الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

مرض الفيتوبلاسما الوبائي يدخل لبنان

مرض «الفيتوبلاسما» الوبائي دخل لبنان
وأشجار اللوز والدراق مهدّدة بالموت

المرض أصاب كروم العنب في إيطاليا وتركيا وجنوب أفريقيا
وظهوره في كروم الجولان إشارة إنذار للزراعة اللبنانية

يجب الانتباه إلى دور المشاتل وسلامة نصوبها
لأنها أسرع وسيلة لنقل المرض إلى كل لبنان

شجرة كرمة مصابة بمرض الفيتوبلاسما وهي محكومة بالموت
شجرة كرمة مصابة بمرض الفيتوبلاسما وهي محكومة بالموت

العيعيش المزارعون في لبنان أجواء قلق شديد وترقب بعد أن انتقل مرض الفيتوبلاسما Phytoplasma الوبائي إلى لبنان، وهو أحد أخطر الأمراض التي تصيب الأشجار المثمرة وغيرها، ولاسيما اللوز وأشجار الدراق وغيرها من اللوزيات. وقد تأكدت أنباء دخول هذا المرض إلى مناطق عدة من لبنان، الأمر الذي أدى إلى إصابة عدد كبير من الأشجار وموتها، وهذا ما يثير القلق ويجعلنا نتوقع أن يتابع المرض انتشاره، وأن يشمل مع الوقت مناطق عدة من لبنان. فما هو مرض الفيتوبلاسما، وما هي أخطاره، وكيف يمكن الوقاية منه؟

الفيتوبلاسما هو مرض بكتيري يدخل عصارة النبات ويتكاثر ثم ينتشر عبرها الى كافة أجزاء الشجرة بما في ذلك الجذع والفروع والأوراق والأزهار، وتصيب هذه البكتيريا الخطرة الآن أصنافاً متزايدة من الأشجار لا تقتصر على اللوز أو الدراق أو غيرهما من اللوزيات، بل العديد من السلالات النباتية المثمرة أو البرية، وبصورة عامة فقد كان يعتقد أن باكتيريا الفيتوبلاسما منتشرة بصورة خاصة في المناطق الاستوائية، حيث تحدث أضراراً كبيرة لمحاصيل مثل الذرة وقصب السكر والمانغو والبابايا وشجر البن وجوز الهند ونخيل الزيت وغيرها، إلا أنه وربما بسبب التغيّر المناخي وارتفاع حرارة المناطق المعتدلة أو الباردة على الأرض، فإن أنواعاً مختلفة من بكتيريا الفيتوبلاسما بدأت تظهر في أوروبا وبلدان حوض البحر المتوسط، وأحد المحاصيل التي بدأت تتضرر بشدة من جراء هذا المرض هو محصول العنب في ايطاليا وفي تركيا، وكذلك الحمضيات وأحياناً الخضار، وقد انتقل المرض أخيراً إلى كروم عنب جنوب أفريقيا التي لم تعرفه في تاريخها، كما أنه انتشر في الجولان السوري المحتل في كروم العنب، وهذا ما يجعله قريباً من مناطق جنوب لبنان والبقاع الغربي، حيث يزرع العنب بكثافة في مناطق مثل راشيا أو في السهل.

أعراضه
أحد الاعراض التي تدلّ على وجود مرض الفيتوبلاسما في الشجرة هو ظهور الأزهار بلون أخضر فاتح وليس بلونها الزاهي المعتاد، ويعود ذلك إلى فقد الأزهار للجزيئات الملونة Pigments، وهذه الأزهار قد تكون عقيمة وغير قادرة على التحول إلى ثمار. العديد من الأشجار المصابة بالبكتيريا يحصل فيها خلل كبير في نمو الأغصان، والتي تنمو في كتل أو تجمعات كثيفة على أفرع تكاد تكون شبه عارية بتأثير الإصابة، ومن هنا تسمية المرض بـ “مكنسة الساحرة: لأن مجموعات الأغصان هذه تشبه الصورة الخيالية لمكنسة الساحرة في القصص والخرافات الشعبية في أوروبا.
لكن أحد أهم تأثيرات الفيتوبلاسما أنها تعطل عملية التمثيل الكلوروفيلي الذي تقوم عليه حياة النباتات واخضرارها، ولهذا فإن الأشجار المصابة تبدأ بالاصفرار التدريجي ويصبح لونها أقرب إلى البني الفاتح. وبالطبع، فإن عجز الشجرة عن تمثيل الكلوروفيل يؤدي إلى إضعافها وإلى موتها مع الوقت، وخلال تلك المدة فإن إنتاج الشجرة يتراجع بشدة بحيث تفقد أي قيمة اقتصادية، وهذا ما يجعل من الأفضل اقتلاعها بسرعة فور ظهور المرض وعدم الانتظار، وذلك خوفاً من أن تتحول الشجرة المصابة إلى قاعدة لنقل المرض إلى أشجار وسلالات أخرى من الأشجار المثمرة أو البرية.

شجرة نخيل البلح مصابة بمرض الفيتوبلاسما وقد جفت وتحول لونها من الأخضر إلى البني
شجرة نخيل البلح مصابة بمرض الفيتوبلاسما وقد جفت وتحول لونها من الأخضر إلى البني

أسبابه وعوامل انتشاره
سبب انتشار بكتيريا الفيتوبلاسما من شجرة إلى أخرى أو من بستان إلى آخر هو نقل العصارة النباتية المصابة بواسطة حشرات ماصة نطاطة مثل البسيليدا ويسمى “الفرفور الأبيض” (راجع الصورة)، فهذه الحشرة الماصة ليس فقط يمكنها نقل البكتيريا من شجرة الى أخرى، بل هي في حد ذاتها حاضنة للبكتيريا التي يمكنها أن تعيش داخلها وتتوالد بحرية.
ومن العوامل التي تساعد على إنتشار المرض زراعة نصوب مصابة، أو التطعيم بمطاعيم مصابة، أو تلوث مقص التقليم أو غيره من عدة العمل الحقلي أو بقايا جذور الأشجار المصابة في أرض المشتل من العام السابق.
رغم أن مرض الفيتوبلاسما ينتقل بواسطة الحشرات الماصة للعصارة النباتية، فإنه وفي عدد متزايد من حالات المرض التي تصيب أنواعاً جديدة من الأشجار أو المحاصيل، فإن العلماء لم يتمكنوا بعد من تحديد واسطة النقل التي تنشر هذا المرض. كما أنه، وفي العديد من الدول النامية، فإن المرض غير معروف للمزارعين، لذلك، فإنهم عند ظهور أعراض اصفرار في الأوراق ناجمة عنه يعتقدون أن السبب عوامل أخرى فيزيائية فلا ينتبهون إلى حقيقة الإصابة وخطورتها.

طرق الوقاية
لا يوجد علاج لهذا المرض حتى الآن، وكل ما يمكن فعله هو محاولة منع انتشاره ومحاصرته، وذلك باتباع الخطوات التالية:
قلع الأشجار المصابة فوراً مع القسم الأكبر من جذورها وحرقها ثم طمرها في أماكن غير صالحة للزرع ولا تحوي مياهاً للري.
عدم غرس أشجار من مجموعة اللوزيات أو اللوز مكان الأشجار المقتلعة أو بالقرب منها لأن هذا المرض يبقى لسنوات عدة في التربة، خاصة في القسم المتبقي من الجذور الأرضية بعد قلع الأشجار.
أخذ المطاعيم من أشجار لا تحمل هذا المرض، وأخذ الغراس من مصدر موثوق.
تنظيم دورات إرشادية حول هذا المرض والتعرف عليه وكيفية التعامل معه.
إجراء مسح ميداني مفصل ودقيق من قبل خبراء بهدف تحديد مواقع وأماكن الأشجار المصابة، وربما وضع خارطة يتم تحديثها باستمرار لأماكن وجود الإصابات ومعدل تركزها في كل منطقة من لبنان.
مراقبة المشاتل المنتجة لأشجار اللوز واللوزيات في بداية نموها أواخر فصل الربيع أي عند ظهور الإصابة إن وجدت، علماً أنه وفي حال تكاثر الإصابات، فإن من الأفضل أن تحظر الدولة على المشاتل كلها التعامل بالأنواع المصابة من مصدر محلي حتى انجلاء الصورة وتبلور سياسة وطنية لاحتواء الوباء، لأن المشاتل هي أفضل وأسرع وسيلة لنقل المرض إلى جميع مناطق لبنان من خلال ما تبيعه من شتول للمواطنين.
التأكد من خلو المعدات الزراعية من المرض مثل أدوات التقليم والتطعيم والمحاريث ومعدات النكش.
في الختام، إن مرض الفيتوبلاسما خطير جداً نظراً لسرعة انتشاره المميت، ولأنه لا يزول بسهولة عندما يظهر ويستوطن. لذلك، فإننا ننتظر كخطوة وقائية على مستوى لبنان، أن تعلن وزارة الزراعة في وقت قريب عن القيام بقلع جميع أشجار اللوز والدراق (المريضة والسليمة) في أي منطقة تظهر فيها إصابات بنسبة مرتفعة (تزيد على 20 في المئة) مع حرق الاشجار المقتلعة في أماكن مخصصة، ومنع زراعة هذه الأصناف لأكثر من خمس سنوات في المناطق التي تثبت إصابتها.

مساهمات حرة

المحبة وأعداؤها

بسم الله الرحمن الرحيم الذي هو المحبة وبالمحبة أوجدنا، وبالمحبة يرعانا، وبالمحبة أوصانا، وبالمحبة أرسل كبشه إلى نبيه إبراهيم، فأصبح للبشرية بذلك عيد للتضحية، هو في الحقيقة عيد للمحبة المطلقة للرب إلى حدّ التضحية بالنفس بكل طيبة خاطر في سبيل طاعته.
أين نحن من المحبة؟ وكيف يمكن أن نعيشها في زمن غلبت فيه مشاعر السلبية والتنابذ على علاقات الناس وهيمنت روح الفرد والأنانية؟ لا سبيل لنا في ضوء كل ما نعانيه إلا غسل القلوب من كل ما هو ليس محبة لتبقى المحبة صافية وتصبح أيامنا كلها أعياداً. لكن من أجل أن نحيا بالمحبةلا بدّ لنا أولاً من أن نتنبه إلى أعدائها وأن نتغلب عليهم.
وأعداء المحبة كثر، وأولهم الغضب فهو يعمي البصيرة ويشل التفكير وقد يؤدي إلى ارتكاب الحماقات، وهذه تزيل احترام الإنسان للإنسان وتخرج المحبة من القلوب.
ومن أعداء المحبة الحسد الذي هو اعتراض على حكمة الرزاق في توزيع الأرزاق، والحسد جهالة محض لأنه لا يغيّر من أمر الله شيئاً بل يؤذي صاحبه. على العكس من ذلك، إذا صفيت المحبة فرحنا بما اعطى الله لغيرنا كما لو اعطي لنا فنكون بذلك شركاء في سعادة الآخرين دونما حاجة لأن يكون لنا ما لهم.
ومن أعداء المحبة الحقد، وهو الأصعب غسله لأنه يعلق بالنفوس ويحجر العقول، فيلزمنا الكثير من الجهد والتعب حتى لا يقضي علينا، ويسرق منا العمر، ونحن خائضون في أوحال الكره وأسرى سجن الكراهية.
هذه الثلاثة (الغضب والحسد والحقد) خصال ضدِّية لها فروع كثيرة لو أتينا على ذكرها لطال بنا الشرح، ولكن علاجها يكون بسلوك طريق القرب من الله تعالى، فنرى بنوره وتتوسع مداركنا فتنكشف لنا حقائق كانت امام أعيننا، لكن لم نكن نراها، كما تأتينا من دون جهد حلول كنّا نجد صعوبة في تصورها بسبب الوهم وغشاوة نفوسنا.
الكل بالطبع يدعو إلى المحبة، لكن هذه صارت في الحقيقة نفاقاً وشعاراً أجوف، وبدلاً من المحبة العاقلة في الله وهي محبة مانحة للنور، سقطنا في مزالق الشهوات وظلماتها فأصبحت المحبة في الحقيقة سباحة في الوهم ونزوعاً لأسر الآخر أو صفقة كأي صفقة تجارية.
محبتنا جوفاء فارغة، لأنني قد أحب فلاناً لكنني لا أصدقه القول، وأتحدث بالخير لكنني لا أتصدق من مالي لكي أغيث ملهوفاً أو أمسح دمعة فقير أو محزون، وأحب زوجتي ولكني لا التزم الوفاء لها، وأحب أهلي ولا أطيعهم، وأحب اصدقائي وأغدر بهم، وأحب حسن المعاملة ولكن لا أدفع حقوق الناس، وأحب الاخلاص في العمل ولكن لا أخلص في عملي، وأحب الله وأعصي اوامره.
فصح فينا قول عبدالله ابن المبارك:
تعصي اله وانت تظهر حبه هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لاطعته ان المحب لمن يحب مطيع
لنرجع الى عقولنا، فالعقل هو الذي ميّزنا عن الحيوان ومن دونه نصبح أدنى من الحيوان.
المحبة الحقيقية هي نظام، هي أن تعمل بالعقل لا بالعاطفة، هي أن تربي ولدك على الفضيلة لا على أهواء النفوس وشهواتها، هي أن تربي ولدك على الحلال والا فأنت لا تحبه مهما قلت وغاليت، وهو لن يحبك مستقبلاً، ولن يكون باراً بك، وهذا سر الجفوة بين الاهل وابنائهم، حيث تكون عقوبة الاهل عقوق أولادهم لهم.
نذهب الى الصائغ لشراء الذهب، ولا نرضى إلا بالصافي، واذا غشنا شكيناه في المحاكم، لكننا نرضى أن نغش المحبة بالضغينة والكره والحقد والحسد، مع أنها اساس هذا الوجود، فكيف يستقيم بناء وجودنا اذا غششنا في الأسس.
كميل بو غانم -ابو ظبي

سقراط: المعلم العظيم
لا مراجع تفيدنا عن حياة سقراط أفضل ممّا جاءنا عن طريق تلميذه النجيب أفلاطون؛ الذي كتب عنه في محاوراته، فنحن مدينون له بمعظم ما نعرفه عن سقراط، ذلك المعلّم الكبير الذي اعتبر أنّ قيمة الإنسان هي في القدر الذي يحصله من المعرفة، وليس في ما يجمعه من المال أو يحققه من الجاه لأنّ المعرفة هي ما يعطي الإنسان قيمته الإنسانية ويقربه من الله، أو كما جاء في الحديث الشريف: “من عرف نفسه فقد عرف ربه”.
حكمة.بالمجان
اعتبر سقراط التربية وسيلة لنشر الفضيلة، ولمّا أراد منه بعض أثرياء مدينة أثينا، التي كانت آنذاك مدينة مزدهرة لإمبراطورية بحرية كبرى، تعليم أولادهم جرياً على عادة ذلك العصر، فإنه رفض عرضهم رغم أنه عاش حياته فقيراً. لكنه في المقابل كان يبذل جهده في نشر المعرفة بين الناس الذين كان يرى فيهم الإخلاص والرغبة الصادقة بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية.
ولأنّه كان مولَعاً بحب الحكمة ويرفض ربط تعليمها بالمال، فقد ابتكر أسلوباً فريداً في عصره، إذ كان ينزل إلى سوق أثينا، ويرتاد المجتمعات العامة ليناقش ويتحدّث بحرّية وجرأة إلى كل من يأنس منه ميلاً إلى الحوار والنقاش. وهكذا، فإن نشاطه التعليمي لم يكن يرتبط بمكان أو بنظام معيّن.
عندما نقرأ سقراط نجد أنّه يربط بين التربية والفضيلة ربطاً عضويّاً، إذ يركّز في تعاليمه على أهمّية تعلّم الفضيلة عندما تكون منظومة من القيم لها هدف وغاية. فهو يريد تعلّم الفضيلة التي يراها من حيث جوهرها تشكّل الغنى الحقيقي للنفس الإنسانيّة، كما يعتبر أنّ التربية تمثّل علاج النفس الأكثر فعالية، وأنّه لا يصح أمر التربية إذا تسلّمتها الأيدي الغريبة الخالية من الضمانات الأخلاقيّة. ولم يكن سقراط طبيباً بالمعنى المتعارف عليه في عصرنا هذا، ولكنه اعتُبر طبيباً للنفس الإنسانية، وذلك لأنه تناول المعرفة من حيث هي غذاء النفس، وبها تستطيع أن تميّز ما هو خير، وما هو شر. وبهذا المعنى، فإن العلم الحق عنده هو علم الخير، ذلك لأنّه ينير العقول ويحفّزها على الفاعليّة، ويصهر ويطهّر القلوب، وعلى كل إنسان أن يتطلع إلى تحصيل العلم الحق الذي يقربه من حقيقة نفسه والوجود وليس العلوم السطحية.
شجاعته في الحق
انتقد سقراط الديمقراطية كما كانت مطبقة في زمانه بتأثير السوفساطائيين، ذلك لأنه رأى فيها مدرسة للجدال والتلاعب بعواطف وأفكار الناس، وكان لأفكاره وقع وتأثير، أشعر أصحاب النفوذ في زمانه بالخطر فتألبوا عليه ولفقوا له تهمة “إفساد الشباب” والتجديف على المعتقدات الأثنية (الوثنية)، وقدم سقراط إلى محاكمة مدبرة بدا فيها واضحاً أن الحكم اتخذ قبل المرافعات، ورغم أنه دافع عن موقفه بجرأة إلا أنه بعد أن حكم بالإعدام ترك له المجال ليتقدّم بـ “طلب استرحام” كان يمكن أن يرفع عنه سيف الإعدام، لكنه رفض ذلك العرض الماكر الذي أراد إظهاره بمظهر الجبن، وبالتالي تسويد صورته في نظر مريديه ومحبيه، كما رفض سقراط عروض محبيه بتدبير فراره من السجن ساخراً من اهتمامهم بسلامته مستهزئاً بفكرة الموت.
سلّم الفضائل السقراطية
أعلى الفضائل في السلّم القِيَمي عند سقراط هي فضيلة المعرفة، ومع أنّه لم يضع للقيم سلّماً متدرّجاً، فإنه رأى في العمل فضيلة تَلي فضيلة المعرفة، إذ أن العمل يصون كرامة الإنسان كما أنه أحد مسالك تحصيل المعرفة وتأمل الحياة. أما الفضيلة التي تتلو العمل عند سقراط فهي فضيلة القناعة لأنها تحمي الإنسان من الجشع، وتساعده في كبح جماح شهواته، وهي بالتالي سبيل التحرر من النفس الضدية وشغل العقل بالبحث عن الحقيقة. واعتبر سقراط الصداقة من أهم الفضائل لأن الصديق المخلص يهتم بصديقه كاهتمامه بنفسه. وبما أن كافّة الفضائل السقراطية تتأتّى من العقل، فقد اعتبر سقراط العقل مصدر الحقائق كلها.
المعرفة أساس الحكمة والأخلاق
اعتبر سقراط أن معرفة النفس والتصرّف الحكيم يصلان بصاحبهما إلى سبيل السعادة، تلك السعادة التي لا تأتي إلى الإنسان بالصدفة، أو بضربة حظ، بل يكون مصدرها المعرفة والتعلم على يد معلم، وهذا المبدأ طبقه سقراط عندما تفرغ بكليته لتهذيب أخلاق ونفوس الشباب في عصره، وقد أهمل في سبيل هذه الغاية حياته الخاصة، بل إن المعلم العظيم لم يتردد في تقديم حياته دفاعاً عن حقه في تعليم أجيال أثينا، وفي ذلك الموقف الخالد قدّم سقراط أسمى مثال على الشجاعة والتسليم والتضحية في سبيل الحق.
إبراهيم العاقل

المعلم الذي أفتقده
من يزور لبنان لا بدّ له من زيارة قلعة بعلبك ومشاهدة أعمدتها الستة، ومن يزور لبنان لا بد له من زيارة قصر المختارة ومشاهدة كمال جنبلاط العامود السابع. هذا الكلام للصحافي الراحل ميشال ابو جودة من مقطوعته اليومية من حقيبة النهار سنة 1974. لم يكن كلام الراحل ابو جودة على سبيل المجاملة ولم يكن كلاماً عاطفياً، لأنه من المعروف عنه أنه كان يتصف بالموضوعية، بل قد يكون المقصود منه أن تعاليم المعلم كمال بك سوف تجد من يقرأها ويعمل بها طوال قرون من الزمن، كما هي أعمدة بعلبك منتصبة لمدة تزيد على عشرين قرناً.
وبالفعل أن محبي كمال جنبلاط هم قرّاؤه، فلقد كان كل من حلفائه أو خصومه ينحني لكتاباته بكل احترام.
فقد قال المعلم: كل القوة والعظمة تنبع من عدم الخوف ليكن عندك الايمان الذي لا يتزعزع في نفسك عندها كل الأشياء الايجابية والنبيلة ستأتي إليك ما من أحد يمكنه أن يرعبك أو يزيحك عن درب رحلتك.
ومما كتب عنه الصحافي الهندي رافي ناير: نادرة هي النفوس التي يشعر الحاضرون حولها بومضات البركة والنعمة والإطمئنان. كمال بك بايماءاته وسلوكه وفصاحته المحببة والبيئة العفوية من السعادة التي كان ينشرها حوله تعطي إشارات النفس التي تتقمصها البركة، فالمحظوظون كفاية هم الذين أتيحت لهم رؤيته شخصياً أو سماعه والإستمتاع بتلك الفوائد. فكلام الصحافي ناير يتطابق مع قول الفيلسوف الاغريقي فيتاغوراس: ليس لله تعالى في الأرض موضع اولى به من النفس الطاهرة.
كم أحببت لو كنت معاصراً للمعلم لأستمتع بمجالسته أو أتنور بكلامه، فما عرفته عنه أنه كان قائداً متواضعاً وعاملاً متعالياً أسس حزبه يوم عيد العمال، فكان العمل من مقدساته، والعمّال هم اصحاب المنازل العالية بنظره. تكلم بإسمهم – الفقراء والمشردون سوف يحررون العالم – لم أكن من المحظوظين كفاية لأتعلم اكثر، فلقد كان رحمه الله يعلم من أين تبدأ النقطة على قوس الدائرة، والى حيث تنتهي.
العقيد المتقاعد طالب عرنوس

العرس بين الأمس واليوم
خلال مئات السنين، كان العرس الدرزي، من أروع احتفالات الزواج في العالم. فقد كان يجمع كافة أبناء المجتمع، الرجال على حدة، والنساء على حدة، وكانت تقام به أجمل العادات، وألذ وأطيب المعاملات، من حيث صيانة الكرامة والشرف والفضائل. وفي الوقت نفسه، كانت تبرز في العرس التقليدي، المشاركة الحقيقية في الفرح، والنخوة، والكرم، وعندما كنتَ تقترب من بيت فيه عرس، كنت تشعر بالفرح والبهجة، إذ ترى الموائد والكراسي تملأ الساحة وأهازيج النساء ودبكاتهن الشعبية البريئة تصدح في الفضاء. وفي مكان قريب، كان الشباب مجتمعين على الدبكات الحماسية والسحجات على وقع الشبابة والمزمار، وكان شيوخ وأعيان المجتمع، يتصدّرون المحتفلين، فكان أعيان القوم يدعون الى الغداء، ويذهبون في مقدمة وفد أهل العريس، يطلبون الإذن من والد العروس، أن يسمح بانتقالها إلى بيتها الجديد، ولم ينقص من هذا الجو أن العريسين، كانا أحياناً، يسكنان في غرفة صغيرة في بيت والد العريس، وقد مرّت ظروف، كان العريسان الجديدان يحصلان على زاوية في باحة البيت، وراء خزانة تستر مبيتهما.
أما اليوم، فقد أنعم الله علينا، والحمد لله، بالخيرات، وأصبح بإمكان كل إنسان أن يقوم بسائر المراسيم والواجبات والمتطلبات مثل أي إنسان آخر. ونحن نقول، كل من يستطيع إلى ذلك سبيلاً فليهنأ ولينعم الله عليه من خيراته، وليمتلء بيته بالأولاد والمباهج والسرور. لكن هذه أعراس اليوم أصبحت تقليعة، أو موضة “إلزامية” أصبح على كل إنسان أن يتقيد بها. وفي السابق كان صاحب القليل مقتنعاً بما لديه شاكراً الله تعالى على ما أنعم به عليه، أما اليوم، وبسبب توفر القروض والبنوك والإمكانيات، فإن الكثيرين لم يعودوا يقتنعون بما عندهم، وقد بات في مقدورهم الحصول على قروض مصرفية أو ربوية أحياناً من أجل ترتيب عرس يفوق إمكاناتهم كل ذلك على سبيل التقليد والمباهاة الفارغة، لكن المشكلة تكمن، ليس في الحصول على الأموال، بل في تسديد تلك الأموال. ومن له اطلاع على البنوك والمحاكم ودائرة الحجز، يرى العشرات من الذين كانوا مبتهجين بعرسهم الفخم، ملاحقين من المصارف ومن المحاكم بعد أن عجزوا عن سدّ ديونهم. وقد “راحت السكرة وجاءت الفكرة” كما يقال، بل إن تزايد ظاهرة الطلاق قد تكون أحد أسبابها مشاكل ما بعد العرس، ويقول المثل “القلة تولد النقار”.
كان العرس في الماضي حدثاً بهيجاً واحداً يستغرق نهار القرية ويجمعها. أما اليوم، فقد تحوّل إلى مسلسل أعراس أو قل مسلسل احتفالات مكلفة. فهناك حفلة والد العريس، وحفلة والد العروس، وزفة العريس، وسهرة العروس، ومنتزه لأصحاب العريسين. وقد انتقل قسم من العبء إلى الناس الذين بات عليهم تقديم المساعدة في حساب مصرفي يفتحه العروسان أو شراء الهدايا السخية لهما. وهناك مئات وآلاف الموظفين والأجراء الذين باتوا يتضايقون يئنّون من الأعراس بسبب ما تحمله لهم من أعباء.
المهم أن كل هذه المصاريف والتكاليف لا تنتهي في جيب العروسين أو تساعدهما لأن كل مزاريب العرس تصبّ في جيوب أصحاب المصالح المسماة بصناعة الأعراس، والتي تضم المقاولين، وأصحاب محلات الأثاث، والمزينين والمزينات، وأصحاب حوانيت ملابس الأعراس، وفرق “الزفّة”، وباعة المفرقعات والألعاب النارية، ومهندسي الموسيقى والإضاءة وسيارات الزفاف، وغيرهم كثر .. فهنيئاً لكل هؤلاء.
قد يسأل أحدهم، وماذا تريد ؟! وسأجيب: لنعد إلى التقاليد السليمة ونجعل من عرسنا احتفالات بيتية صغيرة، ومن أراد أن يزيد على ذلك فليكن ذلك ضمن ما يناسب طاقته وقدرته المالية. لكن علينا، ألاّ نحوّل هذه الأمور إلى فرض اجتماعي ولنوجه إمكانات العروسين وأهلهما لبناء بيت الزوجية والإعداد لاستقبال الأولاد والقيام بأودهم ونفقات تنشئتهم وتعليمهم وغير ذلك. ولا أهمية في الحقيقة لأي عرس لكونه كبيراً أو مكلفاً، بل الأهمية هي لما يجري بعد العرس من تفاهم وانسجام وتوافق وتعاون وحياة مشتركة.
سميح ناطور – فلسطين

تعليق الضحى
إن المشهد الذي يقدّمه المجتمع في مناسباتٍ اجتماعيّة عامّة كالأعراس وغيرها، هو مشهد يعبّر عن عادات الجماعة ،ومفاهيمها الحياتيّة وآدابها على العموم، وعن مدى ارتباط أصحاب المناسبة بالقيَم الأصيلة على الخصوص. لذلك، فإنه من الأوجب والأليق والأحسن أن تتمّ المحافظة في مثل هذه اللقاءات على روح الاعتدال الجميلة في التصرّفات واللياقات والأزياء. وتُراعى فضائل الاحتشام والرّزانة بحيث تكون الذكرى مثالا في المجتمع، وقدوة للأجيال الشابّة. وبالتأكيد، فإنه بهذه النوايا تحلّ البركة ويكون التوفيق.

هاتوا القَلَم

خلّـــو القلم يحكي وبلا الخنجـر الخنجر كلامو مغمّس بأحمـــــــــــر
أما القلم رمـــز الأدب والفـــــــــن بيخلـــق مدينـــه ثوبها أخضـــــــــــــر
خلّو القلم يحكيلنـــا حكايــــــــــات عن وطـــن مخضـــــرّ وجنّــــــــــــــات
عن مدينــــــــــــــــه فاضله وآيــــات عن كـــون بالأخـــلاق يتـــــــــــــــــزيّن

خلّو القلـم يبقى بديل رصـــــاص عمينتقـــــم.عميحصد بهالنــــاس
أمّا القلــــم للمعــــرفه نبــــــــراس بيخلـــق وطـــن بالعـــدل يتعمـــــــــــّر
خلّو القلم يكتب قصص أخـلاق عن محبّـــه عن عقــــل خــــــــــــــلاق
حتى القلــب للمكرمــه يشتــــــــاق ومن عقــدة الأحقـــــاد يتحــــــــــــرّر

خلّو القلم يحكيلــنا عن عصـــــر يوم العـــدل للنـــاس يعقد نصـــــــر
ولمّا يصير الكوخ خيّ القصـــــــر بنحسّ يومهــــا العالـــم تحضّــــــــر
انشالله القلم يحكي.وبلا مدفـع يقصــف.يدمّر معمــل ومصـنــــــع
والقلــــــــــــم للمعــــــرفة مرجــــــــع بيفتـــح طريق النـــور للإنســــــــــان

يحيا القلـــم وليســقط الخنجر

 

محاورة مينون

محـــاورة مينــــون

الفضيلـــــــــة هِبـــَة إلهيـــــــــة
فهــــــل يمكـــــــــن تعليمــــــــــها؟

محاورة مينون تكشف عن عمق الفوضى الفكرية
والفســـــاد القيمي للفكر السوفسطائي في أثينــــا

مينون يحاول إنكار المعرفة وإمكان تعلمها
فيرد سقراط بمثل العبد والمربع الهندسي

تدور محاورة مينون حول مفهوم الفضيلة، وإذا ما كانت قابلة للتعليم والتعلُّم، أو ما إذا أمكنَ تحصيلها بالتجربة أو أنّها ماثلة بالطبيعة في الإنسان. ويسعى أفلاطون إلى استجلاء حلٍّ لتلك المعضلات المنطقية التي تفرضها هذه الأسئلة بتسليطه الضوء، من خلال الفرضية والتحليل الهندسي، على نظرية أن «المعرفة تذكُّر» وتأصّل الحقائق والكلّيات في النفس، بما يعكس أبعاد التعاليم الفيثاغورية والأورفية، ويُمهِّد من خلال سياقها الفلسفي لمحاورة فيدون حول خلود النفس. وفيما تخلُص المحاورةُ إلى أنّ الفضيلة هي «هِبَة إلهية»، فإنّ طرحَها لنظرية «المعرفة تذكُّر» يبقى السِمة الأبرز للطرح الحكمي اليوناني منذ فيثاغوراس وحتى أفلاطون.

إن إحدى الفوائد التي تقدمها محاورة مينون هي أنها تلقي من طرف غير مباشر الضوء على الفوضى الفكرية وأزمة القيم التي خلقها انتشار الفكر التشككي السوفسطائي في القرن الخامس قبل الميلاد، والذي سيسهم إلى حد كبيير في انهيار مكانة أثينا وتدمير قيم مجتمعها.
وفي حنين إلى ماضي أثينا المجيد اختصر الكاتبُ الإغريقي التراجيدي يروبيديس (Euripides) في صرخته المريرة الحاضرَ المؤلمَ الذي عاشَه في تلك الفترة المضطربة:
الحيــــــــــاةُ تغيـــــــــَّرت، وقوانينُهـــــــــا أُهمِلَـــــــــت
الإنســــــــــــــــــانُ قــــــــــــــــــد نَســــــــــــــــــِيَ الإلـــــــــــه
كان تأثير السوفسطائيين المفسد وراء تقهقر المعايير الأخلاقية والدينية، والتشكيك بالفضائل الأساسية كالعدالة والأخلاق والمعرفة، واحترام القانون. كان علمُهم فناً ومهارة بلاغية وجدالية فحسب، كما يؤكد أفلاطون، وليس ثقافة حقيقية ولا تنويراً.
وبتأثير السوفسطائيين، أخذ التعليم في ساحات أثينا ينأى عن التشديد على الفضائل الأخلاقية والحكمية وقيم الفروسية السامية كالشرف والشجاعة والمروءة والولاء والشهامة والاعتدال لينصَبّ على مواهب بلاغية تفيد المرء في تحصيل أعراض الدنيا أو في الحصول على موقع سياسي أو وجاهة اجتماعية وفقاً للقِيَم الوضيعة الجديدة التي سوّقوا لها، والتي قادت في نهاية المطاف إلى محاكمة شبه صورية لسقراط الحكيم انتهت بالحكم عليه بالموت.
مع نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، كانت جميع نواحي الثقافة الأثينية، الاقتصادية والسياسية والفكرية والاجتماعية، قد تقهقرت بفعل نشر عقيدة التشكُّكِ السوفسطائي إزاء احتمال الحصول على المعرفة والحقيقة، وهو ما قاد إلى ازدراء الفلسفة الحقّة والحط من قدر الحكمة الأصيلة، وعززت تلك النزعة الميول الفردية الأنانية بذرائع واقعية تكاد تشبه كثيراً البرغماتية التي اتسع نفوذها في عالم اليوم! وقاد هذا التفكك الاجتماعي والتشكيك بالقيم إلى خسارة الحضارة الإغريقية لروحها الأصيلة فعلاً، والتي مكّنت أثينا، من أن تهزم امبراطورية عظيمة كفارس قبل أقل من قرن.
عارض بروتاغوراس (Protagoras)، أحد السوفسطائيين الأوائل، الإدراك العقلي الحقيقي بالإدراك الحسّي المادي، ملقياً ظلال الشك الثقيلة على كل حقيقة مُدرَكة بالعقل، وبالتالي على إمكانية المعرفة. فكل شيء نسبي وفقاً للإنسان الذي يتناوله بإدراك عقلي كان أو حسّي. فالإنسان برأيه هو «مقياس جميع الأشياء»، رافضاً بذلك جميع الحقائق الفلسفية والعلمية العامة، وهو ما تصدّى له أفلاطون وفنّده في أكثر من محاورة، مُبيّناً أنّ النفسَ مفطورةٌ على الحكمةِ والمعرفةِ التي تكتسبها بالتأمّل العقلي الفلسفي لا بالإدراك الحسّي، والمعرفةَ الحقّةَ هي معرفةُ الماهيات الكُلِّية أو المُثُل العليا لا الجزّئيات المتمثّلة في الأعراض المتغيّرة للوجود الظاهر.

“سقراط: حيازة الأشياء ليست فضيلة ما لم تتــــم وفق مبدأ العـــدل والحـقّ والتقوى”

المحـــــــــاورة

مينون يعلن موقفه المتشكك
المشهد: مينون محاطاً بحاشيته ومسحة من صلف السوفسطائيين تتبدّى على مُحيّاه. يبدأ الحوار سائلاً سقراط: «هلّا أخبرتني يا سقراط ما إذا كانت الفضيلة شيئاً ممكن تعليمُه؟ وفي حال لم تكن قابلة للتعليم، هل هي مما يُكْتَسَب بالممارسة؟ أو أنّها لا تُكْتَسَب بالممارسة ولا تُحصَّل بالتعلُّم بل تكون قائمة في الكائنات البشرية بالطبيعة أو بطريقة أخرى؟».
رغم الخيارات المتعددة التي طرحها مينون من أجل إرباك الحوار، فإن النقاش في المحاورة سيتركز على الاحتمال الأول، أي هل الفضيلة يمكن تعليمُها، ذلك السؤال الذي طغى على ما سواه، وتبدّت أبعاده مع تطوُّر المحاورة وقيام أفلاطون بتفنيد المفارقة التشكُّكية التي طرحها مينون وصولاً إلى طرح نظرية المعرفة تذكُّر وإثباتها بالتحليل الهندسي وصولاً إلى الجزم بأن الفضيلة «هِبَة إلهية».
وسنرى كيف سيسعى سقراط خلال الحوار إلى دحض تصوُّرات محاوره منذ البداية وإثبات فشل رؤيته المتأثرة بغورجياس حول الفضيلة. وهو سيقود مينون إلى الوقوع في قبضة الحيرة والإرباك مظهراً إفلاس مقولته.
بدل أن يقدم سقراط جواباً على فرضيات مينون معطياً إياه فرصة المضي في المماحكة، فإنه اتبع أسلوبه الخاص بالإجابة على السؤال بسؤال آخر يستهدف تصويب منهجية الحوار. قال موجهاً كلامه إلى مينون إنّه «لا يعرف ما هي الفضيلة». ردّ مينون بأنّه وفقاً لِمَا سمعه من معلّمه غورجياس فإنّ الفضيلة «تختلف بحسب اختلاف الأشخاص والجنس والعمر»، إلا أنّ سقراط يرفض ذلك قائلاً لا بُدّ أن تكون ثمة فضيلة مشتركة لدى الجميع مهما كانوا، وأيّاً يكن جنسهم أو عمرهم، فحُسن الخُلق والعدالة على سبيل المثال هما فضيلتان موجودتان لدى الصغار كشأن الكبار.

سقراط: يبدو يا مينون أنّني حظيتُ بقسط وافرٍ من الحظ، إذ إنّني عندما بحثتُ عن فضيلةٍ واحدة اكتشفتُ أن لديكَ حشداً من الفضائل. وإذا ما سألتُكَ، تماشياً مع هذه الصورة، عن ماهية النحل وقلت إنّ هناك أنواعاً مختلفة منها، فكيف تُجيبني إذا ما سألتُك: هل تعني، من هذه الناحية، أنّ ثمة أجناساً مختلفة منها يختلف أحدها كلياً عن الآخر، أو أنّها لا تختلف اختلافاً اصلياً، بل في نواحٍ غير أصلية مثل الجمال أو الحجم أو أي شيء آخر من هذا القبيل؟ أخبرني كيف ستُجيب إذا ما سُئلتَ على هذا النحو؟
مينون: أقول في ذلك إنّها لا تختلف، من حيث كونها جماعات نحلٍ، الواحدة عن الأخرى.
سقراط: وإذا ما قلتَ بعد ذلك: أخبرني الآن يا مينون بأيِّ شيء لا تختلف بل تتشابه جميعاً، فما قولك في ذلك؟ أفترضُ أنّ لديك ما تقوله لي؟
مينون: نعم، هو كذلك.
سقراط: الأمر ذاته ينطبق على الفضائل أيضاً. فإذا كانت ثمة أنواعٌ مختلفة منها، فإنّها تتماثل جميعاً في هيئة واحدة، تُعرِّفها كفضيلة.
مينون: أظنّني أفهمك، ولو أنّني لم أستشفّ المقصدَ من سؤالك كما أودّ.
سقراط: هل يبدو لك على هذا النحو يا مينون، في ما يختص بالفضيلة فحسب، بأنّ ثمة فضيلة للرجل، وأخرى للمرأة، ونحو ذلك، أو أنّها الفضيلة ذاتها بالنسبة إلى الصحة والحجم والقوة أيضاً. فهل تظنّ أنّ هناك صحة للرجل وأخرى للمرأة؟ أو أنّها بالهيئة ذاتها في كِلتا الحالتين.
مينون: أظنُّ كذلك بالنسبة إلى الصحة على الأقل، فهي ذاتها لدى الرجل والمرأة على السواء.

أدى أخذ سقراط للحوار في هذا المنحى إلى ارتباك مينون وفكره التشككي، لذا نراه مستاء بعض الشيء ويشبّه سقراط بالسمكة اللاسعة التي تصعق ضحيتها وتشلّها، (أي بأسئلته التي حيّرت عقل مينون وكشفت كم هو بعيد عن الحقيقة). انتقل مينون إلى محاولة تعريف الفضيلة بإعتبارها «القدرة على إحراز الأشياء القيِّمة مثل الذهب والفضة والمقتنيات الأخرى. إلا أنّ سقراط يُجبره على الإقرار بأنّ حيازة مثل هذه المقتنيات لا بُدّ من أن تتم وفق مبدأ العدل أو الفضائل أو التقوى إذا كان العمل لأجلها سيعتبر «فضيلة»، كما أن عدم إحراز تلك الأشياء سيكون هو الفضيلة بعينها إذا كان السبيل إلى إحرازها يحتوي على معارضة العدل أو الحق.
يبدي مينون في الثلث الأول من المحاورة طبعاً جدالياً وخصامياً، فبعد إخفاقه بداية في تعريف الفضيلة اقترح عليه سقراط أن يُعرِّف أولاً، من باب «التمرين» الشكل واللون، إلا أنّه بحُكم تعوِّده على الثقة المفرطة بالإجابة عن كل سؤال، كما عوَّده معلّمه غورجياس، رفض محاولة الإجابة وقال لسقراط «إفعَلْ أنت».
هنا يدعو سقراط مينون مجدداً إلى الانضمام إليه في بحث مشترك عن ماهية الفضيلة، إلا أنّ مينون يعود تهرّباً إلى طرح تساؤلاته الثلاثة الأولى، أي هل الفضيلة ممكن تعليمها، أم هي تُكْتَسَب بالممارسة، أم هي قائمة في الإنسان بالطبيعة؟

غورجياس-كان-أحد-أساطين-السوفسطائة-ومعلم-مينون
غورجياس-كان-أحد-أساطين-السوفسطائة-ومعلم-مينون

التعليم السقراطي
ما لم يفطن إليه مينون هو أنّ سقراط ببثه الحيرة لدى محاوره إنّما يُجديه نفعاً بأعمال التفكير واستجلاء أبعاد التساؤلات، وبالتالي يمنحه الفرصة لكي يصبح أكثر قابلية لاكتساب الفضيلة. وهنا يخضع مينون للتأديب السقراطي، لكن أنّى له أن يستفيد منه كما نشَدَ سقراط؟ فهو مشوب بالمثالب كما ألمح أفلاطون بين سطور بدايات الحوار، ومنها أنّه مفرط الثقة في النفس، وراغب في أن يُخْبَر لا أن يُخْبِر، وجدلي ومتعجرف ومتباهٍ ومتطلّب وغير آبه وغافل، هذا مع العلم أنّ نهاية الحوار تُنبئ بأنّ مينون لان في موقفه بعد بسط حجج سقراط ولو قليلاً، وهذا يعكس قوة التعليم الذي دأب عليه سقراط، بحيث يخرج محاورِه بدرس معرفي، وذلك بعد إثبات المعلم سقراط لإخفاق طروحاته.

مفارقة مينون
يحاول مينون السوفسطائي إرباك سقراط بقوله بأنّه لا يمكن معرفة شيء لا تعرفه بالفعل، أي أنّه يرفض مبدأ المعرفة من أساسه. ويمكن اختصار مفارقة أو مغالطة مينون(Meno Paradox)المنطقية في الظاهر لكن الخاطئة في الجوهر كما يلي:
إذا كنتَ تعرف ما تبحث عنه، فإنّ البحث المعرفي غير ضروري.
إذا كنتَ لا تعرف ما تبحث عنه، فإنّ البحث المعرفي مستحيل.
إذاً، البحث المعرفي هو إمّا غير ضروري أو مستحيل.

مينون: أنّى لكَ يا سقراط أن تتقصّى شيئاً لا تعلمه؟ وأي شيء سيكون موضوع هذا التقصِّي؟ وإذا ما تسنّى لك أن تجد ما تنشده، كيف لك أن تعلم أنّه ذلك الشيء الذي لا تحيط به علماً؟
سقراط: أعلمُ يا مينون ما هو قصدك، لكن أي جدلٍ ذاك الذي تُوقِعني فيه. فأنتَ ترى أنّ المرء لا يمكنه أن يتقصّى ما يعرفه، أو ما لا يعرفه. فإذا كان يعرفه، فما الحاجة إلى تقصّيه وهو يعرفه، وإذا كان يجهله، فأنّى له أن يتقصّى ما لا معرفة له فيه.

المعرفة تذكُّر
يحتوي سقراط هذه المفارقة السوفسطائية، التي بدا أنّ مينون قد تدرّب جيداً على يدي غورجياس في طرح أسئلتها والإيحاء بإجاباتها، وذلك باللجوء إلى نظرية التذكُّر، بأن ذكّر بداية بقصة شاعرية تتحدّث عن كون النفوس خالدة مدرِكة لجميع الحقائق المتأصِّلة فيها، وقد تعلّمت كل شيء قبل حلولها في جسد الإنسان، فبعد أن كانت مطلّعة على الأشياء الحقيقية قبل الولادة ليس عليها سوى أن تسترجعها أو تستذكرها في هذه الحياة. وربّما لا يتطلّب هذا التذكُّر سوى طريقة سقراط في طرح الأسئلة والاستجواب، وهي ليست بنظره تعليماً بل مساعدة على تحريك ملكة التذكر.
هنا تتبدّى تدريجياً الحبكة الحوارية التي انتهجها أفلاطون في إخراج مينون من ضبابية حيرته، بعد فشله في تعريف الفضيلة ثلاثاً. ومن ثم يحثّ سقراط مينون للعودة إلى منطق الحوار سعياً لأن يُثبت له أنّ التعلُّم هو تذكُّر وليس تلقيناً، فيطلب من مينون أن يختار واحداً من عبيده المرافقين له ويأخذ بطرح أسئلة عليه بشأن ما عرف في ما بعد بـ «مربّع سقراط».

” سقراط: النفوس خالدة مدرِكة لجميع الحقائق المتأصِّلة فيها وقد تعلّمـــت كل شيء قبل حلولها في جسد الإنســـان “

الأكروبوليس في أثينا
الأكروبوليس في أثينا

ختبار العبد
أجرى سقراط عندئذ حواراً ربما يُعتبر من بين الأكثر تأثيراً في مسار الفلسفة، سعياً إلى إثبات المعرفة المتأصِّلة في النفس، قَبْليّاً أو بَدْهيّاً
a priori من غير تعلُّم ولا تعليم ولا استدلال تجريبي aposteriori فبعد أن رسم سقراط على الارض مربعاً هندسياً طول ضلعه قدمان، سأل العبد أن يُحدِّد مربعاً تكون مساحته ضعف مساحة ذاك الذي خطه. اندفع العبد ليضاعف طول كل من ضلعي المربع الأول، لكنه استدرك خطأه بسرعة عندما أثبت له سقراط أنّ المربع الناتج عن مضاعفة ضلع المربع الاول لا يساوي ضعف ذلك المربع، بل هو أكبر منه بأربع مرّات.
مينون الذي كان يشهد الاختبار زعم أن سقراط قام «بـتخدير» عقل العبد بهذا الإرباك. لكن سقراط أجابه بالقول إن إرباك العبد لم يُسبِّب له أذى بل أفاده. يعترف العبد بأنّه عاجز عن حلّ المسألة ولو أنّه ظنّ العكس بداية. ويسأل سقراط مينون عن رأيه في ما قد شاهده، وما إذا كان يُستحسن أن يترك العبد المحاولة بسبب حيرته، فتمنّى مينون عليه المتابعة بالطبع.
ومن ثم عمَدَ سقراط إلى رسم 4 خطوط قطرية(Diagonals)داخل كل من المربعات الأربعة، وأصبح المربع المرتسم من أربعة من أصل المثلثات الثمانية الداخلية طول ضلعه أربعة أقدام، أي ضعف طول ضلع المربع الأصلي، وهذا هو ما كان مطلوباً. وأقرّ العبد بأنّ المربّع الحاصل هو فعلاً ضعف حجم المربع الأصلي، وقال إنّه قد استعاد تلقائياً معرفة «اكتسبها في حياة سابقة» من دون أي تعليم. وأبدى سقراط رضاه عن أنّ ثمة «معارف جديدة» برزت حديثاً لدى العبد.
وهكذا أُظهِرَ للعبد السبيل لتذكُّر ما هو ماثل فيه بَدْهيّاً من حقائق هندسية، وهو لم يتعلّم الهندسة قط، أي أنّه يمكن أن يتعلّم بالتذكّر من دون تعليم. ويُنهي سقراط استجوابه هذا بالتأكيد على أنّ الحيرة تنفع الإنسان ليس فقط فكرياً بل أخلاقياً أيضاً، من حيث السعي إلى معرفة ما لا يعلمه وبعزيمة أكبر.
وهنا، بعد أن رأى مينون بأم عينه كيف تذكّر عبدُه معرفة متأصّلة فيه، أخبر سقراط أنّه يظنّه على حق في نظرية «المعرفة تذكُّر»، فأجابه سقراط أنّه ليس واثقاً كامل الثقة من قصته لكنّ ثمة شيئاً وحيداً متأكداً منه هو استعداده للنضال بقدر استطاعته، قولاً وفعلاً، للإثبات بأننا نكون أفضل وأكثر شجاعة وفعالية إذا ما أقدمنا على البحث في ما لا نعلمه. وأثبت سقراط لمينون أنّ العبد قادر على تعلُّم حقيقة هندسية لأنّه يملك معرفة عنها بالفعل في نفسه، وبالتالي يكون التعلُّمُ ممكناً من خلال التذكُّر، وأنّ مفارقة التعلّم (Learning Paradox) خاطئة لقولها باستحالة التعلّم، إذ إنّ اختبار العبد أثبت عكس ذلك. وأظهر الاختبار الهندسي الأفلاطوني أنّ الفضيلة، إلى جانب المعارف الأخرى، يمكن استكشافها حقاً من خلال استجلاء المعرفة المتأصِّلة في النفس، وليس السبيل إلى ذلك سوى «تذكُّرها» بالمنهج المناسب.

سقراط: يُقال إنّ النفسَ البشرية خالدة. وهي في وقتٍ ما ستصل إلى نهايتها وهو ما يدعوه الناسُ موتاً وفي وقتٍ آخر ستُولد من جديد، إلا أنّها لا تتلاشى أبداً، وبالتالي على المرء أن يحيا تقيّاً ما استطاع.
وإذا ما كانت النفسُ خالدة وقد وُلِدَت مرّات عديدة، وشاهدت الأشياءَ هنا وكذلك في «هادس» أي كلَّ شيء، في الواقع فما من شيء لم تتعلّمه. لذا، لا عجبَ أنّها قادرة على تذكُّر الفضيلة وأشياء أخرى عَرَفَتها من قبل. وبما أنّ كلَّ ما في الطبيعة هو من نوعٍ واحد والنفس قد تعلّمت كلَّ شيء، فما من شيء يمنع النفس التي قد تذكّرت شيئاً واحداً وهو ما يدعونه تعلُّماً من إعادة اكتشاف كلّ شيء، شرط أن تتحلّى بالشجاعة وعدم التواني في البحث، إذ إنّ البحثَ والتعلُّمَ هما جزء من عملية التذكُّر.
لذا، وجبَ ألا نقتنع بالكلام السوفسطائي، بما أنّه يجعلنا خاملين ويسرّ سماعه ضعفاء القلوب، في حين أنّ ما سبق من كلامٍ يجعلنا توّاقين للبحث. وإيماناً بصحة ذلك، أودُّ أن أبحث معك في ماهية الفضيلة.
مينون: نعم يا سقراط، لكن ماذا تعني بقولك بأنّ لا سبيل لنا للتعلُّم، وأنّ ما يُسمّى تعلُّماً إنّما هو عملية تذكُّر؟ فهلّا علّمتني حقيقة ذلك؟
سقراط: لقد أخبرتُكَ يا مينون للتو أنّك تُبدي مكراً، فأنتَ تسألني الآن ما إذا كان بوسعي أن أُعلّمك في حين أنّني أقول بأنّ لا سبيل للتعلُّم، بل للتذكُّر فحسب، وبذلك تتصوّر أنّك تُوقِعني في التناقض.
مينون: لا وحَقّ الإله، لم أقل ذلك لهذا السبب، بل بحُكم العادة.

مربع سقراط
مربع سقراط

“هل تتعرض النفس إلى البلى والتآكل بعد حلولها في أجساد عدة؟”

المعتقد الحقيقي والمعرفة
بعد مناقشة عابرة مع السياسي أنيتوس(Anytus)، الذي ظهر فجأة في سياق المحاورة، حول ما إذا كان الآباء الأفاضل يُورٍّثون فضيلتهم إلى أبنائهم، وهو ما طُرِحَ الشك حياله، سأل سقراط مينون إذا كان يعتبر السوفسطائيين معلِّمين للفضيلة، وهو سؤال أوقعه مجدداً في الحيرة. أما سقراط فسيُثبت له بأنّه مخطئ بقوله إنّ المعرفة مطلوبة لأجل الفضائل العملية، مظهراً له الفرق بين «المعتقد الحقيقي»True Belief وبين الرأي الصحيح والمعرفة، ويرى سقراط أنّ المعتقد الحقيقي ذو فائدة لنا كشأن المعرفة لكن لا بُدّ من تثبيته بالتبرير العقلي مُعتبراً أيضاً ذلك تذكُّراً.

سقراط: المعتقدات الحقيقية، أيضاً، طالما لازمتك، هي ممتلكات حَسَنة وتُثمر نتائج حَسَنة تماماً.ً إلا أنّها غير راغبة في الملازمة لوقتٍ طويل، وتنسلُّ من النفس، وليست بذلك ذات شأن، حتى يُرسِّخها المرء بالعقل.
وبالمقارنة يا مينون، ذلك هو التذكّر، كما اتّفقنا للتو. ما أن تترسَّخ (المعتقدات الحقيقية)، أولاً، حتى تصبح معرفةً، ومن ثم راسخة وطيدة. ولهذا السبب تُكرَّمُ المعرفةُ أكثر من المعتقد الحقيقي، لأن المعرفة تختلف عن المعتقد الحقيقي بكونها ترسَّخت بالعقل.
مينون: نعم بحَقّ الإله يا سقراط، إنّها كذلك.

مسرح-تخيلي-لمسرح-ديونيسيوس-في-أثينا-حيث-كانت-تعرض-المسرحيات-وكذلك-الاحتفالات-العامة
مسرح-تخيلي-لمسرح-ديونيسيوس-في-أثينا-حيث-كانت-تعرض-المسرحيات-وكذلك-الاحتفالات-العامة

المعرفة حكمة وهِبَة إلهية
وفي الأسطر الختامية للمحاورة يخلُص سقراط، بعد أنّ بدّد جميع خيارات مينون، إلى أنّ الفضيلة هي «هِبَة إلهية»، وإلى أنّ أولئك الذين تحلّوا بالأمس، أو يتحلّون اليوم بالفضيلة إنّما الفضيلة لديهم هي نتيجة لإلهامٍ مقدّسٍ، أشبه ما يكون بإلهام الشعراء، في حين أنّ المعرفة بها تتطلّب تقصّي ماهيتها بحد ذاتها.

سقراط: إذن، هل هؤلاء الرجال يستحقّون أن يُطلَق عليهم مُلهَمون مِن علٍّ، أولئك الذين يقومون بأشياء عظيمةٍ، فعلاً وقولاً، من دون أي تفكير؟
مينون: بالتأكيد.
سقراط: يمكننا على هذا النحو أن ندعو السياسيين مُلهَمينَ، ومُلقَى في سرِّهم، حينما يتحدّثون بنجاحٍ في العديدِ من المسائل الكبيرة من دون أنْ يُدركوا حقاً ما يتحدّثون عنه.
مينون: حتماً.
سقراط: إذا ما تقصينا وتحدّثنا على نحو صائبٍ في هذا الخصوص، نخلُص إلى أنّ الفضيلة لا تُكتَسب بالطبيعة ولا بالتعليم، بل تكون ماثلةً فيمَنْ يتحلَّى بها هِبَةً، طالما أنه لا يوجد بين رجال السياسة مَنْ يمكنه أن يجعل الآخرين كذلك.
مينون: أظنُكَ يا سقراط قد أجَدتَ في ذلك.
سقراط: إذن، تبيَّن منطقياً يا مينون أنّ الفضيلة إنّما هي «هِبَةٌ إلهيةٌ»، لكن لا يسعنا أن نتيقّن من ذلك إلا عندما نبدأ بتقصّي ماهية الفضيلة نفسها، وقبل أن نستبين كيف يمكن للمرء أن يتحلّى بها.
والآن إنّي مُفَارقٌ إلى مكانٍ آخر. فعليكَ يا مينون أن تُقنِع ضيفَكَ ها هنا أنيتوس بتلك الأشياء التي اهتديتَ إليها، فعساهُ أن يغدو أكثرَ رِفقاً واعتدالاً. فإذا ما أقنعتَهُ بذلك، لتَفِيدَنَّ أيضاً جميعَ الأثينيين.
وتتبدّى أيضاً رسالةٌ أخلاقيةٌ في الحبكةِ النهائيةِ، فثمة إلهامٌ عِلويٌّ أيضاً للفضيلة في الحُكْمِ لا تتأتَّى لأمثالِ أنيتوس، الذي سيظهر في محاورةٍ أخرى كأحد المُدَّعِين على سقراط في محاكمته.

مآثر وعبر

الأهرامات سرّ مغلق
يحيِّر عقـول البشــر

بناء يخاف الدهر منه وكل ما
على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر

ما من زائر أو سائح قصد مصر إلا وكانت بغيته الأولى زيارة الأهرامات قبل سواها، ليقف أمامها مستعظماً ومندهشاً وحتى مستغرباً قائلاً في ذاته: هل هي حقاً من بناء البشر العاديين أم من بناء الجن أو مخلوقات خارقة من خارج الأرض!!
يقول عالم الآثار الفرنسي الشهير “شامبليون”، الذي رافق نابليون في رحلته إلى مصر واكتشف “حجر رشيد”، الذي مهّد لفك رموز الكتابة الهيروغلوفية: “إن الأهرامات لم تكن من صنع كائنات بشرية مثلنا، بل من صنع طوائف حاملي الأسرار التي ما خلا منهم زمان ولا مكان، لقد تمكّنت هذه الطوائف المتفوقة أن تمتلك تكنولوجيات متقدمة اختفت مع الطوفان أو صينت وحفظت في أحرام خفية في مكان ما من العالم، وهذه الحضارة الخفية ما زالت ترشد المؤمنين وتقوي عزيمتهم وتشرق من عليائها بأنوار اليقين”.
ظهرت عظمة الأهرامات عبر التاريخ في ما تجسّده من أحجامها الهائلة، ودقة هندستها، وعجائب ما في جوفها وغموض رموزها، وصمودها وثباتها أمام عواتي الدهر كالزلازل والفيضانات والرياح وأطماع البشر بما في ذلك تخريب الفاتحين وعبث العابثين واللصوص المحترفين ليصح فيها قول الشاعر القديم:
بناءٌ يخاف الدهرُ منه وكل مـا علـى ظاهر الدنيا يخاف من الدهر

داخل هرم خوفو
داخل هرم خوفو

قصة باني الأهرام
أجمع العديد من العلماء والمؤخرين الأقدمين أن هرمس الهرامسة هو باني أهرامات الجيزة، من ضواحي مصر، أي القاهرة حالياً، وقد عرف هرمس في اللغة اليونانية بـ”أرميس”، ومعنى أرميس عطارد. وآخرون قالوا إنه اسم سرياني واشتقاقه عن الهرمسة أي علم النجوم. وعُرف عند العرب بالنبي ادريس وأسموه بذلك لكثرة دراسته. وعند العبرانيين عرف بـ “أخنوخ أو أخناتون” التوحيدي، وقد وُلد بمدينة مناف في مصر القديمة، وعندما بلغ الأربعين من عمره أُنزل عليه ثلاثون صحيفة وورث صحف شئت وتابوت آدم. والصابئة الحاليون، وهم فرقة قديمة في التاريخ، لم تزل تقطن منطقة الأهواز في جنوب العراق يزعمون أنهم من أتباعه ومتمسكون بكتب النبي هرمس ويقدسونه ويعبدونه. كذلك تماثلهم فرق باطنية أخرى تقول عن بناء الأهرامات أنها بُنيت لأجل الحفاظ في داخلها على أسرار الكون ومواثيق البشر، وأن لكل فرد سجلاً في داخلها.
ومما يلفت النظر أن جماعة “الروز كروشن” أو الهالة الوردية، والتي يبلغ عدد أفرادها في العالم نحو 14 مليوناً، منتشرين في أوروبا وأميركا وآسيا، تؤمن بأن الأهرامات هي كعبة المؤمنين والموحدين عبر الأجيال.
كذلك ما أوردته حديثاً إحدى الدراسات الأميركية الصادرة عن جمعية “فيدرالية الأخوة العالمية ” IFB، إذ تقول عن الحضارة المصرية إنها حضارة روحانية تؤمن باليوم الآخر وجوهرها تقديس الحياة الآخرة للإنسان، لهذا كان أعظم رموزها هي الأهرامات وما تحويه من أسرار الكون وقبور الملوك، وكتابها المقدس هو “كتاب الموتى” وفحواه كيفية اجتياز يوم الحساب وبلوغ الآخرة.
وما يماثل هذا القول ما أورده العالم الإنكليزي الشهير “بول برنتون” PAUL BRUNTON، الذي أمضى بمفرده ليلة كاملة داخل حجرة الملك في الهرم الأكبر إذ أتاه الوحي قائلاً: “اعلموا يا أولادي أنه في هذا الأثر القديم تكمن الحقائق والمعارف المفقودة للأجيال السابقة من البشر، إذ تكمن أسرار المواثيق التي عقدها الانسان القديم مع الخالق من خلال الأنبياء والسابقين، واعلموا أيضاً أنه لم يطّـلع على هذه المواثيق سوى المختارين من أبناء البشر”.
والحقيقة أن الأهرامات هي من غرائب العبر، إذ أن لها آلافاً من السنين والحقب لم يعرف ما في داخلها أي مخلوق من البشر، كذلك عجز الملوك والجبابرة عن هدمها واستخراج ما في باطنها، ورجعوا عنها بعد بذل الأموال الطائلة خائبين، ومنهم الخليفة المأمون العباسي، والذي حشد لها أعداداً كبيرة من الفعلة والحجارين، وضاعف لهم النفقات حتى قيل أنه قدّم لذلك نحو ألف أوقية من الذهب الخالص ولم يحصل على طائل، وكفّ عنها خائباً، “حسب بعض المخطوطات القديمة”، وتكمل تلك المخطوطات فتقول: ” أمّا الهرمان في الجانب الغربي من فسطاط مصر وهما من عجائب برهان العالم مبنيّان بالحجم العظيم على الرياح الأربع، وما على وجه الأرض أعظم وأجل بناء، ولا أحسن هندسة ولا أطول بقاء ولا أرفع سناء من هذه الأهرامات، إذ بعضها مبني بحجارة الصوان الأحمر المنقط الشديد الصلابة والقسوة. ومن عجائب بنائها وضع الحجر على الحجر بهندام ليس في الإمكان أصح منه بحيث لا تجد بينهما مدخل أبرة، ولا خلل شعرة، ووجد مكتوب عليها كتابة غريبة ترجمتها هي: “إن بين هذين الهرمين والنسر الواقع في السرطان” فحسبوا من ذلك الوقت إلى الهجرة النبوية فبلغ إثنين وسبعين ألف سنة شمسية (لا نعلم ما هو هذا الحساب).

باسم الله
وقيل أن هرمس الهرامسة لما عزم على بنائها أمر باستخراج الرصاص من بلاد المغرب، وقطع الأحجار الضخمة الهائلة من أماكن بعيدة جداً عنها، وكان عندهم صحائف مكتوب عليها إسم الله العظيم فيضعون الصحيفة على الحجر ويسمّون بإسم الله تعالى ويدفعونه بتلك الدفعة مقدار مائة سهم، ثم يعيدون عليها الصحائف ويدفعونها ثانيةًَ حتى تصل إلى الهرم بغير حملٍ ولا مشقة، فإذا وصل الحجر إلى الهرم يثقبونه ويجعلون في وسطه قطباً من حديد قائماً ثم يركّبون عليه حجراً آخر مثقوباً ويُدخلون القطب فيهما جميعاً ثم يُذاب الرصاص ويُصب في القطب وحول الحجر بهندام وإتقان.
وتناسباً مع هذا القول القديم ما أورده في دراسته المؤرخ الأوروبي في القرن التاسع عشر (Kings Land ) كنجزلاند، إذ ذكر أن قطع أحجار الغرانيت (الصوان)، والتي تزن الواحدة منها (70) طناً، والموجودة في مخدع الملك، قد أعدّت في مقالع تبعد (600) ميل قبل نقلها فوق النيل، ثم تابع يقول: “لا بدّ أن قوة غامضة قد استخدمت في نقل هذه الأحجار لا يعلمها سوى الله”.

شهادة نابليون
والقائد الفرنسي نابليون عندما احتل مصر سنة 1789، وبعد أن وقف مندهشاً أمام عظمة الأهرامات قال إن ما تحويه من حجارة ومواد بناء يكفي لإحاطة فرنسا بجدار تبلغ سماكته 92 سم، وارتفاعه نحو 3 أمتار. وكلام روحي آخر يقول: “إن في الهرم الشرقي أصناف القباب الفلكية والكواكب وتكوينها وما يحدث في أدوارها وقتاً وقتاً، وما تحمل لها من التواريخ والحوادث التي مضت والأحداث التي ينتظر حدوثها في مصر، وما يليها من أقطار العالم إلى آخر الزمان”.
“وكذلك زُبر على حيطانها أصناف العلوم العظيمة كعلم السيما وعلم الكيمياء والهيئة والحساب والأحكام الهندسية والمنطق والطب والفلسفة، ولم يترك علم من العلوم حتى تمّ زبره ورسمه”. ويضيف بعض المؤرخين القدماء إنه لا يوجد على وجه الأرض قاطبة بناء أعظم منها أو يضاهيها، وهي مع طول الأمد والدهور لم ترث ولم تبل، وهي العجيبة الوحيدة الباقية سالمة من عجائب الدنيا السبع القديمة.
إلى هنا انتهى ما ذكرته تلك المخطوطات القديمة، ونحن بدورنا لا يمكننا أن نذكر كل ما كتب عنها من المؤرخين والجغرافيين الحديثين من علماء ومفكرين ورحّالين، وقد أسهبوا في بيان أوصافها ومميزاتها وأهميتها التاريخية، وحتى تقديسها، ومنهم من أصابته لعنة الفراعنة والمعروفة عند الجميع إذ حلّت بهم بعد أن تطاولوا من قطع أو حفر أو إخفاء بعض حجارتها أو معالمها، ثم نقلها إلى بلدانهم أو بيوتهم فكان نصيبهم أن حلّت المصائب والأحزان في ديارهم، ومنهم العاِلم الاسكتلندي “Winston” ونستون، إذ فقد أولاً أولاده ولداً تلوَ الآخر، ثم فقد زوجته، كذلك أصابه الوسواس ولم يعد إلى صوابه إلا بعد أن أعاد إلى الأهرامات ما سرقه من أفيائها، وقصص كثيرة تُروى بين العامة من المصريين وسواهم ما جعل الجميع يهابون لمسها أو أخذ أي شيء منها بعد أن دفع العديد منهم الأثمان غالية.
خاتمة: ليس بالكثير أن يكون عدد الزائرين لتلك الأهرامات، وحسب إحصاء وزارة السياحة المصرية في أيام السلام والأمان، نحو (20) عشرين مليون زائر كل عام، وأن عدد زائريها من الأحياء على وجه الأرض ربما يزيد على نصف مليار زائر من البشر.

الأخوت اللّي بدو يقتل أمو
ويحتمي عند خالتو

لكل عالم هفوة ولكل صارم نبوّة ولكل جوادٍ كبـوة
( عمر بن الخطاب)

بعد أن تدفقت مياه نبع الصفا في أجران أحواض قصر بيت الدين، لتزيده روعة وجمالاً وتبعث الحياة في حدائقه، ازداد الجميع إحتراماً وتقديراً لأخوت شناي (حسن) صاحب فكرة إيصال المياه، وإن تكن تسميته بالمجنون فهو بالحقيقة ذو عقل أميز من عقول العديد من العقلاء، ورأيه كما تبيّن كان أصوب بكثير من آراء حاشية الأمير بشير الشهابي الثاني الذي عمل بنصيحة “الأخوت” وجلب المياه إلى قصره العامر.
وحيث إن صفة الجنون كانت تلازمه، لذا كان يدلي بدلوه، وأينما وجد، من دون خوف أو حذر، بل باعثاً في محدثيه حس الطرافة وقوة الرأي العفوي الذي لا يخالطه أي رياء. فبعد أن وجد الأمير بشير الشهابي في حيرة من أمره، مرتبكاً متردداً كيف ستصل المياه إلى القصر، وكيف سيتمكن من جرها والمسافة بعيدة وتتخللها أودية ومنحدرات.
وبينما هو في هذه الحيرة تقدم منه أخوت شناي وحادثه قائلاً: لماذا هذا الإرتباك يا سيدي المير ورجالك إذا مددتهم على الأرض من الصفا إلى القصر، وأمرتهم أن يحفرَ كل واحد منهم على قدر طوله، فخلال يومين أو أكثر تصل المياه إلى بيت الدين.
وهكذا كان، فبعد أن أخذ الأمير برأي الأخوت، عظم شأن الأخير وازداد احترامه، وأصبح رأيه قبل رأي العديد من المقربين والمستشارين، يُلازم المير في حلّه وترحاله في قصره وشتى أحواله، متندراً وراوياً، متعرفاً ومصادقاً معظم زواره. يعلم بكل شاردة أو واردة ترد إلى القصر أو تخرج منه، وما أكثرها تلك الأيام، وخاصة الدسائس والمكائد، والتي كان صاحب القصر سيدها لإيجاد التفرقة والبغضاء بين الزعماء والوجهاء، الذين يأتون لزيارته، وقصده من خلالها إذلال الجميع وتفرقتهم عن بعضهم بعضاً، وإخلاء أي إعتراض من قبلهم، وهذا ما عرف به تاريخ ذلك المتسلط خبثاً ودهاء.
وأخطر تلك المكائد كانت على ولي نعمته، والعامل الأول لإيصاله إلى مكانته، الشيخ بشير جنيلاط، وكيف أوقع الفتنة بينه وبين أنسبائه من المشايخ النكدية أصحاب إقطاعية المناصف ودير القمر، ثم كيف استدار نحوه وتمكن من خلال والي عكا من قتله خنقاً ورمي جثته مع مرافقه على رمالها، إلى أن سمح لمشايخ آل معدي في بلدة يركا من الجليل الأعلى، بجلبهما ودفنهما في مدافنهم، ولتاريخه لم تزل في تلك الديار.

قصر بيت الدين
قصر بيت الدين

لكن ما سنرويه كيف أراد أن يوقع بين الشيخ علي العماد زعيم منطقة الباروك، وما يعرف بالعرقوب، وبين ربيبه ومستشاره الخواجة جرجس باز، بعد أن توجس الخوف والحذر من جانبه لما له من مكانة عالية وتقدير كبير بين أتباعه. لهذا حقد في ذاته ثم أخذ يتحين الفرص للتخلص من الإثنين معاً.
استدعى يوماً الشيخ علي العماد ثم أسرّ له في أذنه، أن جرجس باز يضمر لكم الحقد والإحتقار، ويعمل خفية على إبعادكم والإقتصاص منكم، وهذا ما ردّده مراراً وتكراراً.
في المقابل أيضاً كان المثل مع جرجس باز إذ أسر له الأمير الداهية بكلام استهدف منه أن يوغر صدره على الشيخ علي العماد، بحيث تكتمل أسباب العداوة بين الرجلين، وعندها فإن التخلص منهما معاً يصبح أسهل.
وفي يوم، كان علي العماد في طريقه عائداً من كفرحيم إلى بلدته كفرنبرخ، وقد توقف أمام دارة جرجس باز في دير القمر، ثم ناداه: يا خواجة جرجس “أنا شايف لازم نعيّر الرطل بيننا وعليك بملاقاتي إلى ميدان بتاتر، كي نقيم نزالاً ثم نعلم بعده لمن ستكون الوجاهة”.
استغرب جرجس باز ونفر لهذا التصرف من قبل الشيخ، ولاسيما أن عهده به أنهما صديقان، إلا أنه ورغم ذلك أجابه: “على رأيك يا شيخ علي ونحن لها”.
شاع الخبر وسرى بين القرى والبلدات كما تسري النار في الهشيم، وغدا الناس منقسمين بين الإثنين وكل يتبع وجيه طائفته.
أخوت شناي بحكم تواجده الدائم في القصر علم أن الأمير بشير، هو مدبر هذه المكيدة وقصده إيقاع الفتنة والخلاف بين النصارى والدروز على مبدأ فرّق تسد.
في اليوم المحدد للمبارزة توجه جرجس باز وبرفقته أنصاره إلى ميدان بتاتر، كذلك فعل الشيخ علي لكنه عرّج في طريقه على نبع الصفا فوجد أخوت شناي ينتظره هناك. وحال وصوله هاجمه شاهراً بيده سيفاً من الخشب قائلاً: “إنزل عن فرسك يا شيخ وإلا قتلتك بسيفي”، أجابه الشيخ: “حل عنا ولك يا أخوت”.
هزّ أخوت شناي برأسه، وقال: “أنا أخوت ولاّ إنت؟؟ أخوت إللي بده يقتل أمو ويروح يحتمي عند خالتو”!
وتابع: “شو بدك فيه لإبن باز تا تقتلو وساعتها بيغضبوا النصارى ويحملوك دمّو؟ بتعرفش العاقبة بعدها شو بتكون؟ غاية الأمير أنو يتخلص منك ومنو”.
أمعن الشيخ التفكير بعد سماعه قول الأخوت، ثم هزّ برأسه موافقاً، وقال لمن حوله: “فعلاً خذوا الحكمة من أفواه المجانين، والظاهر إنو أخوت شناي أعقل وأخبر منا”، ثم تابع طريقه وهو في حالة تأمل وحذر متذكراً مكائد الأمير وخبثه. وعند وصوله إلى ميدان بتاتر ترجل عن فرسه، ثم ربط لجامه برجل الكرسي الذي جلس عليه ووضع سيفه على ركبتيه ينتظر قدوم جرجس باز ورجاله.

الأمير بشير الثاني
الأمير بشير الثاني

أطل جرجس باز على الميدان فوجد الشيخ علي بوضع عادي أقله أنه بعيد عن المبارزة.
أومأ الشيخ إلى غريمه كي يترجل لوحده، ثمّ أسرّ في أذنه ما سمعه من أخوت شناي. وبعد تحقق الإثنين من نوايا الأمير وغدره، اتفقا على أن يجريا المبارزة باستحقاقها وبأن يسدد الشيخ علي ضربة لجرجس باز فيصرخ عندها مستغيثاً بالقول: العفو عند المقدرة يا شيخ علي!
وهكذا تمّت المبارزة كما رُسم لها، ثم عاد الفريقان كل إلى بلدته من دون أن يعلم أحد من الحاضرين بحقية ما اتفقا عليه.
في اليوم التالي، ذهب جرجس باز لزيارة الأمير، وكان من عادته أن يدخل عليه من دون إستئذان.. حملق الأمير في وجه زائره كأنه غير مصدق ما يشاهده، لاعتقاده أن جرجس أصبح في عداد الأموات وينتظر نعيه.
رحّب به بعد أن تمالك نفسه متجاهلاً ومتناسياً ما كان حضّر له لضيفه.
بعد مغادرة جرجس باز مجلس الأمير أرسل هذا وراء الشيخ علي يستخبره عمّا حدث. فأخبره الشيخ بما حدث قائلاً: “وأنت بتعرف يا مير ياللي بيستجيرنا منجيره”.
لكن رغم أن جرجس باز اكتفى شر الأمير وكظم على جرحه وابتعد عنه، إلا أن الأمير بقي حاقداً عليه متوجساً من وجاهته ومكانته، وقد تمكن أخيراً من أن يوقع به فقتله مع شقيقه عبدالأحد.

نحن والأفاعي

نحن والأفاعي

قصة سوء تفاهم قديـــمة

في لبنان 25 صنفاً من الأفاعي ثلاث منها فقط سامة
والسامة منها لا تخرج إلا في الليل بحثاً عن فرائسها
الأفاعي مفيدة للزراعة بسبب دورها في الحدّ من القوارض

وهي عامل أساسي في التوازن البيئي في طبيعتنا الجبلية

الإنسان سيّد المخلوقات حباه الله تعالى بقدرات وسخّر له ما لا يحصى من الوسائل، بعضها مما يعينه على العيش وكسب الرزق، وبعضها الآخر مما ابتكرته مخيلته بهدف النيل من الكائنات الأخرى أو من أخيه الإنسان. هذا الإنسان القوي المسلح غالباً، الماكر في تعامله مع محيطه، قلما يهتم، وبسبب سلطانه على الأرض، بالتعرف عن قرب على المخلوقات البرية التي تعيش في جواره أو أدغاله أو بحاره. وقد أصبحت كل هذه المخلوقات صيداً مشروعاً له، وإن هو سعى الى معرفة شيء عنها فبهدف تعلم أفضل السبل للفتك بها وتسخيرها لوجوده المهيمن.
في بلادنا المشرقية أو ما يمكن أن نسميه بلاد الشام، فإننا قضينا منذ زمن طويل على السباع والدببة، ومعظم أصناف الذئاب هي في طور الانقراض، وقد خلت الساحة لساكني هذه المنطقة ليتمتعوا بمواردها الطبيعية من دون خوف كبير.
وبالطبع، إذا قارنا الأمن الكبير الذي نعيشه في طبيعة بلادنا بما يتعرض له سكان العديد من البلدان في أفريقيا أو آسيا أو حتى الولايات المتحدة من هجمات الوحوش، لأدركنا أننا في نعمة لا تقدر. ومن أكبر النعم أنه يمكنك السير في الجبال وقطع الأودية حتى في الليل من دون رهبة أو خوف. ربما بسبب غياب الحياة البرية عن بلادنا أصبحنا لا نعرف إلا القليل عنها. ومن أبرز مظاهر جهلنا بالحياة البرية في بلدنا موقف العداء المطلق للحيات والأفاعي وحالة الذعر التي تصيب الناس لمجرد أن يروا حية تسعى في الطبيعة، ناهيك بالحالات التي قد يصادفونها في منزلهم.
قليلاً ما يذكر أحدنا قصة عن حية أو أفعى إلا ونهاية تلك القصة معروفة: قتلت الحية المسكينة شرّ قتلة، وقد يتم إلى ذلك عرضها في الشارع وسط تهليل أولاد الحي وحماسهم. بالطبع الحية ليست وحدها الهدف الجاهز. فقد تعلمنا إطلاق النار على كل شيء يطير بجناحين حتى لو كان صقراً أو باشقاً أو نسراً أو بجعاً أو حتى وطواطاً، لا يهم، المهم هو القتل وبسط السيطرة على كل مخلوق يدفعه حظه العاثر لمحاولة العيش في جوارنا.

الصقر الصائد للحيات كان موجودا في لبنان لكنه اختفى أو يكاد – مصغرة

” في لبنان لا أحد يموت من لدغات الأفاعي وفي الهند يموت 11,000 شخص كل سنة بسبـب لدغاتها “

لماذا نخاف منها
السؤال المهم الذي يطرح نفسه هو: لماذا هذا الخوف بل هذا الرعب من مشهد الحيات؟ الجواب البسيط والمختصر: إنه الجهل المطبّق بحقيقتها وحقيقة دورها في التوازن الطبيعي، والله تعالى لم يخلق كائناً إلا وهناك حكمة من خلقه. أضف إلى ذلك أن الله كرم هذه البقعة من المشرق بأن أرسل فيها من الأفاعي والحيات ما لا يحمل السم إلا في حالات قليلة، وقد عرفت هذه الواقعة مرة عندما لدغت عقرب أحد العاملين في الأرض وقد قلقت على حال المسكين وأسرعنا به إلى المستشفى، لكنني لمزيد من الاطمئنان اتصلت بطبيب العائلة لأفاجأ به يُهوِّن عليّ الأمر، مؤكداً أننا في لبنان وفي سوريا وفلسطين محظوظون لأن بلادنا لا تحتوي على عقارب مميتة أو حتى أفاعٍ قاتلة، كما هي الحال في بلدان آسيوية أو أفريقية. وهو كان يعني بذلك أنه حتى الأفعى السامة في بلدنا ليست من السمّية بما يعرّض حياة الإنسان للخطر في ساعات قليلة، لأن سمّها هو مما يمكن معالجته في المستشفى أو العيادة. أما في بعض بلدان آسيا مثل سريلنكا أو الهند أو أفريقيا، فإن بعض الأفاعي هي من السمية بحيث لا يملك المصاب أكثر من 30 دقيقة لتناول المصل المضاد، وإلا فإنه سينفق ويموت شرّ موتة.
على الذين يخافون من الأفاعي في حياة لبنان البرية ويطاردون أي أفعى يرونها حتى ولو كانت صغيرة، أن يسألوا أنفسهم: متى كانت المرة الأخيرة التي سمعوا فيها بشخص لدغته أفعى في جوارهم أو في القرى المحيطة بقريتهم؟ عليهم أيضاً أن يسألوا: متى حصل أن مات أحد من سكان هذه البقاع من لدغة أفعى؟ الجواب على ذلك أن لدغات الأفاعي أو الموت بسبب إحداها في لبنان نادر الحدوث لدرجة أننا لم نسمع منذ سنوات طويلة عن حادثة من هذا النوع في منطقة الجبل كله. وقد تكون حصلت حوادث في الماضي بالتأكيد خصوصاً عندما كان الناس لا يملكون وسائل النقل، وعندما كانت المستشفيات غير موجودة إلا في مناطق معينة والأمصال المضادة لسموم الأفاعي غير معروفة. المفارقة الملفتة أن خطر التعرّض للدغة أفعى يكاد لا يذكر في لبنان إذا قارناه بخطر الموت على الطرق جرّاء حادث سيارة. وفي لبنان يموت كل سنة أكثر من 700 شخص من مختلف الأعمار، ويتعرض أكثر من 2000 لإصابات دائمة من جرّاء حوادث السيارات.
قلنا إننا محظوظون جداً في لبنان بسبب نوع الأفاعي التي خصنا الله بها. على سبيل المقارنة نذكر بعض الإحصاءات التي تنشر عن حوادث الموت بلدغات الأفاعي، والتي تبلغ حسب هيئات الصحة الدولية وبعض المؤسسات المهتمة أكثر من 100,000 كل عام خصوصاً في مناطق جنوب وجنوب شرق آسيا وأفريقيا، بينما يتعرض 250,000 للإعاقة الدائمة جرّاء لدغات الافاعي. وفي الهند وحدها يموت سنوياً بلدغات الأفاعي السامة أكثر من 11,000 شخص، وهو عدد هائل لكنه يتكرر كل سنة حتى بات الموت بلدغة أفعى جزءاً من الحياة اليومية للفلاحين الهنود.

متى كانت آخر مرة رأيتم أفعي أفي طبيعتنا الساحرة
متى كانت آخر مرة رأيتم أفعي أفي طبيعتنا الساحرة

غير سامة في معظمها
قبل سنوات أجرت صحيفة الدايلي ستار اللبنانية حديثاً مهماً وشيقاً مع أستاذ البيولوجيا وخبير الزواحف في الجامعة الأميركية في بيروت الدكتور رياض صادق، وجاء الحديث ليقدم للمرة الاولى شرحاً علمياً من رجل مختص حول ظاهرة الأفاعي في لبنان، ودورها في الحياة البرية والتوازن البيئي. كشف الدكتور صادق يومها عن أن في لبنان 25 نوعاً من الأفاعي والحيات، ثلاثة أنواع منها فقط تعتبر سامة. ومن هذه الأجناس السامة، فإن واحدة تعيش في قمم الجبال العالية حيث لا توجد مناطق سكنية، أما الاثنتان الباقيتان فإنهما تخرجان في الليل لاصطياد فرائسهما من القوارض، وبالتالي، فإنه من غير المرجح أن يقع نظرنا عليها في وضح النهار. النتيجة الطبيعية لهذا الواقع أننا على الأرجح لن نصادف أفعى سامّة إلا في حالات قليلة في لبنان. وهذه الحقيقة قد تدهش الكثيرين ممن يعانون من رعب الأفاعي ولا يتحملون منظر أي منها بغض النظر عمّا إذا كانت هذه سامة أو غير مؤذية.
للذين قد يحتفظون بشكوكهم حول الأفاعي وخطرها، فإنه من المفيد الإشارة إلى ملتقى علمي عقد في بيروت في سنة 2011 بهدف البحث في سبل الاحتياط من لدغات الأفاعي والتعاطي الطبي معها. وقد ذكرت دراسة قدمت إلى الملتقى أن عدد حالات لدغ الأفاعي في لبنان بين منتصف سنة 2010 ومنتصف سنة 2011 بلغ 47 حالة، أكثرها (42 في المئة) في منطقة عكار. وجاء في الأبحاث المقدمة أن 21 من أصل الحالات الـ 47 التي تمّ تسجيلها أظهر فيها المصاب أعراض التقيؤ بينما شعر 15 في المئة من المصابين بأوجاع في البطن، وأظهر مصاب واحد فقط أعراض تسارع واضطراب دقات القلب. ولم تؤدِ أي من اللدغات إلى حالة وفاة، وعاد جميع المصابين إلى منازلهم، إما في اليوم نفسه بعد معالجتهم بمضاد التتانوس أو المصل المضاد للسم، وإما بعد إقامتهم أياماً في المستشفى بهدف النقاهة. وتم إدخال نحو 19 العناية الخاصة في المستشفيات إلا أن ذلك تمّ غالباً على سبيل الاحتياط وبهدف مراقبة استجابة المصاب للأمصال المضادة للسم. وقد شدّد المجتمعون على أن معظم الحيات والأفاعي في لبنان غير سامّة، وإن كان من الضروري توعية المواطنين بأساليب الاحتياط وبالإجراءات الخاصة التي يتعين اتباعها في الحالات الطارئة.
يذكر هنا أن لبنان لا ينتج حتى الآن الأمصال المضادة لسموم الأفاعي المحلية، وهو يستورد أكثرها من المملكة السعودية التي تملك أحدث مركز لمعالجة لدغات العقارب والأفاعي في الشرق الأوسط، وذلك بأمصال مضادة يتم تطويرها محلياً لتناسب أنواع الأفاعي والعقارب التي تعيش في أراضيها، كما يستورد لبنان جزءاً آخر من الأمصال من الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وكان لبنان قبل ذلك يستورد الأمصال من بعض البلدان الأوروبية، إلا أنه تبين أن هذه الأمصال لا تناسب نوع الافاعي المنتشرة في لبنان مما كان يقلل من فعاليتها.
بصورة عامة، فإن انتشار وسائل النقل السريع والمستشفيات في مختلف مناطق لبنان ساهم في تقريب المسافة الزمنية بين المصاب بلدغة أفعى وبين أقرب مستشفى، وهو ما يساعد على معالجة المصابين بسرعة، وبالتالي إنقاذهم من مضاعفات اللدغة التي قد تكون خطيرة إذا تركت ساعات طويلة من دون معالجة. وهنا، فإن خبراء العناية الصحية بحالات لدغ الأفاعي ينصحون بعدم اللجوء إلى الأسلوب التقليدي، وهو محاولة إحداث جرح في مكان اللدغة وامتصاص الدم بالفم، وهم يشيرون بضرورة صرف الاهتمام إلى نقل المصاب بسرعة إلى قسم الطوارئ في أقرب مستشفى، حيث يمكن أن يقدم له العلاج مجاناً، وعلى حساب وزارة الصحة. ويشير الخبراء إلى أن أسلوب فصد الدم قد يؤدي بعض الفائدة لكن لا يمكنه أن يستخرج كل السم الذي حقنته الأفعى، ولأن اللدغة قد تصيب شرياناً أو وريداً ولو صغيراً، وهو ما يسرّع انتشار السم في الجسم، والخطر هنا أن يعتقد المصاب أن عملية فصد الدم جعلته في منجى عن مضاعفات اللدغة فيهمل التوجه الى المستشفى لتلقي الإسعافات الأساسية، وهو ما قد يعرّض حياته للخطر.

 ” مستشفياتنا معظمها مجهّز بأمصال مضادة للسم وجميع المصابين يتلقون العلاج ويعودون إلى منازلهم “

الدور البيئي للأفاعي
الأفاعي – سامّة وغير سامّة- هي عامل مهم جداً في التوازن البيئي خصوصاً في الأرياف لأنها جزء من نظام الطبيعة وعامل أساسي في حماية المزارعين والزراعة من خطر انتشار القوارض ولا سيما فئران الحقل. اسأل أي مزارع متابع لما يجري في أرضه وهو سيخبرك عن الدور المهم الذي تلعبه الأفاعي في حماية حقله وزرعه من التدمير بسبب القوارض المنتشرة بالآلاف في البراري. لقد اختبرت شخصياً أهمية الأفاعي في التوازن البيئي عندما انتقلنا إلى منزلنا في أعلى الجبل في قريتي. وكنت قد بدأت، حتى قبل انتقالي إلى محل إقامتي الجديد في العمل، على استصلاح الأرض وغرس أشجارها وزرعها بمختلف أنواع المحاصيل البقولية والخضر، وقد أصبنا في السنوات الأولى بصدمة عندما بدأنا نرى الانتشار السريع لفئران الحقل، والتي حفرت جحوراً وأنفاقاً بالمئات في الأرض حتى باتت تلك الجحور حفراً صغيرة ظاهرة تغطي التربة في كل مكان. وتسبب ذلك بأذى للكثير من المزروعات والمحاصيل، ولم تنفع شتى أنواع السموم الباهظة الثمن في الحدّ من الفئران التي تتكاثر بسرعة كبيرة، خصوصاً إذا وجدت البيئة المساعدة.
لكن بعد سنتين، بدأنا نلاحظ أن عدد الجحور بدأ يخف، وكذلك الأضرار التي تصيب الزرع. وقد ترافق تراجع عدد الجحور والفئران بتزايد ملحوظ في عدد وأنواع الأفاعي التي اجتذبتها الفئران من البراري المحيطة فبدأت تتغذى عليها. وقد زادت عائلة الأفاعي في الأرض لدرجة أننا لم نعد نرى فيها الحفر إلا في أوقات البيات الشتوي للأفاعي، أي في عزّ الشتاء والبرد القارس، علماً أن الأفاعي تدخل في مرحلة بيات شتوي خلال فصل الشتاء، أما فأر الحقل فإنه يبقى نشطاً حتى في عزّ الشتاء لأنه يحتمي في جحوره وأنفاقه العميقة من البرد. قبل ذلك حاولنا الاستعانة بالقطط المنزلية كسلاح للحدّ من إنتشار الفئران لكن النمس إفترسها في وقت قصير، وتبيّن لنا لذلك أن خير ما يمكن أن نكافح به فئران الحقل والحراذين وغيرهما من القوارض إنما هي الأفاعي، وقد صدرت تعليمات للعاملين في الأرض بعدم التعرض لها تحت أي ظرف من الظروف، بل أننا أصبحنا نوزّع المياه في أوعية صغيرة لهذه الأفاعي لكي تتمكن من إرواء عطشها في البرية ولا تحتاج للإقتراب من المنازل.
نُذكِّر هنا بأن أكثر الأفاعي التي تنتشر في بريتنا ليست سامة، ولا تؤذي الإنسان، وقد لاحظنا وجود أجناس منها بألوان زاهية جميلة، فهناك أفعى حمراء وأخرى خضراء مع أصفر وأخرى صفراء مع بقع سوداء، وهناك أفعى بلون يميل إلى الأزرق مع الرمادي، ولم نجد في تصانيف الأفاعي المنشورة في لبنان ذكراً لها أو صوراً. وهناك الأفعى السوداء الكبيرة المعروف عنها أنها غير مؤذية وأنها تتغذى على كائنات عديدة أهمها القوارض. ونذكر أيضاً بأن الأفاعي التي يمكنك أن تراها في وضح النهار هي بصورة شبه مؤكدة غير سامّة لأن السامّة منها، وهي قليلة العدد، تخرج للصيد تحت جنح الليل لأنها تتبع القوارض التي تنشط بدورها في الليل أيضاً، ومعظم الأفاعي السامة مزودة بوسائل استشعار حرارية ويمكنها تتبع فريستها بواسطة تلك الحسّاسات من دون حاجة لرؤيتها.
هناك الذين يَشْكون من التكاثر الزائد للثعابين في الطبيعة الجبلية، لكن الواقع أنه لا توجد دراسات أو دلائل تشير إلى ذلك، لكن إذا كانت الحيات والثعابين قد تكاثرت فوق حد معين، فإن ذلك سيكون نتيجة لخلل آخر في التوازن البيئي بينها وبين أعدائها الطبيعيين، وعلى رأسهم بوصوي الحيّات الذي لم نعد نراه في أجوائنا وهو أبرز صائد للأفاعي. ومن الأعداء الطبيعيين للأفاعي الصقور والبواشق التي تكاد تندثر من أجواء لبنان بسبب الصيد الجائر والعشوائي، والقطط المنزلية والنمس وابن عرس والغرير والبوم المحلي الذي يصطاد ليلاً ويتغذى على القوارض، وقد يصطاد أيضاً الأفاعي والحيات. أضف إلى ما سبق أن الأفاعي السامّة تتغذى أحياناً على أنواع أخرى من الأفاعي غير السامّة.

جحور فأر الحقل أحد أشكال الأضرار التي يسببها للزراعة
جحور فأر الحقل أحد أشكال الأضرار التي يسببها للزراعة

دعوها تعمل لحسابنا
خلاصة الأمر أن علينا جميعاً أن نعيد النظر في موقفنا غير العقلاني والضارّ من الأفاعي، وأن نتحرر من عقدة الخوف غير المبرر التي تتحكم بنا تجاهها. وإن علينا بشكل خاص أن نتعلم كيف نتعايش معها فنترك لها أن تعيش في جوارنا، وأن تخدمنا بتخليصنا من القوارض والآفات التي تصيب زراعتنا، وقد يراها البعض جميلة ومن آيات الخلق ومعجزات الخالق، وهي فوق ذلك مخلوقات تعمل لحسابنا مثل الهرة أو كلب الحراسة أو أي حيوان أليف لكنها لا تكبّدنا أي تكلفة. أضف إلى ما سبق أنها كائنات خجولة وتخشى الإنسان، ولهذا، فإننا على الرغم من وجودها في جوارنا نادراً ما نراها في طريقنا بل نادراً ما نلمحها، لأنها إما أنها في شعاب البرية أو أنها مسترخية في مكان ظليل. إنها باختصار كائن مفيد وليست عدواً، بل إنها من مقومات أي مشروع زراعي أو بيئة طبيعية حتى في جوار المسكن،لأنها عامل أساسي من عوامل التوازن العضوي في بيئتنا الجبلية الجميلة.

أشهــر الأفاعــي في لبنـــان
أفاعٍ غير ســامّة

الأفعى السوداء
الأفعى السوداء

الأفعى السوداء

الاسم اللاتيني: Coluberjugularis
الحجم: اكبر أفعى في لبنان، قد يزيد طولها على المترين
اماكن تواجدها: منتشرة في لبنان في مناطق تصل الى ارتفاع 1000م. ولاسيما الأماكن الجافة المفتوحة، المروج، ضفاف الأنهر الصخرية، الحقول والأراضي الرطبة.
الطعام: القوارض، الطيور، الصيصان والسحالي.
علاقتها بالانسان: غير سامة لكنها تعض، مفيدة للزراعة من خلال دورها في السيطرة على القوارض.

الاسم العلمي: Dahl’s Whip Snake
الاسم اللاتيني: Colubernajadum
الحجم: اسطوانية الشكل، يصل طولها الى 140 سم.
اماكن تواجدها: تصل الى ارتفاع 1800م. الاماكن الصخرية الجافة الحرشية
الطعام: السحالي والحشرات
علاقتها بالانسان: غير مؤذية.

الاسم العلمي:Red Whip Snake
الاسم اللاتيني: Coluberrubriceps
الحجم: اسطوانية الشكل، يزيد طولها على المتر.
اماكن تواجدها: الى ارتفاع 1500م الأماكن الصخرية الجافة، وفي بعض الاحيان الاراضي الزراعية.
الطعام: السحالي والحشرات
علاقتها مع الانسان: غير سامة لكنها تعض وتتحرك بسرعة.

الإسم العلمي : Dwarf Snake
الاسم اللاتيني: Eirenislevantina
الحجم: كما يشير اسمها، فإنها حية قزمة أو صغيرة جداً بحيث يمكن حملها في الكف
اماكن تواجدها: حتى ارتفاع 1500م، في أماكن وبيئات طبيعية مختلفة.
الطعام: الحشرات وفقاريات أخرى
علاقتها مع الانسان:غير مؤذية

الإسم العلمي: Four-lined Rat Snake
الاسم اللاتيني: Elaphequatrolineata
الحجم: كبيرة الحجم يصل طولها الى 2 م.
اماكن تواجدها:تصل الى ارتفاع 2500 م. كما توجد بالقرب من المستنقعات والاماكن الصخرية والزراعية.
الطعام:القوارض الصغيرة، الطيور والبيض
علاقتها بالانسان:غير مؤذية للانسان بل مفيدة لأنها تأكل القوارض التي قد تسبب ضرراً كبيراً للزراعة.

الإسم العلمي: Montpellier Snake
الاسم اللاتيني: Malpolonmonspessulanus
الحجم: جسد اسطواني، رأس ضيق، يصل طولها الى 2 م.
اماكن تواجدها: الى ارتفاع 1500م. المساكن الجافة الصخرية قليلة الخضرة.
الطعام: السحالي، الثديات الصخرية والطيور.
علاقتها مع الانسان: تقتل فريستها بواسطة سمّها، لكن انيابها صغيرة وموجودة في نهاية فكها الاعلى، لذلك لا تؤثر كثيراً على الانسان.

الاسم العلمي: Dice Snake
الاسم اللاتيني: Natrix tessellate
الحجم: أفعى اسطوانية تصل الى 140 سم.
اماكن تواجدها: تصل الى رتفاع 2500م، تعيش في المناطق المائية أو بقربها
الطعام: غالباً الأسماك والضفادع.
علاقتها مع الانسان: غير مؤذية.

الاسم العلمي: Blunt-nosed Viper
Viperalebetina
الحجم: قوية البنية. يتراوح طولها ما بين 180-130سم.
اماكن تواجدها: تصل الى ارتفاع 2000 م. المروج والمراعي، المناطق الصخرية والآثار، حيوان ليليّ أغلب الاوقات.
الطعام: القوارض الصغيرة، الطيور، السحالي والافاعي.
علاقتها مع الانسان: سامة- يمكن لعضتها أن تكون قاتلة اذا لم تعالج، لكنها لا تهاجم اذا لم تستفز.

الاسم العلمي: Palestinian Viper
الاسم اللاتيني: Viperapalaestina
الحجم: كبيرة وقوية البنية ، يصل طولها الى 130 كحد أقصى.
اماكن تواجدها: غابات البلوط الخفيفة والبيئات الثانوية (التي صنعها الانسان) مثل البساتين والحقول والحدائق، تنشط غالباً في الليل.
الطعام: القوارض الصغيرة، الطيور والسحالي.
علاقتها مع الانسان: سامة- يمكن لعضتها أن تكون قاتلة إن لم تعالج.

كيف تميّز الأفعى السامة من غير السامة؟

للذين يأخذهم الخوف من مشهد الأفاعي بشرى يجب أن تخفف عنهم، والبشرى هي أن الله لم يخلق الافاعي السامّة بنفس شكل الافاعي غير السامّة، بل جعل لكل من النوعين علامات فارقة يمكن البحث عنها على الفور عند مشاهدة أفعى. وهذه العلامات من الوضوح بحيث يجب أن لا تخفى عن الأعين. ويمكن تلخيصها بالتالي:

الرأس المثلث الشكل للأفعى ذات الأجراس يظهر كونها سامة - مصغرة
الرأس المثلث الشكل للأفعى ذات الأجراس يظهر كونها سامة – مصغرة

1. شكل الرأس
إن جميع الافاعي السامة بإستثناء أفعى الكورال المائية لها رأس مثلث الشكل على شكل حربة السهم. أما رأس الافعى غير السامة فهو على الأغلب بيضاوي، وتوضيح ذلك في الرسمين التاليين:

2. شكل العين
جميع الأفاعي السامة تقريباً يأخذ بؤبؤ العين لديها شكل شق عمودي، أما الأفاعي غير السامة فإن البؤبؤ لديها مستدير كما يبدو في الرسمين التاليين:

غير سامـّة
غير سامـّة
العين المميزة لأفعى سامة - لاحظ أن البؤبؤ يتخذ شكل شق عمودي في العن وليس دائريا
العين المميزة لأفعى سامة – لاحظ أن البؤبؤ يتخذ شكل شق عمودي في العن وليس دائريا

 

 

 

 

 

 

 

3. عضو الاستشعار الحراري

عضو الاستشعار الحراري يوجد فقط في الأفاعي السامّة
عضو الاستشعار الحراري يوجد فقط في الأفاعي السامّة

جميع الأفاعي السامّة مزودة بجهاز للتتبع الحراري عن بعد، وهو على شكل ندبة بين العين وخيشومي الأنف. أما الأفاعي غير السامّة فلا توجد لديها تلك الخاصية.

 

الفروقات بين الأفعى السامة والأفعى غير السامة - رسم بياني
الفروقات بين الأفعى السامة والأفعى غير السامة – رسم بياني

 

 

4. شكل الذيل
ينتهي ذيل الأفعى السامّة بحلقات كاملة، بينما ينتهي ذيل الأفعى غير السامّة بصفين من الحراشف، كما هو موضح في الرسم البياني التالي.

نهضة بيروت العثمانية

نهضة بيروت العثمانية

بين منتصف القرن التاسع عشر والحرب العالمية الأولى

مقاومة التجار لسلطة والي عكا وحماية الدروز لبيروت
بداية لإزدهار المدينة في منتصف القرن التاسع عشر

عوامل ساعدت على صعود بيروت العثمانية
إصلاحات إبراهيم باشا المصري وتطوير الموانئ ونقل كرسي الولاية من صيدا إلى بيروت وقدوم التجّار الأجانب وهجــرة الرساميل والأفـراد من الجبل بعد أحداث 1964

كانت بيروت في سنة 1882 عاصمة العلوم في المنطقة مع نحو ثلاثة عشر ألف طالب
40 % منهم من النساء مقابل سبعة آلاف في دمشق التي تضم ضعف عدد سكانها

شهدت بيروت منذ منتصف القرن التاسع عشر خصوصاً في عهد السلطان عبد الحميد الثاني وحتى عشية الحرب العالمية الأولى نهضة عمرانية ومدنية وتجارية وتعليمية وإجتماعية وثقافية إستثنائية، جعلت منها أهم المدن التجارية وحاضرة العلوم والثقافة على ساحل المتوسط، ولا تزال آثار تلك الفترة، التي تمت في ظل أوسع حركة للإصلاح السياسي والإداري والتعليمي قامت بها السلطنة العثمانية، ماثلة حتى اليوم، وإن كانت قد ساهمت في نشأتها عوامل أخرى عديدة. فما هي أسباب وعلامات نهضة بيروت تلك، وما هي أبرز النتائج التي نجمت عنها وطبعت المراحل التالية من تطور هذه المدينة التاريخية؟

يغفل كثيرون عن الدور التحديثي الكبير للدولة العثمانية في أواخر أيامها، وهو دور ارتكز أساساً على مقتضيات «التنظيمات»، وعلى قوة المثال الأوروبي وديناميكية القوى المحلية التي أطلقها الحاكم المصري ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا، حاكم مصر آنذاك، بين العامين 1830 و1840، والإنجازات العمرانية التي قام بها، كما يعود أيضاً الى إيلاء السلطات العثمانية إهتماماً خاصاً ببيروت وبالولايات العربية.
بعد هزيمة الجيوش العثمانية في البلقان أصبح التفكير السائد في الدولة العثمانية يقول بضرورة تحديث الداخل لمواجهة الخارج، وبذلك توافر مناخ سياسي وفكري مؤات ٍلنهضة المدينة وازدهارها التجاري، لكن تطور بيروت سيستفيد أيضاً في الوقت نفسه من ضغط الدول الأوروبية المتعطشة لأسواق جديدة ولبنى تحتية وإدارية ملائمة، كما سيستفيد من صدام السلطة العثمانية مع محمد علي باشا وابنه ابراهيم، بالإضافة الى حاجة السلطة العثمانية الى موارد اقتصادية جديدة بديلة عن تلك التي خسرتها بسبب خسارة قسم كبير من منطقة البلقان وفي بعض أفريقيا.

جمهورية التجار
يجعل الأب لويس شيخو من العام 1842 تاريخاً مفصلياً شهد دخول بيروت في عهدها الحديث، وهو العام الذي صدر فيه أمر الدولة العثمانية بنقل كرسي الولاية من صيدا الى بيروت، وكذلك جعل اقامة الجند فيها، وهو ما يتأكد من حجم التبادلات التجارية في بيروت بين العامين 1827 و1884، التي اشار إليها الأب شيخو، منهياً قوله بأن بيروت أصبحت «مركزاً للأعمال التجارية لكل سواحل الشام».
في بداية القرن التاسع عشر، كانت عكا هي المركز الإقتصادي والسياسي الأهم بين ولايات السلطنة، فقد كانت المدينة الحصينة مخزناً لمحاصيل القمح والقطن وزيت الزيتون التي كانت ترد من جبال الجليل ونابلس وسهول جنوب دمشق، وكان إزدهار عكا الاقتصادي يعتمد كلياً على نظام الإحتكار في عكا، وكان غالباً ما يفرض بالقوة من قبل حكامها. ولكن بعض التجار في بيروت، في بداية القرن التاسع عشر، بدأ في خرق تلك التجارة الاحتكارية في عكا، وقد أدت جهود الطبقة التجارية في لبنان في مرحلة أولى إلى تكريس بيروت كمرفأ لدمشق، بدلاً من صيدا وعكا.
ويعتبر الباحثون أن مقاومة التجار في بيروت لأوامر السلطة في عكا، وكذلك حماية بيروت من قبل الدروز، البداية الحقيقية لنمو وإزدهار بيروت، ولكن هذا التحدي لم يكن ممكناً لولا القفزة النوعية التي سجّلتها بيروت بإعادة تأهيل مرفأها التجاري، أثناء حكم إبراهيم باشا إبن محمد علي، الذي استقبل طلائع السفن البخارية التي رست على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط مع حلول سنة 1836، وتنبأ، برؤيته الثاقبة، بتحول التجارة العالمية نتيجة اختراع السفن التجارية في ثلاثينات القرن. ولم تقتصر إصلاحات ابراهيم باشا على المرفأ، بل قام بإجراءات أخرى، تتعلق ببنى المدينة التحتية، منها إصلاح الطرقات وتوسيعها، وتجفيف قنوات المياه، ونقل المدافن خارج السور، وإقامة نظام صحي تمثل بمحجر صحي، وإقامة شبكات صحية، وزرع الأشجار وإقامة جهاز للشرطة وآخر للحراسة.
ومنذ ذلك الحين، تطورت التجارة في بيروت تطوراً كبيراً، وثمة شاهد فرنسي يسمي بيروت وللمرة الاولى بـ «جمهورية التجّار»، وما زالت بيروت تتمتع بهذه الصفة حتى اليوم. وفي سنة 1888 تحوّلت بيروت الى عاصمة ولايتها فصارت مركزاً سياسياً إقليمياً عثمانياً.
بالإضافة الى دينامية التجّار المحليين، يعود نمو بيروت الى وصول التجار الأجانب اليها، كما الى هجرة الرساميل والأفراد من جبل لبنان عقب الحرب الأهلية التي دارت سنة 1860 بين الدروز والمسيحيين.

” الإصلاحات العثمانية كانت جذرية واستهدفت تعزيز المساواة بين رعايا السلطنة وإقامة العدل وحكم القانون وتنظيم الدولة والخدمات وحماية الحقوق وبالتالي تمتين الوحدة الداخليــــة ونزع فتيل حركات الإنفصـال ومواجهة مكائد الدول الأوروبيـة “

دور الضغوط الأوروبية
كانت الرأسماليات الأوروبية قد اجتاحت العالم بسلعها وبدفع من البحث المحموم لمصانعها عن المواد الأولية الرخيصة، وكانت هذه الرأسماليات قد غيّرت مجتمعاتها ونقلتها من نظام قديم الى نظام جديد، ومن ثقافة تقليدية الى ثقافة جديدة بورجوازية ومدنية، ومن دول، ذات حكم مطلق، الى دول ذات أنظمة دستورية ديمقراطية، ومن مجتمعات رعاية وتابعين وأقنان الى مجتمع مواطنين ذوي حقوق، ومن حالة أسواق مغلقة ومعزولة الى حالة أسواق وطنية واسعة موحدة ومنفتحة على أسواق العالم.
كانت الحضارة الأوروبية تغزو العالم وتقدّم له أنموذجاً جاذباً في شتى المجالات، في الاقتصاد وقوة الدولة ودينامية المجتمع وفعالية القوانين والمؤسسات واشعاع العلم والثقافة في الجامعات والمدارس والمكتبات والصحف… الخ.
كما تجلّت مظاهر التقدّم الأوروبي في تقدم علم البحار والاكتشافات وتطوير الاساطيل التجارية والعسكرية وتطوير مؤسسات الإدارة والجيش والتنظيم العمراني والمدني وإدخال الطباعة واعتمادها في النشر.
وكانت حركة الإصلاح عموماً الجواب المتوقع لمسار تاريخي لا بدّ منه، وهو مواكبة التحولات الدولية واللحاق بتطور الرأسماليات الأوروبية ذات البعد العالمي الحتمي وكان الضغط على الدولة العثمانية يذهب في اتجاه السيطرة على الأسواق وطرق المواصلات داخل المجتمعات العثمانية.
بالإضافة الى تصاعد دور بيروت التجاري وضغوط الدول الأوروبية ودور القوى المحلية، جاءت الإجراءات التحديثية العثمانية متوافقة مع التعليمات والمبادئ التي نصتّ عليها «التنظيمات» .

التنظيمات
كشفت التدابير الإصلاحية عن تدرج العثمانيين في وعي أسباب الانحطاط، من المستوى العسكري، الى المستوى الاقتصادي، الى المستوى الديني، الى المستوى الإداري والقانوني والمؤسسي، الى مستوى العلاقات بين الدولة والمجتمع، وهو الذي تجلّى في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بالوعي الدستوري، أي الوعي بالمواطنة والمشاركة والتمثيل كبديل عن وضعية الرعية والحاكم المنفرد.
في هذا السياق، تشكّلت المشاريع الإصلاحية العثمانية المتلاحقة وآلت التوجهات الإصلاحية الى قيام مرحلة زمنية عرفت بمرحلة التنظيمات وامتدت من 1839 الى 1876.

المحطة الأولى: تمثّلت موجة الإصلاحات الاولى بـ «خط كلخانة» الذي أعلنه السلطان عبد المجيد سنة 1839، وقد شدّد هذا الخط (أي التشريع) على الأمور التالية:
1. منع التعديات والتسلط على النفوس والأملاك، كل فرد يكون مالكاً أمواله وأملاكه ومتصرفاً بها بكمال حريته.
2. توجهات لإصلاح الإدارة والقضاء مع التركيز على الأمور التالية:
– جباية شرعية للأموال، وإلغاء نظام الإلتزام الضرائبي.
– القضاء على الرشوة.
– مجلس الأحكام العدلية هو الذي يسن القوانين بعد أن يوافق عليها السلطان.

المحطة الثانية: الخط الثاني «خط همايون» 1856، وقد شدّد على المساواة والحريات الدينية ومن بنوده:
– السماح للطوائف غير الإسلامية بممارسة شعائرها وبناء معابدها.
– المساواة في المعاملة بين جميع الطوائف ومنع استعمال الألفاظ التي تحطّ من قيمة غير المسلمين وتأمين الحرية الدينية لأهل كل مذهب.
– فسح المجال أمام الرعايا كلهم لخدمة الدولة في وظائفها.
– إنشاء محاكم مختلطة للفصل في القضايا المدنية والجنائية، أي فصل المحاكم المدنية عن المحاكم الشرعية التي تعنى بشؤون الأحكام الشخصية.
– المساواة بين جميع رعايا الدولة في الحقوق والواجبات.
– السماح للأجانب بالتملك.
– منع نظام الإلتزام (مرة أخرى)
– وعد بإنشاء مجلس عالٍ لرؤساء الملل.
– وعد بإجراء إصلاحات شاملة في مجالات المالية والمواصلات والمعارف والزراعة والتربية.
وكان الحكام العثمانيون أثناء تلك القرارات وقبلها وبعدها يعهدون الى لجان مختصة بإعداد القوانين التنفيذية التي تضمن تطبيق مبادئ الإصلاحات. وفي هذا الإطار نشر قانون الأراضي سنة (1857) وقانون الطابو (1871)، وكان العثمانيون في ذلك ينقلون عن القوانين الأوروبية وخصوصاً الفرنسية، ناظرين في الوقت نفسه الى عدم مخالفة تلك القوانين أو أي من أحكامها للنصوص الشرعية. وفي عهد السلطان عبد العزيز (1861 – 1871) استمر تحديث القوانين ووضعت «مجلة الأحكام العدلية» ليعمل بها في المحاكم النظامية التي أنشئت، وكان جارياً إصلاحها.
نظر العثمانيون في سائر ما تقتضيه مسيرة الحضارة، وما سارت دول أوروبا عليه من قوانين خاصة، فوضعوا قانون التابعية العثمانية، وقانون ترتيب المحاكم الشرعية، والمحاكم النظامية والمحاكم التجارية، ونظام الملكيات الأميرية، ونظام إدارة الولايات ونظام شورى الدولة، ووضعوا نظاماً للمعارف، ونظاماً للمطبوعات، وأنظمة أخرى للمطابع والطبع وحقوق التأليف والترجمة، ونظاماً للطرق والمعابر، والحاصل أنهم لم يتركوا شيئاً من لوازم إدارة الملك إلا ودوّنوا له قانوناً.
استغرقت محاولات الإصلاح العثماني حقبات طويلة من الزمن، قبل أن تتمكن من تحقيق إنجازات في عصر التنظيمات أواسط القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من البطء، فإن الإنجازات كانت واسعة النطاق وراسخة، وفي ضوئها يمكن فهم التطورات التي طالت السلطنة والخلافة ومجتمعاتها.
نرى في توجهات التنظيمات ظلال الإنجازات الغربية المادية والرمزية، وعلى الأخص تطوير الزراعة والمواصلات والمالية والإدارة وإصلاح النظام الضريبي من جهة، ووضع حدّ للإمتيازات الإقطاعية وإطلاق الحريات الفردية بما في ذلك حريتا التملّك والمعتقد، وإعلان المساواة بين المواطنين في المعاملة والوظيفة، ووضع أسس التقاضي المدني بين رعايا الدولة، ما خلا التقاضي في الأحوال الشخصية. كما تلاحظ فيها الامتيازات المعطاة للأجانب، فأتت هذه التنظيمات بمعظم مضامينها منسجمة مع التطور الرأسمالي، وما يفرضه من حريات ليبرالية محلية ودولية، مع اهتمام خاص بمساواة المواطنين في المعاملة والوظيفة، بما يضمن للأقليات الكرامة والمشاركة في الإدارة.

المحطة الثالثة: إعلان دستور 1876 وتتصل بمسألة المشاركة في الحكم والوعي الدستوري.
كان لا بد لهذه التنظيمات، التي صدرت من فوق، وبإعلان من الإرادة السلطانية، أن تؤول الى مبدأ المشاركة، وإلى ضرورة وجود قانون أساسي للحكم، ينظم العلاقة بين الهيئة الحاكمة والرعية، عبر تمثيل برلماني، وكان على رأس هذا التيار النخبوي مدحت باشا الذي تبوّأ مناصب رفيعة في الدولة، وكان والياً على سوريا، ثم والياً على بغداد، ثم أسند اليه السلطان عبد الحميد الثاني في سنة 1876 منصب الصدارة العظمى، الأمر الذي أتاح لمدحت باشا إقناع السلطان بإعلان القانون الأساسي الذي كان قد أعدّه في أجواءٍ من تداول الأفكار وتطارح برامج الإصلاح على امتداد عواصم الدولة العثمانية ومراكز ولاياتها آنذاك.
أعلن الدستور في 19 كانون الأول 1876، ولكن السلطان ما لبث، بعد سنة من التجربة، أن علّق الدستور وحلّ البرلمان في 1878، أي بعد عامين وبضعة أشهر من إعلانه، متذرعاً بالحرب الروسية العثمانية، إلا أنه وهو الذي كان يحضر بعض جلسات البرلمان ما لبث أن ضاق ذرعاً بالطابع البيزنطي للجدالات والمناظرات، كما أنه بدأ يلمس مزيداً من التجرؤ من قبل النواب على مقام السلطان، وكان عبد الحميد يعلم جيداً أن تجربة الدستور جاءت بضغط منسق من الدول الأوروبية في الخارج ومن القوى الليبرالية والمستغربة في الداخل، وأن توقيتها كان سيئاً لأنه تمّ في وقت كانت السلطنة مهدّدة بالقوات الروسية التي تقف على تخومها، وهي بالتالي في حاجة إلى مركزية قوية وسرعة في القرار، وليس إلى ترف المماحكات السياسية.

” لم تكن بيروت في سنة 1834 تعد اكثر من 20.000 نسمة عندما أنشأ إبراهيم باشا لها مجلساً من 12 عضواً، وُزعت فيه المقاعد مناصفة بين المسيحيين والمسلمين “

مكتب البريد العثماني - بيروت 1890
مكتب البريد العثماني – بيروت 1890
إطلاق القوى الإجتماعية المحلية
هزم أحمد باشا الجزار نابليون على أسوار عكا سنة 1799، لكن ما لم يقدر عليه نابليون قدر عليه ابراهيم باشا إبن والي مصر، الذي سيطر بقواته على كامل بلاد الشام من سنة 1830 حتى سنة 1840، وخلال عشر سنوات تلقى المشرق تأثيرات التجربة المصرية، إذ أنشأ إبراهيم باشا في المدن مجالس مشورة، كانت عناوين لتبدل في السلطات المحلية المدينية، وتشكلت المجالس من ممثلين للأهالي وضمت المسيحيين واليهود.
لم تكن بيروت في سنة 1834 تعدّ اكثر من 20.000 نسمة، ومع ذلك، وعلى غرار المدن الكبرى الواقعة تحت الاحتلال المصري، أقيم فيها مجلس من إثني عشر عضواً، بأمرٍ من ابراهيم باشا، وُزعت فيه المقاعد مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، وكان المندوبون كلهم من التجّار الذين عينوا من قبل إبراهيم باشا، وكان هذا المجلس يبعد عن مفهوم الديوان التقليدي للولايات العثمانية ويفترض به أن يؤازر الحاكم، وزوّد هذا الجهاز بديوانين خاصين، مهمة الأول الإهتمام بالصحة العامة والثاني بالتجارة. وكان هذا الجهاز فاعلاً ومنظماً ويشرف على إدارة الأعمال اليومية في المدينة. وهكذا ازدادت خلال سنوات الحكم المصري التدخلات الأوروبية السياسية، وتوسعت شبكات التجارة والمصالح الإقتصادية، وبالتالي أطلقت الحملة المصرية على المشرق، القوى المحلية من عقالها، الأمر الذي ستظهر تردداته في العقود اللاحقة حتى مطلع القرن العشرين.
وبعد انسحاب المصريين، وسعت الدولة العثمانية العائدة سنة 1840 العمل بالمجالس تبعاً للتنظيمات، فصار لكل مدينة عدد محدد من الهيئات الإدارية والبلدية والقضائية التي رفعت تمثيل الأهالي، وأطلقت قوى إجتماعية جديدة. وكان لهذه الهيئات دور هائل في إدارة نهضة بيروت، ويجوز بالتالي، اعتبار هذه الظاهرة سمة مشتركة بين أسباب نهضة بيروت وعلامات ومؤشرات هذه النهضة، أي أن اشتراك القوى المحلية في الإدارة جاء عملاً بنماذج الحكم الأوروبية وتحقيقاً للمثال الديمقراطي، وهذه الخطوة أدت بدورها الى تسريع وتنشيط نهضة المدينة.
شارع الأمير بشير وكنيسة ما مارون 1890
شارع الأمير بشير وكنيسة ما مارون 1890
” عرفت بيروت في عهد السلطان عبد الحميد إنجازات هندسية كبيرة وفق تنظيم مدني صارم
وضع حداً للفوضـى العمرانية وفرض العمل بأنظمة حديثــة للبناء “

أسباب إضافية
بالإضافة الى تصاعد دور بيروت التجاري وضغوط الدول الأوروبية ودور القوى المحلية والتحدي المصري في تفعيل التنظيمات، هناك عامل آخر جاء يعزز اهتمام السلطة العثمانية ببيروت في الربع الأخير من القرن العشرين، وهو اهتمام السلطان عبد الحميد بالذات بالولايات العربية عموماً، وبولاية بيروت خصوصاً، وذلك لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى. فبعد خسارة السلطنة معظم ولاياتها الغنية في آسيا وأوروبا، تركز اهتمامها على ولايات سوريا وحلب وأطنة وعلى رفع مستوى ازدهارها وثرواتها، لتكون بديلاً اقتصادياً من الولايات التي خسرتها واختارت ولاتها من كبار الموظفين وأكفأهم، وعزلت الفاسدين منهم.
هدفت التنظيمات ايضاً الى إظهار الدولة العثمانية بأنها لا تقل تقدماً عن دولة محمد علي باشا (1805 – 1845)، والذي أظهر بأنه مشروع نهضوي متقدم على الدولة العثمانية، إذ كانت الرغبة في الإصلاح هي أيضاً عنوان مرحلة حكم محمد علي باشا الذي كان يصبو بالدرجة الأولى الى تأسيس دولة قوية قادرة على توحيد الأجزاء العربية للدولة العثمانية، وهذا ما سعى اليه إبنه ابراهيم عندما احتل بلاد سوريا سنة 1830. ولكنه ادرك أن تحقيق طموحات الدولة المصرية لا يتم فقط بالقوة العسكرية بل يحتاج إلى إطلاق النمو الإقتصادي والمعرفة، لذلك حرص محمد علي باشا على إصلاح جهاز الدولة وتعزيز مبادئ الحكم المركزي والدولة المركزية الراعية للعمران والصناعة والزراعة والتعليم، وهو فوق ذلك راح يغزو ولايات السلطنة ويحتلها ويعيد تنظيمها كما فعل في بلاد الشام.

 

نهضة بيروت ارتبطت بدورها المتزايد كمرفأ للداخل السوري وما يتعداه
نهضة بيروت ارتبطت بدورها المتزايد كمرفأ للداخل السوري وما يتعداه

” برج الساعة الحميدي في ما أصبح ساحة البرلمان كان رمزاً لسياسات التحديث العثماني ورمزاً لأهمية الوقــت واستثمـــاره في العمل بدل المقاهي واللهو “

لإنجازات الهندسية والمدنية والإقتصادية
استندت الانجازات العمرانية في مدينة بيروت الى السلطات المركزية عموماً، والى النشاط البلدي الناجم عن الإصلاح البلدي الذي شهدته الأعوام الممتدة ما بين 1864 و1877، وجرى تطبيقه في مجمل الولايات الخاضعة للسلطنة، والذي اسفر عن نتائج متفاوتة تبعاً لاستعدادات الولاة الإصلاحية. لكن قرار الإصلاح كان قد اتخذ، مما يؤكد أن السلطان عبد الحميد (1908-1876) لم يكن حفار قبور التنظيمات، إذ تبدو الفترة الحميدية على صعيد التنظيم المدني، المرحلة التي بلغت فيها روحية العمران حدها الأقصى، وعلى الأرجح للأسباب الإقتصادية والسياسية التي ذكرناها، وكذلك بسبب شخصية السلطان القوية ورؤيته المقدامة التي تميّز بها عن العديد من السلاطين الذين سبقوه.
عرف عهد عبد الحميد إنجازات هندسية كبيرة، وفق تنظيم مدني صارم وضع حداً للفوضى العمرانية وفرض قوانين صارمة للبناء، وقد تصاعدت وتيرة الإصلاح منذ أن اصبحت بيروت عاصمة ولايتها سنة 1888 وتحولت رسمياً الى مركز سياسي إقليمي عثماني.
انطلقت إرادة النهضة في اسطنبول، والتعطش الى انوار العقل اكثر ما تجلى هناك بكل حيويته، مرسياً قواعد الإصلاح في العاصمة ومجيشاً اندفاعة النخب الإجتماعية في جميع مدن السلطنة، حتى لو تفاوتت الجهود والإرادات الإصلاحية وفقاً لدور هذه المدن.
شجعت القرارات الإصلاحية السلطانية المشاريع العمرانية التي تولت تنفيذها السلطات العامة، ووجب الإقتداء بالنموذج الذي روّج له «هوسمان»، عمدة باريس، وبالإنجازات العمرانية التي تحققت في اوروبا إبان القرن الثامن عشر بإسم العقل، فاستبدلت شبكة الطرقات المهملة بخطوط مستقيمة، وتمّ الاهتمام بتنظيم السير ووسائل النقل، ذلك أن التطورات التكنولوجية، المتمثلة في العربات العامة وسكك الحديد ومحطة الترمواي في بداية القرن العشرين، كانت تفترض إيجاد مساحات إضافية عامة مفتوحة، فأنشئت الساحات وأماكن التوقف ولاحقاً المحطات، ونتيجة لذلك، ظهرت باحات التنزه والمطاعم والمقاهي، لا بل الفنادق،…
تمّ تشييد ساحة حملت إسم ساحة الحميدية تخليداً لإسم السلطان عبد الحميد، واحيطت بها حديقة عامة مستوحاة من حديقة الأزبكية في القاهرة، وعلى أثر ثورة «تركيا الفتاة» سنة 1908 وتنحية السلطان عبد الحميد عن السلطة في السنة التالية، أطلق على «ساحة الحميدية» إسم «ساحة الإتحاد»، فيما أصبحت الحديقة المحيطة بها «حديقة الحرية»، وهي الآن ما باتت تُعرف بـ «ـساحة الشهداء»، كما تمّ تشييد ساحة أخرى هي «ساحة عصور»، وتُعرف بـ «ساحة رياض الصلح» وساحة الثكنة.
وفي الجهة الشمالية للحديقة، شيّدت سراي على الطراز العثماني باتت بعد سنة 1888 مقراً لوالي بيروت، وضمت مكاتب المتصرفية.
ولم يمنع الطابع الرسمي لساحة الحميدية من أن تصبح المركز الأكبر للأعمال في المدينة والى الطريق الشمالي، على جهتي الحديقة، جعلت بعض الشركات الكبيرة مقراً لها، كشركة المرفأ وسكك الحديد وغاز المدينة والتبغ والبنك العثماني، واحاطت بها جنوباً الفنادق والمقاهي والكازينوهات، وظهر نموذج غير معهود من المحال كالمكتبات والصيدليات، ومحلات الساعات والمصارف، وألحقت بها في ما بعد صالة مسرح وقاعة احتفالات.
وعرفت المدينة ظاهرة الأسواق الحديثة، وكان أول سوق أبصر النور هو «سوق الطويلة» سنة 1875 ثم «سوق الجميل» (1894)، وكانت تباع فيه البضائع الأوروبية، و «وادي أبو جميل» الذي اختارته الطائفة اليهودية حياً لسكنها المتجاور، وبرزت آنذاك ظاهرة مجموعة مخازن كبرى مجهّزة بمصاعد كهربائية، هي الاولى في المدينة، اولها مخازن «اروزدي باك»، كما ظهر أثر الثروات الكبيرة ببناء العديد من القصور الفخمة.
ووجب على السلطات السياسية والبلدية المولجة بإدارة أحوال العاصمة العمرانية الاستجابة الى متطلبات تزداد تعقيداً لمواكبة نمو المدينة، من خلال شق طرقات جديدة وزيادة شبكات الإنارة العامة، وجرّ المياه، واستحداث مركز تلغراف، وخطوط ترمواي، وشاع استعمال الفوانيس المنزلية بفضل شركة عثمانية لتوزيع الغاز.
وحتم إزدياد وظائف مرفأ بيروت، تحديث الواجهة البحرية، وفي بداية القرن استكملت المنشآت البحرية ببناء محطة بحرية، وفي غضون ذلك ارتفعت مبانٍ مؤلفة من ثلاث أو أربع طبقات، مخصصة للمصارف والفنادق ووكالات السفر البحرية والمقاهي والمطاعم.
وفي سنة 1907 دشّن الوالي الحديقة المجاورة لمدرسة الصنائع، والتي حملت إسم «حديقة الصنائع»، وقررت البلدية أن تنشئ، في الوقت نفسه، مستشفى وكركولاً وسجناً.

برج الساعة: روح العصر
وتمثّلت روح العصر كما سمّاه بطرس البستاني، بإنشاء برج الساعة العثماني سنة 1897 .
وكان انتشار بناء أبراج الساعة العثمانية، في كافة أنحاء الامبراطورية، جزءاً من رغبة السلطان عبد الحميد للتجديد والتحديث، في محاولة لإعطاء قيمة اكبر للوقت. فبدلاً من أن يكون تقسيم النهار معتمداً على اوقات الصلاة، فقد اصبح مقسماً وفق حاجات العمل على امتداد ساعات اليوم.
وفي بيروت، برز هذا الإتجاه في كتابات بطرس البستاني الذي حث المواطنين على اعتماد واحتضان فرص التعليم الجديدة والإنتاج وعمل الخير العام، وأنذر الذين يضيعون أوقاتهم قائلاً:
«الذين يترددون الى المقاهي لأجل قتل الوقت نهاراً، وتملأ البيوت من الدومينات والشدّات والطاولات لأجل قتله هناك ليلاً».
تحوّل برج الساعة الى رمز تحديث الحياة الخاصة والعامة، الى نداء لإعادة النظر في كيفية تدبير الحياة، تمثلت معانيه بيسر النخب المثقفة، مما دفع لويس شيخو، الى شرح بناء برج الساعة في مجلة المشرق مفتخراً ومركزاً على كون هذا البرج «ثمرة التعاون بين السلطة العثمانية والسلطة المحلية والوالي والمهندس البلدي يوسف افتيموس».
أما جرجي زيدان فكان أكثر وضوحاً عندما أنذر قرّاء مجلة «الهلال» بأن «الجلوس في المقاهي ساعات متتالية يمنع الشباب عن الاجتهاد في أعمالهم، وخصوصاً لأن فرصة العمل عند الشبان قصيرة ما بين 20-30، وهي أثمن أيام الإنسان وأفضلها وأصحها وأنشطها فهل نضيعها بين القهوة والبيرة أم نصرفها في الخير…».بالإضافة الى برج الساعة الذي يستبطن بعداً عمرانياً وذهنياً ثقافياً، شهدت اواسط القرن التاسع عشر بناء مسرح خاص على يد مارون النقاش (1805 – 1887) الذي كان تاجراً، مولعاً بالفن، فاقتبس مسرحية «البخيل» لموليير، وعرضت في منزله، بمساعدة ممثلين ايطاليين، ثم ألّفّ مسرحيتين، إحداهما تدور حول شخصية هارون الرشيد، ثم حصل على فرمان امبراطوري يجيز له إنشاء مسرح حقيقي بجوار منزله، في إحدى ضواحي بيروت. وبعد أن أدخل الاخوان نقاش المسرح الى البلاد، أخذت المدارس الكاثوليكية تشجع الفنون المسرحية متجاوزة المعارضة التقليدية للكنيسة لهذا النوع من النشاطات، فقدمت عروضاً مسرحية كثيرة عند نهاية كل عام دراسي، كما انصرف طلاب الأميركان كولدج الى إتقان هذه الفنون في مطلع القرن العشرين. ففي سنة 1903، عرضت مسرحية «يوليوس قيصر» في الهواء الطلق فوق منصة اقيمت في كامبوس الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأميركية اليوم) وتبعتها في سنة 1905 مسرحيات مختارة من شكسبير، وعرضت «هاملت» سنة 1906.

استجابة لهذه الوضعيات الاقتصادية، والتي يعجز الحاكم الشرعي عن تدبيرها بالأساليب القديمة، شهدت بيروت تنظيماً خاصاً للشؤون الحقوقية والقضائية طبقاً لمقتضيات التنظيمات.
ففي سنة 1851 أقدمت السلطنة على تزويد بيروت بمحكمتين، إحداهما جنائية والأخرى تجارية، وجرى تشكيلهما بشكل رفيع المستوى، على غرار محاكم القسطنطينية، وتعزز وضع المدينة اكثر فأكثر عندما رقيت محكمتها التجارية الى درجة الإستئناف، لكل ولاية سورية وجبل لبنان سنة 1864، وقد تحولت هذه المحكمة الى واحدة من كبريات المحاكم التجارية في حوض المتوسط، عندما تحولت غرفتها الثانية الى مجلس للنظر في الدعاوى التجارية لمختلف الدول، وكان إنشاء المحاكم من ضمن التدابير التي اتخذتها السلطة العثمانية لاستعادة موقعها في بيروت بعد أن اشتد فيها نفوذ الإرساليات والتجار.
وفي مطلع القرن العشرين، بدت بيروت في قمة هذه التحولات، مدينة شابة، منصهرة في بوتقة الحداثة، وعشية الحرب العالمية الأولى، لا شيء كان يوحي بأنه قادر على كبح جماح ارتقائها، بل إن دخول تركيا الحرب لم يضع حداً لحركة التمدين التي تقوم بها السلطات العامة، بل خلافاً لذلك، استغل الوالي «بكر سامي» حالة الحرب والقانون العرفي ليضع قيد التنفيذ مشروع شق طريقين سيصيران (بعد خسارة تركيا للحرب) شارعي «اللنبي» و «فوش» العتيدين، ونجح خلفه عزمي بك في إتمام «كازينو غابة الصنوبر» سنة 1917 في خضم الحرب.
وبمقدار تطور اسلوب عمل التنظيمات بدت المدينة وكأنها المكان المفضّل لنشاط رجال أكفاء في كل الميادين لإحداث ثورة من فوق، كان التغيير الفعلي الذي أحدثته التنظيمات هو أن المسؤول في الدولة بات يضطلع برسالة، وهي الاستجابة لحاجات الناس والتخطيط لرفاهيتهم، مما يوازي، إعادة تأسيس الامبراطورية التي لم يعد في إمكانها أن تختزل الى منظومة هائلة لجباية الضرائب وآلة لصنع الحرب.
هكذا، شهدت مدينة بيروت نهاية القرن التاسع عشر تجدداً عمرانياً على كافة الأصعدة بما يشبه إعادة تأسيس حداثة رسمية تولتها الدولة العثمانية للأسباب التي ذكرناها، واستثمرت فيها السلطات المحلية جهودها وخبراتها وطموحاتها.

” كانت التنظيمات بمثابة إعادة تأسيس للإمبراطورية العثمانية على أسس المواطنة إذ لم يعد في الامكان اختزالها الى منظــــومة هائلة لجــــباية الضرائب وصنــــع الحرب “

الثورة المعرفية والثقافية
في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر لم تعد بيروت مرفأ سوريا الأول وأهم مدن الساحل المتوسط فحسب، بل قطباً للمعارف وموئلاً للنشاط الفكري، وتجلّت هذه الثورة الثقافية بتأسيس المدارس والجامعات والجمعيات والصحف والمطابع ودوائر المعارف على وجه الخصوص، كحلقات متصلة ومتوالدة، شكّل التعليم رافعتها الأساسية.

مدرسة الآباء اللعازاريين نحو سنة 1880
مدرسة الآباء اللعازاريين نحو سنة 1880

تسابق الإرساليات الكاثوليكية والبروتستانتية أطلق حركة إنشاء الجامعات في بيروت فردّ المسلمون بتأسيس جمعية المقـــاصد والكلية العثمانيـــة

النهضة التعليمية
انطلقت نهضة بيروت ببعض التباطؤ قياساً لمصر محمد علي، كونها لم تحظَ بالدعم الرسمي الذي حظيت به نهضة مصر، بل انطلقت بمساهمة مشتركة من المرسلين الاجانب والنخب المحلية. لم يكن فيها للسلطة العثمانية سوى بعض المبادرات الضئيلة على مستوى التعليم جاءت خجولة ومتأخرة، وكردّ فعل على إنتشار الإرساليات.
حتى منتصف القرن التاسع عشر كان التعليم الأولي بأكمله في أيدي الشيوخ المسلمين أو القساوسة المسيحيين، وكان لصيقاً إما بالجامع وإما بالدير، وكان برنامج التعليم يقتصر في الغالب على مبادئ القراءة والكتابة وتلاوة القرآن أو الإنجيل واستظهار مقتطفات منهما. وكان التعليم يهدف بالدرجة الأولى الى التقيّد بالتقاليد الدينية، ولم تلقَ المدارس التي تدرّس العلوم العصرية انتشاراً معيناً إلا مع استيلاء ابراهيم باشا على لبنان فقبل حكم إبراهيم باشا «لم يكن في بلاد الشام شيء يقال له علم أو أدب ما خلا بقايا ضئيلة في بعض الجوامع والأديار».
ففي العشر الثالث من القرن التاسع عشر، سكن المرسلون العازاريون بيروت وتبعهم المرسلون البروتستانت سنة 1828 واليسوعيون 1839، والقصاد الرسوليون منذ 1841، ويعود الفضل في دخول الإرساليات الى بيروت الى إبراهيم باشا، ابن محمد علي، الذي شجّع دخول الإرساليات التبشيرية الى جبل لبنان ثم الى بيروت، في إطار تبنيه لمبدأ الحريات الدينية، هذا المبدأ الذي تمّ تكريسه لاحقاً إثر صدور مقررات «خط همايون» سنة 1856 التي أكدت على «حرية كل جماعة مأذونة بعمل مكاتب علمية للمعارف والحرف والصنائع» على أن تكون تحت مراقبة «مجلس معارف مختلط» 1883، ولكن هذا التشريع جاء متأخراً إذ كانت قد سبقته بأشواط مبادرات الطوائف والجماعات التبشيرية.
وبالإضافة الى التعليم الثانوي، أصبحت مدينة بيروت مركزاً للتعليم العالي، ففي سنة 1866 أنشأ المرسلون البروتستانت الكلية الإنجيلية السورية التي أصبحت في ما بعد الجامعة الأميركية، وأنشأ المرسلون اليسوعيون سنة 1875 جامعة القديس يوسف.
وبادرت الطوائف المحلية الى إنشاء مدارسها، فأنشأ الأرثوذكس «مدرسة الثلاثة اقمار» سنة 1852 و «مدرسة زهرة الإحسان للبنات» سنة 1880 والروم الكاثوليك «الكلية البطريركية» سنة 1865، والموارنة «مدرسة الحكمة» سنة 1872.
ومن الطبيعي أن تعمد الأوساط الإسلامية الى إنشاء المدارس لتعليم أبنائها وبناتها، إقتداءً بمدارس الإرساليات والطوائف الأخرى من جهة، ولأن المدارس العثمانية لم تكن كافية لتعليم ابناء المسلمين من جهة أخرى، لذلك أنشأ وجهاء المسلمين، بتشجيع من والي سوريا المتنور، مدحت باشا، «جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية» سنة 1878 وجعلوا من أهدافها «تفقد أحوال الفقراء من أبناء الطائفة الإسلامية، وإيجاد المعاهد العلمية للذكور والإناث منهم وخدمة الأمور الخيرية»، وبعد شهرين أنشأت الجمعية مدرسة للبنات في بيروت سنة 1878، اتبعتها بأخرى للصبيان، كما عمل الشيخ أحمد عباس الأزهري على تأسيس مدرسة خاصة أسماها «الكلية العثمانية» في سنة 1895.
قبل هذا التاريخ، كان التعليم في المدارس الإسلامية في وضعٍ بائس، إذا رجعنا الى توصيف نشرة «الفجر الصادق»، الصادرة عن «جمعية المقاصد الخيرية» سنة 1879، التي اشارت الى أن تلك المدارس كانت مقتصرة على بعض الزوايا المهجورة والمملوءة بالعفونة والرطوبة، مما يضرّ بصحة الأولاد العمومية، ومن المعلمين المشايخ العميان الذين لا ننكر فضلهم لأنهم قاموا بواجباتهم على قدر استطاعتهم».
كما شملت النهضة التعليمية، التي تولتها الإرساليات، النساء، اذ فتحت زوجة القس الإنجيلي دودج والقس طومسون أول مدرسة داخلية للبنات سنة 1826، وكانت اول مدرسة للبنات في الأمبراطورية العثمانية ودخلتها من سنتها الأولى أربعون فتاة، وأنشأ المرسلون الأميركيون مدرسة داخلية أخرى للبنات سنة 1816، وهذا ما دفع «راهبات المحبة» الى تخصيص مدارس ابتدائية مجانية للفقيرات من البنات الكاثوليكيات، ومدارس ثانوية للطبقة الوسطى من الأهلين منذ سنة 1847.
أما أولى المدارس الوطنية العلمانية فهي مدرسة المعلم بطرس البستاني، أسسها في زقاق البلاط سنة 1863، دفعه الى هذا العمل ما وجده من تنافر بين أبناء البلاد وانقسامات طائفية ومجازر في العامين 1860 – 1861، فسعى لأن يجاور بين أبناء البلاد، لعله ينتزع الاحقاد من قلوبهم.
وكان المعلم بطرس مثالاً خلقياً نشيطاً، فتقدمت المدرسة رغم ما لاقاه من معارضة المطران طوبيا عون لكنها أقفلت ابوابها سنة 1876 بعد أن عاشت 13 سنة فقط، وكان من اساتذتها ناصيف اليازجي وابنه ابراهيم.

” السلطان عبد الحميد قيّد نشاط المعاهد الإرسالية وفرض مراقبة على مناهجها وكتبها وأنشأ المدرسة السلطانية ومدرسة الصنـائع ومعاهد تخريج المعلمين  “

” المعلم بطرس البستاني أنشأ أول مدرسة علمانية في بيروت لكن معارضة المطران طوبيا عون الشديدة أدت إلى إقفالها  “

جانب من الواجهة البحرية لبيروت قي القرن التاسع عشر
جانب من الواجهة البحرية لبيروت قي القرن التاسع عشر

أثر نظام السلطان عبد الحميد في التعليم
كان اهتمام السلطان عبد الحميد منصباً على الإنشاءات العمرانية والصروح الرسمية، اكثر منه على التعليم، كما أنه عني بالإشراف اكثر من التخطيط والتأسيس، ولكن اشتداد نفوذ الإرساليات دفعه الى محاولة الحدّ مما اعتبره «مساوئ التعليم الإرسالي» فدشّنت بيروت المكتب الرشيدي العسكري سنة 1877، والمدرسة السلطانية سنة 1883، ومدرسة الصنائع سنة 1907، كما انشأت بعض المدارس التي تعنى بتخريج المعلمين والتحضير للمدارس العسكرية.
وفي سنة 1883 صدرت مراسيم عثمانية للإشراف على التعليم، وجرى منذ ذلك التاريخ، تقييد نشاطات الإرساليات في المدن وخارجها، ومراقبة مناهجها وكتبها، ويكشف واقع التجربة التاريخية، تخلي السلطنة، في عهد السلطان عبد الحميد، عن التوجيه والتخطيط واحتفاظها بالإشراف فقط.
ولكن هذا لم يحلّ دون استفادة مجموعة من الشبان، من الدراسة في المكتب الإعدادي العثماني، والذهاب الى الآستانة للتخصص في الطب أو الحقوق، وكانوا بدورهم وسطاء لنقل افكار التحديث، ومن ضمنهم القاضي سعيد زين الدين.
وبالمحصلة، وبسبب تعدد مدارسها وجامعاتها، كانت بيروت قبلة الراغبين بالتعليم الحديث، والتعليم العالي، في جامعاتها أو جامعات اسطنبول، ففي سنة 1882 كانت مدارسها تضم ثلاثة عشر ألف تلميذ مقابل سبعة آلاف في دمشق، التي تضم ضعف سكانها، والفين وخمسمائة في حلب، التي تضم عدداً موازياً من السكان، وكانت الفتيات يشكلن اكثر من أربعين في المئة من التلاميذ، بينما لا تزيد نسبتهن على الربع في دمشق أو حلب.
وهكذا، وبفضل تضافر مجموعة استثنائية من الظروف الداخلية والخارجية، كانت النهضة التعليمية في بيروت نتاجاً إجتماعياً، وليس نتاجاً سلطوياً، كما صنعت هذه النهضة التعليمية المعرفية أفراداً يقودهم فضولهم المعرفي الى فضاءات جديدة لم تعهدها المدينة.

الجمعيات العلمية والأدبية
أبرز الإبتكارات في الشأن الثقافي كانت الجمعيات العلمية والأدبية، كان السبب الأول لتأسيس هذه الجمعيات هو التعبير عن الحرية الفردية والخروج عن العصبيات التقليدية، فالنهضة هي ايضاً تفتق للفردية وإبداع وتوق الى التقدم والتحديث، وردة فعل على الأوضاع السياسية والإجتماعية القائمة، والحرية من مميزات المدينة.
ومما ساعد على إنتشار هذه الروح هو الشغف بالعلم، والإختلاط بالأجانب، لتكاثر الإرساليات، ومطالعة الكتب الأجنبية مباشرة أو عبر التعريب، والذي مكّن من عشق الحرية ايضاً انتشار العلوم الطبيعية والإنسانية بين النخب وشيوع نظريات علمية ومذاهب فلسفية لا عهد للعرب بها كالإشتراكية والعلمية ومذهب النشوء والإرتقاء، بالإضافة الى ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان التي وفرتها المصادر الأجنبية.
وابتداءً من 1847عرفت بيروت-التنظيمات، حركة جمعيات تعليمية وثقافية، ففي سنة 1847 أنشأ المرسلون البروتستانت بالتعاون مع مثقفين محليين، «الجمعية العلمية السورية، وسنة 1850 حذا حذوهم الكاثوليك فأسسوا، بمساعي الآباء اليسوعيين، جمعية أطلقوا عليها إسم «الجمعية المشرقية» واستمر تأسيس الجمعيات حتى سنة 1882.
كان المحرك الأول لتأسيس الجمعيات هو المبادرة البروتستانتية، التي كانت تحمل تطلعات إصلاحية وتنويرية، عبر تأسيس «الجمعية العلمية السورية» قبل تأسيس المدارس العالية أو الصحف وغيرها، وما لبثت أن ردت عليها سريعاً المبادرات الكاثوليكية ثم الأرثوذكسية، قبل أن تبادر الفئات الإسلامية التي تملك مشروعات تمدينية، الى الإعلان عن نفسها كجمعية المقاصد الخيرية (1878).
وتعتبر «الجمعية العلمية السورية» أبرز الجمعيات التي تأسست نظراً لهوية الأشخاص الذين نشطوا في إطارها، ولأهمية الآثار الفكرية واللغوية والأدبية التي خلفوها، ولتأثيرها في تكوين الأفراد الذين انتموا اليها، عقلياً وفكرياً واجتماعياً، وبالتالي سياسياً. فما هي هذه الجمعية؟

السلطان-عبد-الحميد-الثاني-لعب-دورا-مهما-في-تحديث-الإمبراطورية-وإطلاق-نهضة-بيروت
السلطان-عبد-الحميد-الثاني-لعب-دورا-مهما-في-تحديث-الإمبراطورية-وإطلاق-نهضة-بيروت
مدحت باشا والي دمشق الإصلاحي شجع على تأسيس جمعية المقاصد الإسلامية
مدحت باشا والي دمشق الإصلاحي شجع على تأسيس جمعية المقاصد الإسلامية
إصلاحات إبراهيم باشا خلال الفترة من 1830 وحتى 1840حفزت العثمانيين لتطوير بيروت
إصلاحات إبراهيم باشا خلال الفترة من 1830 وحتى 1840حفزت العثمانيين لتطوير بيروت

الجمعية العلمية السورية
أنشئت هذه الجمعية بمساعي المبشرين الإنجيليين «وليم طومسن» و«عالي سميث» سنة 1847 وتوقفت اثناء الحرب الأهلية التي دارت في جبل لبنان بين العامين 1860 و 1861، ثم استأنفت نشاطها ابتداءً من 1868، ولكنْ انشاؤها تمّ بإلحاح من مثقفين لبنانيين في طليعتهم بطرس البستاني وناصيف اليازجي، وكانت الجمعية تعقد اجتماعاتها مرة كل 14 يوماً لإلقاء محاضرات عامة، ويتألف دستور هذه الجمعية من 15 بنداً، يحدّد البند الثاني منه غاية الجمعية بما يلي: « إنها الرغبة عموماً لاكتساب العلوم والفوائد، مجردة من الأمور السياسية، والمجادلات الديانية، فإنها لا تتعلق بهذه الجمعية.
تكفي نظرة خاطفة على مواضيع المحاضرات التي ألقيت في «الجمعية العلمية السورية» كي ندرك بزوغ هاجس المعرفة والتقدم والتخلص من حالة الركود المعرفي السائد.
3. لذات العلم وفوائده للدكتور كرنيليوس فان دايك.
4. فضل المتقدمين على المتأخرين للدكتور كرنيليوس فان دايك
5. تعليم النساء لبطرس البستاني.
6. مقدار زيادة العلم في سوريا في هذا الجيل ليوحنا ورتبات.
7. علوم العرب لناصيف اليازجي.
8. النبات لنوفل نعمة الله نوفل.
9. الشرائع الطبيعية لسليم نوفل.
10. السعد والنحس لميخائيل مشاقة
11. مدينة بيروت لبطرس البستاني.
وفي ما طغى الطابع العلمي على محاضرات «الجمعية العلمية السورية» انشغلت «الجمعية المشرقية» التي أسسها الآباء اليسوعيون بالمواضيع الدينية عموماً، وفي ما يلي نماذج من المواضيع التي كانت تعالج في إطار الجمعية المشرقية:
1. تواريخ سوريا للشيخ الياس الدحداح
2. فوائد هذه الجمعية لنقولا منسـى
3. وقائع وادي العاصي لراجي إده
4. حكم سليمان لجبرائيل الشراباتي
5. حكومة يوشا فاط لراجـــــي إده
6. الأجـــرام الفلكية لداود برتران
وبالتالي إحتل التنوير مكانة رئيسية في نشاطات «الجمعية العلمية السورية»، كما في مجمل العمليات الإيديولوجية المميزة للنهضة في القرن التاسع عشر، وكان المتنورون يهدفون الى نشر التعليم والمعارف العلمية والتقنية، اعتقاداً منهم أن التنوير هو محرك التقدم الإجتماعي.
ولقد ساعد عمل الجمعية العلمية السورية على تنشيط الحياة الثقافية في البلاد، مما أثار إعجاب المستعرب الروسي ف. ن. جيرجاس، الذي زار سوريا سنة 1861، فكتب قائلاً: «لقد ساعد على هذا الأميركيون، ونشرت الجمعية مجلداً يحوي على الكلمات التي القاها اعضاؤها، كما حققت فائدة غير قليلة الأمسيات الأدبية، التي كانت تنعقد عند بطرس البستاني أو أعضاء الجمعية الآخرين، وكان أشخاص مختلفون يلقون خلالها كلمات حول تطوير الثقافة في سوريا.
أما مؤسسو الجمعية اللبنانيون فكانوا كوكبة من رجالات النهضة: بطرس البستاني وابنه سليم، وناصيف اليازجي، ويعقوب صروف، وفارس نمر، وجرجي زيدان، وميخائيل مشاقة وجبر ضومط وأسعد خياط، وسليم نوفل، ويوسف كتفاكو، (والأخيران كانا رجلي أعمال) وكان الأمير محمد أمين أرسلان الذي ينتمي الى عائلة أرسلان الدرزية المعروفة، اول رئيس للجمعية تلاه حسين بيهم، الذي ينتمي الى عائلة بيروتية سنية عريقة.
وعرفت الجمعية لاحقاً امتداداً واسعاً تجلى بإنضمام اكثر من 150 عضواً اليها، ومن انتماءات طائفية مختلفة، لكن مع غلبة عددية مسيحية، ومن أبرز الذين انضموا إلى صفوف الجمعية لاحقاً: حنَيْن الخوري، عبد الرحيم بدران، سليم شحادة، سليم رمضان، حبيب بسترس، موسى فريح، حبيب جلخ رزق الله خضرا، كما انضوى تحت لواء هذه الجمعية، كثير من الوزراء والأعيان وحملة الأقلام في بيروت والآستانة ودمشق، وحمص وحما وحلب وطرابلس واللاذقية وبعلبك وصور وعكا وحيفا ويافا والقدس والقاهرة.
لعبت «الجمعية العلمية السورية» دوراً تنويرياً هائلاً، ولكن نشاطها الفكري- التثقيفي سيقود بعض أعضائها في ما بعد الى تشكيل جمعية سرية سياسية لعبت دوراً مهماً في مناهضة حكم السلطان عبد الحميد الثاني.
ومن جهة أخرى، لعب اعضاؤها دوراً في تأسيس الجمعيات الثقافية حتى سنة 1882.

الجمعيات اللاحقة
وتأسست في بيروت سنة 1873، وبرخصة من الحكومة العثمانية، «جمعية زهرة الآداب»، وجلّ أعضائها من متخرجي المدرسة الوطنية للمعلم بطرس البستاني وغيرها من المدارس الكبرى، منهم سليمان البستاني وأديب اسحق واسكندر العازار ويعقوب صروق وفارس نمر وابراهيم اليازجي وداود نحول، وكان الغرض منها التمرس على الخطابة وقوة الحجة والدرس والبحث، وعني اعضاؤها بتأليف الروايات، وتمثيلها وانفاق الدخل منها في سبيل الخير. وكانت قد نشأت في وقت سابق سنة 1869، جمعية أخرى ولغايات خطابية ايضاً «جمعية شمس البر» وانتظم في عضويتها عدد كبير من خريجي الكلية الإنجيلية السورية.
وفي سنة 1882، نشأت جمعية ثقافية تنويرية جديدة في بيروت، تحت اسم «الأكاديمية الشرقية»، أما مؤسسوها فأشخاص معروفون جيداً في تاريخ النهضة، وهم فارس نمر ويعقوب صروف وكرنيليوس فان دايك وابراهيم اليازجي ويوحنا ثابت وسليم البستاني.
يلاحظ أن اعضاء هذه الجمعيات ينتمون بغالبيتهم العظمى الى الكلية الإنجيلية السورية، أساتذة وطلاباً، أو الى مدرسة المعلم بطرس البستاني وربما كان تأسيسهم لها وانتسابهم اليها ناجماً عن انحسار أعمال الجمعية السورية في سبعينات القرن.
بالمحصلة، لعبت «الجمعية العلمية السورية» وأساتذتها وخريجوها دوراً تنويرياً مرموقاً في نهضة بيروت الثقافية، كما لعبت دوراً اجتماعياً خاصاً، بتأمين الشروط الضرورية لولادة المثقف، وذلك لتوفيرها أجواء للنقاش والتباحث والتبادل المعرفي خارج الفضاءات التقليدية، متيحة لأعضائها الخروج كأفراد على مجتمع الأهل وثقافته وبلورة الشخصية الخاصة بهم، حتى أن بعضهم خرج من مذهب الاهل الى مذهب آخر، كبطرس البستاني الذي انفصل عن الطائفة المارونية ليعتنق البروتستانتية.

إبراهيم اليازجي أحد أعلام نهضة بيروت في أواخر القرن التاسع عشر
إبراهيم اليازجي أحد أعلام نهضة بيروت في أواخر القرن التاسع عشر
الممعلم بطرس البستاني أنشأ أول مدرسة علمانية في بيروت
الممعلم بطرس البستاني أنشأ أول مدرسة علمانية في بيروت

” الجمعية العلمية السورية لعبت دوراً تنويرياً مهماً في نهضة بيروت الثقافية، كما وفّرت الشروط لـولادة المثقف المتحرر من بيئته التقليدية “

الصحافة وسيف السلطان
أفرز الاهتمام الناشئ بالشأن العام والهوية الثقافية أو القومية، وبأيديولوجيات التقدم، الى تأسيس الصحف ابتداءً من أواخر القرن التاسع عشر، وبخلاف واقع الحال في مصر، حيث أتت المبادرة من السلطة ابتداءً من بونابرت الذي أسّس سنة 1799 صحيفة اطلق عليها إسم le Courier d-Egypte بريد مصر وصولاً الى «الوقائع المصرية»، التي أسّست سنة 1828، أيام محمد علي، كانت الصحافة بكليتها في بلاد الشام صنيعة ملتزمين مستنيرين في غالبيتهم من رجال الأدب وطغى عليهم هاجس الحداثة، اكثر مما طغى عليهم عامل الربح، وأبرز صحف تلك المرحلة:

حديقة الأخبار (1857)
كانت الصحيفة البيروتية الأولى وهي أول جريدة عربية خاصة تصدر في بلد عربي على يد عربي لا على يد السلطة، ولكنها ما لبثت أن تحولت الى شبه رسمية بعد أن قرر الوالي فؤاد باشا منح صاحبها مساعدة مالية سنوية، وأضحت تدافع عن السياسات العثمانية.
تميّزت هذه الصحيفة بأن صاحبها جعل منها مدرسة أخلاقية، فقام مقام المؤدب الذي يتصل بأفراد الشعب فيحضّهم على الفضائل، وبعض مقالاته شبيهة كل الشبه بخطب رجال الدين. ولكنه كان يملك إحساساً عميقاً بأن الفارق عظيم بين الغربيين والشرقيين، وكان يعنيه أن يفتح الابصار على ما امتاز به الاجانب من عادات حسنة، ولا سيما في ما يتعلق بالدقة والصراحة والإقبال على العمل، كما أنه حذّر أبناء قومه من التعصب والإخلاف بالوعد والمواربة، وكلها افكار تمدينية تنويرية لم يكن تمويل السلطة للمجلة عائقاً أمام نشرها.
صحف البساتنة
أصدر بطرس البستاني بين العامين 1860 و 1861 صحيفة «نفير سوريا» إثر أحداث 1860 المؤسفة بين الدروز والموارنة، داعياً الى الوحدة الوطنية، والى نبذ التنافر الطائفي ولكنها لم تستمر طويلاً، وكانت تصدر مرقمة كالبلاغات: النفير الاول، النفير الثاني، الثالث وصدر منها أحد عشر جزءاً. وسنة 1870 أصدر بطرس البستاني مجلة ذات طابع موسوعي تدعى «الجنان» ، كانت المجلة الأولى من هذا النوع، كتب معظم مقالاتها ابنه سليم، وقد عاشت مدة 16 عاماً من 1870 – 1886، حين توقفت بسبب تزايد الرقابة الرسمية على مضمون الصحف، ثم صحيفة يومية «الجنة» كان يحررها ابنه سليم ومجلة اسبوعية «الجنينة» عهد بها الى قريبه سليمان، وهو المترجم العتيد للإلياذة. أرست هذه الصحف اسلوب الصحافة العربية الحديث وكانت منبراً للأفكار التنويرية . فمن هو بطرس البستاني؟
نشأ بطرس البستاني (1819 – 1883) مؤسس هذه الصحف الثلاث، في كنف عائلة أنجبت عدداً من العلماء، وتربى في دير «عين ورقة» الماروني، حيث تلقى أصول اللغة العربية ولغات عديدة أخرى، ثم اشتغل لمدة في القنصليتين البريطانية والأميركية في بيروت، لكنه وطَّد علاقته بالمرسلين الاميركيين الإنجيليين، فاعتنق مذهبهم، وساعدهم على ترجمة التوراة الى العربية، كما اشتغل بالتدريس في معاهدهم. وفي سنة 1863 أسس البستاني المدرسة الوطنية وأقامها على مبدأ وطني لا ديني، وقد أعار دراسة اللغة العربية والعلوم الحديثة فيها عناية خاصة. كرّس معظم نشاطه العربي لإحياء اللغة العربية وبث محبتها في النفوس، وقد ساهم قاموسه «محيط المحيط» وموسوعته العربية «دائرة المعارف»، التي شرع بإصدارها سنة 1876 وشغلته حتى مماته، والنشرات الدورية التي كان يرأس تحريرها، في خلق نثر عربي حديث، صالح للتعبير البسيط والدقيق عن مفاهيم الفكر الحديث، ونشأت في وسط الحلقة المنعقد حوله من ابنائه واقربائه واصدقائه وتلاميذه، القصة والرواية العربيتان والصحافة العربية الحديثة.

المقتطف
صدرت «المقتطف»، وهي مجلة علمية شهرية، في بيروت بين الاعوام 1876و 1884، وكانت الغاية منها تيسير المعرفة لعامة المتعلمين وتقريب الخلاصات العملية التي تتضمنها المجلات والكتب الاجنبية، ونشر المباحث العامة لتشجيع الأدباء على الانتاج بالعربية، شغلت هذه المجلة الأذهان في الربع الاخير من القرن التاسع عشر.
مؤسساها يعقوب صروف وفارس نمر، وكان هذان الاستاذان، يدرس أحدهما الطبيعيات والرياضيات والآخر علم الهيئة واللغة اللاتينية، وكانا جد مؤمنين بأن المجلات هي آمن السبل لتنوير الأذهان وانتزاع ما فيها من تقاليد مضرة، وسنة 1877 عهد بإدارتها الى شريك ثالث بالتحرير هو شاهين مكاريوس، وزاد عدد صفحاتها الى أن بلغت في عامها الرابع 164 صفحة. ولما اتخذت منها السلطة موقفاً سلبياً وضيقت عليها ما في وسعها وشددت المراقبة على اصحابها وأسيء الظن فيهم، اضطر اصحابها الى نقلها الى مصر، وفي مقرها الجديد نمت بسرعة وتعددت موضوعاتها وأصبحت مدرسة نقالة لجيل كامل من القرّاء، وظلت تصدر في القاهرة حتى سنة 1952.

صحف متفرقة
بالإضافة الى صحف «البساتنة» و «المقتطف»، صدرت سنة 1877 جريدة «لسان الحال» لخليل سركيس، و«المشير» سنة 1894 لسليم سركيس، وفي ظل التنافس الطائفي صدرت مجلة «الهدية» الأرثوذكسية، و«النشرة» البروتستانتية، و « البشير» اليسوعية، ما حدا بجمعية إسلامية لإصدار مجلة «ثمرة الفنون» سنة 1875 بإدارة عبد القادر قباني، ثم جريدة «بيروت» 1888 لمحمد الدنا و«الصفا» 1886 للأمير علي ناصر الدين.

بين صحف بيروت و”المكتوبجي”

في سياق حركة الإصلاحات، أفسحت الدولة العثمانية المجال أمام قيام الصحف التي تعكس مختلف الاتجاهات، إلا أنها ما لبثت أن تنبهت إلى النتائج السلبية التي قد تنتج للدولة من هذا الانفتاح، ولاسيما الترويج للقيم الأجنبية. لذلك، وبعد تقييم لتفكير تلك الصحف وخلفيات ناشريها قررت الدولة فرض رقابة عليها وعدم التشجيع على المزيد من التعدد فيها.
وكانت الرقابة مبرمجة، إذ أُرسل لناشري الصحف تعميم، يحظر نشر الشكاوى من نشاط الموظفين، أو أخبار اغتيال الحكام في الدول الاجنبية، “وخصوصاً المظاهرات التي تحركها عناصر متآمرة وينبغي الحيلولة دون وصول مثل هذه الاخبار الى الشعب حيلولة كاملة”. وأتبع هذا الحظر بإنشاء مؤسسة للرقابة يرأسها “المكتوبجي”، والمكتوبجي هو مراقب الجرائد والصحف في السلطنة العثمانية وكان اسلوب مراقبة الصحف التي يتبعها المكتوبجي مفرطاً، وسواسياً، مما حدا بأحد الصحافيين لتخصيص كتاب طريف يسخر من مبالغات المكتوبجي وهواجسه وعدم ثقته بأي من الصحف التي كانت تصدر يومذاك.

 

المقال مبني على كتاب يصدر قريبا للكاتبة بعنوان “القاضي والنقاب”
( )- لويس شيخو، بيروت تاريخها وآثارها، مطبعة الأباء اليسوعيين، بيروت، 1925، ص.94 الكتاب كناية عن مجموعة مقالات نشرت في صحيفة «المشرق»، ثم جمعت وصدرت في كتاب، بناء على طلب الوالي العثماني الأخير مما يشير الى تعاظم شأن بيروت.
) )- أنظر ينس هانس، «بيروت مدينة التنظيمات»، عصر النهضة، مقدمات ليبرالية للحداثة، طـ 1، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2000 ص.ص. 100-107.
) )-انظر سمير قصير، «تاريخ بيروت»، الطبعة الثانية، دار النهار ، بيروت، 2007، ص. 107.
(4)- انظر لينس هانس، «بيروت مدينة التنظيمات» مصدر سابق، ص. 106.
5)- انظر وجيه كوثراني «الإصلاح العثماني: هل هي الأسئلة ذاتها مع اشكالية الإصلاح»، مجلة «حوار العرب»، بيروت، آذار 2005، ص.ص. 31- 38.
6)- أنظر سمير قصير، تاريخ بيروت، مصدر سابق ص.ص 122-123.
7)- أنظر خالد زيادة، «النهضة والمدينة»، مقدمات ليبرالية للحداثة، مصدر سابق، ص. 117.
(8)- أنظر عبد الرؤوف سنو، «السلطان عبد الحميد الثاني والعرب»، مجلة «حوار العرب»، بيروت، عدد آذار 2005، ص.51.
9)- أنشئ مجلس بيروت البلدي سنة 1868.
(10)- أنظر سمير قصير، تاريخ بيروت، ص. 161.
11)-أنظر سمير قصير، تاريخ بيروت، المصدر ذاته ص.ص. 162- 165.
(12)- المصدر ذاته، ص. 169.
13)- انظربطرس البستاني، الهيئة الإجتماعية في بيروت، أعمال الجمعية العلمية السورية 1866 – 1868، يوسف الخوري، دار الحمراء، بيروت، 1990، ص.ص 204-207.
(15)-الهلال، 1895، ص. 137 – 138.
(16)- انظر سمير قصير، تاريخ بيروت، ص. ص. 1856-2399.
(17)- بطرس البستاني، «دائرة المعارف»، المجلد الخامس، ص. 751.
(18)- سمير قصير، تاريخ بيروت، مرجع سابق، ص. 182.
(19)- محمد كرد علي، “النهضة الشرقية الحديثة” مقالة نشرت في “المقتطف” المجلد السبعون، شباط 1927، ص. 129.
(20)- قبل هذا التاريخ كان عدد المدارس التي افتتحها الإنجيليون الأميركيون 41 مدرسة، فلقد فتح هؤلاء 4 مدارس سنة 1841 م وأصبحت 22 في 1855 و 30 في 1858، وقفز العدد الى 41 سنة 1862، وفيها 948 طالباً، انظر شربل داغر، «الكتاب والأفق» عصر النهضة، مقدمات ليبرالية للحداثة، مصدر سابق هامش ص. 252.
(21)- هنري غيز، بيروت ولبنان منذ قرن ونصف، ج2، ص. 229، 1850-1975»، لبنان في تاريخه وتراثه، مركز الحريري الثقافي، بيروت، 1993، ص491.
22)- «الفجر الصادق»، أعمال السنة الأولى، بيروت، مطبعة ثمرات الفنون، 1297هـ، ص.14، و»الفجر الصادق» هي نشرة سنوية كانت تعدها جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية عن أعمالها.
(23)- علي المحافظة، الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة 1798-1914 الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت، 1987، ص. 198.
(24)- انظر احمد ابو ملحم ومحمد امين فرشوخ ، دراسات في أدب النهضة والمهجر ، الطبعة الأولى، دار الفكر اللبناني، بيروت، 2006-ص. 79.
(25)-أنظر خالد زيادة، النهضة والمدينة، عصر النهضة: مصدر سابق، ص. 135.
26)- يحتوي أرشيف المجمع الأميركي للبعثات التبشيرية، على رسالة بعثها بطرس البستاني بتاريخ 10 كانون الثاني 1846 الى عالي سميث الموجود وقتئذ في أميركا، يعلمه فيها بتاريخ 1847 عن إنشاء جمعية تدعى «مجمع التهذيب»، ومن اعضائها ناصيف اليازجي و11 عضواً من البروتستانت الوطنيين والدكتوران كرنيليوس فانديك وهنري دي فورست الأميركيان، انظر يوسف قرما الخوري، الدكتور كرنيلوسن فانديك، ونهضة الديار الشامية العلمية في القرن التاسع عشر ، مصدر سابق، هامش ص. 34.
(27)- المصدر نفسه، ص. 30.
(28)- المصدر نفسه، ص. 31.
(29)- المصدر نفسه، ص. 31.
(30)- انظر عن ز. ك ليفين، الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث (في لبنان وسريا ومصر) ، مصدر سابق ، ص. 90.
(31)- انظر نقولا زيادة، ابعاد التاريخ اللبناني الحديث، جامعة الدول العربية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، معهد البحوث والدراسات العربية العالية، قسم البحوث التاريخية والجغرافية، القاهرة، 1972، ص. 211-213.
(32)-أنظر أسد رستم، لبنان في عهد المتصرفية، منشورات المكتبة البوليسية، بيروت، طـ2، 1978، ص. 344.
(33)- ز. ك. ليفين، الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث (في لبنان وسوريا ومصر) دار ابن خلدون، بيروت 1978، ص. 94.
(34)- انظر احمد بو ملحم ومحمد امين فرشوخ، دراسات في أدب النهضة، دار الفكر العربي، بيروت، 2006، ص. 113.
– انظر سمير قصير، تاريخ بيروت، مصدر سابق، ص. 189.
– كانت الغاية من انشاء المجلة المذكورة تعزيز الفكرة الوطنية وانتشار الدعوة الى التسامح والعمل من أجل تخلي المجتمع عن التقاليد القديمة المهلكة والتراكيب المضادة للتقدم، وكان شعارها «حب الوطن من الإيمان»، وغايتها كما عينته صفحتها الاولى نشر المعارف العمومية من علمية أدبية وتاريخية ومدنية وغير ذلك. حتى يزيد الوعي الوطني والشعور بضرورات المدينة الحديثة وانجازاتها، (انظر جورج انطونيوس، يقظة العرب: تاريخ حركة العرب القومية، ترجمة ناصر الدين الأسد واحسان عباس، بيروت، دار العلم للملايين،1962، ص. 112.
(37)- تشتمل «الموسوعة» على ابحاث في العلوم والطب والأشغال الهندسية والأفكار الليبرالية السائدة في اوروبا واميركا وكانت الغاية منها تغيير عقول الناطقين بالضاد وقرّائها وجعلهم قادرين على ولوج عالم العلم والاختراع الحديث، واكسابهم طريقة عقلية دقيقة للتفكير والعمل.
(38)- انظر احمد بو ملحم ومحمد أمين فرشوخ، دراسات في أدب النهضة، مصدر سابق، ص. 121، وعلي المحافظة، الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة 1798- 1914، مصدر سابق، ص. 257.
(39)-المصدر ذاته، ص. 119.

هذا العدد

هذا هو العدد التاسع من مجلة ”الضحى” التي عادت إلى الصدور بصيغة جديدة منفتحة وشاملة في صيف العام 2010، وأصدرت حتى الآن تسعة أعداد تعادل في مجموعها مجلداً من 1200 صفحة من المواضيع الراهنة والمهمة لحياتنا وتطورنا الفكري والقيمي والروحي. بفضل الدعم الثابت للمجلس المذهبي وسماحة شيخ العقل والمساندة المخلصة من مجلس أمناء المجلة، تمكّنت ”الضحى” من الصدور بهذه القوة، واتسع نادي كتّابها وحافظت على زخمها الفكري وخطها الانفتاحي، وهي تمكّنت لذلك من أن تكوّن قاعدة كبيرة من القرّاء المواظبين، والذين يحرصون على أن لا يفوتهم منها عدد واحد. ومن أجل أصدقاء المجلة ومحبيها، فقد تقرر إصدار الأعداد الثمانية الأولى في مجلدين اثنين بتجليد فخم بهدف تمكين القارئ المهتم من أن يحتفظ بكامل أعداد ”الضحى” في مكتبته، وأن يبقيها بالتالي مرجعاً جامعاً ومفيداً وعوناً على تنشئة الجيل الجديد. وسيتم فور تجهيز المجلدين الإعلان عن ذلك، وعن سبيل الحصول عليهما من إدارة المجلة.
تشرفت المجلة في منتصف شهر تشرين الثاني الماضي بحفل التكريم الذي نظمه المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز، ودعا إليه سماحة شيخ العقل، الشيخ نعيم حسن، في دار الطائفة في فردان، وحضره، فضلاً عن مجلس إدارة المجلس المذهبي ومجلس أمناء المجلة، جمهور من أعضاء المجلس ومن الشخصيات. جاء هذا التكريم ليعزز روابط الثقة والتعاون بين المجلة والمجلس المذهبي ممثلاً خصوصاً بسماحة شيخ العقل، الذي رافق عن قرب تجربة ”الضحى”، وكان دوماً حلقة الوصل والتواصل بينها وبين إدارة المجلس المذهبي. لا بدّ هنا من التأكيد على أن المجلس المذهبي أيّد منذ البدء الصيغة الجديدة الانفتاحية للمجلة، وبارك مسيرتها بإعتبارها تعبيراً صادقاً عن رؤية المجلس ومجلس إدارته، الذي يضم نخبة من المثقفين والمفكرين وأهل التجربة في العمل العام.
أحد أهم مشاهد حفل تكريم مجلس أمناء المجلة لم يكن فقط الاحتفاء بمساهمة الأمناء، بل كان الاجتماع المشترك الذي عقد في نهاية الحفل بين مجلس إدارة المجلس المذهبي وبين مجلس الأمناء ورئاسة تحرير المجلة في صالون سماحة شيخ العقل. وقد تميّز الاجتماع بجو أخوي شعر خلاله الجميع بأنهم أعضاء في فريق واحد وجنود لقضية واحدة هي قضية تقدم المجتمع التوحيدي والدفاع عن قيمنا السمحاء وثقافتنا المشرقية الإسلامية في وجه تحديات المعاصرة والغزو الفكري. وقد تمّ التداول خلال الاجتماع المشترك بأفكار عديدة بناءة تتعلق بأفضل سبل تطوير المجلة، وسيتم في مرحلة تالية التداول المشترك في تلك الأفكار والاستماع بانتباه إلى كافة المقترحات بهدف إدماجها في تصور المجلة وخطة عملها للمرحلة المقبلة.
إن وجود المجلة سببه دعم المجلس المذهبي وسماحة شيخ العقل، لكن المجلة وفرت أيضاً للمجلس وسيلة إعلامية متطورة تؤمن أفضل سبل التواصل مع المجتمع التوحيدي، وما يتعداه، وهي لذلك أخذت على عاتقها خدمة أهداف المجلس على أفضل وجه من خلال الدور الثقافي المتقدم الذي اضطلعت به، وهو دور جعلها تحتل مكاناً متميزاً بين المجلات والدوريات الثقافية التي تصدر في لبنان أو حتى في المنطقة.
في هذا العدد، لفتة متواضعة للتعريف بشخصية الأميرة الراحلة مي جنبلاط التي وافتها المنية في شهر ايلول من العام الماضي، وكذلك تحقيق شامل عن الدور المهم الذي لعبه المغفور له الشيخ محمد أبو شقرا في تطوير مؤسسات طائفة الموحدين الدروز، وفي تعزيز الحوار الوطني وتقارب الجماعات الروحية في لبنان. كما يتضمن العدد دراسة تاريخية عن نهضة مدينة بيروت في أواخر العصر العثماني. وتستمر ”الضحى” في بذل اهتمام خاص بالإرث الروحي الإسلامي والإنساني عبر عرض الحلقة الثانية من محاورات أفلاطون ومجموعة من حكايات كتاب منطق الطير التي أوردها الشاعر الفارسي فريد الدين العطار في كتابه الشهير، وذلك لأهميتها كمثال على استخدام الأسلوب الشعري القصصي في شرح أسرار الروح ومعارج الجهاد في طريق الكمال الإنساني. أما رسالة السويداء التي تركز على تاريخ جبل العرب وواقعه المعاصر، فقد أصبحت ركناً أساسياً من أركان المجلة، والأمر نفسه يمكن أن يقال عن الاهتمام الخاص للمجلة بالاقتصاد الزراعي، وهو أمر تنفرد به فعلاً ويعكس إيمانها بأهمية العودة إلى الأرض وأهمية الزراعة ليس فقط بالمعنى الاقتصادي، بل أيضاً بمعنى الحفاظ على أمانة الأجداد ومناعة الجماعة، وجميعنا يذكر قول جبران خليل جبران الشهير:”ويل لأمة تأكل مما لا تزرع”.

واقع الكهرباء في لبنان

أزمة الكهرباء المستمرة في لبنان
«تكهرب» الحياة الاقتصادية والسياسية

التقنين الجائر للكهرباء يضاعف تكلفة الطاقة للمؤسسات
ويعرقل الإنتاج ويضعف تنافسية المنتجات والخدمات اللبنانية

45% من طاقتنا الكهربائية مهدورة أو مسروقة
ولبنان البلد العربي الأول في هدر الكهرباء

20 مليار دولار خسائر قطاع الكهرباء في 20 عاماً
والخسارة السنوية قفزت إلى ملياري دولار سنة 2012

الوزير الراحل جورج فرام سعى الى وقف المهزلة
فاضطرته مافيا الكهرباء لترك الحكومة

ظلمة-ترهق-الاقتصاد
ظلمة-ترهق-الاقتصاد

تتعاظم العوامل المؤثرة على الحركة الاقتصادية في لبنان، وتأخذ معظمها مندرجات سلبية تشدُّ العربة الى الوراء، رغم أن الطرقات التي تسلكها هذه الحركة بإتجاه تحقيق غايتها وعِرة بالأساس، وهي ليست مفروشة بالورود والياسمين.
فالمسالك التشريعية التي تحكم النشاط الاقتصادي صعبة، وفيها الكثير من القساوة من جرّاء التركيبة المُعقَّدة للبرلمان اللبناني المُشكَّل من خليط سياسي وطائفي متنوع، على الرغم من اعتماد لبنان نظام الاقتصاد الحر، أو ما يُعرف بـ “إقتصاد السوق” المُكرَّس بالدستور في البند(و) من مقدمته، كما أن المتاعب المُتأتية من الصعوبات الجغرافية والديمغرافية واسعة جداً، خصوصاً لناحية وجود معظم الحركة الاقتصادية في مناطق محددة، لاسيما في المُدن الكبرى، وفي المنطقة الساحلية، ناهيك عن التمرّكز الذي يغلب عليه الطابع الطائفي لبعض هذه الحركة. والجغرافيا الداخلية اللبنانية، والمحيطة بلبنان، تفرض أيضاً عوامل مؤثرة على الاقتصاد، وتنعكس عليه ايضاً وايضاً تقلبات المناخ الذي يختلف كثيراً بين الساحل والجبل والداخل في سهل البقاع.
وإذا كان الامن هو المُعضلة الاقوى التي تواجه حركة نمو الاقتصاد اللبناني، إلاَّ أن موضوع الاخفاق الكهربائي الذي يفرض التقنين لساعاتٍ طويلة، أصبح عاملاً سلبياً واسع التأثير على الاقتصاد، يُكبِّل حركته على الرغم من المقومات الموضوعية الايجابية التي تنبسط امام النشاط الانتاجي جرّاء المهارة الشخصية العالية للبنانيين، ولتوافر بعض القيِم المضافة التي تتوافر كمحفزات للاقتصاد، ومنها خصوصاً البيئة العلمية الكفوءة، والقدرات الادارية، والحاضنة التشريعية المقبولة.

