد الشيخ محمد مهدي شمس الدين، نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ورافعاً بيده اليسرى يد الشيخ محمد، وقد كُتب تحت صورتهم العبارة التالية: “الإسلام دين توحيد”، وفي هذا خير ما يؤكد إسلام الموحِّدين بالشكل كما بالجوهر.

حضور عام
منذ الخمسينيات من القرن العشرين بدأت تتغيّر علاقات رؤساء الطوائف إزاء بعضهم بعضاً، فزار مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ محمد علايا الشيخ محمد، وهنأه بعيد الأضحى المبارك، فكان أول مفتٍ يهنّئ شيخ العقل بهذا العيد، وحضر الشيخ محمد أول مؤتمر اسلامي انعقد في 5 كانون الثاني 1952. وخرج البطريرك الماروني خريش عن التقاليد، وزار رؤساء الطوائف الإسلامية الذين هنّأوه بتسلّم منصب البطريركية خلفاً للبطريرك بولس المعوشي.
وشهدت المرحلة، وربما بسبب التوترات بين الطوائف والأزمة السياسية، محاولات حثيثة من الشيخ محمد ومن رؤساء الطوائف اللبنانية لتخفيف الإحتقان والتأكيد على الثوابت الوطنية ونبذ التعصب، فتعزز بذلك تقليد عقد القمم الروحية الإسلامية أو الإسلامية المسيحية، وكان حضور الشيخ محمد في تلك القمم لافتاً دوماً ومواقفه القوية والوطنية محط أنظار المشاركين والإعلام.

قتال الصهاينة فرض عين
كانت القضية الفلسطينية محور كلمات الشيخ محمد في معظم القمم والمؤتمرات والمناسبات الإسلامية، وهو بهذا يجسّد نهج قومه التاريخي في الدفاع عن العروبة والإسلام وأرض الإسلام. فكان يدعو إلى قتال الصهاينة، وإلى الجهاد من أجل تحرير فلسطين، واستعادة الحقوق الشرعية للفلسطينيين، وقد قال في الاحتفال بعيد المولد النبوي الشريف في أيار 1970 ما يلي: “إن مجاهدة الصهاينة ومقاتلتهم باتت فرض عين”، وفي كلمته له في زيارة النبي أيوب عام 1969 دعا إلى الجهاد قائلاً: “ليكن هناك جهاد مقدّس، ولتكن زكاة وعطاء، وبالنسبة إلى الدروز فإني كفيل التنفيذ”.

رحيله
رحل الشيخ محمد في الرابع والعشرين من شهر تشرين الأول 1991 تاركاً ما يبقيه حيّاً في ذاكرة الموحِّدين، وما يشهد به وينطق عن أعماله ومآثره، ويجعل الناس يترحّمون عليه. وقد قيل الكثير عن الشيخ محمد في حياته، وبعد مماته، ورثاه الكثيرون ومنهم رؤساء الجمهورية ومجلس النواب ومجلس الوزراء والوزراء والنواب، والقادة، ومنهم رؤساء الطوائف الرئيسية في لبنان، والمفكرون. وكان هناك إجماع على أنه جسّد قيم طائفته ومبادئها، وأنه رجل السلام في زمن الحرب، ورجل الجهاد والمواقف التاريخية، ورجل بناء المؤسسات، والرمز في الوطنية والعروبة، والداعية إلى الوحدة الوطنية والاسلامية.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading