الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الشّيخ العَلَم الوَرِع الديّان، أبو حسين محمود فرج

شجاعتُه في دينه وجرأتُه في يقينه

شجاعته في دينه وجرأته في يقينه إنّه لم يكن يساير ذوي السلطان فيما يغضب الرحمن.
فَصَحَّ فيه قول القائل:
وليتَ الذي بيني وبينك عامرٌ وبيني وبين العالمين خرابُ.

وكان شديد الخوف والحذر من حدوث شرٍّ ما بسببه وله واقعة مُهمّة أنه ترك عبَيه لمدَّة ثلاثة أشهر. كذلك كانت مهابته واحترامه لدى العقلاء والجُهلاء على السواء فسبحان من قدّر له الهيبة والاحترام في قلوب الناس.

لم يكتفِ رحمه الله بإصلاح طريقته، وتحسين سيرته الخاصة، بل أسرع لتلبية نداء صاحب الحق، إمام الخلق، سلام الله عليه، إذ فرض على نفسه القيام بحفظ الإخوان، الذي به اكتمال الإيمان، ولمّا كانت أصول المحافظة ستّة، وهي، محبَّة الإخوان، ومعونتهم، وإسداء الحسنات إليهم، وإفادتهم، والإصلاح بينهم، وقضاء حاجتهم، ولمّا كان القيام بهذه الفريضة، وما يتبعها من الفرائض الدينية التوحيدية، أصولها وفروعها، يقتضي التعاون الدائم بين الإخوان في جميع أمورهم، ويحتاج إلى معرفة الغاية الشريفة نادى رحمه الله إخوانه للاجتماع العام في الزيارات، ودعاهم للمذاكرة في دين الله ومعرفة الواجبات، والنهوض بالأمر والنهي لتحقيق المُفترضات.
وكان يريدها حسب نيّاته، المخلصة لوجه الله خالية من المقاصد السياسيَّة الدنيوية، مُقتصرة على الفوائد الدينية والعقلية ليرتقي بها الجمهور في المعارج التوحيدية، ويستنير بنورها في سبيله الروحاني بغير تكليف من الإخوان بنصرة أخيه الضعيف، ويسيران معاً في طريق الحق والنهج القويم، عملاً بالواجب المفروض وأملاً بعفو المولى الرحيم، وقد قيل، للمؤمن على أخيه المؤمن ثلاثون حقّاً، منها، إنّه يريد سلامته، ويُحسن مودَّته ويُديم نصيحته، ويقبل معذرته، ويقيل عثرته، ويستر عورته، ويحسن نصرته، ويقضي حاجته، ويرشده إلى ضالَّته، ويواليه، ولا يعاديه، ويحبّ له الخير كما يحبّه لنفسه، ويكره له الشرّ كما يكرهه لنفسه، رحم الله من عرف حقّ أخيه، ونهض لأدائه بإخلاص تام كما عرفه وأدَّاه دون أن يتلهَّى الإخوان بالولائم، إذ على الإنسان أن يأخذ ما يكفيه من الزاد، ثم ينصرف للإفادة والاستفادة الحقيقية، فذلك خيرٌ وأبقى، إذ قال تَعَالى (قد أفلح من تزكَّى، وأنْ لَيْسَ للإنسان إلّا ما سعى، وأنَّ سعيه سوف يُرى).

الزيارات السّنوية وتعدُّدُها ومواعيدُها

 

تقرّر تعدُّد الزيارات الدينية العامة كلّ سنة، مثل زيارة النبي شعيب عليه السلام في فلسطين، وجعل ميعادها في شهر نيسان، كما جعل ميعاد زيارة النبي أيوب (ع) في أواخر الصيف، وزيارة المقام الشريف (ع) في شمليخ في فصل الخريف، فيما بعد ثلاث زيارات، الأولى، لمقام النبي هابيل(ع) في جبل قاسيون بسوريا، والثانية لمقام سيدنا الأمير جمال الدين عبد الله التنوخي قدّس الله روحه (في عبيه) والثالثة، لخلوات البيّاضة الزاهرة، وكان الإقبال في تلك الزيارات شديداً.