اولاً: واقع الكهرباء في لبنان
تعرَّف لبنان على الطاقة الكهربائية من خلال نشاط القطاع الخاص، وتولَّت الشركات الخاصة الانتاج، حيث بدأت العمل بالطرق البدائية في سنة 1925 في بيروت، ثم في طرابلس، ومن بعدهما انتقلت الى المدن اللبنانية الأخرى، بعد حصولها على الإذن من السلطات الرسمية المختصَّة، وفقاً لنطاق جغرافي حددته الدولة، يتضمَّن الانتاج والتوزيع.
في سنة 1954، استردَّت الدولة اللبنانية الامتيازات الممنوحة من الشركات بالتراضي، ولاسيما امتياز “التوزيع العام للطاقة في مدينة بيروت وضواحيها”، وامتياز “انشاء واستثمار شبكة توزيع الطاقة الكهربائية تحت التوتر العالي”، وامتياز “انشاء واستثمار مصنع كهربائي في نبع الصفا” . 1
في 10/7/1964، أُنشئت مؤسسة كهرباء لبنان، وحُددت مهامها
بـ “انتاج ونقل وتوزيع الطاقة الكهربائية على كافة الاراضي اللبنانية”، وقد منحت هذه المؤسسة امتيازات لإدارة القطاع في بعض المناطق، منها كهرباء زحلة، وكهرباء قاديشا، وكهرباء عاليه.
تملك المؤسسة حصرية الانتاج من سبعة معامل حرارية تعمل على الفيول والديزل والغاز، في الذوق والجية وصور وبعلبك والزهراني ودير عمار والحريشة. الطاقة الانتاجية المفترضة لهذه المعامل هي 2038 ميغاواط، ولكنها فعلياً تنتج 1685 ميغاواط كحدٍ أقصى . 2
كما تملك المؤسسة ثلاثة معامل انتاج على الطاقة المائية، وهي معامل الليطاني، ومعامل شركة نهر البارد، ومعامل نبع الصفا، والقدرة الانتاجية الدفترية لهذه المعامل 220,6 ميغاواط، ولكنها فعلياً لا تنتج تلك الكمية.
وتدير المؤسسة شبكة واسعة من خطوط النقل الرئيسية، تبلغ أطوالها نحو 1615 كلم، منها 1336 كلم هوائي، و279 كلم تحت الأرض، ولكنها في الوقت ذاته تحتاج الى وصلات اضافية، خصوصاً وصلة المنصورية الهامة، التي مازالت متوقفة نظراً للخلاف حولها، والذي أخذت طابع المزايدة السياسية، رغم أن الرئيس رفيق الحريري اقترح تمديدها تحت الارض منذ سنة 2004.
تقدّر حاجة لبنان للطاقة حالياً بـ 2250 ميغاواط، مع معدل نمو سنوي في الاستهلاك يقدَّر بنحو 3 في المئة، مما يوصِل حاجة لبنان الى 2500 ميغاواط في حدود سنة 2020، علماً أن الخطة التي أقرّتها الحكومة في ايلول 2011، وصادق عليها مجلس النواب، لحظت توسيع الانتاج الى 700 ميغاواط اضافية، بكلفة 1200 مليون دولار، ولم يُنفذ من هذه الخطة أي شيء حتى اليوم، بإستثناء استئجار باخرتين تركيتين تُنتجان اقل من 200 ميغاواط.

” ما هو سرّ الفشل المستمر منذ 20 عاماً
في وقف النزف المستمر وإصلاح القطاع “

ثانياً: مشاكل قطاع الكهرباء
من المفيد الإشارة الى أنه ومنذ سنة 1992، أي بُعيد انتهاء الحرب الاهلية، كان وزير الطاقة – المسؤول فعلياً عن ملف الكهرباء- ينتمي الى فريق سياسي معين، وعند تشكيل كل حكومة جديدة كان لافتاً تمسُّك هذا الفريق بطلب تولي هذه الوزارة، وقد أُقصي الوزير الراحل جورج افرام عنها سنة 1993 لأنه لا ينتمي الى هذا الفريق، وبسبب رفضه شراء معامل انتاج قديمة، أُثيرت حولها الشبهات، ولاسيما في بعلبك ودير عمار.

وبموجب تقنين التيار الكهربائي تحصل معظم المناطق اللبنانية على 16 ساعة يومياً، ما عدا بيروت التي لحظ لها مجلس الوزراء تغذية على مدى 21 ساعة في اليوم، إلا أن برنامج التقنين الذي توزعه مؤسسة كهرباء لبنان لا يلتزم هذه المدة، جرّاء المشاكل الناتجة عن الاعطال المُتكررة، وعدم قدرة الشبكة على تحمّل زيادة الاستهلاك في مناطق عديدة من جرّاء تزايد عمليات السرقة. كل ذلك يؤدي الى فوضى عارمة في برنامج التغذية، ويسبب ارباكاً كبيراً لدى المواطنين، ولدى القوى الانتاجية في القطاعات الصناعية والسياحية والزراعية والتجارية والخدماتية.
ينتج لبنان حوالي 72 في المئة من حاجته (تقديرات 2012)، ورغم هذا النقص الكارثي بالمقاييس العالمية للتنمية، تخسر مؤسسة كهرباء لبنان 45 في المئة من هذه الطاقة المُنتجة عن طريق الهدر. ولبنان هو الاول بين الدول العربية في هدر الطاقة الكهربائية يليه اليمن بنسبة هدر 28,3 في المئة، بينما لا يتعدى الهدر في المملكة العربية السعودية الـ 16 في المئة 3، رغم المسافات الطويلة لخطوط النقل الهوائية فيها، والتي تعتبر المُسبب الرئيسي للهدر الفني للطاقة. ولكن لبنان لا يعاني من الهدر الفني للطاقة التي تقدر بـ 15 في المئة فقط، بل من الهدر الناتج عن سرقة 25 في المئة من الطاقة المُنتجة، وعدم تحصيل 5 في المئة من الفواتير الصادرة، رغم تلزيم الصيانة والجباية التي قامت بها مؤسسة كهرباء لبنان لشركات خاصة ابتداءً من سنة 2010.
إن النسبة المرتفعة من الهدر للطاقة في لبنان، تكلّف الدولة مبالغ طائلة، لأنها تتحمل تكاليف العجز في مؤسسة كهرباء لبنان، لكونها قطاعاً عاماً، وبالتالي فإنها دفعت اكثر من 20 مليار دولار خسائر منذ سنة 1993 حتى نهاية سنة 2012، وقد بلغت قيمة ما دفعته الدولة ثمن محروقات وضرائب واستئجار بواخر وخدمة دين لصالح كهرباء لبنان في سنة 2012 ، 3408 مليارات ليرة لبنانية، أي ما يوازي 5,5 في المئة من الناتج الوطني الاجمالي، ويشكِّلُ هذا الأمر ارهاقاً كبيراً للإقتصاد الوطني الذي يعاني من إنكماش مخيف من جرّاء ارتدادات الأزمة السورية.
إضافة الى مشاكل العجز في موازنة مؤسسة كهرباء لبنان، وتدني مستوى الانتاجية، فهناك رُزمة من التحديات تُفرض على الدولة، منها موضوع العاملين “المياومين”، ويبلغ عددهم اكثر من 1800 عامل، فلم تحلّ مشاكلهم الوظيفية حتى الآن، وهي عالقة بين الشركات المتعهِّدة للصيانة والجباية، وبين دوائر لجنة المال والموازنة النيابية، التي لم تُقِر تفاصيل مستقبلهم وحقوقهم حتى اليوم، على الرغم من القرار الذي صدر بمعالجة وضعهم القانوني وتثبيتهم.
ويبرز الأداء السيئ للسلطات المولجة معالجة الخلل في ملف الكهرباء من خلال الاضطراب الواسع الذي يسود مقاربات الاستفادة من الطاقة البديلة، لاسيما موضوع انتاج الطاقة من الشمس والهواء، حيث لبنان لديه فُرص مثالية يمكن الإستفادة منها، ولكن لا توجد خطة جدية من قبل وزارة الطاقة في هذا المجال، الا أن الوزارة قامت بعمل توفيري متواضع، حيث اشترت كميات كبيرة من المصابيح(اللمبات) التي توفّر الطاقة، ووزَّعتها مجاناً على المنازل، وفقاً لبرنامج تبديل، رافقه العديد من الملاحظات والتساؤلات.

روح-الطرافة-اللبنانية--يافطة-مضاءة-ترحب-بعودة-التيار
روح-الطرافة-اللبنانية–يافطة-مضاءة-ترحب-بعودة-التيار

ثالثاً: آثار اقتصادية فادحة
إنعكس عدم توفّر الطاقة الكهربائية بشكلٍ كافٍ ويلات كبيرة جداً على الاقتصاد اللبناني، وخسائر ميزان المدفوعات والميزان التجاري اللبناني، من جرّاء هذا الخلل. ففاتورة شراء المولدات زادت العجز، كما أن كلفة الفاتورة النفطية الناتجة عن توسع استخدام المولدات الكهربائية الخاصة زادت بوتيرة عالية، ويُقدَّر ما يصرفه اللبنانيون على استخدام كهرباء المولدات الخاصة بما تصرفه الدولة على القطاع، أي ما يوازي ملياري دولار سنوياً، ويشكلُ الامر عبئاً ثقيلاً على اقتصاد لا يتعدى ناتجه الاجمالي الـ 40 مليار دولار أميركي.
1. آثار الأزمة على القطاع الصناعي
كان شعار ثورة اكتوبر العظمى التي حصلت في روسيا في سنة 1917: “السلام وتأمين الكهرباء لعموم البلاد”. فالكهرباء ضرورة لكافة نواحي الحياة، وخصوصاً للقطاع الصناعي. والصناعة الحديثة تحتاج في كل مفاصلها الى الطاقة الكهربائية لتشغيل الآلات، وللنقل والانارة، وتوليد الحرارة المرتفعة التي تحتاجها الصناعات المعدنية الثقيلة، وبقدر ما تتوافر الكهرباء بكميات وافية وبأسعار رخيصة، بقدر ما يكون الامر ملائماً لتحفيز الصناعة الحديثة، وتحقيق انتاجية عالية، وطرح سِلع تنافسية في الاسواق.
إن عدم توافر الكهرباء بشكل دائم في لبنان ينعكس سلباً على الصناعة اللبنانية، ويقدّر البنك الدولي الخسائر السنوية للصناعة اللبنانية بسبب انقطاع الكهرباء بنحو 400 مليون دولار، والقيمة المضافة التي تتكبّدها عملية الانتاج الصناعي من جرّاء هذا الانقطاع بـ 23 في المئة من كلفة الانتاج 4، لأن تأمين الطاقة عن طريق المولدات غالٍ بسبب غلاء المواد الاولية النفطية لعدم توافرها في لبنان، وهي تأتي عن طريق الاستيراد المُكلف. وهذا الامر ينعكس زيادة على كلفة إنتاج السلع اللبنانية، وبالتالي خفض قدرتها التنافسية في الاسواق المحلية والخارجية. وتُقدَّر خسارة القطاع الصناعي من اليد العاملة بـ 30 ألف وظيفة من اصل 140 ألفاً يعملون في هذا القطاع 5.
وتراجعت حصة الصادرات الصناعية من مجمل الصادرات اللبنانية، علماً أن الميزان التجاري لسنة 2012 سجّل إرتفاع أرقام الصادرات الصناعية من لبنان، ولكن الأمر حصل من جرّاء احتساب قيمة صادرات المازوت من لبنان الى سوريا في سلة الصادرات الصناعية، علماً أن بعض الصناعات الخفيفة
– ولاسيما الغذائية منها – استفادت من الاوضاع الناشئة من جراء زيادة الاستهلاك بسبب تواجد اعداد كبيرة من النازحين السوريين على الاراضي اللبنانية، وكذلك زيادة التصدير الى سوريا بسبب تعطُّل الانتاج الصناعي السوري، وهذا لا يعتبر مؤشراً مهماً، لأنه موضوع استثنائي، ولأن تضرر القطاع في جوانب أخرى من جراء الاحداث السورية، كان اكبر من الفوائد التي تحققت.
2. إنعكاسات الأزمة على الزراعة
على الرغم من الإهمال الذي يلاقيه القطاع الزراعي اللبناني من الجهات الحكومية، فإن حوالي 40 في المئة من اللبنانيين، يعتمدون كلياً، أو جزئياً، على ايرادات القطاع وما يتفرَّع عنه من صناعات غذائية، علماً أن الزراعة لا تستحوذ على اكثر من 6 في المئة من الناتج الوطني الاجمالي، وإن دلَّ الامر على شيء، فإنما يدلُ على الخلل الواسع في توزُّع الثروة في لبنان.
انخفضت الصادرات الزراعية اللبنانية بنسبة 37 في المئة من جراء الازمة السورية، لأن هذه الصادرات كانت تعتمد بشكلٍ رئيسي على الاراضي السورية للعبور الى الاسواق الخارجية، وهو ما سبب بعض الكساد في انواع من المُنتجات اللبنانية، رغم زيادة الاستهلاك المحلي. ومع ذلك، وبسبب الإهمال المزمن الذي تعاني منه الزراعة، ومنه أزمة الكهرباء، فإن لبنان الغني بموارده الطبيعية والمائية والبشرية يستورد من المنتوجات الزراعية والغذائية المُتفرعة منها، عشرة اضعاف ما يُصدِّر من تلك السلع.
تجدر الإشارة إلى أن تكلفة انتاج الكهرباء من المولدات الخاصة زادت خلال السنوات القليلة الماضية بنسبة 100 في المئة، وذلك بسبب ارتفاع كلفة المحروقات التي تحتاجها المولدات، وباتت تكلفة المحروقات تشكل 60 الى 70 في المئة 6 من كلفة الانتاج، خصوصاً في زراعة الخضروات التي تحتاج الى كميات كبيرة من مياه الري، التي بدورها تحتاج الى الكهرباء لإستخراجها من الطبقات الجوفية أو من الانهر، لاسيما في البقاع، الذي يُعد المنتج الأهم للزراعة اللبنانية.
لقد افقدت كلفة الكهرباء المرتفعة القطاع الزراعي اللبناني قدرته التنافسية بين المنتوجات الزراعية في الدول المجاورة. فبالإضافةً الى حاجة المزارع الى الكهرباء لتأمين مياه الري، فإنه يحتاج الطاقة الكهربائية لتأمين النقل وللتبريد والتوضيب، والتدفئة، والتخزين، ولتحويل المنتجات الى منتجات غذائية صالحة للإستهلاك، وفي كل ذلك يعتبر الشح الكهربائي في لبنان عاملاً مُهبِّطاً لنمو الزراعة، وسبباً أساسياً لتخلفها، وعدم مواكبتها للمتطلبات العصرية للتنمية.

” رغم التكلفة الهائلة للأزمة لا توجد لدى لبنان خطة للإستثمار في مصادر الطاقة المتجددة “

لبنان-يمكنه-استثمار-طاقة-الرياح-لإنتاج-الطقة-الكهربائية
لبنان-يمكنه-استثمار-طاقة-الرياح-لإنتاج-الطقة-الكهربائية

3. تراجع القطاع السياحي
واجه النشاط السياحي هبوطاً كبيراً في السنتين 2012 و 2013، واضطرَّت أكثر من 500 مؤسسة سياحية الى الاقفال، وسجّل لبنان اكبر نسبة تراجع للعائدات السياحية – اذا استثنينا الدول التي تشهد حروباً – بحيث بلغ التراجع 17,5 في المئة في سنة 2012، وفقاً لتقديرات منظمة السياحة العالمية. 7
كان السبب الأهم في سنة 2013 ، اضافة الى استمرار انقطاع التيار الكهربائي، عدم قدوم المغتربين اللبنانيين بأعداد كبيرة الى لبنان جرّاء اهتزاز الوضع الأمني، والانقطاع شبه الشامل الذي حصل مع السيّاح العرب – وخصوصاً الخليجيين – بسبب تحذيرات دولهم من خطر القدوم الى لبنان، اضافة الى انقطاع طريق سوريا أمام السيّاح الذين يأتون بسياراتهم عن طريق البر، ومنهم الأردنيون بشكل خاص.
امَّا الانعكاسات السلبية على قطاع السياحة، المُتأتية من انقطاع التيار الكهربائي، وكلفة التيار العالية، فهي كبيرةٌ وتشمل أكثر من مجال.
تدفع المؤسسات السياحية، ولاسيما الفنادق والمطاعم، فاتورتي كهرباء، الأولى لمؤسسة كهرباء لبنان، والثانية لأصحاب المولدات الخاصة، أو كمصاريف للمولدات التابعة لهذه المؤسسات، مما يُشكلُ عبئاً ثقيلاً عليها ويتسبب في ارتفاع اسعار السلع السياحية، من طعام وايواء وترفيه، ويُقلّص من فرص اقامة الأعراس والمناسبات الفنية الأخرى. وتقدّر الأوساط المتابعة الكلفة الاضافية لفاتورة الكهرباء في المرافق السياحية، بما لا يقلّ عن 23 في المئة من الكلفة الاجمالية للتشغيل.
أضف إلى ذلك تأثير انقطاع الكهرباء على قرى الاصطياف الجبلية، من خلال العتمة الموحشة في الليل، وعدم انتظام وسائل التكييف في حرّ الصيف، وهو ما يؤثر على جودة المنتج السياحي ويضعف الحركة الليلية للسيّاح.
4. أزمة حياة يومية وخدمات
مما لا شك فيه بأن الحياة العادية للمواطن اللبناني ترزح تحت كابوس من المشقات المُتعبة والمربكة والمُقلقة، من جراء التقنين القاسي للتيار الكهربائي، ويتحمّل المواطنون فاتورة باهظة من جرّاء اقتناء وتشغيل المولدات، أو الاشتراك في شبكة المولدات الخاصة التي انشأها بعض المُستثمرين في كافة المناطق اللبنانية، وهؤلاء يفرضون رسوماً شهرية باهظة على المشتركين، وهذا على الرغم من التدخل المتواضع الذي تمارسه وزارة الطاقة في عملية تحديد قيمة الاشتراكات، التي غالباً ما لا يتقيّد بها اصحاب المولدات، لأسباب واهية.
تُقدَّر فاتورة الكهرباء التي يدفعها رب المنزل العادي لأصحاب المولدات فقط، ما بين 165 و 175 ألف ليرة لبنانية شهرياً 8، وكمية هذه الطاقة من المولدات لا تُمكنه من القيام بالأعمال المنزلية الكاملة، بل عادةً ما تقتصر على الإضاءة، وتشغيل التلفاز والأجهزة الالكترونية فقط.
وتتأثر الحياة العامة وقطاع الخدمات الى حدٍ كبير بإنقطاع الكهرباء، على الرغم من وجود جزء كبير من قطاع الخدمات في مدينة بيروت التي تعيش ما يشبه الجنة الكهربائية. فتأمين المياه العامة يحتاج الى الكهرباء، وتضطر المؤسسات العامة والبلديات لتأمين مولدات خاصة لهذه الغاية، مما يرفع الكلفة على المواطنين، وعلى قطاع الخدمات والقطاع التجاري.
أخيراً: لعلّ من المفيد التذكير بما قد يعرفه الجميع، وهو أنه لا يمكن للإقتصاد اللبناني أن يتعافى في قطاعاته المتنوعة – الصناعية والزراعية والسياحية – من دون توفير الطاقة الكهربائية بكميات كافية، وبأسعار مدروسة ومُلائمة.
إن الاحتجاج بالظروف الأمنية والسياسية لتبرير الاخفاقات المستمرة لإدارة قطاع الكهرباء هو تهرُّب من المسؤولية، إذ أن هناك أخطاءً ونواحي تقصير يجب على الدولة تحديدها والعمل على معالجتها بكل جدية، ولا بدّ بصورة خاصة من الإسراع في تنفيذ خطة الحكومة بشأن إصلاح وإعادة تنظيم قطاع الكهرباء التي أقرتها في صيف 2011، ولم ينفذ منها شيء رغم مرور اكثر من سنتين على إقرارها.
إن الظروف الامنية والسياسية المُعقدة، لم تَحُل دون قيام القطاع الخاص بتأمين النقص في كمية الطاقة المطلوبة من خلال المولدات.
إن أمام لبنان فرصاً حقيقية لتجاوز أزمة الكهرباء، ولاسيما من خلال الهبات والقروض المُيسَّرة، أو من خلال خطة مدروسة لإقامة شراكة بين القطاعين العام والخاص، من خلال فتح المجال أمام هذا الأخير للإستثمار في انتاج وتوزيع الطاقة، من دون أن يكون الأمر خصخصة كاملة قد لا تتحملها ظروف لبنان. في غضون ذلك سيبقى انقطاع الكهرباء العامل الأهم في “كهربة” الحياة الاقتصادية والمعيشية، وحتى السياسية في لبنان.

كلمة سواء

كلمة سواء

إستسقاء

الناس قلقون لبوادر القحط الذي يضرب بلاد الشام ولبنان. بعض كبار السن يؤكدون أنهم لا يتذكرون أن سنة كهذه مرت عليهم، وأن انحباس المطر بلغ هذا الحد المخيف، إذ لم يكن معدل الأمطار حتى منتصف شهر شباط قد تجاوز الـ 35 في المئة من المعدل السنوي. نبع الباروك الذي يسقي معظم بلدات الجبل، بل تذهب بعض مياهه إلى الساحل، لا يتجاوز تدفق مياهه الثلث من المعدل المعتاد. في البقاع، فاجأ انحباس المطر المزارعين الذين اضطروا لري سهول القمح على أمل أن ينقذوا ما يمكن إنقاذه من الموسم.
حقيقة الأمر هو أن القحط ليس خاصاً بلبنان أو بسوريا، بل هو أصاب معظم بلدان المشرق من السعودية إلى الاردن إلى مصر إلى العراق. لهذا، فقد تداعى الناس في كل هذه الأماكن إلى صلاة الاستسقاء، وأصدر رؤساء الدول والملوك نداءات طلبوا فيها من الناس أن يبادروا إلى صلاة الاستسقاء. وبالفعل، أقيمت الصلوات في كل مكان وصُعِّدت الأدعية إلى السماء متوسلة نزول المطر، لكنّ الطقس الجاف وانحباس الأمطار مستمران.
قرأنا في بعض المصادر أن الناس كانت في الماضي إذا توجهت إلى صلاة استسقاء تنظف أسطح المنازل، لأنها كانت تعتقد بأن السماء لا بدّ سترسل المطر بعد التوجه بالطلب الصادق المقرون بالدعاء والاستغفار من الله تعالى. وقد يكون ذلك من قوة إيمان أهل السلف وثقتهم برحمة المولى، وقد يكون أيضاً جزءاً من التوسل بمعنى أن تنظيف الأسطح استعداداً للمطر كان نفسه فرعاً من صلاة الاستسقاء، ويجوز لنا أن نظن أنهم كانوا اهل فطرة سليمة، وأن توسلهم استمطاراً للغيث كان توسلاً صادقاً ونابعاً من حرارة الفؤاد وخشوع الجوارح. وقد كان أهل ذلك الزمان في معظمهم فلاحين يعيشون حياة بساطة من الارض، وكان المطر بالنسبة لهم مسألة حيوية يتعلق بها بقاؤهم وكفاف العيش، كما أن تمسكهم بالسلوك القويم في حد ذاته كان جالباً للبركة وللرحمة والخير.
نستذكر تلك الأيام، ثم نتأمل هذا الغم الذي هبط على أهل الدنيا بصورة غير مسبوقة في فترة قصيرة جداً من تاريخهم الطويل. وها هي الطبيعة، يد الله الخفية، تقرع أبواب القلوب الموصدة، وليس أبلغ من نوائب الطبيعة تذكرة وعبرة لبني آدم لأنهم اعتادوا على أن ينظروا إلى الأرض والزرع والرزق باعتبارها كلها أموراً مسلماً بها، فلا يدخل في روعهم أنه من الممكن للطبيعة أن تغضب، وأن تمنع خيرها وماءَها عن العالمين.
لكن الله تعالى يحذرنا في كتابه العزيز بالآية الكريمة: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} (الأعراف: 58)، والإشارة الإلهية هنا هي إلى البلد الذي يخبث أي تكثر فيه الخبائث والمعاصي والمظالم، كما هي حالنا اليوم، هذا البلد لا يخرج نباته إلا نكداً، أي قهراً، كأنّ الأرض تمانع في أن تعطي، وكأنّ النبات يأنف أن يخرج ثماره، والغمام يشيح عن البشر ويأبى أن يرسل مطره على الذين يكفرون بنعمة الله ويرمون كتابه وراء ظهورهم ويفسقون ويظلمون.
يقول جل من قائل ايضاً في ما يشبه كشفاً منه يغيب ما هو آتٍ: } ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ{ (الروم: 41)، والقرآن الكريم يتحدث هنا عن كل أنواع الفساد في الطبيعة من تبدل المناخ إلى التلوث إلى فساد الطينة البشرية إلى الأوبئة والحروب والمجاعات، وكلها مصائب لم تأتِ من فراغ، بل زرعها الناس وسقوها بماء المظالم والمعاصي، فهبت في وجههم مثل هشيم من نار. ولا ننسى أن كل هذه المعضلات التي تهدد اليوم جو الأرض وتهدد الحضارة نفسها ظهرت كلها في وقت قصير لا يزيد على قرن، ومثل هذا الزمن قصير جداً إذا قيس بآلاف السنين التي عاشها الإنسان على هذه الأرض بدرجة كبيرة من الاستقرار والاستمرارية. فهل أن ظهور كل هذه المصاعب وكل تلك البلايا بهذه الصورة المفاجئة من قبيل الصدفة، أم أنها الثمن الذي ندفعه لقاء السير في طريق المادية الأنانية والتمرد على القيم والفضائل والشرائع والأديان؟
يذكر الحكيم لاوتسه، وهو من أعظم حكماء الصين القديمة، أنه بعد كل حرب تنزل على الناس سنوات قحط عجاف، أي أنه يربط بين الحرب وما يكتنفها من قتل ومظالم وبين غضب السماء وانحباس الخير. إن العزة الإلهية تحاسب على موت الأبرياء وتحاسب على انفلات الغرائز والأحقاد والظلم واستباحة الكرامات، وهي تثأر للأطفال وللأبرياء، ولكل من تنال منه الحرب الهمجية بأذى أو بنكبة في أهله أو بيته أو رزقه أو كرامته كإنسان. فما بالنا وما يحدث الآن في كل ناحية من نواحي عالمنا العربي، وما بالنا وهذا الفساد العام وهذا الانفلات المخيف لشهوة المال والتكبر في الأرض، وهذا التدهور في شعور التراحم والغيرة الإنسانية؟
صلاة الاستسقاء سنّة متّبعة ولا شك، لكنها مثل كل صلاة يجب أن تصدر عن قلب مؤمن، لأن “الأعمال بالنيات” كما جاء في الحديث الشريف، ولا يكفي لأهل هذا الزمن أن يصلوا طلباً للمطر إذا كانوا غارقين حتى رؤوسهم في الغفلات والمعاصي. وقد ذكر الله تعالى هؤلاء الناس في أكثر من موضع في القرآن الكريم، وعنى بهم أولئك الذين يهرعون إلى التوبة والاستغفار عندما تصيبهم شدة، ولكن لا يلبثون أن يعودوا إلى ما كانوا عليه بمجرد أن يذهب الله تعالى عنهم ما كانوا يشكون منه.
وقد جاء في سورة يونس قوله تعالى: }وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{ (يونس:12)
وقال تعالى يصف دعاء الغافل بقوله أيضاً }وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ{ (فصلت: 51).

كفرقوق جارة جبل الشيخ

كفرقوق جارة جبل الشيخ
إزدهرت ولم يهجرها أبناؤها

الشيخ يوسف الكفرقوقي درس على علماء دمشق
وأصبح أبرز أعلام عصره في تقواه ومعارفه الدينية

أحراج كفرقوق تنحسر بفعل المناشير
والبلدية فرضت حراسة دائمة لحمايتها

المياه وفيرة بسبب تعدّد الينابيع والعيون
لكنها مهدورة لغياب مشاريع التخزين

ماذا يعني اسم كفرقوق؟
معظم أسماء القرى اللبنانية مشتقة من الآرامية، وقد إحتفظت القرى بهذه الأسماء في العهود التالية رغم أن معاني الكثير منها لم تعد معروفة بسبب اختفاء الآرامية من التداول منذ أكثر من أربعة عشر قرناً.
إذا عدنا إلى اللغة الآرامية، فإن إسم البلدة يترجم بما معناه “قرية الخزف” أو “قرية الآجر” وهذا يعني أن البلدة عرفت في القدم بإنتاج الخزف وآنية الآجر (الفخار)، وهناك قرية قريبة من كفرقوق تعرف بإسم “راشيا الفخار”، وهذه إشارة إضافية إلى أن مهنة تصنيع الآجر كانت منتشرة في المنطقة في العصور القديمة، إضافة إلى هذا التفسير الأكثر قبولاً، اقترح آخرون أن الإسم منسوب إلى الملك “قوق” الذي حكم في عهود قديمة، وبما أن إسم “كفر” في الآرامية يعني القرية أو البلدة فقد أصبح اسم القرية “كفر قوق”. وأطلق على البلدة في تاريخ لاحق إسم “كفرقوق الدبس” لكثرة ما كانت تنتج من دبس العنب.

الموقع
تقع بلدة كفرقوق، وهي إحدى قرى قضاء راشيا، على ارتفاع 1200م عن سطح البحر، وتبعد عن مركز القضاء 5 كلم، وعن العاصمة بيروت 93 كلم، ويمكن الوصول اليها عبر طريق بيروت- شتورا- المصنع – ظهر الأحمر كفرقوق أو عن طريق صيدا- مرجعيون-حاصبيا- ظهر الاحمر.
تقدر مساحة البلدة بنحو 5800 هكتار، وهي مجاورة للحدود السورية على السفوح الغربية لجبل الشيخ أو جبل حرمون، كما أنها تجاور 8 بلدات لبنانية، هي عيحا- ظهرالاحمر- ينطا- بكا- دير العشاير- راشيا – كفر دينس وعين عرب. ويعتقد أن تسمية البلدة مشتقة من الصيغة الآرامية الكنعانية المركبة كفر- قوق.

نمو سكاني ملفت
تمتاز بلدة كفرقوق عن غيرها من البلدات بنمو سكاني يفوق المعدلات المعروفة في منطقة راشيا، وتعود هذه الظاهرة الى تمسك أبناء البلدة ببلدتهم والاقامة فيها، فظاهرة الهجرة بسيطة وعدد المهاجرين قليل، وكذلك الأمر بالنسبة الى النزوح، فهو قليل جداً مقارنةً بما يحصل في القرى والبلدات الأخرى، وهذا ما تثبته ظاهرة التمدّد العمراني للبلدة التي اتصلت بالقرى المجاورة لها، وكذلك نمو عدد الوحدات السكنية من 350 وحدة في سنة 2000 إلى 700 وحدة حالياً، أي أن العدد تضاعف خلال السنوات العشر الأخيرة، وأصبح يشار إلى كفرقوق كمثال بارز على النمو السكاني، علماً أن عدد سكان البلدة أصبح اليوم يزيد على 3500 نسمة.

الموارد الاقتصادية للبلدة
تعتبر الوظيفة المصدر الأول في اقتصاد ابناء البلدة، بالاضافة الى الاعمال الحرة والزراعة، فنلاحظ أن معظم ابناء البلدة ينخرطون في المجال الوظيفي، ومن لم يتسنَ له الحصول على وظيفة رسمية نراه يتجه للعمل في المؤسسات السياحية وخدمات المطاعم، حيث بات هذا القطاع يضم شريحة كبيرة من ابناء البلدة، نظراً لمردوده السريع، اضافة الى بعض الأعمال الأخرى كصناعة خبز الصاج أو ما يعرف بالخبز المرقوق ويتم تسويقه في البلدة والقرى المجاورة.
يتقن أبناء البلدة العديد من الحرف التي تسهم في تحريك العجلة الإقتصادية في البلدة كصناعة الألومنيوم أو الحديد، بينما أتقن بعض السكان تربية النحل فأصبحت تشكل مورداً اقتصادياً يُعتمد عليه، وذلك بسبب نوعية العسل الذي تصنعه جماعات النحل من رحيق الأزهار المنتشرة في ربوع جبل الشيخ. ويعمل النحالة في البلدة على تطوير هذا القطاع مستفيدين من المساحات الواسعة المحيطة بالبلدة، والتي تصل الى الأراضي السورية المحاذية، وكذلك من نقاوة المكان وغياب أي من الملوثات التي تعيق عمل النحل في المناطق الأخرى، وأبرزها المبيدات التي ترش بها الأراضي الزراعية أو الأثمار.

موقع كفرقوق في قضاء راشيا
موقع كفرقوق في قضاء راشيا

سهل عيحا
تشكّل وعورة الجبال وغياب الأراضي المنبسطة علامة فارقة في قرى راشيا، لكن كفرقوق تشذ عن هذه القاعدة إذ أنها تتصل بسهلين: السهل الشرقي الذي يُستغل جزء بسيط منه في بعض الزراعات البعلية والاشجار المثمرة والكرمة، والسهل الغربي الذي يتميز بمساحة شاسعة ويُعرف بإسم “سهل عيحا”. وتعود ملكية 33 في المئة من أراضي السهل لأبناء بلدة كفرقوق، أما المساحات المستغلة فيتم استثمارها في زراعة الحبوب والخضار، ولا سيما زراعة البطاطا، وتنتشر على أطراف السهل زراعة اللوزيات والكرمة والعديد من الأشجار المثمرة، وفي طليعتها اشجار التفاح التي أخذت تنتشر في الآونة الأخيرة بشكل ملفت. لكن رغم خصوبة السهل، فإن هناك نسبة من الأراضي لا يتم استغلالها بصورة فعالة، مما يفوت على المنطقة فرصاً اقتصادية وفرص عمل مهمة.

ثروة حرجية مندثرة
بعدما كانت تغطي ما يقارب الـ70 في المئة من مساحة البلدة، لم تعد الأحراج تمثل سوى مساحة بسيطة، وهذا التدهور في مساحة الغطاء النباتي يعود بالدرجة الأولى إلى القطع العشوائي الجائر للأحراج بهدف توفير حطب التدفئة، لكنّ هناك سبباً آخر لا يقل خطورة يتمثل بالحرائق التي تلتهم سنوياً مساحات ليست بالقليلة وعدم توافر الوسائل اللازمة لمكافحة الحرائق.