مرحلةُ الشيخوخة وتركُه الدنيا وإقبالُه على الله بالكليَّة

 

قال أفلاطون الحكيم سلام الله عليه، في الإنسان، عقل، وهوى، وعفَّة، وشهوة، فالعقل ينهى الهوى، والهوى يقاتل العقل، والعفّة تنهى الشهوة، والشهوة تقاتل العفّة، والإنسان، مُسلَّط على مشيئته، فمن نصر العقل والعفة، على الهوى والشهوة، فقد أدرك الوطَر، وسَلِم من الخطر، ورقي إلى رتبة الإنسان، وظفر من الله بأمان وهذا هو الجهاد الأكبر، وبدا واضحاً بأن المرحوم الشيخ أبو حسين قد أمدَّه الله بمعونته، وأنار عقله بمعرفته، ووفَّقه لارتقاء الدرجات في طاعته، إذ استعمل في جميع أعماله العفَّة وَسَارَ في سبيلها، وملك بقوة إرادته زمام الشهوة فاضعف تأثيرها، وأخضع لمشيئته ببالغ عزيمته رغبته وهواه، وأوجب عليهما الانصياع، لِما أمر به العقل ونهى عنه، ولم يزل في رياضة نفسه الأبيَّة، وفطمها عن كثير من الملاذِّ الحسِّية، لتستزيد من صفاءِ النورانية، وقد أراد لمحض تقواه، التعفُّف عن الفضول، واكتفى في غذاء جسده بالضّروريات.

إذ قال تعالى «وأمَّا من خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى» وقال الشاعر:
ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ
وكلُّ نعيـــمٍ لا مـحـــــــالــــة زائِـــــــــلُ
وكلُّ امرئٍ يوماً سيعلمُ سـعيَـــــه
إذا كُشفت عند الإلهِ الحصائلُ

كان في أثناء كهولته وشبابه نادر المثال في ثباته، في كل أمرٍ تولّاه، في دينه ودنياه، وقد لبث على هذه الحال أكثر أيام شيخوخته، عاملاً نشيطاً ينسجُ في مهنته، عاكفاً على طاعة الله وعبادته، والإخوان الأطهار يتبارون في التشبه والاقتداء بورعه، وتقواه، ويتسابقون للتبرّك بكسوة أبدانهم ممَّا صنعته يداه.

ومن أقواله لولده حسين:
المرحوم الشيخ ابو حسين محمود فرج

 

«يجب على الإنسان أن يترك الدنيا قبل أن تتركه، ويتزوّد منها لآخرته قبل أن تُقْبِلَ عليه المنيَّة وتدركه، فقد صار عندي الآن فوق الثمانين، ومرَّ أمامي من العِظات والعِبَر ما فيه كفاية لكل موحِّدٍ ذي دين». وعندها تذكّر مُعتبراً الراحلين من إخوانه وَخُلاَّنِهِ الثُقات الصالحين وقد صدق من قال:

الــمــوْتُ أفْــنَــى مَــنْ مَضَــى
وَالــمــوْتُ يُفْني مَنْ بَقِي
وَالقبـــــــــر مَثْوًى جَامــــــــــعٌ
بَيْـــــــنَ المُنَعَّمِ وَالشّــــــــَقِي
يَا مُسْرِفًا فيمــــــا مَضَى
كُــنْ مُــحْسِنًا فِيمـــــــا بَقي
العِــــــــــزُّ فَـــــــــــــانٍ زَائـــــــــــِلٌ
وَنِعْــــــــمَ عُــقْـــــــبَى المُتَّقي