ومياه مهدورة
تنفرد كفرقوق بكثرة العيون والينابيع، لكن الصعوبة تكمن في غياب القدرة على الاحتفاظ بمياهها عبر تخزينها تمهيداً لاستخدامها في فترات الجفاف أو الشح، وذلك لأغراض ري المزروعات الصيفية أو الأشجار المثمرة. وأبرز هذه العيون والينابيع: عين الشحل، عين الصهريج، عين نيني، عين الزعني، عين الصفصافي، إضافة إلى عدد من الينابيع الموسمية التي تساهم في تلبية حاجات البلدة.

بلدة الورع
تتميز بلدة كفرقوق ومنذ القدم بميل أهلها الطبيعي إلى السلوك الديني القويم، وتحصيل المعارف، إذ تحوي البلدة ربما أعلى نسبة من الشبان والفتيات الذين يقبلون على السلوك والتزام أصول الدين في سن مبكرة، كما أن هناك في البلدة أكثر من خلوة ومجلس ذكر يجتمع فيه المؤمنون.
ولعلّ هذه الجذوة تعود الى سنوات وعقود مضت الى أيام العلامة الشيخ “جمال الدين يوسف بن سعيد الكفرقوقي، “الذي عاش في القرن السادس عشر الميلادي ( النصف الأخير من القرن العاشر للهجرة)، وكان رحمه الله عالماً علامة وواعظاً وشاعراً. تفقه في دمشق على أبرز علمائها، وكان من أبرز أعلام عصره في العلم والمعرفة والفقه الديني، قبل أن يلمع نجم الشيخ الفاضل. كان يتلو القرآن الكريم والعديد من كتب المواعظ عن ظهر قلب، واعتبر من أكابر الموحدين في عصره. توفي الشيخ في طريق عودته من دمشق، عند أقربائه في قرية ينطا الواقعة في( قضاء راشيا)، وقد دفن فيها حيث يقوم مقامه اليوم، إلا أن أهل كفرقوق أنشأوا تكريماً لذكراه مقاماً وخلوة بإسمه في القرية.
من مؤلفاته كتاب معشرات الحروف الذي سمّاه “درر النحور في التوبة إلى الملك الغفور”، يتضمن مقطوعات شعرية ومقدمات نثرية بليغة كلها في كيفية السلوك والتقرب إلى الله عزّ وجل. وله قصائد عدة جمعها المرحوم الشيخ نسيب مكارم منها مخمسة طويلة سلك بها سبيل الابتهال والاستغفار والتوسّل إلى الله تعالى.
ومن الأعلام الذين عاشوا في قرية كفرقوق، الشيخ “سليمان الداوس” الملقب بـ”أبو عبيد”، وفضيلة الشيخ أبو حسين محمد الحناوي أحد أبرز مشايخ طائفة الموحدين الدروز. وتجدر الإشارة الى أن معظم عائلات بلدة كفرقوق تنقسم الى قسمين، قسم يقيم في البلدة وقسم آخر ذهب الى جبل العرب أو ما يُعرف بجبل الدروز. وأكثر البلدات السورية المحاذية تقع في جبل العرب على مسافة لا تتعدى الساعة والنصف سيراً على الأقدام، ورغم أن الأسر الكفرقوقية تفرقت في الماضي بسبب موجات الهجرة إلى جبل العرب إلا أنها ما زالت على علاقات وثيقة جداً في ما بينها، وتتعامل مع بعضها كما لو أنها ما زالت عائلات واحدة.

كهوف ربما تعود إلى عصود سحيقة أو ربما لبعض النساك
كهوف ربما تعود إلى عصود سحيقة أو ربما لبعض النساك
اثار قديمة
اثار قديمة

الشيخ سليمان الداوس الملقب بـ “أبو عبيد”
عاش الشيخ التقي أبو عبيد في كنف عائلة نهل منها حنان الأم الورعة وعطف وتربية الأب الذي زوده بأسس الآداب وقوة الارادة وصلابة الايمان.
بعد وفاة والديه، عاش الشيخ في غرفة صغيرة عاكفاً على عبادة الله عزّ وجل من دون أن يعرف به أحد من الأشخاص الذين يسكنون بجواره، كان يكسب عيشه بكد يمينه من زراعة الأرض ومعاملتها، حتى أنه كان يتقن فن العمارة وأقدم على بناء مناهل المياه المحاذية للبلدة، وهذه ما زالت قائمة إلى يومنا هذا. واستمر على هذه الحالة حتى وافته المنية. وبعد وفاته، اكتشف اهل البلدة السر الدفين للرجل، وهذه الجوهرة النادرة من خلال المخطوطات التي وجدت محفوظة في الوسادة التي كان يغفو عليها، وبعد الاطلاع على تلك الكتابات الروحانية علم ابناء البلدة أن الشيخ أبو عبيد من المشايخ ذوي المكانة الرفيعة، نظراً لتلك التركة المعرفية الروحانية الملفتة والمميزة، وقد عمد ابناء البلدة الى جمع تلك الكتابات وحفظها ليصار في ما بعد الى حفظها في مجلد اطلق عليه إسم “المشوقات”، نظراً للمحتوى المميز الذي تنعم به، وهذه المشوقات موجودة في معظم الخلوات والمزارات، كما قام أبناء البلدة بتكريم الشيخ التقي عبر بناء ضريح نقلت إليه رفاته، وقد أقيمت بجانبه خلوة يأمها المشايخ بهدف الاستزادة الروحية وذكر الله تعالى.

مقام الشيخ يوسف الكفرقوقي
مقام الشيخ يوسف الكفرقوقي

عائلات بلدة كفرقوق

أبو درهمين – عبد الخالق- صوان- جمول- الحلبي – نعيم – الشعار – سرايا – عربي- خضر – الحسنية- حرب –النبواني – شموط – مسعود – السقعان – جديداني – خميس – البلاني – حمد – ريدان – العنداري – برو – عازار – الحداد – عون – شاهين – نجم – شوي – العريان .

المواقع الأثرية في البلدة
تجلس بلدة كفرقوق على آثار غنية لحضارات كثيرة بائدة، يدل على ذلك العديد من المواقع الأثرية في محيط البلدة، والتي تعود الى حقبات مختلفة منها رومانية ومنها كنعانية. لكن إهمال الدولة لتلك الآثار شجع على العبث بها، مما أتى على قسم كبير منها أو غيّر معالمها وطمس دلالاتها التاريخية. من الآثار الباقية داخل الحي الغربي من البلدة بقايا معبد روماني صغير قريب من الطريق، فيما تتواجد أطلال وبقايا معبد آخر وعدد من الأحواض الحجرية على مقربة من كنيسة البلدة. أما في خراجها فهناك بقايا الأعمدة التي يعود تاريخ معظمها إلى الحقبة الرومانية.
من الآثار المهمة تلك الواقعة شمال البلدة، وتعود الى ما يقارب من 800 سنة، وهي تدل على أن بلدة كفرقوق تجاور انقاض قرية قديمة بائدة تعرف بـ “الكنيسة”. وتدل الآثار الموجودة على أن البلدة المندثرة كانت مرجعاً لقرى وبلدات أخرى زالت بدورها ولم تعد موجودة، ولعل كفرقوق هي امتداد لتلك الحضارة الزائلة. ومن الآثار بقايا قصر ملكي ومحكمة ومكان هو عبارة عن مشنقة كانت تنفذ الأحكام فيها، بالإضافة الى العديد من النواويس وآبار المياه. ومازال شقيف المشنقة وقنطرة دار آل عربي ماثلين حتى اليوم مع البلاط الحجري المرصوف إضافة الى معصرة العنب القريبة منهما.
مدرسة تقاوم الدهر
على الرغم من تراجع التعليم الرسمي بشكل عام واقفال معظم المدارس الرسمية في منطقة راشيا، ما زالت مدرسة كفرقوق الرسمية توفّر فرص التعليم لنحو 400 طالب، وتجنب الأهالي، لاسيما ذوي الدخل المحدود منهم، مشقة الانتقال الى خارج البلدة أو إرسال اولادهم الى المدارس القريبة لمتابعة تحصيلهم العلمي. وتوفر المدرسة فرص عمل لأبناء البلدة من حملة الاجازات التعليمية فتجنبهم الغربة أو الانتقال الى أماكن أخرى بحثاً عن عمل، علماً أن عدداً كبيراً من الطلاب ينتقلون خارج البلدة لمتابعة تحصيلهم العلمي في مختلف الجامعات والمعاهد المنتشرة في البقاع أو في العاصمة بيروت.
وتضم كفرقوق أندية وجمعيات ثقافية منها نادي كفرقوق الذي تأسس في سنة 1973، ويلعب دوراً في النهضة التي تشهدها البلدة، إذ أشرف النادي على حملة أثمرت تشييد القاعة العامة بدعم من الزعيم وليد جنبلاط، كما تمّ في الفترة الأخيرة افتتاح المستوصف الاجتماعي بهمة معالي وزير الشؤون الاجتماعية الاستاذ وائل أبو فاعور، وقد بدأ المستوصف تقديم الخدمات الصحية المختلفة للأهالي، كما تمّ افتتاح عيادة طب الأسنان التي تقدم خدمات جيدة بأسعار تناسب الحالة الاجتماعية لأبناء البلدة.

قضايا العمل البلدي في كفرقوق
في حوار مع رئيس بلديتها

رئيس-البلدية-الاستاذ-رئيف-ابو-درهمين
رئيس-البلدية-الاستاذ-رئيف-ابو-درهمين

أبرز الإنجازات: الكهرباء والمستوصف وإعادة التشجير
وأبرز المشاريع تعميم مياه الشفة والطرق الزراعية

التقت “الضحى” رئيس بلدية كفرقوق السيد رئيف ابو درهمين، وسألته عن واقع العمل البلدي في القرية والتحديات التي تواجهها البلدية بسبب التوسع العمراني والنمو السكاني، فكان هذا الحوار:
كيف يتم التعامل مع ظاهرة النمو في البلدة؟
منذ سنوات أخذ العمل البلدي طابعاً مختلفاً، لأن عدد السكان في ازدياد والتمدد العمراني يزيد مساحة القرية سنة بعد سنة ويضاعف بالتالي الحاجة الى توفير الخدمات للأحياء والشوارع الجديدة، وقد واصبح ذلك بصراحة أكبر من الإمكانات المتوافرة للمجلس البلدي وموارده المالية. لذلك بدأنا نركز على التواصل مع وزارات الدولة المعنية لتأمين الخدمات اللازمة، وكذلك وثقنا العلاقات بعدد من الجهات المانحة من أجل تعويض نقص الموارد، وفي الوقت نفسه القيام بمسؤوليتنا في تلبية الحاجات المتنامية للبلدة ومواطنيها.
ما أبرز مبادرات المجلس البلدي؟
قامت البلدية في الفترة الأخيرة بشراء عدد من المولدات الكهربائية لتأمين الكهرباء في ظل انقطاع التيار الكهربائي عن البلدة لفتراتٍ طويلة خلال اليوم، إذ أن ساعات التغذية الفعلية لا تتجاوز الثماني ساعات يومياً، الأمر الذي يعطل الكثير من الأعمال ويكبد المواطنين تكاليف باهظة على شكل اشتراكات أو تكلفة الوقود اللازم للمولدات الخاصة. وقد ساعد تركيب المولدات على تأمين التغذية خلال فترات انقطاع التيار، وتمكنّا من تأمين الطاقة الكهربائية بتكلفة أقل. وتقوم البلدية في هذه الاثناء بتحديث الشبكة وتركيب عدادات لكافة أبناء البلدة، وبلغت تكلفة هذا المشروع 100 مليون ليرة لبنانية، وتم تنفيذه بمساعدة من اتحاد بلديات “جبل الشيخ”.
على صعيد آخر، تسعى البلدية بالتعاون مع لجنة مياه البلدة، الى تأمين مياه الشفة لكافة المواطنين وايصال شبكة المياه الى كافة الاحياء لاسيما الحديثة منها.
كما قامت البلدية بتأمين سيارة إسعاف للبلدة بمساعدة من وزارة الشؤون الاجتماعية، وهي تسعى بمساعدة من وزارة الزراعة والمشروع الاخضر إلى شق وتعبيد طريق زراعي بطول حوالي 2500م ويسمى “طريق سهل الفوقاني في الشحل”، كما تقوم البلدية في هذه الاثناء بإقامة حديقة عامة، تقدمة وزارة الشؤون الاجتماعية، وينتهي العمل في المرحلة الاولى منها خلال عشرة أيام.
تعمل البلدية ايضاً على ترميم عيون قديمة عدة، ومنها عين الشحل والصهريج وعين القلّي وعين الكنيسة التي تم مؤخراً مساعدة أصحاب المواشي على حفرها وتأمين المياه اللازمة لمواشيهم .
لا بدّ هنا من التنويه بما قام به المجلس البلدي السابق قبل اِستلامنا رئاسة البلدية من توسيع لمدخل البلدة وإقامة جدران الدعم للعديد من الطرقات وتقديم المساعدات العينية للمزارعين، والمساهمة في زيادة الغطاء الأخضر للقرية من خلال عمليات التشجير.
هل تتلقون مساعدات لترميم منابع المياه الأثرية أو العيون القديمة؟
لا توجد أي مساعدة من أي جهة رسمية أو غير ذلك، لكن نطلب من وزارة الطاقة والمياه مساعدتنا في الاهتمام بهذه العيون والمحافظة على تاريخها لكي تبقى ولو أن ينابيعها غير غزيرة.
ما هي مشاريع المجلس البلدي المستقبلية؟
تمّ تقديم طلب الى قيادة الجيش لشق بعض الطرق الزراعية، وأتت الموافقة على شق طرقات بطول حوالي 10 كلم من الطرقات الزراعية، وهنا لا بدّ من توجيه الشكر الى قيادة الجيش، وهناك مشروع تحريج حوالي 10 دونمات تقدمة من UNDP، ويتم ذلك بالتعاون مع اتحاد بلديات “جبل الشيخ”.
إن الهدف الأول للبلدية هو المحافظة على ما تبقّى من أحراج البلدة مع العمل في الوقت نفسه على استعادة المساحات الواسعة من الأحراج التي كانت تنعم بها منذ القدم، لكنها زالت بسبب التعديات والقطع الجائر. وتقوم البلدية بحماية الأحراج من خلال الحراسة التي يقوم بها ناطور البلدة، وذلك لمنع قطع الاشجار ومراقبة الحرائق التي قد تندلع خلال فصل الصيف ومواسم الجفاف.
وتعد البلدية لتأمين شبكة مياه للأحياء الجديدة التي لم تصلها مياه الشفة، علماً أن كمية المياه المتوافرة، وهي حوالي 3 آلاف متر تعتبر كافية بعد التوسع العمراني الكبير الذي نشهده.
ما هي المعوقات التي تواجه المجلس البلدي؟
أبرز العوائق امام عمل البلدية هي الشح في الموارد المالية وغياب دعم الدولة وصعوبة جباية الرسوم البلدية أو المسقفات من المواطنين، إضافة إلى عدم دفع مستحقات البلديات لدى الدولة في أوقات منتظمة، مما يراكم الأعباء على البلدية، كما أن هناك ظروفاً طارئة أو مستجدة تفرض على البلدية أعباء اضافية لم تكن في الحسبان. كما أن هناك عوائق تواجه المزارعين لا سيما الصعوبة في تصريف الانتاج مما يزيد من مساحة الأراضي المهملة وتزداد الأراضي البور ويتراجع عدد العاملين بالزراعة سنة بعد سنة.

قَنَوات مدينة التاريخ

قَنَوات مدينة التاريخ
وعروس جبل العرب

إحدى أقدم المدن في العالم تهدمت صروحها
وأعاد الموحدون إعمارها فعادت حاضرة زاهرة

بسبب أهميتها سكّ الرومان النقود باسمها لكنها إندثرت
بعد انتقال الخلافة إلى بغداد وتحوّل طرق التجارة عنها

الشيخ قاســــم المهتار وشديد شـرّوف أول من سكنها
وعائلاتها الحالية تعود في معظمها إلى أصول لبنانية

جانب-من-معبد-هيليوس-ويبدو-جزء-من-المدينة-خلفه
جانب-من-معبد-هيليوس-ويبدو-جزء-من-المدينة-خلفه

قنوات واحدة من بين أقدم حواضر الجبل، بل هي حسب بعض المؤرخين من أقدم مدن العالم اعتبرها الرومان بين أكبر مدن الإمبراطورية وسكّوا النقود باسمها، وأقاموا فيها المدارج الرياضية والفنادق أو الخانات، وبنوا فيها المعابد وخزانات المياه الضخمة والطرق، وجروا إليها المياه في أقنية حجرية وأحاطوها بأسوار منيعة، لكن هذه المدينة الزاهرة أفل نجمها في ما بعد وتآكلتها صروف الدهر وأيدي العابثين من بني البشر حتى غدت خراباً قاحلاً. إلا أن المهاجرين الأوائل من الموحدين وجدوا فيها موئلاً وطبيعة خصبة ومنيعة فأقاموا فيها وأعادوا إعمارها لتصبح مع الزمن مدينة يسكنها اليوم نحو 12 ألف نسمة، ومجتمعاً أهلياً تزدهر فيه أعمال الزراعة وبعض الصناعات وتدعمه المؤسسات الرسمية والأهلية والخيّرون من أهل البلدة.
فما هي قنوات، ولماذا اشتهرت عبر التاريخ، ولماذا درست، وكيف أحياها الموحدون الدروز ليجعلوا منها حاضرة مزدهرة؟

قنوات في التاريخ
كانت قنوات في العصر الهلنستي (أي عصر الدولة السلوقية ذات الحضارة الإغريقية المتمازجة مع حضارات الشرق الأوسط القديم)واحدة من المدن العشر الهامة ( ديكا بوليس)، في جنوب بلاد الشام، ومن هذه المدن قنوات وبصرى وجرش وأم الجمال وعمّان (فيلادلفيا )… وبعد احتلال الرومان لسوريا على يد القائد الروماني بومبيوس سنة 63 قبل الميلاد، تنامى ازدهار المدينة، وكانت أمور مجتمعها تُدار بأسلوب شبيه لما كانت عليه الحال في المدن الرومانية واليونانية، من خلال مجالس شيوخ محلّية من الوجهاء والقادة… ومنذ بداية القرن الرابع الميلادي، عندما اعتمد الامبراطور الروماني، قسطنطين، المسيحية ديانة رسمية للدولة، غدت «كاناثا»، (وهذا هو اسمها القديم)، مقرّاً لأسقفية كبيرة ترتبط ببصرى، وتتبع وإياها بدورهما لبطريركية أنطاكيا.
ولأهميتها، فقد سُكّت نقود برونزية حملت اسمها، ويقدّر الآثاريون وعلماء التاريخ القديم عدد سكان قنوات في عصرها القديم ذاك بنحو 60000 نسمة. لكنّ قنوات تراجع عمرانها في العصر العربي الإسلامي، وخاصة بعد أن نقل بنو العباس العاصمة من دمشق إلى بغداد، وبعدت طرق التجارة عنها.

موقع مرتفع ومصيف جميل
تقع مدينة قنوات على ارتفاع نحو 1320م فوق سطح البحر، وعلى مسافة 7كلم، شمال شرق السويداء، يشقّها وادٍ عميق يشطرها نصفين، وتحيط بها المرتفعات من الشرق والشمال والجنوب، ولها أفق مفتوح على الغرب، ومن موقعها هذا تطل على سهل حوران، وجبل الشيخ ومرتفعات الجولان ممّا يؤهلها لتكون مصيفاً ممتازاً لطيب هوائها ووفرة مياهها، والاسم «قنوات» يدل على وفرة الأقنية في تلك المدينة وخراجها.
عودة الروح إلى الخراب
بدأت قنوات في عشيّة القرن الثامن عشر تنفض عن نفسها غبار قرون من الخراب عندما قدم إليها، وفقاً لرواية أحد معمري آل عسقول، الشيخ قاسم المهتار ( أصلاً من عرمون في جبل لبنان) وشديد شرّوف، وكانا يسكنان في خربة سلم، الواقعة بين بلدتي سليم وعتيل قرب قنوات، واستوطنا فيها، وكان ذلك أول دخول لبني معروف إليها، وإيذاناً بإعادتها إلى العمران.
عندما زارها الرحّالة بيركهاردت سنة 1810، وهو المستشرق السويسري المكلّف من قبل بريطانيا باستطلاع بلاد العرب، ذكر أنه وجدها شبه خَرِبة، وصلتنا أخبار تلك الزيارة من خلال كُتيب صغير ترجمه المرحوم الأستاذ سلامة عبيد، متناولاً فيه فقط ما يتعلّق بحواضر جبل حوران عنوانه: «جبل حوران في القرن التاسع عشر، مقتطفات من كتاب: «رحلات في سوريا». يقول بيركهاردت في ص20: «إنّ قنوات تقع على مسير ساعتين شرق السويداء ــ الأصح شمال شرق السويداء ــ ويصف الطريق من السويداء إليها بأنّه يسير في حرج لم يُسمح له بالنمو، وأشجاره من السنديان والزّعرور، تتخلله بضعة حقول مزروعة»، ويذكر بأنه «يوجد إلى الجنوب الغربي من المدينة نبع غزير».
ويوثّق بيركهاردت مشاهداته في قنوات في تلك الفترة من الزمن، فيذكر أنّ أوّل ما يلفت انتباه القادم من السويداء إلى قنوات عدد من الأعمدة العالية فوق مصطبة على مسافة قريبة من البلدة، وكان هذا معبد إله الشمس «هيليوس» في عصور الإغريق والرومان، ويعود بناؤه إلى القرن الأول قبل المسيح.
أمّا عن سكان قنوات في ذلك العصر، فيقول الرّحالة أنّه لا توجد في قنوات إلاّ أسرتان درزيّتان، كان أفرادهما منهمكين في زراعة حقول التبغ.

وفود المهاجرين من لبنان
لكن الدروز، ومنذ تلك الفترة ــ أي مطلع القرن التاسع عشر ــ أخذوا يتوافدون إلى حواضر جبل حوران الخربة ومنها قنوات، ويعمّرونها، كان هذا شأنهم منذ أن قضى العثمانيون على الإمارة المعنية، وقد اختلف الوضع على بني معروف الدروز منذ ذلك الوقت، وتفاقم الأمر بعد أن تحوّل الأمراء الشهابيون السنّة ــ الذين حلّوا محلّ المعنيين ــ إلى المارونية وتمكنوا، وخصوصاً بشير الثاني، من استخدام نفوذهم وحلفهم مع المصريين لإضعاف شوكة الموحدين الدروز وتشتيت أسرهم الإقطاعية وسلب إقطاعتها وأراضيها. وقد تصاعدت نتيجة لتلك الضغوط الشديدة هجرة الموحّدين الدروز إلى جبل حوران فعُمّرت قنوات وغيرها من حواضر جبل حوران بعد أن كانت خراباً لزمان طويل.

مأثرة الشيخ فارس حميد
مع توافد أسر الموحّدين إلى قنوات خلال القرن التاسع عشر، وبسبب الحاجة الماسة لتأمين سكن على وجه السرعة، كان الناس يستسهلون الإقامة في البيوت التي وجدوها تصلح للسكن أو البناء بحجارة الآثار المتناثرة في المدينة المهملة.
عاش في تلك الفترة الشيخ فارس حميد، وكان ذا عقل نير وفكر سديد، وقد هاله ما رأى من عدوان على الآثار، فارتأى أن يوحي للناس بأنّ هذا المجمّع المركزي الفريد بآثاره كان مقرّاً للنبي أيّوب عليه السلام في أيّام مرضه. هنا امتنع الناس عن المساس بتلك الآثار، ولابد أن الشيخ فارس حميد في موقفه الحصيف هذا قد ساهم بتقليص حجم الضرر الذي لحق بتراث قنوات، ولم يزل مثقّفو المدينة وعقلاؤها إلى يومنا هذا يذكرون له هذا الجميل الذي أسداه لتاريخ مدينتهم وتراثها العريق.

أحراج قنوات ضحية الحرب

أصبحت غابات قنوات الشهيرة، في غياب الدولة، من ابرز ضحايا الوضع المضطرب في البلاد، ولم يتبقَ منها حالياً أكثر من 5000 دونم من الأحراج، وحتى هذه المساحة المتبقّية تلتهمها حاليّاً وبشراهة مناشر البنزين لتحول هذه الثروة الحرجية الثمينة إلى حطب للتدفئة في فصل الشتاء البارد في مدينة جبلية، وذلك بسبب ضغوط أزمة المازوت وتردي مستوى المعيشة وحاجة المواطنين الماسّة للتوفير ولو من أي باب.
ولمواجهة ما يتعرّض له حرش قنوات من خطر الإبادة، فإن الوحدة الإرشادية الزراعية في المدينة تقاوم التحطيب الجائر اللاعقلاني عن طريق فصائل حراسة طوعية ــ ولكن لا حياة لمن تنادي ــ على حد قول أحد المعنيين بحماية الحرش المهدّد بالزوال بسبب التعديات الحاصلة من أهالي قنوات أم من مواطني قرى الجوار من ضحايا أزمة البلاد.

آثار-رومانية
آثار-رومانية

الآثار الطبيعية
اكتشفت في أراضي قنوات، في منطقة «حيور اللوز» الواقعة شرق المدينة، مغارة طبيعية قديمة، طول المعروف منها نحو 760 متراً، بعرض نحو 5 أمتار، وارتفاع 4 أمتار، ويشكّل سقفها وجداراها قوساً غير متناظر على طول امتدادها. وبتأثير من عوامل الرطوبة عبر العصور القديمة فقد تشكّلت في تلك المغارة ما يُعرف بظاهرة الصواعد والنوازل ذات اللون البنّي المختلف عمّا نشاهده في المغاور التي تشكّلت في المناطق الرسوبية التي يغلب عليها التركيب الكلسي( كمغارة جعيتا مثلاً)، بحيث يكون لون الصواعد والنوازل مائلاً للّون الأبيض الكريستالي، وغلبة اللون المائل للبُنّي على صواعد ونوازل مغارة حيور اللوز في قنوات، ناشئ عن غنى تربة الجبل البركانية بالهيماتيت( أوكسيد الحديد الأحمر)، الذي أكسبها ذلك اللّون.
قنوات في محنة تيمورلنك
تعرّضت قنوات لما تعرّضت له سائر بلاد الشام في العهود التاريخية السالفة، ولعلّ الخراب الأكبر الذي تعرّضت له حواضر الجبل على يد الغازي المغولي تيمورلنك سنة 802هـ، نحو سنة 1403م، قد نال منها، كما يذكر سعيد الصغير في كتابه: «بنو معروف في التاريخ»(ص122). بذلك فقد كانت قنوات خراباً يباباً قبل أن يعيد الموحدّون من بني معروف عمرانها منذ نحو قرنين ونيّف من عصرنا هذا، وإن أوّل شهادة توثّق نزول الموحّدين فيها هي شهادة الرحالة بيركهاردت الذي زارها سنة 1810، وقد ذكر فيها وجود أسرتين ( درزيتين)، إلاّ أن بيركهاردت لم يسمِّ لنا أحداً ممن ذكر وجودهم آنذاك.

قدوم آل الهجري
يذكر المعمرون في المدينة أنّ الشيخ قاسم المهتار أول ساكني قنوات هو جدّ آل جزّان، وقد اشتهر بادئ الأمر بعمله في الحطب فعُرف بالجزّال، ( والجزل لغةً هو ماعظم من الحطب ويبس)، وفي ما بعد حُرّفت الكنية فأصبحت «جزّان»، ومن ثم قدم إلى قنوات آل شرّوف وقيصر، وهؤلاء أساساً يتحدّرون من أصل واحد، ومن ثم تلاهم الشيخ أبو حسين ابراهيم الهجري، ولعلّ قدومه هذا إلى قنوات كان بتأثير خلاف وقع له مع الشيخ الحمداني في السويداء. والشيخ الهجري، حسب ما يذكره المعمرون، ينتمي لآل زين الدين أصلاً، كان والده محمود سلمان زين الدين قد هاجر من خريبة الشوف في جبل لبنان إلى أشرفية صحنايا.

توسع-عمراني-في-المدينة
توسع-عمراني-في-المدينة

ويذكر أستاذ التاريخ في قنوات، جدعان زين الدين، أن سبب هجرة آل زين الدين من جبل لبنان يرجع لكونهم ضحية السياسة المستبدة والإقصائية التي كان يمارسها الأمير بشير الشهابي المدعوم من الأكليروس الماروني وفرنسا من خلفهم، ضد الموحّدين من بني معروف، وهذا يصح على معظم المهاجرين من جبل لبنان من بني معروف الذين لجأوا إلى جبل حوران في ذلك العصر. وأشرفية صحنايا هذه هي إحدى قرى غوطة دمشق التي يقطنها الموحّدون آنذاك وإلى يومنا هذا، ومن ثمّ انتقل الرجل إلى الجبل، وقد عمل عند قدومه إلى السويداء بحياكة الوسائد من الصوف والبُسْط من شعر الماعز، وكان شاعراً وأديباً، ورجل دين وتقوى هجر جبل لبنان، ولهذا لُقّب بالهجري، وقد اعتمده الحمدان، شيخ مشايخ الموحّدين في الجبل آنذاك، وكان مركزه في السويداء.
اشتهر الشيخ ابراهيم بعلمه الواسع وحكمته بصواب رأيه الذي عمل به الموحّدون في حربهم ضد حملات ابراهيم باشا (حليف الأمير بشير الشهابي)، التي وجهها ضد بني معروف على الجبل، وقد كانت حربه تلك من بين أسباب فشل مشروعه القاضي بالتخلّص من السيطرة العثمانية.

“هال الشيخ فارس حميد تخــريب الســـــكان للآثـــار العظيمة واستخدام أحجارها في بناء منازلهم فأوحى لهم أنها كانت سكناً للنبــي أيوب فامتنعوا ..وسلمت”

توافد العائلات إلى قنوات
كان من القادمين إلى قنوات آل شقير ( وهم أساساً من جبل لبنان)، وقد تفرّع منهم آل زريفة نسبة لإسم والدتهم (زريفة شقير)، ثم قدم آل زين الدين ومنهم تفرّع آل عسّاف وشكر.
ومن عائلات قنوات آل عسقول، وآل الجرماني، وهم أصلاً من آل ملاعب من بيصور، سكنوا في جباع الشوف زمناً، ومن ثم انتقلوا بعدها إلى جرمانا من قرى غوطة دمشق، انتقلوا بعدها إلى الجبل وسكن بعضهم قنوات، وهناك آل خير، ويقال إنهم يمتّون بصلة القربى لآل أبو فرح في صحنايا، في غوطة دمشق، ولآل كيوان ومنذر وفرحات في بقعاتا الجولان. ومرجع هذه الأسر يعود إلى جبل لبنان. وآل أبوخير، وهؤلاء أصلاً من دير القمر جبل لبنان، ولكنّهم بعد حرب 1860 هُجّروا منها وتفرّقوا بين دميت وكفر نبرخ في جبل لبنان، وبين رخلة في جبل الشيخ وامتد بهم التهجير إلى جبل الدروز، فاستوطن بعضهم في قنوات، وكانوا حمّلة البيرق فيها أيام حروب بني معروف في المواجهات ضد العثمانيين، وقد استشهد منهم خمسة أخوة في تلك المعارك خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وفي ما بعد تسلّم البيرق آل شرّوف.
وهناك آل قيسيّة، وهم أصلاً متفرّعون من آل عامر في بعقلين من جبل لبنان، وآل خلف، وآل أبو شاهين، وبشير وأمين، وجمال الدين ،وبكري، وفرحات، وريدان، والقضماني، والعقباني، وغنّام، وعسقول والمغوّش، وأبو سعد، والشويّاني، وأيوب، والشوفي، وزرزور، وشهيّب، وصعب، والأعور، والبرنوطي، وزيدان وفرزان، وفهد، ومن الملاحظ أنّ معظم هذه العائلات المعروفية ذات جذور لبنانية.

تركيبة السكان
يبلغ عدد سكان قنوات حاليّاً نحو 11862 نسمة، يضاف إليهم في هذه الفترة نزوح نحو 500 أسرة سورية من محافظات الجوار وغيرها بسبب ما تتعرّض له البلاد من أحداث مؤلمة، وعموماً فللمدينة جاذبية أكسبها إياها موقعها الطبيعي الجميل، حيث تحيط بها أحراش من السنديان والبطم والزعرور، ومُناخها العليل المميز، تضاف إلى ذلك المواقع الأثرية التي تمنحها ميزة سياحية لم تستفد منها بشكل كافٍ، وبسبب من ظروف العمل والتوظيف داخل القطر السوري، فإنّ نحو 1500 أسرة من قنوات موزعة في محافظات سورية عدة بحكم عمل أربابها، أهمّها دمشق وحلب والرّقة.

مبنى-بيت-الضيعة-في-قنوات
مبنى-بيت-الضيعة-في-قنوات

استخدامات الأراضي في قنوات
تبلغ المساحة المستثمرة زراعيّاً من أراضي قنوات نحو 26000 دونم من أصل 50000 دونم هي المساحة الإجمالية لأراضي المدينة، تتراوح فروق ارتفاعاتها بين 1075م فوق سطح البحر من جهة الغرب، لتصل إلى نحو 1690 متراً من جهة الشرق. وهناك 11190 دونماً، هي عبارة عن أراضٍ غير قابلة للزراعة، لكونها أبنية ومرافق وبحيرات ومستنقعات، وأراضي صخرية أو رمليّة، وهناك أخيراً الأحراج التي تتعرض اليوم لأخطر أزمة قد تهدد وجودها.

مواسم العنب الوفيرة
تصنّف أراضي قنوات على أنّها منطقة استقرار أولى في محافظة السويداء، وهي مخصصة للزراعة، إذ تمنع فيها تربية الماعز والأغنام على شكل قطعان، ومتوسط كميّة المطر السنوي فيها يفوق الـ 400مم، وكان العنب يشكل المحصول الزراعي الرئيسي إلى أن اقتحمت حشرة الفلوكسيرا سلامه، فكان هذا بداية تراجعه لصالح التفّاح، وهبطت مساحة المغروس منه من نحو 5500 دونم إلى نحو 4480 دونماً، وتدنّى عدد أشجار الكرمة المثمرة إلى نحو 222000 شجرة، بلغ إنتاجها من العنب نحو2504 أطنان، يذهب معظمه (1404 أطنان) للموائد أو للزبيب (نحو 250 طناً) أو للدبس (نحو 350 طناً). وأنواع العنب في قنوات عديدة، ويتم تصريف إنتاجها داخل المحافظة وخارجها. هذا وتوجد ثلاث معاصر آلية على مستوى محلّي للعنب قبل غليه، ويبلغ متوسّط إنتاج الدبس في قنوات نحو 10000 تنكة من الدبس، أي نحو 250000 كغ ( نحو مئتين وخمسين طنّاً) يستهلك بعضه محليّاً، ويباع الباقي في الأسواق.
وهناك من يصنع الدبس في المنزل، ودبس البيت أفضل من دبس المعصرة التجاري ذي اللون المائل للأسود، في حين يكون دبس البيت أشقر بلون العسل ويكاد يكون بطعمه.

التفّاح كمحصول إقتصادي
أصبحت شجرة التفّاح، الشجرة الرئيسية في قنوات، ويبلغ عدد أشجارها نحو 329,000 شجرة، ولذا بدأ التفاح يحل تدريجياً محلّ العنب من حيث دوره في الإنتاج الزراعي وقد بلغ الإنتاج منه في سنة 2012 نحو 4,000 طن،إلا أن الإنتاج يتقلّب من سنة لأخرى، بحسب الظروف المناخية.
تضاف إلى ذلك قدرة المزارع على الإنفاق على التسميد الذي من شأنه أن يحافظ على مستوى إنتاج مناسب، وهذا لولا مشكلة الارتفاع العاصف لأسعار الأسمدة، إذ كان ثمن الكيلوغرام من سماد البوتاس 12 ل.س، في حين أصبح سعره في تمّوز 2013 60 ل.س، وقد اصبح سعر السماد يثقل كاهل المزارع، وهو ما سيؤثر حكماً على الإنتاج.