ولمّا كان المرحوم الشيخ لا يقول قولاً باللسان، إلّا بعد أن يعقد عليه ضميره والجنان، عازماً على إخراجه إلى الفعل والعيان، عندئذ، أقبل على ما في يده من مال، جمعه بجدّهِ ونشاطهِ من الرزق الحلال، فَوزّع منه الصدقات، وبذل الحسنات، وأقرض بقيته لذوي الحاجات، وانسلخ مُختاراً عن دنياه، مقبلاً على طاعة مولاه، جبّار الأرض والسماوات، وَجَعَلَ دأبه تلاوة الكتاب العزيز آناء الليل وأطراف النهار، ولسانه لا يفتُر إلّا قليلاً عن التسبيح والتقديس لله الواحد القهار، ودام على هذا النمط الشريف بقية عمره.
وقصده بذلك واضح وجلي نلخصه:
تهذيب الأخلاق واستشعار الخلّاق، والاهتمام الكلِّي في إصلاح النفس الجوهرية الخالدة، والانصراف التام عن الأعراض الزائلة البائدة، لأن المعرفة الحقيقية تفرض على صاحبها الإدبار بقلبه عن هذه الدنيا الدنيّة، والإقبال بكليَّة جهده على طلب الآخرة الأبدية، قال تعالى: «تلك الدار الآخرة نجعلها للَّذين لا يريدون علوَّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمُتَّقين».

وَفَاتُهُ رَحِمَهُ الله

 

ولم تزل الأيام تمرُّ مسرعةً، تُدْني، بسيرِها الآجال، وتفني الأجيال، وتُظهر الحكمة والعظمة والقدرة لله العلي المتعال، إلى أن حضر اليوم الذي أراد الوادع الحكيم أن يستردَّ فيه وديعته، وذلك نهار الاثنين الواقع فيه 17 ربيع – الأول سنة (1373) للهجرة الموافق (23) تشرين الثاني سنة (1953) للميلاد.

في مُلحق أُضيف لسيرة سيّدنا الشّيخ أبو حسين محمود فرج الفاضلة يذكرُ حفيده المرحوم الشّيخ أبو عفيف محمد فرج مجموعة من مناقبه أُثْبِتَت على أَلسُن مُعاصريه.

تدقيقُه في اللّفظ الصَّادِرِ عنهُ والوارد إليه

امتاز سَيّدُنَا الشَّيخُ عَلَى أهْلِ عصْرهِ بدقة لفظه وبالغ صِدْقِه بما لا صارَ بمثْلِهَا من سِواهُ، ولا لاقَ لِمَنْ حاول تقليدَهُ، بل غدا مَضَرِبًا للمِثَالِ، حتى عِنْدَ عَامَّةِ النَّاسِ وَعِنْدَ مَنْ يَعْرِفُهُ أو يسمعُ بهِ من الطوائفِ الأخرى.
اقتصرنا على تقديم أمثلة يُنتَفع بها وتدُلُّ على غيرها.
مرّةً قصد أحد الإخوان أن يُطعِمَهُ بُرتُقَالَةً قائلاً لهُ « قشِّرْ ها الليمونة « فقشّرها وأرجعها لهُ. فأوضح لهُ الأخُ أنَّ قصْدَهُ ليقشِّرَها ويأكُلَهَا. فأجابهُ مُذَكِّرًا: « قلْتِلّي قَشِّرْها…»
فنراهُ لا يُرَخِّصُ لنفسه بما يُسْتَدَلُّ عليه من مقاصِدِ الغيرِ مَا لَمْ توضَع هذه المقاصد في قوالِبِهَا وَيَتَّضِحُ ظَاهِرُهَا عَلَى الكمالِ. بينما نَرَاهُ يقومُ بتأديةِ ما هَجَسَ في قلبِهِ وَنَوَاهُ، وَلَوْ لَم تَتَبَلْوَرْ خَلَجاتُهُ عبر الأقوال. فإذاً، ما كان منه للغير حقَّقه وأدَّاهُ مُتبنِّيًا السِّرَّ وَالْمَعْنَى، وَمَا كَانَ لَهُ مِنَ الْغَيْرَ تَلَقَّاه بِحَسَبِ وُضُوحِ اللَّفظِ والمبْنَى.
وفي أحد الأحاييْنِ كانَ مَارًّا على طريقٍ، دَعَاهُ بَعْضُهُمْ إِلَى تَنَاوُلِ تِيْنٍ كانَ يحمِلُهُ مَعَهُ في سَلَّةٍ. فَسَاَلَ رَحِمَهُ اللهُ إنْ كَانَ التِّيْنُ لهُ فأَجَابَ إنَّهُ لِبَيْتِ عَمِّهِ. فَلَمْ يَتَنَاوَلْ شيئًا مِنْ ذَلِكَ.

نُبَذٌ مِن وَرَعِهِ

كانَ لأُسرةٍ من آل الخازن من نصارى بلدة «اعْبيه» مَمَرٌّ إلى منزلهم في جَلٍّ في أحد الأملاك التي يحقّ لسيدنا المرحوم استثمارُها وفي إحدى مواسِمِ زرْعِ القمح كلَّف مَنْ يَعْرِفُ حدودَ الأرض ليقوم بزرعها. وعندما آن حصادُها رأى أنَّ الجَلّ قد زُرِع بكامله ولم يُستثْنَ الممرُّ. أوْقَفَ الشيخُ الحَصاد ريثما يواجه صاحبة المنزل، التي كان قد مَاتَ زوجُهَا وكانوا يقطنون غالب وقتهم في المدينة. فطلب إلى شقيقته التي كانت تسكن بجوار منزلها أن تُعْلِمهُ حَال حضورها. وفي يوم من أيَّام الآحادِ أتَتِ المرَأةُ إلى البلدةِ، فواجَهها مع شقيقتهِ وطلب إليها أن تحصُدَ من الجلّ المساحة التي تختارُها، فأبَتْ بادِئَ الأمر كونَهَا لم تُساهم في كُلفةِ الزَّرع. أصرَّ المرحوم على ذلك طالباً من شقيقتِهِ إقناعَهَا وإلّا فسيترُكُ حَصَادَ الجَلِّ بكامِلِهِ. وبعد الحوار رَضَخَتْ السيّدة للأمر الواقع، وصارت تُخْبِرُ العديد من معارفها وأصدقاءهَا، وهي مُعَجَبةٌ وذاهِلةٌ من معامَلتِهِ.
وكان فَلاَّحٌ مِنَ الإخوان يحرُثُ لِسَيِّدِنَا المرحوم حقلَهُ وبرفقتهِ ولدُهُ القاصرُ. عندما حان وقت الغداء أتى الولدُ ببعض ما قطفه من الفول الأخضر من ذلك الحقل، ووضعه أمامهمْ وَدَعَاهُم للأكل مِنْهُ، وصارَ ووالدهُ يُطَمْئِنانِ سيِّدنا المرحوم أنَّ الفول من حقله. لم يكن معه رحمهُ الله سوى الزيتونِ والخبز، فأبى ذلك. وذهب وقطفَ من هذا الصِّنفِ بيدِهِ الطاهرةِ الكريمةِ ليضيفَهُ إلى طَعَامه ودعاهُما إليهِ مُجدَّدًا، ولم يسمح لنفسهِ العفيفةِ تناوُلَ شيءٍ من الفول المقطوفِ دونَ علم صاحبه واستئذانِهِ ولو كان هو الصاحب بالذَّات، مُعتبراً أنَّ الوسيلة التي استُعْمِلَتْ في قطفِ الفول مُنَافيةً للحقِّ والدِّينِ.. ويكون بهذا التعامل قد أعطى درْسًا غير مُباشرٍ بكيفيّة سلوك الطريق السليم الدَّاعيةِ لبراءَةِ الذِّمَّة وإثباتِ الحلال.