بلد الأشجار المثمرة
لقد وهبت الطبيعة قنوات أرضاً خصبة، ومياهاً ومناخاً ساعدا على قيام زراعة ناشطة ساهم بها إنسان يعي أهمية الزراعة التي أخذت تنحو باتجاه زراعة الأشجار المثمرة والبستنة والكروم بشكل عام. ومن هنا، وبالإضافة لما سبق بيانه من زراعة العنب والتفاح، فقد ازدهرت زراعة أشجار مثمرة أخرى، وكلّها على العموم تُزرع بعلاً، أهمّها الزيتون، وقد بلغ عدد أشجاره نحو 38,457 شجرة والإجّاص (نحو 47,000 شجرة) واللّوز (نحو 20,000 ألف شجرة)، وهناك أنواع أخرى من الأشجار المثمرة مثل الكرز: ويبلغ عدد أشجاره 7073 شجرة، والدرّاق وعدد أشجاره نحو 15000 شجرة، والتين (نحو8000 شجرة) ويزرع التين بالترافق مع العنب، وهي الشجرة الأكثر ملاءمة للزراعة في بيئة الجبل بشكل عام والأقل تأثراً بأمراض الأشجار وآفاتها. وهناك المشمش (نحو 3,000 شجرة)، والخوخ (نحو 2,300 شجرة)، متوسّط إنتاج الشجرة الواحدة 15 كلغ، والجوز والرّمّان والفستق الحلبي والجانرك والسفرجل وغيرها.
محاصيل حقلية أُخرى: رغم أن التنظيم الزراعي ينصح بزراعة البستنة والكروم في قنوات، إلا أنّ بعض المزارعين يقومون بزراعة محاصيل حقلية من الحبوب كالقمح والحمّص والعدس وغيرها، ولكنّ هذا يجري على نطاق محدود، ولا توجد إحصاءات لدى الوحدة الإرشادية الزراعية عن تلك المحاصيل.

خزانات--المياه-الرومانية---القناطر-صممت-لحمل-السقف-وقد-زال-الآن
خزانات–المياه-الرومانية—القناطر-صممت-لحمل-السقف-وقد-زال-الآن

المياه في قنوات
كان بناة المدينة الأوائل من الأنباط والإغريق والرومان قد استجرّوا الماء لسكان المدينة من ينابيع «الصايغ»على بعد 7 كلم، وارتفاع 1400 فوق مستوى سطح البحر إلى الشرق من المدينة، وعندما احتل الفرنسيون سوريا مدّوا خطّ المياه على آثار الخط القديم…وحاليّاً، توزّع المياه على سائر بيوت المدينة، بكلفة 5 ليرات سورية للمتر المكعب الواحد للمواطن.

الإنتاج الحيواني
بحكم موقع قنوات وأراضيها ضمن منطقة الاستقرار الأولى، فقد منعت فيها تربية الماعز والأغنام والجمال والأبقار الجبلية التي كانت تربّى على شكل قطعان، وذلك لما كانت تسببه تلك المواشي، وخصوصاً الماعز منها، من أضرار على المزروعات والأشجار المثمرة والحرجية. ولهذا السبب فقد تحول الكثير من المزارعين إلى تربية الأبقار ذات الأنواع العالية الإدرار من الحليب أو تسمين العجول الذكور أو تربية الماعز الشامي، بعد تحريم تربية الماعز الجبلي على شكل قطعان ترعى الأرض على سفوح الجبل وأوديته وأحراشه. ولأهمّية الماعز من حيث حليبه ولحمه وشعره وفضلاته التي تفيد في تسميد الأرض، فقد لجأت أسر عديدة لتربية الماعز الشامي المحسّن، أو الدواجن على أنواعها في منازلهم، وفي المدينة مدجنة للدّجاج البيّاض تربّي 10,000 طير. وهناك عدد من الأشخاص في المدينة يقومون بتربية النحل.
هذا ويقوم الأطباء البيطريّون ومساعدوهم وموظّفو الوحدة الإرشادية الزراعية بزيارات منزلية دورية لمربّي تلك المواشي من أبقار وخيول وماعز ودواجن للإشراف، ولتفقد صحّة سائر الحيوانات المنزلية وتقديم اللقاحات المجانية والإرشاد المناسب.

المرافق العامّة
تقوم على خدمة المدينة وسكانها مجموعة من المرافق العامة أبرزها:
دائرة البلديّة: التي تهتم بمسائل تنظيم العمران وفق مخطط تنظيمي يغطي المدينة الأثرية القديمة، كما تعتني البلدية بتلبية احتياجات التوسّع العمراني المتنامي، وإصدار رخص البناء وشقّ الشوارع، وسفلتتها، وصيانة الشوارع القديمة، ورعاية نظافة الشوارع التي يبلغ مجمل أطوالها 70 كيلومتراً، وجملة ما يخص المدينة بشكل عام، ومتابعة عملية ربط منازل الأهالي بشبكة الصرف الصحي التي تخدّم 40% من مجمل منازل المدينة فقط، ورعاية الحديقتين العامتين اللتين تبلغ مساحة الواحدة منهما دونماً واحداً على المخطط التنظيمي للمدينة.
ومن ضمن اهتمامات البلدية، التعاون مع دائرة الأحراج في حماية الأشجار الحرجية الواقعة ضمن أراضي قنوات، ومراقبة حسن توزيع المواد التموينية من خلال صالة بيع المواد الاستهلاكية.
المدارس: التعليم في المدينة بجملته تعليم حكومي مجّانيّ، تديره الدولة التي تقوم بإمداد المدارس بوسائل التدفئة من مدافئ ومازوت في فصل الشتاء. وفي قنوات 5 مدارس إبتدائية ــ تعليم مختلط ــ

خارطة-محافظة-السويداء-وتبدو-قنوات
خارطة-محافظة-السويداء-وتبدو-قنوات

” الشيخ التقي إبراهيم الهجري كان شيخ مشايخ الجبل اشتهر بعلمه الواسع وحكمته وقد عمل الموحدون بمشورته في حربهم ضد حملات ابراهيـم باشا “

مشكلة سدّ الفطم

في أواخر القرن الماضي أنشأت الدولة سداً يقع في الجهة الشمالية الغربية من قنوات، حمل اسم سد الفطم، نسبة للأرض التي شيّد عليها، وكان من المتوقّع لذلك السد أن يخزن نحو 7 ملايين م3.
لكن بعد إنشاء السدّ تبيّن أن نفوذية التربة في أرضيته أفشلت المشروع الذي كان مقدّراً له أن يرفع مستوى الزراعة في قنوات، ويساهم في إنتاج وفير يمكن استثماره في مجال تصنيع المنتجات الزراعية.
يعتقد بعض مهندسي المياه مع ذلك أنه من الممكن تدارك الخسارة، وإعادة تأهيل السد من خلال تزويد أرضيّته بما يدعوه المختصّون بسجّادة غضارية كتيمة أو بإجراءات هندسية مناسبة لإعادة الحياة إلى ذلك المشروع الذي لايزال بحكم الميت، بعد كل ما أنفق عليه من أموال ومجهودات.

ومدرسة إعدادية، وفي المدينة مدرسة ثانويّة عامّة ومدرسة فنية نسوية و4 روضات أطفال. ومما يجدر ذكره أن التعليم في قنوات هو تعليم مجّانيّ عام تديره الدولة، باستثناء مدرسة الشمس الخاصة. وهناك روضة أطفال تشرف عليها تابعة لمنظّمة الاتحاد النسائي في السويداء مركزالمحافظة ومن ضمن اهتماماتها، وتضم الروضة ما بين 80 إلى مئة طفل وطفلة. وتتواصل الناشطة في الوحدة النسائية، راغدة أيوب مع 230 أسرة في قنوات، حيث تقام دورات كومبيوتر مسائية للراغبات، ونشاطات تدريبية على كيفية صناعة الصابون ودورات تنجيد للمفروشات، وتطريز المناديل النسائية، ودورات إسعاف أوّلي للمرضى والجرحى في مجال الدفاع المدني.
الوحدة الإرشادية الزراعية: تقوم الوحدة الإرشادية في قنوات بمهام فنّية هامة لدعم الزراعة وتربية الحيوان في قنوات، وعدد موظّفيها 18 موظّفاً وموظّفة يتقاضون رواتبهم من وزارة الزراعة. منهم 7 رجال، 4 منهم مهندسون زراعيّون، وبيطري واحد، وثلاثة مراقبين زراعيين. أما النساء فعددهن 11 منهنّ 4 مهندسات زراعيات، والأخريات موظّفات في ملاك الوحدة إلإرشادية، ويتضمّن بناء الوحدة الإرشادية قاعة محاضرات للتثقيف الزراعي تتّسع لـ40 مشاركاً.
هذا وتقوم هذه الدائرة بعمل ميداني هام لتطوير عمل وإنتاج المرأة الريفية مثل التدريب على تصنيع الشامبو وسوائل الجلي وصناعة الطحينة، والاستثمار الأمثل للحديقة المنزلية، وزراعة الخضار، وإقامة دورات تدريبية لتعليم النساء مهنة قص الشعر النسائية «الكوافير».
المركز الثقافي: خُصّصت للمركز الثقافي في قنوات دار مساحة بنائها 120 متراً مربّعاً تحتوي على قاعة محاضرات ومطالعة وعرض سينمائي تتسع لـ100 كرسي، الى جانب غرفتين للإدارة والموظفين ومرافق خدمة تقع ضمن المنطقة الأثرية من المدينة القديمة. وعدد موظفي المركز ستة من الذكور والإناث، ورئيسه الأستاذ حمد شكر زين الدين. ومن الدوائر الرسمية في قنوات، مركز الهاتف ومكتب للبريد وشعبة للآثار.
المركز الصحي : ويدعى بـ»مركز الدكتور شفيق أبو سعد الصحّي»، وهو عبارة عن بناء حديث متقن بطابقين، مساحة كل منهما 160م2، وقد تبرّع ببنائه شقيق الدكتور المتوفّى.
يضم المركز الصحّي ثلاثين موظّفاً وموظّفة من المختصّين في شؤون الصحة، رئيس المركز طبيب عام، وفيه عيادة نسائية، وعيادة أسنان مجانية ويتم تحويل المرضى عند اللزوم إلى مشفى السويداء، ويتضمّن المركز مخبراً لتحاليل الدم والبول وصالة للمحاضرات للتثقيف الصّحّي تتسع لـ 20 كرسيّاً.
صالة بيع المواد التموينية: ويتولى المسؤول عنها بيع المواد الاستهلاكية بأسعار مدعومة، وهذا مع الأخذ في الاعتبار عدم استقرار الأسعار في الظروف الحالية التي تمر بها سوريا، لكن أسعار الصالة تبقى أرخص كثيراً من سعر السوق وأرحم للمواطن العادي، هذا بالطبع عند توفّر المادة المطلوبة فيها.
جمعية قنوات الخيرية: تأسّست الجمعية الخيرية في قنوات سنة 2004، ويرأسها السيد أبو شكري فوّاز جزّان، وهي تقدّم خدمات للفقراء والمحتاجين، وتساعد في تعليم الطلاب المعوزين، كما تقدم المعونات العينية للأسر الفقيرة.
دور العبادة والأوقاف: في قنوات مجلسان للموحّدين، واحد لآل الهجري، ومن معهم، وآخر لآل جّزان ومن في جماعتهم، وهذا التوزيع لا يدل على انقسام اجتماعي في الوقت الحالي، وإنما هو نتيجة لظروف اجتماعية تجاوزها أهالي قنوات ومضى عليها الزمن.
أما أوقاف المدينة، فتتألف من تبرّعات المواطنين، والمدفوعات الطوعية عن أرواح المتوفّين، والزيارات والنذور، والتقدمات للضريح في مقام الشيخ الهجري. وتنفق الأموال لترميم المجالس وموقف بيت المدينة وبيت الجنازة للنساء، والموقف العام حيث يتم تشييع الجنائز تبلغ مساحته 525 م2، وهو عبارة عن بناء مدرّج مسقوف، وقد خصص له موظّف لصيانته، وينفق الباقي على الفقراء والمساكين.

قنوات الأثرية متحف الأزمنة
لم يصلنا من كنوزها إلا القليل

بقايا-الكنيسة-الشرقية
بقايا-الكنيسة-الشرقية

تعرضت آثار قنوات الغنية والمتنوعة لصروف الدهور، إذ عبثت بها أيدي البشر جيلاً بعد جيل عندما لم يكن الكثير يعرف عن أهمية الآثار، وكان الناس في المقابل فقراء ولا تتوافر لهم وسائل قطع الأحجار التي نمتلكها اليوم. وقد كان أسهل لذلك نقل أحجار القلاع والآثار القديمة من مكانها واستخدامها في شتى الأمور بما في ذلك رصف بعض الطرق أو الساحات. وقنوات ليست استثناء على تلك القاعدة لكن ربما بسبب حماية الشيخ فارس حميد لآثار قنوات أو ما كان قد تبقى منها في زمانه، فإننا نجد اليوم بضعاً منها مما يرتدي أهمية تاريخية وأثرية كبيرة، ومن هذه:
1. السرايا: وتشمل أطلالاً لأبنية دينية عدة هامة بنيت على آثار بعضها البعض، إذ تعود إلى عصور متعاقبة، وهذه هي أوسع آثار المدينة، وأكثرها إثارة للسائح والدارس معاً، وإلى الغرب من السرايا تمتد ساحة واسعة مبلّطة بالبلاط البازلتي تتّصل بأبواب المدينة، ومن الراجح أنها كانت تشكّل السوق التجارية لمدينة مزدهرة كانت تقع على الطريق إلى كعبة سيع المجاورة لها، بالإضافة إلى ما احتوت عليه قنوات من موقع إداري في تلك العهود، ومعابد آرامية نبطية، وإغريقية ورومانية ووثنية ومسيحية بيزنطية… فالمعبد الروماني العائد للقرن الثاني الميلادي، أقيمت فيه كنيسة مسيحية في القرن الرابع للميلاد، ولكن باتجاهات تعاكس اتّجاهاته، ثم بنيت كنيسة أُخرى في ما بعد تعود الى أواخر القرن الرابع أو الخامس في الجهة الخلفية مع قاعة أماميّة، وقاعة استقبال كبرى، ويقع مدخل هذا المجمّع الديني الكبير في الواجهة الغربية التي تطلّ على الساحة العامّة، وما زالت الواجهة الغربية محافظة على ارتفاعها الأصلي كما كانت عليه الحال في العصور القديمة.
2. خزّان المياه: أبعاده 17× 14,5 متراً بعمق 7م، ولا يزال بحالة جيّدة، غير أنه افتقد الملاط الذي كان يساعد على الاحتفاظ بمياهه، ولابد أن ذلك حدث بفعل تطاول القرون، ويقع في الجهة الجنوبية الغربية من السرايا، ولا تزال القناطر الضخمة القوية على حالها، لكن البلاطات المنحوتة ــ الرّبد ــ التي كانت تشكل سقف الخزان قد زال معظمها بفعل عدم وجود حماية للآثار في الماضي. أما إمداد الخزان بالماء فقد كان يتم من مياه الوادي الجارية من جهة الجنوب من سيع، ومنه يتم سحب الماء إلى الحمّامات.
3. معبد الإله زوس: ويقع إلى الشرق من الخزان، ولم يبقَ من معبد زوس سوى المصطبة والزاوية الشمالية من الرواق الذي كان أمام بوابة مصلّى المعبد.
4. المسرح: وهو صغير الحجم بالقياس إلى تلك المسارح التي بقيت من ذلك العصر البعيد، ويرجّح أنه كان يستخدم للموسيقى، ويعود للقرون الأولى للميلاد، ولاتزال ماثلة منه للعيان، وبحالة جيدة 9 صفوف من مدرّجه، وعلى جدار الصف الأوّل من الدرجات تبرز كتابة تفيد أنّ»ماركوس أوليبس بن ليزيا بن إيكاروس قام بتشييد هذا الأوديون على شكل مسرح بكلفة 10000 قطعة نقدية بكل الشجاعة والسرور»، ويوجد مكان للجوقة على شكل نصف دائري 11,70×10,40م، مع أرضية لا تزال محتفظة ببلاطها من الحجر البازلتي المنحوت، وواجهة المنصة مزيّنة بمحاريب متعاقبة، والمدرّج مقسّم إلى ثلاثة قطاعات بدرجين في الوسط.

جانب-من-معبد-هيليوس-الروماني
جانب-من-معبد-هيليوس-الروماني

5. معبد آلهة المياه: وموقعه إلى الجنوب من المسرح، وهو بناء جميل مربّع الشكل، منحوت بشكل دقيق ومتماسك، تتدفّق المياه من حوله، وخاصة مياه الوادي، ويعود ذلك البناء إلى النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي، أيام كانت الديانات الوثنية هي السائدة.
6. الأبراج: ولعلّها شُيّدت لتكون مدافن، وتقع إلى الجنوب من معبد آلهة المياه، أحد هذه الأبراج مربّع والآخر مدوّر وهما بحالة جيّدة، وهذه المنشآت تقع خارج المدينة القديمة على الضفة الشرقية لوادي قنوات، أمّا على الضفّة الغربية الشديدة الانحدار للوادي فقد امتد فوقها سور المدينة ذو الأبراج المنيعة.
7. هيكل إله الشمس: ويظن أن من بناه هو هيرودس الأوّل (أغريبا)، ويقع خارج سور المدينة، إلى الشمال الغربي منها، وقد أصابه التهديم ولم يبقَ منه سوى المصطبة مع شفيرها المتقن، وفوقها أعمدة عدة ترتفع فوق قواعد عالية، ولعلّه كان بحالة أفضل ممّا هو عليه الآن سنة 1810م، عندما زار الرّحالة بيركهاردت قنوات.
8. البناء المربع: لعلّه كان مخصّصاً ليكون فندقاً للغرباء أو مضيفاً أو مدرسة، ويقع في الطرف الشرقي من المدينة، وهو عبارة عن قاعة على شكل المربّع، تقريباً، بنيت نحو سنة 124ــ 125م.
9. البيت الأثري: وهو بيت جميل مؤلّف من طابقين في وسطه فناء ــ ساحة داخلية ــ يحيط به رواق بارتفاع الطابقين، وقد وصفه الرحالة الذين سبق لهم أن زاروا المدينة بـ القصر، وهو بحالة جيّدة إلى حدّ ما.
10. المعبد: وهو ذو رواق أمامي، ويقع إلى الجهة الجنوبية الغربية من سرايا المدينة، وهذا المعبد متهدّم، لكنّ أطلاله بارزة، ومن الراجح أنه بني نحو نهاية القرن الثاني أو في مطلع القرن الثالث الميلادي.
11. ملعب للرياضة: جوار السور الغربي للمدينة، ولا تزال أطلاله شاهدة، وكان يتضمّن مسارب للعَدْو والسباق.
12. بوابات المدينة القديمة: لم يبقَ منها سوى البوابة المقابلة للسرايا من الجهة الغربية.
13. السور: يمتد سور المدينة المنيع بأبعاد 400×350 متراً، فمازال من الممكن متابعة امتداده وتحديد الأبراج التي كانت تنتصب عليه، وملاحظة بوّاباته الحجرية التي لم يزل بعضها ماثلاً إلى يومنا هذا.

الشيخ ابراهيم الهجري الأوّل

مقام-المرحوم-الشيخ-إبراهيم-الهجري-ومشايخ-آل-الهجري-من-بعده
مقام-المرحوم-الشيخ-إبراهيم-الهجري-ومشايخ-آل-الهجري-من-بعده
ضريح-الشيخ-إبراهيم-الهجري
ضريح-الشيخ-إبراهيم-الهجري

يعتبر المرحوم الشيخ ابراهيم الهجري المؤسس الأول للرئاسة الروحية في جبل الدروز ، ولئن كان قد تبوّأ منصبه هذا برضى الشيخ الحمداني في بادئ الأمر، إلاّ أنّ الأمر اختلف في ما بعد، فالرئاسة الروحية أكثر التزاماً بالقيم من الزعامة الدنيوية. هنا اضطر الشيخ الهجري للارتحال إلى قنوات، ولكن خلال حملة ابراهيم باشا التي شكلت أخطر تهديد لوجود الموحدين الدروز الذين كانوا يعانون من قلّة العدد وضعف التسليح سيلعب الشيخ إبراهيم الهجري دورا حاسما في شد عزيمة المقاتلين وتوحيد صفوفهم في معركة صمود خطرة وغير متكافئة. وفي مقتطفات من نسخة منقولة عن قصة حرب اللجاة لكاتب مجهول من أهل التوحيد، كتبت عام 1840م بعد وفاة الشيخ ابراهيم الهجري بقليل، وأوردها الدكتور حسن أمين البعيني في كتابه “جبل العرب” تتضح المكانة العظيمة التي كان يحتلّها الشيخ ابراهيم الهجري كقائد روحي ومعنوي لبني معروف آنذاك، يقول الكاتب بلغته العامية البسيطة:” … فعند ذلك اجتمعت المشايخ والأعيان إلى محلّ الشيخ يحيى الحمدان ومن جملتهم فريد وقته والأوان ورئيس عصره وذلك الزمان الشيخ أبو حسين ابراهيم المغمد بالرحمة والرضوان ثم والبطل الهمام والأسد المقدام جناب شبلي آغا العريان. ولم يزالوا يتفاوضوا بذلك الحال والشان وصاروا يشددوا جميع الشبان، وجعلوا يحرضونا على الحرب والقتال كما جاء في محكم القرآن وخصوصاً الشيخ المذكور المغمد بالرحمة والرضوان فإنه لم يزل يشدد ويحرض الفوارس والشجعان ويقوّي البائس الجنان ويبشّر بالنصر والظفر مع السلام والأمان من القوم الخاسرين الخاسيين الأغنام…”.
بعد وفاة الشيخ ابراهيم عام 1840خلفه ابنه الشيخ حسين، وبهذا أصبحت الرئاسة الروحية في الجبل متوارثة في أسرة مرموقة بخلاف ماهي عليه الحال لدى إخوانهم في جبل لبنان، ولعل مبعث هذا عائد إلى التركيبة العشائرية في الجبل، وإلى التهديدات الخارجية لوجود الموحّدين في الجبل والتي كانت تفرض عليهم تضييق أبواب الخلافات بينهم إلى أضيق الحدود، وهو ما كان يمكن أن ينشب بسهولة في ما لو طرح موضوع المشيخة على أساس الانتخاب والمنافسة بين مرشحين. بعد وفاة الشيخ حسين عام 1880،جاء بعده ابنه الشيخ حسن…

مزار الشيخ حسن الهجري في بلدة الرحيبة
كانت أيام بني معروف في الجبل أكثر اضطراباً على زمان الشيخ حسن الهجري، فعلى أثر سلسلة من المعارك ضد القوات العثمانية، قام العثمانيون نحو عام 1896م، بتهجير أعداد من الأسر البارزة من الموحّدين، ومن رجالهم المميّزين، وكان من بينهم الشيخ حسن الهجري الذي نفي مع عدد من أهالي قنوات إلى الأناضول، وبعد أربع سنوات من التهجير القسري تمكن الشيخ حسن وآخرون من إخوانه من الهروب من منفاهم، كانوا يسيرون ليلاً ويكمنون نهاراً، ويتجاوزون ما يواجههم من المخاوف والأخطار في ذلك الزمن العثماني المظلم.
كانوا يعبرون في طرق البادية مبتعدين شرقاً عن الطريق الرئيسة بين الشام والأناضول، تلك الطريق التي يسيطر عليها العثمانيون، لكن الشيخ الهجري وقد أنهكته مشاق الطريق واعتلال صحته توفّي في قرية الرحيبة إلى الشمال الشرقي من دمشق عام 1898، ودفن هناك بترحيب من أهل قرية الرحيبة الذين رفضوا أن يُنقل جثمانه إلى قنوات تبرّكاً بمقام ضريحه في ديارهم، ولم يزل مدفنه مزاراً قائما يتبرك به المؤمنون. ولا زالت شجرة هذه العائلة الكريمة تزهر وتثمر بالرجال الكبار ً.

قصة رضا

قصّــــــة رضـــا
عاشق النّاي زارع الفرح والحب.

في فولكلور كل شعب، تظهر بين الحين والآخر شخصيات فريدة سرعان ما يجد فيها الجميع تعبيراً حياً وخلاقاً عن ميزات الجماعة وثقافتها وخصالها. غالباً ما يكون في رأس تلك التعبيرات أشخاص بسطاء بلا أطماع ولا أوهام، لكن مع قلوب مضطرمة بحب الخلق والرغبة في العطاء. إحدى تلك الشخصيات التي اشتهرت في منطقة راشيا وما زال الناس يتداولون اسمها بكثير من الحنين والتأمل هي شخصية رضا، تاجر الكشة وعاشق الناي أو البنجيرة لم تفارقه حتى فارقها. وقد اشتهر أمر رضا ليس فقط بسبب خصاله الرقيقة وبشاشته الدائمة وأدبه وتواضعه ومحبته للناس، وخصوصاً الأطفال، بل بسبب حياته التي قضى قسماً كبيراً منها في التجوال بين القرى أو في الحضور مع كشته إلى سوق الاربعاء ليصبح في وقت قصير نجم ذلك السوق، حتى لم يعد يتصور السوق من دون رضا وأنغام شبابته العذبة.
تزوج رضا وبنى أسرة كريمة لكنه لم يكن في حياته طامعاً في الثروة، فقد اختار في سره طريقة عيش أحبها هي العيش بين الناس، مثل الرعاة الذين كانت ترافقهم أيضاً شبابتهم وتساعدهم على تمضية نهار الترحال الدائم بين القمم والأودية، كانت شبابة رضا رفيقة يومه لكنها كانت لغة الحب والعذوبة التي كان يخاطب بها محيطه. لم يكن كثير الكلام بل كان غالباً يميل إلى الصمت البشوش كأنه يخفي سراً، وكان أكثر كلامه أنغاماً شجية تحرّك القلوب وتبعث الفرح في قلوب الناس.
مؤكد أن الشبابة وأنغامها وتوزيع المحبة والإلفة بين الناس كانت هي محور حياته، أما العمل وبيع الكشة وغيرها فلم تكن إلا أمراً ثانوياً يجنبه مشقة العوز، بل ربما كانت وسيلته لكي يبقى على تماس دائم مع الناس. وبهذا فقد كان رضا ولا شك ظاهرة فريدة في زمن فقدت فيه الإلفة وطغت الفردية وضعفت المروءة. فكان بذلك بقية من عصر مضى أكثر من كونه منتمياً إلى زماننا المضطرب.
الضحى

كثيرون اليوم في منطقة راشيا يتذكرون كلماته القليلة التي لا تنسى: “العوافي..كيفكن” و..” شو بنا نعطيكن اليوم”، كان أديباً حتى في عرض بضاعته البسيطة، خفيف الظل، متكلاً في رزقه على استجابة الناس ومحبتهم وليس على السؤال أو الشطارة في البيع أو الإلحاح. أما وقد غاب عنهم قبل أن يبلغ سن الكهولة فقد ترك ذلك ولا شك فراغاً في الأماكن التي اعتاد أن يظهر فيها، من سوق الأربعاء إلى شوارع القرى إلى مداخل البيوت التي كان يطرق أبوابها بألحان شبابته قبل أن يعرض على الأصحاب والمعارف من بضاعته البسيطة. فمن هو عاشق الناي هذا وزارع الحب الذي كانوا يدعونه بإسمه الأول تحبباً: رضا؟
ولد في بلدة العقبة قضاء راشيا في منتصف ثلاثينات القرن الماضي، وعاش طفولته الأولى كسائر أطفال القرن المنصرم يساعد والديه في الزراعة لتأمين حاجات المنزل وأود الأسرة. كان الطفل الأصغر في العائلة لكن بدا منذ سنه المبكرة أنه ليس كسائر أشقائه أو أقرانه من الأطفال، إذ كان دائم المرح وشغوفاً بالطبيعة لكنه محب ايضاً للناس، فكان يوزع أيامه بين الحقول والروابي أو في أزقة البلدة وحواريها.
بسبب حبه للإلفة والرفقة، فقد كان يقضي معظم أوقات طفولته مع رفاقه الذين كانوا غالباً ما يتأثرون بأفكاره السباقة التي كانت تبعد الملل وتجعلهم في حركة دائمة وبحث واختبارات. كان يذهب إلى الحقول ويعود بأغصانها يبريها سيوفاً ليمارس لعبة كانت تعرف بالابرة والصنارة، وكان إذا تسلل السأم إلى رفاقه جاء بفكرة جديدة ولعبة جديدة يوزع أدوارها على أترابه.

حكاية القصب
ذهب مرة إلى ضفاف أحد الأنهار المجاورة ليعود ببعض القصب. أخذت الدهشة رفاقه وهم يرونه يأخذ قطعة من القصب ليحدث فيها ثقوباً بمسافات متساوية. وما هي إلا دقائق حتى بدأ يعزف على القصب يخرج منه الحاناً عذبة. بالنسبة لرفاقه الأولاد كان ذلك اختراعاً عجيباً لم يروا مثله من قبل. يومها لم يكن أحد ليدرك أن الشبّابة التي يصنعها رضا ستصبح رفيقة عمره وسوف تطبع مسيرة حياته لأنه كان بالفعل عاشق الشبابة أو عاشق الناي، كما سمّاه كثيرون.
أصبح رضا الفتى اليافع، الشخص الذي لا يستغنى عن وجوده في حفلات الزفاف، وكان قد أتقن فن العزف والانتقال من لحن الى آخر بأسلوب يشوق مستمعيه. وقد بلغت شهرة رضا حداً جعل أهل القرى جميعاً يقصدونه لإحياء حفلات الأعراس، وكان رضا بنخوته المعروفة وطيبة قلبه يندفع ساحباً شبابته من خصره من دون تكلف فيبادر الى العزف وبث النشوة والحماس في صدور الرجال والنسوة الذين يبدأون بالرقص ويصدحون بـ”الزلاغيط”.
فجأة، وعلى وقع أنغام الناي الساحرة مال إليه قلب فتاة أعجبت بخفة ظله وروحه المرحة ومال إليها، واجتمع أبناء القرية وعقدوا قرانهما في حفل زفاف جامع وعامر بمشاعر الفرح والعفوية. إذ كان أفراد القرية جميعاً يعتبرون رضا بمثابة ولدهم أو شقيقهم، ويرغبون برد جميل الفرح الذي يزرعه في قلوب الناس. وها هي عائلة رضا تكبر وقد أصبح له أولاد في عمر الشباب يشقون طريقهم في الحياة.
اتسعت الأسرة ومعها متطلبات الحياة . لم يهجر رضا شبابته لكنه اصطحبها إلى طريق الرزق الحلال عبر التجارة. لكن أي تجارة؟ لم يتخيل رضا نفسه جالساً في دكان أو محل، فقد كانت الحياة التي ألفها هي التجوال ومعاشرة الناس وبث الفرح في نفوسهم. لم يكن من النوع الذي يمكنه السكون أو القبول بحياة رتيبة، فقد كانت روحه الجياشة وأحاسيسه المرهفة تأنس بالطبيعة، كما تأنس بالناس، صغاراً وكباراً، لذلك لم يتردد في خياره. وهو أن يكون بائعاً متجولاً. فصنع لنفسه “كشة” يحملها على ظهره ويجوب بها القرى المجاورة، وقد جعل فيها أصنافاً كثيرة من التسالي التي يطلبها الناس. ولعلّ أكثر الأصناف التي حظيت بالإقبال كانت “الترمس”، فكان دخوله أياً من القرى يدفع الأطفال الى التراكض والتحلق حوله يتدافعون للحصول على هذه التسلية المغذية والمفيدة. وكان للترمس، الذي يبيعه رضا، طعم خاص لا يقوى أحد على مقاومته.

العوافي
إن لم يحالفه الحظ في بيع كل ما في كشته، كان رضا يقرع باب منزل، وكان من في الداخل يستبشرون عندما تكون الإجابة على سؤال: من الطارق؟ معزوفة موسيقية تصدح بها شبابته الشهيرة، وكان الجميع بالتالي يهبون إلى كشته ليأخذوا ما تبقى فيها، وكان هو بلباقته الشهيرة يخاطب الناس: “العوافي”، “ذقلنا هل ترمسات”، وكان يدفع في يدك ما تيسر من جعبته على سبيل المجاملة تاركاً لك القرار بالشراء.
كان رضا يقضي وقته متنقلاً من منزل الى آخر، ومن بلدة الى أخرى عارضاً بضاعته، وعندما يدركه التعب كان يمتطي “حماره” الأغبر ويضع على ظهره الخرج ثم يضع في كلا جانبيه بضاعته، وعندما يصل الى المكان أو القرية المنشودة كان الصبية يستقبلون زائرهم بالتصفيق ويبدأون بمناحرته حتى يُخرجوه عن صمته فيحاول هو بدوره مطاردتهم لإبعادهم لكن دون جدوى فيرضي شقاوتهم بما تيسر من “الخرج”، متذكراً أنه في يوم من الأيام كان هكذا فيأخذ المنجيرة عازفاً ومتابعاً المسير.
وبعد إنتهاء موسم الترمس لا يحار رضا بما يضع في كشته فتراه يملأها بنوع آخر يستهوي الكبار والصغار على حدٍ سواء، وهو “القضامي”، حيث يتم تحويل الحمص الى أنواع مختلفة من القضامي الصفراء أو المالحة وما الى ذلك، وتراه مع كل سلعة يتكيّف ويعوّد الناس على البديل، لكن الإسلوب لا يتبدل مهما تبدّلت السلع، وعفوية رضا لا تتغيّر وإبتسامته الساحرة تبقى هي هي . وإذا إفتقدته يوماً فسوف تجده في سوق الأربعاء الذي يؤمه ابناء المنطقة، منهم من يعرض بضاعته ومنهم من يبتاع حاجاته، لكن رضا هو دوماً العلامة الفارقة في هذا السوق الذي اصبح بسببه فعلاً تجربة ومسرحاً للأنغام ونشوة القلوب.

فرح يوم الأربعاء
كان يوم الأربعاء في مفكرة رضا يوم عزيز على قلبه، يترقبه بشوق فيستيقظ له باكراً ليحلق ذقنه ويرتدي ثيابه ويضع كوفيته البيضاء على نغم طلعة ميجانا أو موال عاطفي. كان يوم الأربعاء بالنسبة له يوم عيد وكان رواد السوق عائلته الكبيرة، فكانت مشاعره لذلك تصل إلى ذروتها فعلاً، وهو يستعد لمغادرة المنزل باتجاه ذلك اللقاء الأسبوعي الحميم. حقيقة الأمر أن لكل فردٍ في المنطقة قصته مع رضا وعلاقة مودة خاصة به، وكان الباعة في السوق ينتظرون بفارغ الصبر قدوم رضا ويعرضون عليه الإغراءات لكي يجلس بالقرب منهم، وقد كان كثيرون باتوا على قناعة بأن وجوده يجلب لهم الحظ.
تلك كانت حياة رضا البسيطة لكن الزاخرة بنغم الروح وأمواج المحبة على إيقاع شبابته. وفي يوم توقفت شبابة رضا عن العزف، افتقد الناس أنغامها، كما افتقدوا رضا الذي كان بلغ السبعين من عمره. علموا يقيناً أن شيئاً ما فادحاً قد حصل، وأن الرجل الباش المحب الرقيق المشاعر خرج من السوق ومن هذه الدنيا إلى ميدان أرحب تاركاً شبابته إلى أهل بيته الذين يعرضونها باعتزاز مع صورته بالكوفية البيضاء المميزة في ركن عزيز من المنزل. ترى كيف استقبل أهل السماء عاشق الشبابة؟

عماد خير

العدد 9