لُطفُهُ في التَّعليم

وبينما كان رحمُهُ الله سائراً مع جملةٍ من الإخوان، مَرُّوا بمكان حوى الكثير من الأشجار المقطوعة للاحْتطاب. فقال أحدُهُمْ: «يَا بارَك الله، ها الحطب كلوُّ سنديان»، فسمعه سَيِّدُنَا الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ وأشار بعصاه إلى حطبةٍ وسأله بتأنٍّ وَهُدُوءٍ: «شُوْ هَيْ»؟ فأجابَ الأخ «مَلوُّلْ»، وَبَعْدَ قليلٍ، وهُم في سيرهم دَلَّ إلى أخرى وسألَهُ: «شُوْ هَيْ»؟ فأجاب: «بُطْم» وكان هذا الأخ يرويها عن نفسه ويقول، بنبرته القوية: «وبَسْ»…. يعني، كانت هذه ملاحظة المرحوم ليس إلّا.
هكذا كانت اشاراته وملاحظاته رَحِمَهُ اللهُ بلطافةٍ وخفةٍ ولباقةٍ… كانت أشبهَ بالإيماء منها إلى التّصريح، لأنّ قصده بالتعليم لم يكن لأجلِ الانتقاد وإظهار المعرفة، بل كان بإخوانه رفيقاً وعليهم شفيقاً.

أمَّا في دقّةِ إشارته وحسن معاملتهِ، التي تُنْبِئُ عنْ لطافَةِ جوهريَّته، وسلامة نهجه، نسمع أنَّهُ حصل بين اثنين من الإخوان خلافٌ على أمرٍ ما، ذهب بعده أحدُهُمَا إلى منزل سَيِّدِنَا الشيخ مُشتكيًا ومُبَرِّئًا نفسَه ليثبتَ تعدِّي الآخر. وبعد مُدّةٍ اتّفق أن طرق مسامع بعض الإخوان هذا النَّبأ. فقصد إلى الأخ المُشتكىَ عليه وأخبرَهُ بما عَلِمَ، وَحَثَّهُ عَلىَ توضيح حَقِيْقَةِ الأمْرِ لشيخنا البصير رَحِمَهُ اللهُ، ورافقه هو أيضاً على هذه النيّة. بعد وصولهما بقليل طلب سيِّدنا المرحوم مِنْ هذا الأخ أن يقرأ له بعضَ وصايا لُقْمان الحكيم سلام اللهِ عليهِ، وكان رحمهُ اللهُ في سِنٍّ مُتَقَدِّمٍ وقد تأخَّرَتْ صِحَّتُهُ بعض الشّيءِ، فجلس مُتَّكِئًا يصغي إصغاءَ الأَلِبَّاءِ فما أن وصل الأخ في قراءته إلى القولِ: «يا بُنَيَّ، مَنْ عاملك بالقبيح فعامِلْهُ بالمليْح وكُلٌّ يلقى عملَه» حتَّى استَقَامَ مُسْتَقِيْمُ السَّجَايَا والْفَعَالِ، في جلسته وطلب منهُ إعادةَ قراءتِها، فأعَادَها، فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: «يا خَيّي؛ مَا قَالْ مَنْ عَامَلَك بالقبيح فاصْبِرْ عَلَيْهِ واكتفى، بل قال عامِلْه بالْمَليح» وَكَانَ هذا التَّوضيحُ قَبَسًا عانقَ سلامةَ طَوْيَّةِ هذا الأخ الذي اكتفَى بِمَا سَمِعَ طَارِحًا إلْحَاحَ رُفَقَائِهِ في تَبْرِيرِ مَوْقفه.

يضاف الى ذلك، حرصُه على تأدية الفرائض وتمسُّكُه بما رسم السّلف الصالح، وموافقته لقضاء باريه والحقّ أحقّ أن يُتّبع. وامتناعه عن دخول الأماكن المحظورة، وابتعاده عن السياسة، وتساويه بإخوانه، ويريد لإخوانه كما يريد لنفسه واهتمامه بجمع الشمل وإحلال الصّفاء.

بعض الخصال

وكان رَحِمَه الله يريد الخير لإخوانه كما يريده لنفسه، ويلاحظ أحوالهم بالعناية والرعاية وَيُسْهِمُهُمْ بما قسم له المَولى من دينٍ ودُنيا. وإذا زاره إخوانٌ له، على غير ترقُّبٍ، من قرى بعيدة كـ «راشيّا وحاصبيّا مثلاً» أو من خارج البلاد، ولم يساعده الوقت على إنفاذ دعوة لبعض من يرغب حضورهم حتى يَحْضُر ويبصر المشايخ، كان يخصُّهم مع ضيوفه بزيارات تعوّض عليهم الحرمان. ومن عاداته رَحِمَهُ اللهُ أنّه كان يحافظ أشدّ المحافظة على توحيد الكلمة، ولَمِّ الشملِ، وحلول الصَّفاء في القلوب، قبل أن يُداخِلَهَا الكدرُ. وإذا أحسَّ بعكوراتٍ عند إخوانه يحاول إزالتها تمامًا، بأيَّةِ وسيلة، لتبقى النفوس قابلة لآثار العقل. وإذا تعرَّضَ الدّين لأيَّة مخالفة كان رحمه الله بلطافة معاملتِهِ، وصادق طَوِيَّته، وإخلاص محبَّته، وواسع حلمه وشفقته، يلقي عليه الملاحظة، والقصاص والمحاسبة، بمهابةٍ الوالد الصارم وهدْهَدَةِ الأمِّ الحنون، فتتمُّ المنفعة وينتشر شذاها، وتنطفئُ الفتنةُ ويندثِرُ أذاها. وكان رَحِمَهُ اللهُ طيّبًا حاذِقًا في وصف الدواءِ، وعالمًا ماهرًا في معرفة الأدواء، ومراقباً باسلاً في دفع السيِّئاتِ، لا يحسُدُ الأخيارَ، ولا يعيبُ الأشرارَ، رضَاهُ في الباطِل، ولا يُخرجُهُ غضبهُ -إذا غضبَ- عَن الحقِّ، مُطاوعًا لإخوانِهِ، غيرَ مُعْتمد على التَّفرُّد برأيِهِ وتبيَانِهِ قَالِيًا للمنازعاتِ، جاليًا للغيوم التّهماتِ، مُذْعِنًا للحَقِّ أينما كان موطِّدًا لهُ بالدلائلِ والبُرْهَانِ، مُتَرَفِعًّا عن الميل لأقرانٍ دُونَ أقرانٍ، مُحاسِبًا نفسَهُ قَبْلَ أنْ يُحاسَبَ، مُؤَدِّيًا الأمانة قبل أن يُطالَبَ، خاشِعًا لأمرِ مَوْلاهُ قبْلَ أنْ يُعَاتَبَ، طائعاً لهُ فَلَمْ يُغَالَبْ.

إنَّ النصّ المنشور في العدد السابق لمجلّة «» (كانون الثاني 2020) تحت عنوان: «الشيخ العلَم الورع الديَّان أبو حسين محمود فرج»، فضلا عن الجزء الثاني المنشور في العدد الحالي هما في الأصل مُنتخَبان من كتاب «الشَّيخ أبو حسين محمود فرج، سيرته الفاضلة» الصادر في طبعته الأولى في عبيه، عام 1956 م. وفي طبعة ثانية مزيدة عام 1982 م. وكان قد كتبه نجلُه الشيخ المرحوم أبو محمّد حسين فرج. وإضافة حفيده المرحوم الشيخ أبو عفيف محمد فرج.

والنيَّةُ أن يتمَّ إلحاق هذا الموضُوع بسيرةِ مشايخ أفاضل ممن رافقوا الشيخ الكريم، وذلك في إطار استحضار صفحات من تراث أثيل شريف في آداب الدِّين ومسالكه.

.

.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي