الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الزّراعاتُ والكِفايةُ المنزليّة

 

في النّصف الثاني من القرن الماضي، بدأت زراعةُ الخضار التي كانت محصورة في مساحات قليلة تتطوّر وتزدهر حتى أصبحت مصدراً أساسيًّا في حقل الإنتاج الزراعي وتدرّ مالاً وفيراً للمزارعين الذين أتقنوا هذا العمل من تأصيل للبذار والنبات وتحديد موعد الزرع مع ممارسة الدورة الزراعية وذلك بفضل التقنيّات الحديثة المتطورة التي تعتمدها هذه الزراعات وصولاً إلى المستوى الجيّد في الإنتاج.
ومن خلال اكتشاف نباتات مرغوبة من قبل المستهلك اللبناني وحملها خصائص وراثيّة جيّدة ومتطورة من حيث قدرتها على مقاومة الآفات الزراعية وجفاف التربة وتأقلمها مع جميع أنواعها، إضافة إلى قدرتها على إنتاج أكبر كميّة ممكنة من الثّمار والخضار الورقيّة والساقيّة مع مواصفات مميّزة للبذور والثّمار عن الأصناف السابقة، وكذلك من خلال تنظيم عملية التسميد الذوّاب وطرق الرّي والمكافحة العضويّة والكيميائية حسب الحاجة لمنع إتلاف المحصول، وبعدها يتم نشرها بين المزارعين في مختلف المناطق الزراعية. كما يمكن تصدير الكثير من هذه المنتجات للأسواق الخارجية إضافة إلى تصنيع المنتجات الغذائية خاصة الخضار التي لا تصلح للتسويق والاستهلاك الطازج.

لمّا كانت زراعة الخضار من أهم الزّراعات في لبنان والتي تعطي مردوداً ماديًّا وفيراً للمزارع خاصة إذا ما أتقن عمله واهتم بالمزروعات من حيث توقيت الزرع، وأنواع الأتربة، والمعاملة، والمكافحة، والري، والتغذية، والقطاف ثم التوضيب، والبيع، والتصنيع… فإنّ زراعة الخضار تلعب دوراً أساسيًّا في الاقتصاد اللبناني وخاصة على صعيد زراعة الخضار الموسمية السريعة الإنتاج التي تعطي إنتاجها في وقت قصير لا يتجاوز ستة أشهر، نتكلّم هنا على زراعة الأراضي أو المساحات الصغيرة، وغالباً ما تُستخدم هذه الزراعة في حدائق المنازل أو في الحقول الجبليّة الصغيرة المساحة ممَّا يزيد من أهمية التوسّع في زراعة الخضار وزيادة إنتاجها وتحقيق عائدٍ سريعٍ من المال، أو توفير المصاريف التي تُنفق على شراء الخضار التي يعلم المزارع مستوى نوعيّتها وجوتها.
ومن المهمّ جدًّا أنْ يلجأ الإنسان إلى زراعة وتأمين حاجاته اليومية من الخضار التي يستهلكها بشكل أساسي في غذائه، من خلال زراعة حدائق وشرفات وأسطح المنازل بواسطة الكثير من الأواني مثل الأُصص والصناديق الخشبية والأكياس… كما هو وارد في الصور المرفقة.

تنمو الخضار بشكل عام في جميع الأتربة لكنّها تفضّل وتنمو جيّداً في الأراضي التي تحوي أتربة مُختلطة وعميقة ومفكّكة وخصبة (أي غنيّة بالمواد الغذائية) والجيّدة الصرف للمياه الزائد.

مواعيدُ الزرع: تختلف حسب أنواع الخضار وإلى أي مجموعة تنتمي فمنها ينتمي إلى مجموعة الخضار الشتوية وأخرى إلى الربيعية أو الصيفية أو الخريفية وإنّ ارتفاع مواقع الزّرع عن سطح البحر يحدد في الكثير من الأحيان نوع الخضار وتوقيت الزرع.
النّضج: لكل نوع من الخضار موعد خاص لمراحل النضج (حسب الاستهلاك وليس النضج النهائي وتكوين البذور) بمعنى آخر، في أي مرحلة من نمو النبات أو الثمار يُراد أكلها طازجة أو مطهيّة، وحسب الغاية من زراعته والأجزاء التي تؤكل (الأوراق، الدّرنات، الساق، الثمار، الأبصال، الأزهار، السّوق الهوائي والأرضية).

تُقسم نباتات الخضار إلى عدة مجموعات من حيث تشابه صفاتها في كل مجموعة معينة أو بعدة صفات. هذا يسهّل لنا دراسة أنواع النبات. إنّ التقسيم النباتي من أفضل الأعمال التي استُخدمت في دراسة مورفولوجيا نباتات الخضار لأنّ هذا التقسيم مبني على أساس الصفات الفيزيولوجية (الطبيعية) ودرجة القرابة الوراثية بينها واتُّخذت الزهرة كاساس لتقسيم النبات لأنها عضو ثابت في تركيبتها ولا تتأثر أو تتغيَّر بتغيُّر الظروف البيئية المحيطة بها فتبقى كما هي وللعائلة التي تنتمي إليها.
يمكن من خلال هذا التقسيم التعرّف على درجة القرابة الوراثية بين النبات وإمكانية تلقيحها بين بعضها البعض لإنتاج أصناف جديدة أو أصناف محسّنة من حيث جَوْدة إنتاجها وشكلها ولونها ورَغبة المستهلكين لها، كما يفيد التقسيم في العمليات الزراعية وحاجات النبات للخدمات الحقلية مثل الحراثة، مكافحة الأعشاب والآفات، والتسميد العضوي والكيميائي،…

تم تقسيم الخضار حسب الأجزاء التي تؤكل وتضم المجموعات التالية:
1- خضار جذرية: تضمّ الخضار التي يؤكل جذرها، وتشمل الجزر، الفجل، اللّفت، الشمندر، البطاطا الحلوة.
2- خضار ساقيّة: وتشمل الخضار التي تؤكل منها الساق في التغذية سواء كانت هذه الساق هوائية كما في: الهليون أو ساق منتفخة كما في: الكرنب، وإمّا ساقاً متحوّرة تحت سطح التّربة مثل: البطاطا والقلقاس،…
3- خضار بصليّة: تضم الخضار التي تؤكل أبصالها، وتشمل البصل، والثوم، والكرّاث.
4- خضار زهرية: تضم الخضار التي تؤكل منها الأجزاء الزهرية، وتشمل القرنبيط، والأرضي شوكي، والبروكولي.
5- خضار ورقيّة: تضم الخضار التي تؤكل أوراقها، وتشمل الملفوف، والخس، والسبانخ، والرشاد، والهندباء، والبقدونس، والشّمرة، والبقلة، والروكا.
6- خضار التي يؤكل منها أعناق الأوراق، وتشمل السلق، والكرفس.
7- خضار ثمرية: تضم الخضار التي تؤكل ثمارها قبل نضجها أو ناضجة، وتشمل: الناضجة، البندورة، البطيخ الأحمر والأصفر. غير الناضجة، الكوسى، الخيار، المقتي أو القثّاء، القرع، اللوبياء، البامية، الفليفلة، الباذنجان.
8- المحاصيل البذرية: تضم النباتات التي تؤكل بذورها، وتشمل البازيلّا، والحِمَّص، الفاصوليا، الفول، الذرة.

الزراعات الربيعية

 

تُقسم بحسب موعد الزرع، وتضم مجموعتين:

  • الزّراعات الربيعية المبكرة للخضار التي تعطي إنتاجاً في فصل الربيع مثل الفجل، والروكا، والرشاد،…..
  • الزراعات الربيعية المتوسطة والمتأخرة للخضار التي تعطي إنتاجها خلال فصل الربيع وتمتد إلى فصلَيِّ الصيف والخريف، وهي التي تبدأ بالإنتاج بعد زراعتها بحوالي بين 20 الى 50 يوما مثل الخيار، والقثاء، والكوسى، واللوبياء، والسبانخ، والهندباء،… ومنها ما يعطي إنتاجاً في أواخر الربيع ويستمر حتى فصل الخريف مثل الفليفلة، الباذنجان، السلق، البامية،… ومنها يبدأ بالانتاج بعد زراعته بحوالي 80 يوما مثل البندورة والفاصولياء، أمّا البطاطا فتُزرع في أوائل فصل الربيع وتُقلع بعد حوالي من 90 الى 150 يوماً أي بعد اكتمال نضج درنات البطاطا وحسب أنواعه ومعاملته أو العناية به من حيث الرّي والتسميد والتحضين أو التطمير والتعشيب ومكافحة الآفات التي تعتريه وتؤدي إلى تخفيض إنتاجيته.
الزراعات الخريفية

 

  • بعد أن ترتوي الأرض بمياه الأمطار خلال شهري أيلول وتشرين الأوّل ويكون قد تم إنبات غالبية بذور النباتات والأعشاب البرية التي تزاحم الخضار المراد زرعها على الغذاء والماء وعندما (تطيب يد الأرض للحراثة) أي تصبح التربة قليلة الرطوبة نوعا ما نعمد إلى حراثتها حراثة عميقة بواسطة السكّة على عمق حوالي 40 سم التي تؤدي هذه الحراثة إلى موت النباتات البرّية بالإضافة إلى خلط التربة مع السماد العضوي المخمّر إذا ما وضع لتحسين خواص التربة وتغذية النباتات التي تزرع في المستقبل القريب، ثم تُزرع بذور القمح أو الفول أو البازيلا مع الحراثة السطحية بواسطة الفرّامة، وإذا ما أراد المزارع زراعة الثوم فيلجا بعد الحراثة العميقة وموت النباتات البرية إلى تقسيم الأرض على خطوط وتحديد أماكن إنشاء الأثلام ثم حفرها ووضع السماد العضوي المخمّر في الأثلام وخلطه مع تراب قاعها وتسويتها وزراعتها بفصوص الثوم.
زراعة الخضار الصيفية

 

زراعة الخضار الصيفية في لبنان هي من الزراعات الهامة التي تلعب دورا أساسيًّا في الاقتصاد اللبناني وتعطي مردوداً جيّداً للمزارع خاصة إذا ما أتقن عمله من حيث توقيت الزرع، والعناية بالنبات من مكافحة الآفات، وري النبات، والتسميد العضوي والكيميائي لتغذية النبات، والقطاف والتوضيب ومن ثم البيع والتصنيع … وخاصة الخضار الموسمية التي تعطي إنتاجا مبكراً ووفيراً هذا على صعيد زراعة الحيازات أو المشاريع الصغيرة (من دونم حتى خمسة دونم)، ممّا يزيد من أهمية التوسع في زراعة الخضار وزيادة إنتاجها وتحقيق عائداً سريعاً.

تنحصر زراعة الخضار بشكل أساسي في لبنان على عدّة محاصيل خضريّة، أهمها:
– الفصيلة الباذنجانية تضم: البندورة، والبطاطا، والباذنجان، والفليفلة.
– الفصيلة القرعية تضم: الخيار، والكوسى، والبطيخ الأحمر والأصفر، والقرع، والقثاء، واللقطين أو اليقطين.
– الفصيلة البقولية أو القرنية تضم: الفاصولياء، واللوبياء، والفول، والبازلاء، والحمص، والعدس.
– الفصيلة الصليبية تضم: الملفوف، والقرنبيط، واللفت، والفجل، والبروكولي.
– الفصيلة الخيمية تضم: الجزر، والبقدونس،…
– الفصيلة المركبة تضم: الخس،…
– الفصيلة النرجسية تضم: البصل، والثوم، والكراث.
– الفصيلة الرمرامية تضم: السلق، والسبانخ، والشمندر السكري،…
– الفصيلة الخبازية تضم: البامياء،…

وتختلف إنتاجية هذه الأصناف حسب اختلاف عوامل الوقت والمعاملة والأحوال الجوية وطبيعة التربة وعمقها وصلاحيتها للزرع وإصابتها بالآفات الزراعية من حشرات وعناكب وفطريات وبكتيريا وفيروسات وغيرها. هذا بالإضافة إلى عامل نقص العناصر الغذائية التي تحتاجها النباتات أو زيادة استهلاك عنصر غذائي أكثر من غيره ممّا يؤدي إلى ظاهرة عدم امتصاص باقي العناصر.

ونظراً لأهميّة الدور الذي تلعبه الخضار في تحقيق الأمن الغذائي وفي رفع مستوى المعيشة وتدعيم الاقتصاد الوطني، نضع بين أيادي المزارع اللبناني، أكان محترفاً أو تقليديًّا، هذا الموضوع الذي يتطرّق إلى سبل كيفية زراعة الخضار بدءاً من تهيئة الأرض حتى القطاف.

أهمية الخضار الغذائية

 

تتصدر الخضار على اختلاف أنواعها قائمة المواد الغذائية التي تقدم لجسم الإنسان ما يحتاج إليه من الأملاح المعدنية والفيتامينات الضرورية إضافة إلى وجود الألياف النباتية الهامة للتغذية واستمرار الحيويّة. فالإنسان منذ القدم أدرك حاجته لجميع أنواع الخضار الشتوية منها والصيفية فاعتمدها في قوائم طعامه اليومي.

لذا، فإنّ زراعة الخضار لها أهمية ملحوظة في تأمين جزءٍ من الاحتياجات الغذائية للإنسان. والخضار هي نباتات عشبية حولية أو ثنائية الحول. الحول الواحد معروف بالموسم الواحد أي الخضار التي تزرع في وقت أقل من سنة على سبيل المثال: البندورة تزرع بدءاً من شهر نيسان في المناطق الساحلية حتى شهر حزيران في المناطق الجبلية وتتوقف عن الإنتاج في شهر تشرين الثاني عند تدني الحرارة. الحولان أي موسمان وهي النباتات التي تعطي الجزء الذي يؤكل في الحول الأول والأزهار والبذور في الحول الثاني مثل البقدونس والسلق والملفوف…

وتزرع الخضار سنويًّا حسب حاجة السوق، منها ما تُستخدم أجزاؤها للتغذية فقد تؤكل ثمارها طازجة أو مطبوخة مثل البندورة، والملفوف، والبازيلا،… ومنها ما تؤكل نوراتها الزهرية مثل القرنبيط، والبروكولي،… أو أوراقها مثل الخس، والبقدونس، والسلق، والرشاد،… أو جذورها مثل الفجل، والجزر، والشمندر، واللفت، والبطاطا الحلوة،… أو أبصالها مثل البصل، والثوم…

تأصيل نباتات الخضار

إنّ تأصيل النباتات يستوجب الأخذ بالاعتبار لعدة نقاط هامة. يجب مراقبة النبتة خلال الموسم لمعرفة قدرتها على تأقلمها مع المناخ والأرض المزروعة فيها، ومقاومتها للأمراض والحشرات الضارّة، وتحمّلها للعطش، وأيضا مراقبتها من حيث النمو الخضري الجيّد للخضار الورقية والإنتاجية العالية للأزهار والثمار بالإضافة إلى شكل الثمار المتناسق وجَوْدتها العالية من حيث الحجم واللون والطعم هذا في الخضار الثمرية. تجمع بذور الخضار الورقية والزهرية بعد نضجها وتُحفظ للموسم الذي يليه بعد تجفيفها ونقعها لمدة دقيقتين في محلول نحاسي مثل: البندورة، الفليفلة، القرنبيط، الباذنجان،… أمّا في الخضار الدرنية، فتُجمع الدرنات الصغيرة بعد القلع لتزرع في الموسم القادم كما في البطاطا.

الكورونا، أو فيروس (سارس كوفيد – 19)

لو قال لنا قائل قبل ستة أشهر لا أكثر أن نصف سكان الكرة الأرضية (3.5 مليار إنسان) سيلتزمون الحجر المنزلي، طوعاً، ومن دون أن يكون هناك حرب عالمية تجبرهم على ذلك؛ لقلنا هو يهذي.
ولو قالوا لنا أن أكثر من 500 مليون تلميذ وطالب في بلدان العام كافة سيهجرون صفوفهم وقاعات محاضراتهم وينزوون في منازلهم، وأماكن الحجر الأخرى؛
وأن الأنظمة الصحية في البلدان الأكثر تطوراً تقنياً (وبخاصة في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية) ستكون غير مستعدة بما يكفي للتعامل الناجح مع وباء يظهر دون سابق إنذار؛ وأن الناس، كل الناس، ستمتنع عن مصافحة بعضها بعضاً، بل لا تقترب من بعضها البعض؛ أو لو قالوا لنا أخيراً، وهو الأكثر مدعاة للحزن والدهشة، أن الناس لن تتمكن من دفن موتاها، وفق الطقوس التي كرّست منذ مئات السنين، وعلى النحو الذي يليق بمقام الموت؛ أو ما اصطلح على تسميته «موتٌ بلا وداع» (وهو لا يليق أبداً بوداع من نحب!!!)
لو قالوا لنا ذلك، أو بعضه، قبل بضعة أشهر فقط، فمن كان ليصدّق القائل أو القول ذاك؟
أجل، إنها الكورونا المستجدة، بل جائحة «الكورونا»: واقع أغرب من الخيال!
أجل، هذا ما فعله الفيروس غير المرئي «سارس كوفيد – 19»، بالبشر، بل في أقسام الكرة الأرضية الأكثر تمدناً وحضارة تقنية، والأوفر تمتعاً بشبكات الأمان الصحي والاجتماعي.

أين ظهر الكورونا للمرة الأولى؟

ظهر فيروس سارس كوفيد 19، (وهو العنوان العلمي للكورونا)، للمرة الأولى حين أعلنت الصين عنه في 7 كانون الثاني، 2020. ولكن السؤال:
كيف ظهر، وكيف انتشر بهذه السرعة والقوة، ناشراً الموت الجماعي (تقريبا) والدمار الاقتصادي وتداعياته الاجتماعية الكارثية.
لا جواب محدداً، متوافقاً، عليه حتى الآن. هناك روايات متناقضة، لا تتعدى كونها تكهنات، أو فرضيات، أو حتى تسريبات وبالونات اختبار متبادلة بين البلدان الغربية، وبخاصة الولايات المتحدة، والصين.
تذهب رواية الصين لظهور الفايروس أنه اكتشف في السوق الرطبة للحيوانات البرية في مدينة ووهان الصينية (11 مليون ساكن). وقد انتشر منها إلى سائر أجزاء مقاطعة هوبي (أكثر من 40 مليون ساكن)، ولكن من الانتقال – وهنا المفارقة – إلى أية مقاطعة صينية أخرى.
مقابل الرواية الصينية الرسمية، تذهب الروايات الغربية أن الفيروس لم يظهر في سوق الحيوانات البرية بل هو نتاج «تسرب خطأ من مختبر في ووهان». ويدلل أطباء غربيون متخصصون أن المرضى الأوائل الذين ثبتت إصابتهم لا صلة لهم من قريب أو بعيد بالسوق المزعوم؛ وأن السوق ربما كان المكان الذي سرّع انتشار الفيروس لا أكثر.
اتخذ الصراع بين الروايتين المتقابلتين شكل حرب سياسية واقتصادية مكشوفة، فقد انضمت دول الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة في إدانة طريقة تصرف الصين في موضوع الفايروس، سيّما لجهة إخفائها المعلومات العلمية الحساسة، والتأخير في إبلاغ العالم بحقيقة تحوله إلى وباء؛ وأخيراً في التعتيم على حجم الضحايا والخرائط العنقودية للوائح المصابين؛ وتجلى التعتيم في طرد عدد كبير من الصحافيين الأجانب من منطقة ووهان.
تقول مصادر طبية غربية ذات اختصاص دقيق (بروفسور لوك مونتانييه، وآخرون) أن الكورونا ناجم على الأرجح عن حادث غير إرادي وقع في أحد مختبرات الأوبئة الخطرة الموجودة في ووهان. وبرأي باحث فرنسي كبير: «يكفي أ، يوقع باحث زجاجة…فيصاب الباحث دون أن يدرك ذلك…. وفي نهاية النهار ينقل العدوى إلى عائلته بكاملها وجميع من التقى بهم.»
في أخر المعطيات حول الموضوع، إعلان منظمة الصحة العالمية (WHO)، أن لا دليل على صحة الزعم أن فيروس سارس كوفيد 19 هو من تخليق مختبر، بل كل الأدلة تشير إلى انتقاله من حيوان، وفق الرواية الصينية، والحرب المفتوحة هذه لا تزال في بدايتها.
بمعزل عن الروايتين، ولن ينتهي سريعاً الصراع بينهما، ستبقى الإجابة العلمية الموضوعية على الأسئلة أعلاه مفتوحة إلى أن تتمكن الأبحاث، حسب قول الاختصاصيين، من تحديد «المريض صفر»، الذي يسمح بمعرفة ما حدث أولاً. لكن الأبحاث مع الأسف تدور كما يبدو حتى الآن في حلقة مفرغة، فكم من عقار يصفّق له صباحاً، ثم يتبيّن مساء، أن لا جدوى منه؛ علماً أن البلدان الكبرى، وشركان صنع الأدوية باتت تصرف بسخاء غير مسبوق للمختبرات ومراكز الأبحاث يحدوها أمل العثور بسرعة على أدوية تحول دون المزيد من الانتشار للوباء، ولقاحات تحول مستقبلاً دون التعرّض له.

ما حدث لاحقاً؟ إذا كان من الصعوبة بمكان تعيين ما حدث أولاً، فإن ما حدث لاحقاً كان صادعاً، صادحاً، صادماً، وعلى نحو لم يكن له مثيل منذ انتشار الأنفلونزا الإسبانية بين 1918 و1920، أي بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى.

 

نبدأ بالخسائر البشرية: في 5 أيار، 2020 أي بعد ثلاثة أشهر من الإعلان عن الفايروس، كانت أرقام الخسائر البشرية كما يلي:
أكثر من 3.500.000 إصابة، والوفيات الناجمة عن الفايروس تجاوزت 300 ألف وفاة، (ثلثاها في بلدان أوروبا الغربية، وأعلاها في الولايات المتحد الأميركية)، مع تسجيل 738.274 حالة شفاء – مع العلم، ووفق المصادر الموثوقة أن أرقام الإصابات المعلنة هي دون الأرقام الحقيقية (وفي أواخر أيار، بلغ رقم الاصابات ستة ملايين).

 

في الخسائر المادية المباشرة: تدمير قطاعات اقتصادية بنسبة عالية جداً، قطاع السياحة (بنسبة 80%) قطاع المواصلات الجوية (بنسبة 70%) – خسائر قطاع الطيران حتى 23 نيسان بلغت 314 بليون دولار. وأصاب الإغلاق الذي لجأت إليه معظم الدول قطاع الأعمال الحرة، الصغيرة والمتوسطة والعاملين فيه على الخصوص بخصوص كارثية، ما اضطر الدول الكبرى المقتدرة أن تريليونات من الدولار واليورو والين وغيرها لحماية أصحاب الأعمال الصغيرة والعاملين فيها من المجاعة.

في الخسائر الاقتصادية غير المباشرة: توقف النمو ودخل في النمو السلبي (حتى 10% أحيانا). انهارت أسعار الأسهم في سائر بورصات العالم بما يقرب 30% حتى الآن ما تسبب بانهيارات وإفلاسات، ومع الإفلاسات وتوقف النمو، فقد أكثر من 250 مليون عامل أعمالهم، واحتاجوا بالتالي إلى نفقات إغاثة سريعة. وانهارت أسعار منتجات صناعة النفط في البورصات العالمية، إذ هوى سعر نفط فوريد الأمريكي يوم «الإثنين الأسود»، 20 نيسان 2020، إلى سالب 38، أي أن المنتج يدفع للمشتري مقابل استلامه لشحنات لا يمكن للأول تخزينها. تداعيات هذا الانهيار غير المسبوق آخذة في التدحرج وستظهر أكثر في الأيام القليلة القادمة، وأولها لإلاسات بغير عدد وصرف للعمال وتوقف الاستثمارات. ويشير المحللون أن حالة الإغلاق العالمية التي تسبب بها فيروس الكورونا في الدول الصناعية الرئيسية هي سبب رئيسي في تهاوي أسعار نفط إلى أدنى سعر له في التاريخ.
من التداعيات الاقتصادية أيضاً تراجع الدخل بنسبة12%، على الأقل، حيث جرى ضخ أكثر من 7 ترليون دولار في الأسواق لاستيعاب انتشار الوباء باعتبارها خسائر مباشرة.
وفي إجمالي التداعيات الاقتصادية والمالية، هناك ما يشبه الإجماع على أن منظومة العولمة التي جرى بناؤها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة تتعرض لامتحان شديد الصعوبة.

الإغلاق داخلياً، والعزلة بين الدول، هما ربما أخطر نتائج انتشار وباء الكورونا، والنتائج السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وربما النفسية المترتبة عليهما، ستظهر تباعاً، فالبلدان ال 210 التي طالتها الكورونا بدأت تختبر أوضاعاً سياسية جديدة لم تألفها من قبل، مثل الإغلاق، وإعلان حال الطوارئ، ومنع التجول، وأوضاعاً أخرى متصلة بالعلاقات بين الدول على مستوى الكوكب؛ فللمرة الأول تقفل بوابات الحدود بين دول العالم قاطبة، وتلك تجربة جديدة في العزلة التي لن تمّحي آثارها في القريب. فدول تنضوي في تشكيل سياسي واحد مثل الاتحاد الأوروبي أخفقت في الاستجابة لطلبات المساعدة التي وردتها من دول أخرى في الاتحاد (كحال إيطاليا مثلاً)، ما يرسم علامات استفهام حول طبيعة التطورات في الفترة القادمة. ووفق محللين محايدين، فقد عجّل وباء الكورونا بدخول العولمة في حالة أزمة كبرى، وما من محلل يستطيع التنبؤ بما تحمله الأسابيع والأشهر المقبلة.

هل من إيجابيات تطفو من بين الركام؟  البشر قادرون بالطبع على استخلاص ما هو حي في كل ما يموت، وما هو باق في كل ما يزول؛ فالبشرية المزوّدة بطاقة الحياة والتجدد ستخلص ما يفيدها من كل ذلك – كما فعلت الطبيعة التي برئت في ثلاثة أشهر لا أكثر من نسبة كبيرة من حالات التلوّث بالانبعاثات الصناعية والبشرية، وبخاصة Nitrogen Dioxide.
باختصار ما بعد كورونا ليس كما قبله. ومن دون افتئات على مجهودات العلماء والباحثين والأطباء، فإن الدرس الذي على كل شفة ولسان، بل الدرسان الأكثر أهمية هما:

الأول، أن الإنسان، بأبعاده الصحية والنفسية والاجتماعية، لم يكن في السبعين سنة السابقة (أي ما بعد الحرب العالمية الثانية وطفرة التكنولوجيا فيها) موضع اهتمامي حقيقي عند الأنظمة والشركات المنتجة لمدنيتنا المادية الراهنة، وعليه، لا قيمة لعلم، وتكنولوجيا، وأنظمة متقدمة، إن لم تكن في صالح الإنسان، بتعريفه المتكامل لا في جانبه المادي فقط،

والثاني، أن الطبيعة (ومعها البيئة) تعرضت في الفترة السابقة (وكانت تعرّضت قبل ذلك أي منذ القرن التاسع عشر للتدمير الاستعماري والتكنولوجي لثروات العالم (لعالم الشمال أولاً، ثم لعالم الجنوب)، فكان طبيعياً، وباختصار، أن تختل التوازنات الطبيعية المؤسسة لانتظام الحياة والطبيعة …. فكان ما كان.
عسى يكون الدرس عميقاً، مستداماً، ولا تغفله البشرية سريعاً بعد تجاوزها للأزمة الحالية – ونحن على ثقة أنها ستتجاوزها – فتكون عرضة بعد حين ومن جديد لجائحة جديدة.
تحتاج البشرية، في مدنيتها الراهنة، أن تدرك أن الإنسان ليس معدة ومحفظة نقدية فقط، وأن الإنسانية ليست أرقاماً وسلعاً وبضائع (لا يحتاج الإنسان لغالبها)، وتحتاج أخيراً أن تبحث إذا أرادت من مستقبل للجنس البشري عمّا هو حقيقي ودائم وجميل في الإنسان، لا ما هو وهمي وسطحي وزائل. وحين تختار البشرية هذه المبادئ والمعايير، فالله والدين والأخلاق ستكون في صف هذه الإنسانية وخير معين لها.
وفي ما يلي بعض المعطيات الطبيّة الأساسية المتصلة بوباء كورونا المستجد، لجهة تركيبته وطرق الوقاية الأساسية منه من اعداد مسؤول الفقرة الطبية في «الضّحى» الدكتور نزيه أبو شاهين.


ما هو نوعُ الفَيْروس الجديد وما خطورتُه؟

فيروس كورونا المستجد هو فيروس حيواني المصدر ينتقل للإنسان عند المخالطة اللّصيقة لحيوانات المزرعة أو الحيوانات البريّة المصابة بالفيروس. كما ينتقل عند التعامل مع فضلات هذه الحيوانات. ورغم أنّ المصدر الحيواني هو المصدر الرئيسي الأكثر ترجيحاً لهذه الغاشية، يجب إجراء المزيد من الاستقصاءات لتحديد المصدر الدقيق للفيروس وطريقة سريانه. وتنص إرشادات منظّمة الصحة العالمية للبلدان والأفراد على احتمالية انتشار المرض بسبب مخالطة الحيوانات أو ملامسة الأغذية الملوَّثة أو انتقاله من شخص لآخر.
ويتَّضح الآن وفقاً لأحدث المعلومات أنه يوجد على الأقل شكل من أشكال انتقال المرض بين البشر. ولكن لا يتضح إلى أي مدى. وتعزِّز هذه المعلومات حالات العدوى بين العاملين في مجال الرّعاية الصحية وبين أفراد الأسرة. كما تتَّسق هذه مع التجارب على الأمراض التنفسية الأخرى، لاسيّما مع الغاشيات الأخرى لفيروس كورونا.
ووفقا لما أوضحه المدير العام لمنظمة الصحة العالمية فإنَّ هذه طارئة صحية في الصين، ولكنها لم تصبح طارئة صحية عامة بعد، ومن المُحتمل أن تصبح طارئة عالمية. وتقييم المنظمة للمخاطر هو أنّ الغاشية تمثل خطراً بالغ الشدّة في الصين، وخطراً شديداً على الصعيدين الإقليمي والعالمي.
إنَّ هذا الفيروس قد يسبب أعراضاً خفيفة وتشبه الإنفلونزا، كما قد يسبب مرضاً وخيماً. وبينما قد يظهر مرض خفيف في البداية، قد يتطوّر إلى مرض أكثر وخامة، ويبدو أنّ الأشخاص الذين يعانون من حالات مرضيّة مزمنة قائمة أكثر عرضةً للإصابة بمرض أشد وخامة كما يبدو أنّ المسنِّين أكثر استعداداً للإصابة بمرض وخيم.

ماذا توصي به المنظّمة؟

تشمل توصيات منظمة الصحة العالمية على:
– غسل اليدين بالصابون والماء أو فرك اليدين بمطهّر كحولي، – تغطية الفم والأنف بقناع طبّي أو منديل أو الأكمام أو ثني الكوع عند السّعال أو العطس.
– تجنّب ملامسة أي شخص مُصاب بأعراض زكام أو تشبه الإنفلونزا بدون وقاية، والتماس الرّعاية الطبّية في حال الإصابة بحمَّى وسعال وصعوبة في التنفس.
– عند زيارة الأسواق المفتوحة، وتجنب الملامسة المباشرة دون وقاية للحيوانات الحيّة والأسطح التي تلامسها الحيوانات.
– طهي الطعام جيدا، وبالأخص اللحوم.

هل يوجد علاج؟

لا يوجد أي علاج مُحدّد لهذا النوع من فيروس كورونا المُستجد. ويعتمد العلاج على الأعراض السريريّة، وتوجد علاجات قيد الاستقصاء، من خلال تجارب عن طريق الملاحظة وتجارب سريرية يخضع لها المرضى المصابون بفيروس كورونا المسبّب لمُتلازمة الشرق الاوسط التنفسيّة.
حتى الآن لا توجد علاجات فعّالة تمّت الموافقة عليها من قبل منظمة الصحة العالمية لهذا النوع من فيروس كورونا المستجد ويعتمد العلاج على الأعراض السريريّة.
يمكن أن يُصاب الأشخاص من جميع الأعمار بفيروس كورونا المستجد – ٢٠١٩. ويبدو أنّ كبار السن والأشخاص المصابين بحالات مرَضية سابقة الوجود (مثل الرّبو، وداء السّكري، وأمراض القلب) هم الأكثر عرضة للإصابة بمرض وخيم في حال العدوى بالفيروس.
لن يقضي رشُّ الجسم بالكحول أو الكلور على الفيروسات التي دخلت جسمك بالفعل، بل سيكون ضاراً بالملابس أو الأغشية المخاطية (أي العينين والفم). ومع ذلك، قد يكون الكحول والكلور مفيدين في تعقيم الأسطح، ولكن ينبغي استخدامهما وفقاً للتوصيات الملائمة.
لا تقضي المضادات الحيوية على الفيروسات، بل تقضي على الجراثيم فقط. يعد فيروس كورونا المستجد-٢٠١٩ من الفيروسات، لذلك يجب عدم استخدام المضادّات الحيوية في الوقاية منه أو علاجه. ومع ذلك، إذا تم إدخالك المستشفى بسبب فيروس كورونا المستجد – ٢٠١٩، فقد تحصل على المضادات الحيويّة لاحتمال إصابتك بعدوى جرثوميّة مصاحبة.
لا توجد أيّة بينة على أنّ استخدام غسول الفم يقي من العدوى بفيروس كورونا المستجد. هناك بعض العلامات التجارية لغسول الفم قد تقضي على جراثيم معينة لبضع دقائق في اللعاب الموجود في الفم. لكن لا يعني ذلك أنّها تقي من العدوى بـ فيروس كورونا المستجد – ٢٠١٩ .
لا توجد أيّة بيّنة على أنَّ غسل الأنف بانتظام بمحلول ملحي يقي من العدوى بفيروس كورونا المستجد. ولكن توجد بيّنات محدودة على أنّ اغسل الأنف بانتظام بمحلول ملحي يساعد في الشفاء من الزّكام بسرعة أكبر. ومع ذلك، لم يثبت أنَّ غسل الأنف بانتظام يقي من الأمراض التنفسية.
لا يعرّض استلام الطرود من الصين الناس إلى خطر الإصابة بفيروس كورونا المستجد. ونعلم، من تحليل أجريناه مسبقاً، أنّ فيروسات كورونا لا تعيش لفترة طويلة على الأشياء، مثل الرسائل أو الطرود.
تُعَدُّ الماسحات الحرارية فعّالة في الكشف عن الأشخاص المصابين بحمّى (أي الذين ترتفع حرارتهم عن المعدل الطبيعي لدرجة حرارة الجسم) من جرّاء العدوى بفيروس كورونا المستجد – ٢٠١٩. ومع ذلك، لا يمكنها الكشف عن الأشخاص المصابين بالعدوى، ولم تظهر عليهم أعراض الحمّى بعد. ويعود السبب في ذلك إلى أنَّ العدوى تستغرق يومين إلى ١٠ أيام حتى تظهر أعراض المرض والحمّى على الأشخاص المصابين.
لا توفّر اللقاحات المضادة للالتهاب الرِّئوي، مثل لقاح المكوّرات الرئوية ولقاح المستدمية النزلية من النمط «ب»، للوقاية من فيروس كورونا المستجد. هذا الفيروس جديد تماماً ومختلف، ويحتاج إلى لقاح خاص به. ويعمل الباحثون على تطوير لقاح مضاد لفيروس كورونا المستجد – ٢٠١٩. ورغم أنّ هذه اللقاحات غير فعّالة ضد فيروس كورونا المُستجد، يُوصى بشدّة للحصول على التطعيم ضد الأمراض التنفسيّة لحماية صحتكم.

[Best_Wordpress_Gallery id=”27″ gal_title=”Covid-19″]


عواملُ الخَطر للموت من COVID-19 المحدّدة في مرضى مدينة ووهان.

ريكي لِوِيس، دكتوراه، 9 مارس 2020

المرضى الذين لم ينجَوا من دخول المستشفى بسبب 19- COVID في ووهان كانوا أكثر عرضة لأن يكونوا أكبر سناً، لديهم أمراض مصاحبة ومرتفعة D-dimer، وفقاً لأول دراسة لفحص عوامل الخطر المرتبطة بالوفاة بين البالغين الذين أُدخلوا المستشفى مع 19- COVID. وقال المؤلّف المشارك زيبو ليو في بيان صحفي «كبار السن الذين تظهر عليهم علامات تعفُّن الدم عند الدخول والأمراض الكامنة مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري والاستخدام المطول للتهوية غير الموسعة (دعم التنفس الصناعي دون استخدام مجرى الهواء الاصطناعي – أنبوب القصبة الهوائية) عوامل مهمة في وفاة هؤلاء المرضى. كان تخثّر الدم غير الطبيعي جزءًا من الصورة السريرية أيضًا.»
أجرى فاي زهو،MD ، من الأكاديمية الصينية للعلوم الطبية ، وزملاؤه دراسة جماعية بأثر رجعي، متعددة المراكز، شملت 191 مريضاً، خرج 137 منهم وتوفِّي 54 منهم في المستشفى.
شملت الدراسة، التي نُشرت على الإنترنت اليوم في The Lancet ، جميع المرضى البالغين الذين يعانون من 19- COVID المؤكّد مختبريًّا من مستشفى Jinyintan ومستشفى ووهان الرئوي الذين خرجوا أو توفُّوا بحلول 31 يناير من هذا العام. تم نقل المرضى المصابين بأمراض شديدة في المقاطعة إلى هذه المستشفيات حتى 1 فبراير.
قارن الباحثون البيانات الديموغرافية والسريرية والعلاجية والمخبرية من السجلات الطبية الإلكترونية بين الناجين وأولئك الذين استسلموا للمرض. اختبر التحليل أيضًا عيِّنات متسلسلة من الحمض النووي الريبي الفيروسي.
وعمومًا، كان 91 (48 ٪) من أصل 191 من مرضى الاعتلال المشترك. الأكثر شيوعًا كان ارتفاع ضغط الدم (30 ٪)، تليها مرض السكري (19 ٪) ومرض القلب التاجي (8%).
زادت احتمالات الوفاة في المستشفى مع تقدم العمر (نسبة الأرجحية 1.10، فاصل الثقة 95٪ [CI]، 1.03 – 1.17، الزيادة السنوية في العمر)، درجة تقييم فشل الأعضاء المتسلسل (SOFA) الأعلى (5.65, 2.61 – 12.23; P < .0001)، ومستوى D-dimer يتجاوز 1 ميكروغرام / لتر عند القبول.
كان يطلق على SOFA سابقًا «درجة تقييم فشل الأعضاء المتعلّقة بالإنتان» ويقيّم معدل فشل الأعضاء في وحدات العناية المركّزة. يشير ارتفاع D-dimer إلى زيادة خطر تجلّط الدم غير الطبيعي، مثل تجلط الأوردة العميقة.
كان لدى غير الناجين مقارنة بالناجين ترددات أعلى من الفشل التنفسي (98 ٪ مقابل 36 ٪)، وتعفّن الدم (100 ٪، 42 ٪)، والتهابات ثانوية (50 ٪ مقابل 1٪).
كان متوسط عمر الناجين 52 عامًا مقارنة ب 69 عامًا للوفاة. واستدل ليو بضعف الجهاز المناعي وزيادة الالتهابات، ممّا يؤدي إلى إتلاف الأعضاء وأيضًا يشجّع على التكاثر الفيروسي، كتفسير لتأثير العمر.
من وقت ظهور الأعراض الأوَّلية، كان متوسط وقت الخروج من المستشفى 22 يومًا. وكان متوسط الوقت حتى الموت 18.5 يومًا.
استمرّت الحمّى لمدة 12 يومًا بين جميع المرضى، واستمرّ السعال لمدة 19 يومًا؛ 45 ٪ من الناجين كانوا لا يزالون يسعلون عند الخروج. في الناجين، تحسّن ضيق التنفس بعد 13 يومًا، لكنّه استمر حتى الموت في الآخرين.
استمر سفك الفيروس لمدة متوسطة تبلغ 20 يومًا لدى الناجين، تتراوح من 8 إلى 37 عامًا. كان الفيروس (السارس – كوفيد – 2) قابلاً للاكتشاف في غير الناجين حتى الموت. العلاج المضاد للفيروسات لم يحِدَّ من سفك الفيروس.
لكن بيانات سفك الفيروس تأتي مع تحذير. «إنّ سفك الفيروس الممتد الذي لوحظ في دراستنا له آثار مهمة على توجيه القرارات حول احتياطات العزل والعلاج المضاد للفيروسات في المرضى الذين يعانون من عدوى 19- COVID المؤكدة. ومع ذلك، نحن بحاجة إلى أن نكون واضحين أنَّ وقت سفك الفيروس لا ينبغي الخلط بينه وبين العزلة الذاتية الأخرى للأشخاص الذين ربما تعرّضوا لـ 19- COVID ولكن ليس لديهم أعراض، لأن هذا التوجيه يعتمد على وقت حضانة الفيروس»، كما أوضح بن كاو مؤلف مشارك أساسي.
«يمكن للشيخوخة، ومستويات D-dimer المرتفعة ، ودرجة SOFA العالية أن تساعد الأطباء في التعرف في مرحلة مبكرة على هؤلاء المرضى الذين يعانون من 19- COVID والذين لديهم تشخيص سيِّئ. يوفر سقوط الفيروس لفترات طويلة الأساس المنطقي لاستراتيجية عزل المرضى المصابين والوصول إلى المستوى الأمثل من التدخّلات المضادة للفيروسات في المستقبل»، كما استنتج الباحثون.
يتمثّل أحد القيود في تفسير نتائج الدراسة في أنّ المرضى في المستشفيات لا يمثّلون جميع السكان المصابين. يحذر الباحثون من أنّ «عدد الوفيات لا يعكس الوفيات الحقيقية لـ 19- COVID كما لاحظوا أنّه لم يكن لديهم ما يكفي من المواد الوراثية لتقييم دقيق لسقوط الفيروس».
مع العلم أن دفق المعلومات المتعلقة بهذا الوباء لا يتوقف، وكذلك جهود العلماء والباحثين على مستوى الكوكب. وبخاصة في مختبرات البلدان المتقدّمة علمياً وطبياً. ويأمل الجميع أن يتمكنوا قبل نهاية العام 2020 من إيجاد لقاح مضاد للكورونا، والعمل جارٍ على انتاج عقاقير وبروتوكولات جديدة في معالجة الوباء.


إطلاق ابتكار جديد لمنصات فحص الكورونا من بيصور من قبل الاخوين باسل ونزار ملاعب:

لقد تم إطلاق أول منصة لأخد عينات الكورونا كوفيد 19 في لبنان المجهزة بميزات الأمان والحماية المدمجة للعاملين الصحيين الذين سيحصلون على عينات الكورونا عبر المسحة الانفية من الاشخاص المشتبه بهم. هذه الطريقة المبتكرة تمنع التفاعل المباشر بين العامل الصحي الذي سوف يقوم باخذ المسحة الأنفية والمريض الذي سيخضع للفحص. ومن مميزات هذه المنصة انها تساهم بتقليل وقت الانتظار للاشخاص المشتبه بهم وتقلل من الإزدحام في أماكن الانتظار ومداخل المستشفيات والعيادات. اضافة الى ذلك، فإن هذه المنصة يمكن ان تقام بسهولة في أي موقع مخصص لفحص الكورونا مثل المستشفيات الحكومية والخاصة، مراكز العلاج، وكذلك في المطار.
تم اعتماد هذه المنصات على المستوى الدولي في العديد من البلدان بما في ذلك الولايات المتحدة الامريكية وكوريا الجنوبية بما انها فعّالة من جهة توفير الموارد (المعدات الوقائية بالأخص) وضمان سلامة العاملين الصحيين ورفع فعالية فحوصات الكورونا.
صمّم هذا المنتج المبتكر وطوّر من قبل خبراء في مكافحة العدوى والبناء الجاهز للمساهمة في خدمة الجهود الرامية لمواجهة جائحة الكوفيد-19 وهو منتج لبناني فريد من نوعه.
تم عرض هذا الابتكار على وزارة الصحة العامة بالإضافة إلى المستشفيات الحكومية والخاصة الأخرى وتم تقديم منصة لمستشفى رفيق الحريري الجامعي في بيروت واعتماده في عدة مستشفيات اخرى.
ان منصة فحص الكوفيد 19هي عبارة عن غرفة مع حاجب شفاف وفتحات لليدين مع قفازات خاصة تمكن العامل الصحي من اجراء فحص الكوفيد 19 بطريقة سهلة بدون التعرض للعدوى من المريض وقد وضعنا تصميمين مختلفين يعتمدان على طريقة الاستعمال ومضاف اليهما آليات مبتكرة للقيام بالتطهير
الذاتي للاسطح ولضمان حماية العامليين الصحيين:
1- التصميم الاول: حيث يكون العامل الصحي داخل المنصة والمريض خارجها وهذا التصميم مخصص للاماكن الجيدة التهوئة على مداخل غرف الطوارىء الخاصة بمرضى الكورونا ومراكز الفحص ويمكن استعمالها بالمطارات او نقاط الحدود البرية او البحرية
2- التصميم الثاني: حيث يكون العامل الصحي خارج المنصة والمريض داخلها وهذا التصميم مخصص للاماكن المغلقة داخل غرف الطوارىء الخاصة بمرضى الكورونا داخل المستشفيات ومراكز الفحص ومزود بنظام تهوئة خاص يتضمن الهيبا فلتر والضغط السلبي (HEPA Filter & Negative Pressure )

ما هي اهمية منصة فحص الكوفيد 19؟
– تساهم المنصة بتقليل استعمال معدات الوقاية الشخصية وخاصة الكمامة التنفسية العالية الكفاءة N95 التي تواجه نقصا» حادا بتوافرها محليا» وعالميا»
– هذه الطريقة تمنع الاتصال المباشر بين العامل الصحي الذي سوف يقوم باخذ العينة والشخص الذي يخضع للفحص
– هذه المنصة تساهم باخذ العينات بطريقة جدا آمنة وسريعة
– المنصة تقلل من مدة انتظار المرضى/الاشخاص في صالات الانتظار ومداخل المستشفيات ومراكز الفحص
– يمكن لهذه المنصة ان تقام باي مكان داخل او خارج المستشفيات الحكومية او الخاصة او مراكز الفحص المعتمدة.


مستشفى عين وزين يعلن إطلاق سلسلة خدمات للتصدي لوباء كورونا

عن الأنباء | 21 نيسان 2020

انطلاقاً من رسالة المؤسسة الصحية في عين وزين، الطبية والإنسانية والاجتماعية، الهادفة إلى تقديم الخدمات النوعية لأوسع شريحة ممكنة من أهلها ومجتمعها، وتأكيداً على دورها في المجتمع، ونظراً للظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد فيما خصّ تفشي فيروس كورونا المستجد 19- COVID،
واستناداً إلى الكشف الميداني من قبل أطباء أخصائيين في الأمراض الجرثومية والمعدية وتدقيق من قبل وزارة الصحّة العامّة ومنظمة الصحة العالمية،
وبناءً على التعميم الصادر عن وزارة الصحة العامة بتاريخ 01/4/2020 المتضمن لائحة المستشفيات المؤهلة لإجراء فحص الكورونا المستجدة بطريقة الـ RT-PCR، ومن ضمنها عين وزين مديكال فيليدج، أعلنت المؤسسة الصحيّة للطائفة الدرزية عن استكمالها للتحضيرات اللازمة للتصدي لوباء كورونا المستجد 19- COVID استناداً إلى المعايير المطلوبة من قبل وزارة الصحّة العامةّ ومنظمة الصحّة العالمية.
وذكر بيان المؤسسة ان هذه التحضيرات تشمل عدّة وحدات وخدمات سوف يُعلن عنها تباعاً وفقاً للحاجة، وذلك بهدف تقييم وتشخيص وعلاج المرضى المصابين بفيروس كورونا المستجد.

[Best_Wordpress_Gallery id=”29″ gal_title=”Cavid-19 Ain Wazein”]

ويضم هذا المشروع المتكامل ما يلي:
1) استحداث وحدة تقييم ومعالجة الأمراض الوبائية ضمن هيكلية قسم العناية الفائقة العامة والأمراض الصدرية: تقع الوحدة في مبنى منفصل عن باقي مباني المؤسسة، ولها مدخلها الخاص وهي تتألّف من 10 أسرة في مرحلة أولى، وسوف يتم العمل على زيادة عدد الأسرة وفق الحاجة لتصل إلى 44 سرير.
تستقبل الوحدة حالات الكورونا المشتبه بها، والحالات المؤكدة والحالات التي بحاجة إلى عناية فائقة.
وبهدف تأمين شمولية الخدمات، تضم الوحدة غرفة مخصصة للعناية الفائقة وغرفة مجهزة للعمليات الطارئة ولحالات الولادة الطبيعية والقيصرية.
يتألف فريق عمل الوحدة من أطباء أخصائيين في العناية الفائقة والأمراض الصدرية والأمراض المعدية بالإضافة إلى أطباء مقيمين من الجامعة اللبنانية ومن ممرضين وممرضات متخصصين ومتدربين في هذا المجال، كما يستعين فريق عمل الوحدة بالأطبّاء الأخصائيين وفق الحاجة.
يتم استقبال المريض في غرفة مجهزة بمعايير الوقاية والسلامة العامة لجميع المرضى والعاملين في الوحدة، ويتم تقييم وضعه الصحي من قبل طبيب الوحدة بالتنسيق مع طبيب الأمراض المعدية وأخذ القرار المناسب بشأن إجراء الفحص المخبري المطلوب وفق معايير وزارة الصحة العامّة كما وأخذ القرار المناسب بشأن إدخال المريض إلى الوحدة استناداً إلى وضعه الصحي أو بمتابعته في إطار الحجر المنزلي.
تعتمد قرارات وزارة الصحة العامة وتعرفات الجهات الضامنة الرسمية والخاصة المتعاقدة مع المؤسسة في عمل هذه الوحدة.

2) فحص 2-SARS-Cov لتشخيص فيروس كورونا المستجد بتقنية الـ RT-PCR: يتم إجراء الفحص بإشراف فريق طبي وتقني متخصص، علماً أنه تم الحصول على ترخيص رسمي من قبل وزارة الصحة العامة لإجراء هذا الفحص.

3) فحص 2-SARS-Cov لتشخيص فيروس كورونا المستجد بتقنية الـ RT-PCR على أساس خارجي من السيارة: Drive Thru حيث يتم إجراء الفحص للمرضى استناداً إلى رغبة شخصية أو بطلب من طبيب وفق معايير الشك المتوفرة، وبعد إجراء تقييم أوّلي بين المريض والخط الساخن لتنسيق موعد لإجراء الفحص بين الساعة 9:00 صباحاً و11:00 قبل الظهر باستثناء أيام الآحاد.

4) وضع خط ساخن يحمل الرقم 76647161 بتصرف المواطنين والمرضى الراغبين بالحصول على إرشادات أو توجيهات أو بإجراء الفحص الخاص بالفيروس أو في حال الشّعور بعوارض مرضية. وتكون خدمة الخط الساخن على مدار الساعة وطيلة أيام الأسبوع وتحت إشراف طاقم تمريضي مجاز.

5) تجهيز مراكز للحجر الصحي بطريقة علمية وآمنة للمرضى المصابين بفيروس كورونا المستجد 19- COVID الذين يتعذّر عليهم الالتزام بمعايير العزل المطلوبة لأسباب لوجستية، في كل من فندق ساري بالاس (30 سرير) في بلدة عين وزين، فندق سبأ (50 سرير، بالتعاون مع مستشفى الجبل) في بحمدون، ومركز ملتقى النهرين (75 سرير)، حيث سيكون للمؤسسة مهمّة الإشراف والرعاية والعناية الطبيّة بالمرضى المصابين بالإضافة إلى إدارة الشؤون اللوجستية والخدماتية المطلوبة.

6) تجهيز مبنى خاص لسكن الطاقم الطبي والتمريضي العامل في وحدة تقييم وعلاج الأمراض الوبائية مقدّم من قبل الجامعة اللبنانية-كليّة الصحة العامّة- الفرع السادس في عين وزين.

وتماشياً مع سياسة وزارة الصحّة العامّة الهادفة إلى زيادة عدد فحوصات الـ 2-SARS-Cov لتشخيص فيروس كورونا المستجد بتقنية الـ RT-PCR، تعلن عين وزين مديكال فيليدج، ابتداء من21/04/2020، عن:

– تفعيل خدمة الخط الساخن الخاص بوباء كورونا على الرقم 76647161.
– إطلاق العمل بالفحص المخبري 2-SARS-Cov للمرضى المشتبه بإصابتهم بفيروس كورونا المستجد.
– إطلاق العمل بالفحص المخبري 2-SARS-Cov للمرضى الراغبين بإجرائه على أساس خارجي وفق الخدمة المقدّمة من السيارة (Drive Thru) بين الساعة 9:00 صباحاً و11:00 قبل الظهر باستثناء أيام الآحاد استناداً إلى موعد مسبق يتم تحديده عبر الخط الساخن.

أمّا بالنسبة لوحدة تقييم ومعالجة الأمراض الوبائية، فسوف يتم الإعلان عن بدء العمل بها في حينه، عسى أن تحمل الأيام القادمة أخباراً سارةً تحول دون الحاجة إلى افتتاحها. وشدد بيان المؤسسة على ان هذا العمل الذي تقوم عين وزين مديكال فيليدج بإطلاقه، أُنجز بواسطة الدعم المالي والمعنوي والمتابعة الحثيثة من قبل معالي الأستاذ وليد جنبلاط الذي تُوجّه إليه المؤسسة أسمى آيات الشكر والتقدير، والشكر أيضاً موصول إلى كل من ساهم في دعم المؤسسة في هذه الظروف الاستثنائية.


جديد مفاجآت بيصور الخيرية: إنشاء فرن “للخبز المدعوم” وتحية الى بلدة البنيه.

عن القناة 23 | 2 أيار 2020

لم تتوقف بلدة بيصور، بشيبها وشبابها، بمشايخها وبلديتها وأحزابها كافة، عن تقديم المفاجآت الخيّرة، هي البلدة التي حولت الأزمة الى فرصة، هي التي قادت وتقود مثالاً يُحتذى في التكافل والتضامن الاجتماعي.
ما إن أطلت جائحة كورونا على العالم حتى استنفرت قواها وأفكارها الخلّاقة في تقديم الحلول، وبالطبع ما يترافق مع انتشار الوباء من أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة. يهب شبانها الى الابتكار وإيجاد الحلول: جاد، فراس ورائد وصحبهم يبتكرون غرف التعقيم على مداخل المؤسسات، نزار وباسل يبتكرون غرفة فحص المصابين لحماية الفرق الطبية، في حين يعكف الاستاذ صلاح على ابتكار تطبيق لمساعدة فرق الاغاثة وتقديم المساعدات للمحتاجين على كل المستويات، في حين أن «خلية الأزمة» تضم الى جانب البلدية أكثر من 60 متطوعاً لمواجهة ومعالجة انتشار الوباء. بينما تطوع مجموعات لزراعة الأراضي واستصلاح ما يمكن تحت عنوان الأمن الغذائي بالحد الأدنى.

واليوم درّة التاج في العمل الخيري إقامة فرن للخبز من قبل مجموعة منهم. ما هي قصة الفرن؟.
منذ فترة وضعت مجموعة من الشبان خطة لإنشاء فرن يؤمن القوت اليومي للبلدة والمنطقة، وكان السعي ينصب على إغلاق هذه الثغرة الخطيرة في مواجهة الأزمات، رغم صعوبة الأمر والتكلفة العالية لمثل هذه الفكرة، ولكن من يعمل بإخلاص لا تُغلق الأبواب بوجهه، بل كانت «الأمور ميسرة بشكل يفوق التصور».
التكلفة عاليه جداً… ما العمل؟ بدأت الأفكار تدور والهواتف شغالة بالتواصل مع مرجعيات وأصحاب اختصاص وأهل الخير، وكانت العروض سخية ولكنها لم تصل الى المبلغ المطلوب والذي يفوق الـ 150 ألف دولار أميركي، الاستيراد من الخارج صعب وأزمة سيولة تضرب كل القطاعات.
منذ أيام يصل اتصال من المغترب اللبناني ريان وهبه، ابن بلدة البنيه جارة بيصور، ويقول وهبه «لدي فرن جاهز ولن أقبل الا أن أتبرع به لمشروعكم، فقط نسقوا مع بلدية البنيه وهو من الآن بمتناول تطوعكم».
بمشهد مسرحي رائع وصل الليلة الفرن الى المكان المخصص له في بيصور، يجتمع عدد كبير من الأهالي بحركة احتفالية وبهمة تطوعية تقرر أن يبدأ العمل به قريباً وتوزيع الخبز المدعوم على كل قرى الشحار الغربي ومجدليا وكيفون وعيناب وشملان ورمحالا ودفون وسوق الغرب …، وبإشراف بلدية بيصور ولجنة متخصصة تحاول مأسسة المشروع للاستمرارية وعدم توقفه.
هكذا تحولت الأزمة الى فرصة في بيصور، وترفض البلدية بشخص رئيسها نديم ملاعب والأعضاء، وكذلك الأحزاب والفاعليات، الا ان تضع هذا العمل في خانة الانجاز المتواضع من أجل مواجهة خطر الحاجة، والجميع يقول: ممنوع أن يحتاج أي مواطن أو مقيم في هذه المنطقة، بقدر الإمكان وطالما الخير يفيض بروح التعاون لن يبقى في ديارنا انسان بحاجة لربطة الخبز أو الدواء او الطبابة، إنه التحدي الأخلاقي الذي سننجح به مهما بلغت الصعوبات».

خلال الأيام المقبلة ستعمل اللجنة المتطوعة على الانطلاق بالمشروع وستكون لقمة الخبز مقسومة بين الجميع وقد قيل قديماً: الخبز والملح يشكل رابط انساني ما زلنا نتمسك به وستعززه الأزمة وتجوهره الظروف الصعبة.
تحية الى المغترب ريان وهبه، الذي رفض في البداية أن يُعرف اسمه، ولكن الجميع يصر على نشر الفضيلة، وتحية الى بلدة البنيه وبلديتها التي قدمت كل الدعم والمؤازرة، وتحية الى بيصور بكل تنوعها وهي مثالاً يُضرب به في زمن سقوط القيّم المادية وتعزيز الروابط الروحية والأخلاقية بين بني البشر.
«على هذه الأرض ما يستحق الحياة» طالما أيادي الخير والعطاء تعمل دون كلل.

مراجعات كتب

«“دروز في زمن الغفلة، من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية” باشا في لبنان»:

قيس ماضي فرّو

للكاتب والمناضل الفلسطيني قيس ماضي فرّو،عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2019 ، (في 417 صفحة، حجم كبير).
يبدأ المؤلف عمله بإهداء، ذي قيمة رمزية عالية، «إلى روح سلطان باشا الأطرش، الذي حاول الناشطون والمؤرخون الصهيونيون تلطيخ إسمه؛ وإلى روح والدي ماضي حمزه فرّو».
(ومنّا، شكراً لهذا الإهداء تحية لروح لسلطان باشا الأطرش، واضع حجر الزاوية لسوريا الحديثة الموحّدة، ولا يحتاج تاريخه لشهادة متطاول، ولا ينال منه إهمال غادر إو حقد حاقد).
من مراجعة متأنية للكتاب، في وسع المرء أن يقول بثقة تامة أنه الأكثر اشتمالاً على المادة التاريخية الواسعة الموثّقة ذات الصلة بالأقلية العربية الدرزية الموجودة في فلسطين؛ وغير مسبوقن على ما نعلم من هذه الجهة. ولأنه بالأهمية تلك، لا تكفي صفحة أو صفحتان لمراجعته، إذ تحتشد فيه، في كل صفحة، المعطيات والنصوص والإحالات وعلى نحو لا يمكن اختصارها: ما نقدّمه إذاً في «الضّحى» الثقافية ليس أكثر من دعوة لقراءة الكتاب هذا، الثبت العربي الفلسطيني الفائق الأهمية.
لا تقوم أهمية الكتاب من مادته فحسب، على غناها واتساعها، وإنما لطابعه العلمي وإحكامه المنهجي، وتوثيق معطياته التاريخية وفق أعلى معايير الاسناد، وإحالته حتى في أصغر القصص إلى مصادر ومراجع وأرشيف، لا أظن أن كاتباً عربياً آخر أمكنه الوصول إليها بين جميع من تناولوا تاريخ المجتمع الفلسطيني في الداخل والتحولات المثيرة التي ضربت من دون سابق إنذار تفاصيل حياته ورسمت بالأسود مصيره لعقود قادمة؛ وبخاصة الجزء المتصل منها بالجماعة العربية الفلسطينية الصغير العدد، دروز فلسطين، وسيلي بيانُ ذلك.
يقع الكتاب في ستة فصول بين مقدمة وخاتمة.

الفصل الأول:
دروز فلسطين أمام وضع جديد
الوجود الدرزي في شمال فلسطين، التنافس بين ثلاث عائلات متنفذة، الحركة الصهيونية تراقب وتتدخل، الدروز وثورة فلسطين الكبرى في امها الأول، محاولات منع دروز سوريا من المشاركة في ثورة الفلسطينيين، ( وسواها).
الفصل الثاني:
بين مطرقة التخطيط وسندان الغفلة،
إثارة دروز سوريا ولبنان وخطة نقل دروز فلسطين، نقل دروز فلسطين بحجة إنقاذهم، بيعوا أراضيكم وهاجروا، تجميد خطة النقل، ثم قبرها،
الفصل الثالث:
من الحرب العالمية الثانية إلى حرب 1948
أوضاع دروز سوريا تحت مجهر الصهيونية، اقتراب عاصفة 1948، التحضيرات للحرب، معارك فوج جبل العرب، الإحباط بعد معركة هوشة
الفصل الرابع:
بعد إعلان قيام دولة إسرائيل
من إقامة وحدة الأقليات إلى احتلال شفا عمرو، خنجر مسموم، البقاء في الوطن، خيار الدروز، معركة يانوح، تداعيات معركة يانوح.
الفصل الخامس:
فن الترويض، العصا لمن عصى والجزرة لمن أطاع
العصا لعرب سيئين والجزرة لعرب طيّبين، نماذج، أليات منع تشكل مجموعة عربية واحدة، غربلة القيادات الدرزية التقليدية، تنافس رؤساء العائلات يعزز ولاءهم.
الفصل السادس:
رهائن التجنيد يفقدون أراضيهم الزراعية
لا لتجنيد العرب ونعم لتجنيد الدروز، معارضو التجنيد ومؤيدوه، من التجنيد اختيارا
إلى التجنيد الإلزامي، قمع معارضة التجنيد، قوانين مصادرة أراضي الدروز، ما تبقى

خاتمة: التبعية الاقتصادية وتهجين الهوية

هذه أهم عناوين كتاب قيس ماضي فرّو البالغ الأهمية.
فهل الكتاب دفاع عن تاريخ دروز فلسطين العروبيين الوطنيين الأشاوس، في غالبيتهم العظمى فقط؟
لقارئ يعبرُ صفحات الكتاب مسرعاً أن يقول أجل؛ إلا أن القراءة الثانية ستظهر له نفسه أن الكتاب برمّته دفاع من المؤلف، وفي جهد علمي استثنائي، عن الحقيقة التاريخية الموضوعية الموثّقة والمثبتة بالتواريخ والمستندات، على نقيض نوعين من الأعمال الأخرى الشائعة: تلك المسرفة في المبالغات غير الواقعية، أو الأخرى المسرفة في الأحكام المسبقة الظالمة ومن دون تبصّر وتمييز.

يقع الجهد الرئيسي لمؤلف الكتاب، قيس ماضي فرّو، في دحض، بل تفنيد، مضمون الخطاب الصهيوني الإعلامي المتكرر حيال دروز فلسطين، فيبيّن هشاشة مادته العلمية وانتقائيتها من جهة، والتوظيف الأيديولوجي لوقائع محدودة يخرجها الخطاب ذاك من سياقها التاريخي ليبني عليها نظرية «العلاقة الخاصة» بين الدروز واليهود في فلسطين ولغاية واضحة هي زعزعة الانتماء العروبي لدروز فلسطين وخلق مشكلة ثقة بين الدروز والمكوّنات الأخرى للشعب الفلسطيني.
وفي رأي المؤلف، تقوم الثغرة الكبرى في منهجية الخطاب الصهيوني من انطلاقه من أحكام مسبقة يطبقها قسراً على الوقائع التاريخية، فيبالغ في تضخيم ما يتفق وروايته فيما هو يغفل ويشطب كل المعطيات والحالات والوقائع التي لا تتفق وخطابه المزعوم ذاك. ويعطي المؤلف مثالاً، بين عشرات الحالات المماثلة، التزوير الذي يمارسه الخطاب الصهيوني الأيديولوجي في تعامله مع مصطلح «الاندماج» الذي يروّج له كموقف درزي حيال الكيان الصهيوني، والذي يستنسخه بعض الباحثين في الموضوع الدرزي الفلسطيني داخل فلسطين إو خارجها ومن دون تبصّر أو تدقيق. يقول المؤلف: «ويظهر ذلك جلياً عندما يصوّر تعاون عدد قليل من الدروز مع الحركة الصهيونية – خلال الانتداب وبعد سنة 1948 – على أنه تعاون الطائفة كلها…فإذا تصرّف واحد أو مجموعة صغيرة من الدروز تصرفاً معيّناً في زمن ما، أصبح هذا تصرفاً عاماً للطائفة..». (ص 28) إن الخديعة الصهيونية الأيديولوجية في المسألة جلية تماماً: فهي تعتّم على أراء أكثر من 70 بالمئة يدعون لمقاطعة التجنيد الإلزامي رغم الإغراءات والتسهيلات التي لا بدّ أن يقع في فخها شبان من الدروز وغير الدروز من العرب الفلسطينيين. الخطاب ذاك، يقدّم حالات محدودة ومعروفة السياق والظروف الاقتصادية والاجتماعية باعتبارها القاعدة السائدة، متناسياً مقاومة أكثرية دروز فلسطين للتجنيد وتسطيرهم عرائض مرفوعة للمعنيين تطالب أن يكتفى من الدروز بالتطويع الاختياري كما هو جار مع سائر عرب فلسطين – حتى لا نذكر حالات المقاومة الشديدة، أكثر من العرائض، والتي قادت أصحابها إلى المعتقلات الإسرائيلية. وليس ذلك غير واحد من الأمثلة على السياسة الإسرائيلية حيال الأقلية الدرزية الصغيرة والقائمة، برأي المؤلف، على مبدأ «فرّق تسد».
وإلى المنهجية التوثيقية العلمية التي تجعل من الكتاب مرجعاً موضوعياً لا مثيل له، يمكن للقارئ أن يقع على مادة ديمغرافية وتاريخية وسياسية موثقة ومن الدرجة الأولى، وبرسم كل بحث لاحق، وفي أية نقطة إضافية.
بعض تلك المادة العلمية نجدها مثلاً في الاحصائيات المتعلقة بانتشار المواطنين الفلسطينيين الدروز في قرى الجليل وشمال فلسطين، وبعددهم الدقيق. يبدأ المؤلف من كتاب «عمدة العارفين» لؤلفه محمد مالك الأشرفاني، أقدم المراجع في الموضوع وأوثقها، حسب المؤلف، ليبيّن قدم الوجود الدرزي في شمال فلسطين، الذي بدأ مع انتشار الدعوة التوحيدية في القرن الحادي عشر، واحدة من المناطق الخمسة في بلاد الشام التي انتشر فيها المسلك التوحيدي، ثم اشتد السكن فيها بفعل الهجرات التي حدثت من «منطقة الجبل الأعلى، أو جبل السمّاق القريب من مدينة إدلب…»(ص 29). ويضيف الكاتب: «وعلى الرغم من أن دروز فلسطين حافظوا على تواصلهم الاجتماعي بدروز سورية ولبنان خلال فترة الانتداب، فإن تقسيم كل من الاستعمار البريطاني والفرنسي بلاد الشام إلى كيانات سياسية جديدة أدى إلى فصل المسار السياسي لدروز فلسطين عن المسارات السياسية لدروز لبنان وسورية. فبينما أدّت النخب الدرزية دوراً مؤثراً في السياسة العامة للبنان وسورية، بقيت نخب دروز فلسطين بعيدة عن السياسة العامة حتى بعد سنة 1930 حين بدأت محاولات الحركة الصيونية البحث عن وسائل للتقرّب منهم. ووصل عدد سكان دروز فلسطين سنة 1931 إلى نحو 9000 نسمة، وشكّلوا أقل من واحد في المئة من مجمل سكان فلسطين البالغ 1.035.400 نسمة…..وبحسب مذكرة كتبها إلياهو إيبشتاين…وهو مستشرق عمل في الوكالة اليهودية…فإن أكثر من 90% من القوى العاملة الدرزية [هي] في الزراعة.» ص32
بحسب الوثائق الديمغرافية التي ضمّنها المؤلف كتابه: «…بقيت في فلسطين [مطلع القرن العشرين] 18 بلدة يسكنها الدروز حالياً قدّر عدد سكانها في سنة 1922 بنحو 7000 نسمة (أقل من واحد بالمئة من مجمل سكّان فلسطين هذه السنة). وبعد أقل من ثلاثين سنة تضاعف عدد سكانها الدروز ليصل في سنة 1950 إلى 14.400 نسمة. وخلال خمسة عقود تضاعف العدد أكثر من مرة ليصل في سنة 2015 إلى 115.300 نسمة (بالإضافة إلى 22.000 درزي يسكنون أربع قرى في الجولان المحتل). ص 31-32
من بين عشرات المسائل، الجديدة بالنسبة لنا، والتي يعالجها المؤلف على نحو علمي تام، الحرب الحقيقية التي خاضها دروز فلسطين «للبقاء في الوطن»، (ص 201 وما بعدها). ومعها في هذا السياق إصرار الحركة الصهيونية منذ البدء على إجبار (أو إغراء) دروز فلسطين لترك قراهم وبلادهم، وقد فصّلت الوكالة اليهودية «خطة نقلهم من البلد إلى جبل الدروز»، وفق النص الوارد في الأرشيف الصهيوني المركزي، (ص 231 وما بعدها)؛ والجهود المنظمة التي بذلتها المنظمات الصهيونية الحكومية،بعد فشل خطة الإبعاد، لفصل التعليم في المناطق الدرزية، وقطاعات أخرى، عن المجال الطبيعي الفلسطيني وإلحاقه «وفق سياسة الجزرة والعصا»، بالمجال الإسرائيلي.
ويختم الكتاب بثبت تفصيلي لحركة الاحتجاج لدى دروز فلسطين على الوجود الصهيوني أولاً، ثم على السياست الإسرائيلية في «الاندماج» و «التجنيد» (ص 265 وما بعدها) وسعي المنظمات الحكومية الاسرائيلية للتحكم بالتعليم والنشاط الثقافي، إلى جوانب أخرى، لدى دروز فلسطين2. (ص 237 وما بعدها) ومن المعلومات التفصيلية الأخرى مشاركة «فوج جبل العرب» من ضمن «جيش الإنقاذ» بقيادة القاوقجي في العمليات العسكرية، ومشاركة دروز فلسطين فيها، وبالأسماء، وأسماء شهدائهم في معارك الفوج، وما جرّ ذلك عليهم من عَسف صهيوني، (ص 153 وما بعدها).
وموضوع أخير أفسح له المؤلف مساحة كافية، وهي مواقف سلطان باشا الأطرش من التطورات المتلاحقة التي كانت تجري على أرض فلسطين، «ونشر شائعات عن أنه دعا إلى اتخذ موقف حيادي [من قبل دروز فلسطين]» (ص 147) والتي يدحضها بالملموس وقائع وتصريحات عدة، يسجّلها المؤلف، أحدها إرساله كمال كنج أبو صالح سرّا إلى فلسطين لاستطلاع أوضاع دروز فلسطين عشية حرب 1948، ثم قوله لجريدة الدنيا البيروتية في 12 كانون الثاني 1948: «لقد زرت دروز فلسطين الذين لا يتجاوز عددهم 17 ألفاً. ومن هذا العدد يمكن تجنيد قوة من 4000 إلى 5000 مقاتل ينقصهم اليوم السلاح. لقد بذلت جهداً كبيراً للحصول على سلاح لهم، لكنني فشلت حتى الآن….لاحظت عدم وجود تنظيم ونقصاً في السلاح عند العرب في فلسطين» (ص148).
وينقل المؤلف عن المرحوم الشيخ محمد أبو شقرا (الذي غدا لاحقاً شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في لبنان) أن سلطان باشا قال لفوزي القاوقجي الذي زاره في داره طالباً المساعدة في تشكيل كتيبة درزية تنضم لجيش الإنقاذ الذي كان يسعى لتشكيله «عبّر سلطان باشا في هذا اللقاء عن أمله بتجنيد أكبر عدد ممكن من دروز جبل العرب لكي يضمن الانتصار، [لكن] القاوقجي اكتفى بتجنيد 500 مقاتل بسبب شحّ المصادر المالية، والنقص في السلاح» (ص 149) وهكذا كان إذ تم تكليف شكيب وهاب بقيادة الكتيبة الدرزية من ضمن تشكيلات جيش الإنقاذ التي ستدخا فلسطين لاحقاً.
أكثر من ذلك، يورد المؤلف بالتفصيل عجز كل مروّجي الشائعات عن تقديم دليل واحد يؤيد مضمون مزاعم بعض عملاء الحركة الصهيونية بشان لقاء الباشا.. فيعرض بالبيّنة والوثيقة للمحاولات المتكررة للمنظمات اليهودية للقاء سلطان باشا وعجزهم عن ذلك. وفي حالة واحدة يتيمة يعتدّ بها الكتّاب الصهاينة، فإن متعاونين محليين جاؤوا بناشط نقابي يهودي في الهستدروت إلى سلطان باشا باعتباره مناضلاً نقابياً ويتولى حماية العمال الفلسطينيين، ومنهم العمّال الدروز، من تعسّف المنظمات الصهيونية التي كانت المسيطرة على معظم النشاط الاقتصادي، حتى قبل 1948، ولم يعرّف المرافق الفلسطيني سلطان بهوية النقابي اليهودي في أثناء الاجتماع.(ص 147وما بعدها)
تلك عينة محدودة لا أكثر من التفاصيل الدقيقة والجديدة تماماً على القارئ العربي المتصلة بالعرب الدروز في فلسطين، والتي لا يمكن اختصارها في صفحات معدودات، لأنها وثائق ونصوص في كل اتجاه.
أنهي بالقول، كتاب بالغ الأهمية، صادر عن «مؤسسة الدراسات الفلسطينية»، وسيجده الكثير من القراء مرجعاً لا غنى عنه.

الباحث قيس ماضي فرّو متحدثاً في «نادي حيفا الثقافي»

العقلُ والتضامنُ والتماسك الاجتماعي في بلدة درزيّة…

د. إسكندر عبد النور.

كتاب من تأليف الدكتور إسكندر عبد النور، وضعه باللغة الإنكليزية، ونقله إلى اللغة العربية الدكتور مصطفى حجازي. يقع في مئة وخمسين صفحة من الحجم الوسط، منشورات مؤسسة التّراث الدرزي. حوى «تقديراً» بقلم رئيس المؤسسة الأستاذ سليم خير الدين، قدَّر فيه عالياً قيام العالِم المميَّز الدكتور عبد النور بالكتابة عن بلدة حاصبيّا، معتبراً ذلك بادرة كريمة منه وإسهاماً مرجعياً لكل المهتمين بحاصبيّا وتراثها، فهو حالياً مدير مركز العلوم المعرفية في كندا، ومستشار دولي في البحث والتدريب، حاصل على بكالوريوس في الفلسفة من الجامعة الأميركية في بيروت، ويحمل درجة الماجستير في العلوم الجنائيّة، ودكتوراه في التربية من جامعة أوتاوه. تضمُّ كتبه كلاً من متلازمة حلِّ الصراع (1987)، العدوان المقنّع: التهديدي الخفي للأفراد والمنظمات (2000) وغيرها من الكتب القيّمة. أمّا هذه الدراسة فتتوزّع على فصول تقوم على مرتكزات بيَّنها المؤلّف بتحليلات متساوقة ذات عناوين مستمدة من واقع الحال والتاريخ، وهو المعايش للمجتمع الدرزي كونه ابن حاصبيّا مولداً ونشأةً، فكتابته عنها تكتسب مصداقيّة العارف المتلمس للأشياء كما هي، من حيث تجلّيات الأسلوب العقلاني لدى الطائفة الدرزية في حاصبيا، فالمظاهر البارزة لديها تتمثل في التعبير القوي نسبياً عن التضامن الاجتماعي، والإجماع مرتفع المستوى على معايير التصرّف والضبط الاجتماعي الناجح، والمستويات المتدنّية للجريمة والانحراف، والتزام الطائفة الدرزية في حاصبيا القوي بمنظومة قيم الشرف الراسخة الجذور في حياتهم ما يتمدد في سلوك الفرد إلى حد تمسكه بمعايير الأمانة والاستقامة الخلقية ويشكل العِرض الذي يرتبط بسلوك العِفّة عند الأنثى مظهراً آخر من مظاهر الشرف، ويشكل رجال الأسرة والعشيرة أقصى حماة العِرض، وتتضمن مترتبات أخرى على التمسك بالشرف في الطائفة الدرزية، حَمْل السلاح وديمومة العِرفان بالجميل. ويعتقد الدروز أنَّ الكلمة المنطوقة بما هي انعكاس للعقل لا يجوز أن تتأثّر بعوامل تحُدُّ من مكانتها، فلا يسمح من باب أولى بالتعبير السّوقي أو البذيء، والكلمة المعطاة ملزمة، كما المحافظة على كرامة الذات وكرامة الآخر، فهي لا تحتاج إلى مجرد توكيدها بل يتعين حمايتها. هذا بعض ما ورد في هذا الكتاب عن دروز حاصبيا، فهو غنيٌّ بالعِبَر والفوائد على نطاق أعمّ وأوسع، ننصح بقراءته واقتنائه.


المعروفُ عندَ بني معروف صفحاتٌ مُختارةٌ من أدب سلام الرّاسي

سلام الراسي

يقول الدكتور شفيق البقاعي في «مقدّمة» كتَبها لهذا الكتاب متسائلاً عن الغاية منه، فيما بعض الكتب تُقرأ من عناوينها، على حدِّ قولٍ شبيهٍ لأحد علماء عصرنا سلامه موسى: «تُعرَف الشعوب من شعاراتها في الحياة» وهذا ما أنعم النظر فيه منذ حداثته، شيخ الأدب الشعبي سلام الراسي على طريقته النادرة في فنّ الكتابة. نشأ سلام الراسي بين الدروز في إبل السَّقي، من قرى وادي التَّيم، فأحبّهم وأحبّوه. ولم تكن خصوصيّات أهلها تحول دون عيشهم مجتمعاً واحداً يعتمد القِيَمَ والتقاليد بل اللَّهجات نفسها، فكان شخصيّة دَمِثَة متجانسة، حتى كان بعض من يلتقيه أو يجالسه، يحسبه درزي الانتماء حين ينطق بالقاف القوية الصافية ولا سيّما إدراكه باكراً أنَّ عادات الناس وتقاليدهم وأقوالهم ومواقفهم هي جوهر حضارتهم، ولُبّ تراثهم وتجسيدٌ لقيمهم مُتشبِّعاً من مفهومهم للكرامة ونظرتهم إلى المرأة والجار، وشرف الكلمة، فما خلا كتابٌ لسلام الراسي من بعض الحكايات والمواقف والأمثال من المحيط الدرزي الذي عرفه جيّداً، ومن الشخصيات العديدة التي عاشرها. ومن هنا نشأت فكرة جمع هذه المقالات في مجلّدٍ واحد، هو هذا المجلّد، تعبيراً متكاملاً عن نظرة سلام الراسي نحو أهله بني معروف، يُضاف إلى ذلك اشتمال هذا المؤلَّف على أخبار وروايات تُنشر للمرة الأولى. ولسنا لنكتب عن هذا الكتاب باختصار، أي ماقلَّ ودلّ دون أن نعطي سلام الراسي كلَّ حقه، من حيث هو كاتبٌ مبدعٌ، استطاع أن يُبهر القُرّاء، فيعطي كل هذا العطاء الكبير، أي ستَّة عشر كتاباً، بأسلوب فسيح وحده، في السلاسة، والمرح والبلاغة، تاركاً بصمةً باقيةً على مَرّ الزمان في الأدب اللّبناني، لم ولن تُنسى.


أوقاف الموحدين الدروز للأديار والكنائس في جبل لبنان

الأب الدكتور أنطوان ضو

ورقة بحثية قدَّمها الأب الدكتور أنطوان ضو، الكاتب والمؤرخ المعروف، في مؤتمر لمؤسسة التراث الدرزي، في جامعة أوكسفورد في إنكلترا، وصدرت وثائقه باللغة الإنكليزية، نقلها الدكتور محمد شيّا إلى اللغة العربية في كتاب، بعنوان: «الموحدون الدروز: الواقع والتصورات، أوراق بحثية في التاريخ والاجتماع والثقافة». إن أهمية هذه الورقة، في أنها تتطرق في حقبةٍ مديدة، من تاريخ جبل لبنان في القرنين السادس والسابع عشر، إلى العلاقة بين طائفة الموحدين الدروز والطوائف المسيحية، وبخاصة الطائفة المارونية، التي اتسمت في مبتدئها، وطوال حكم الأمراء التنوخيين والمعنيّين بالتسامح والتآلف، ولم تضطرب العلاقات تلك إلا مع بشير الثاني الذي استطاع بدعم من الدول الأوروبية السبع آنذاك، وتحالفه مع محمد علي باشا، حاكم مصر، وتدخله العسكري (أي محمد علي باشا) في لبنان وسوريا، حكم البلاد وإخضاع جميع المكونات اللبنانية لسلطته، ما جعل الموازين السياسية والعسكرية في جبل لبنان، تترجرج وتختل لمصلحة الموارنة، على حساب الموحدين الدروز، حكام جبل لبنان لما يزيد على ثمانية قرون
العلاقات الدرزية المسيحية
يقول الكاتب: «كانت العلاقات بين الموحدين الدروز والمسيحيين بعامة والموارنة بخاصة في جبل لبنان، صادقةً، إيجابيةً ومثمرة، ولا سيما في عهد السيد جمال الدين عبد الله البحتري التنوخي، (1417 – 1479) والأمير فخر الدين المعني الثاني (1585 – 1635). فالبطريرك اسطفان الدويهي (1630 – 1704) يقول عن هذه العلاقات: وفي دولة الأمير فخر الدين، ارتفع رأس الناصري، لأن أغلب عسكره كانوا نصارى، وكوخية وخدامه موارنة، فصاروا يركبون الخيل بسرج، ويلفون شاشيات وخرور، ويلبسون طوامين وزنانير مسقطة، ويحملون البندق والقفاص المجوهرة، وفي أيامه تعمَّرت الكنائس في بكفيا والعربانية وبشعله، وكفر زينا، وكفرحلتا، وقدم المراسلون من بلاد الفرنج وأخذوا السكن في البلاد. (الدويهي، 1976، ص 505).
الأوقاف الدرزية للأديار والكنائس في جبل لبنان
من المشتركات المسيحية الدرزية، الصّدَقة، ووقف الأملاك، وتقدمة النذورات، وإمداد الأوقاف بالتقدمات والهبات، علامة للمحبة المتبادلة، والشراكة الإنسانية والروحية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والثقافية والحضارية. وفي البحث الأوقاف التي قدَّمها الدروز إلى الأديار والكنائس المسيحية في منطقة جبل لبنان، أو بلاد الدروز، ابتداءً من المتن مروراً بعاليه والشوف وإقليم الخروب وجزين وصولاً إلى زحلة فقط. تاركين المناطق الأخرى إلى توسع في بحث آخر يلي هذا البحث.
لائحة بالأديار والكنائس التي أوقف لها الدروز بعض أملاكهم
وهب الدروز عقارات عدة في جبل لبنان للمسيحيين على اختلاف كنائسهم ورهبانياتهم ومؤسساتهم، كما قدموا المال والنذورات والتقديمات من أجل بناء الكنائس والأديار، ومنع أمراؤهم عنها كلَّ تعدٍّ أو تدخل من أي جهة مدنية أو روحية في مناطق حكمهم.
اللائحة كما يقول الأب ضو غير كاملة، من الضروري إجراء مسحٍ دقيق في القرى والمدن المختلطة، والتفتيش في المخطوطات والمراجع العلمية من أجل إلقاء مزيد من الضوء على هذا الموضوع الحضاري الرائع.

الأوقاف الدرزية للموارنة

الرهبانية الأنطونية المارونية

  1. دير ما أشعيا – برمانا.
  2. دير مار يوحنا القلعة – بيت مري.
  3. دير مار روكس – الدكوانة.
  4. دير مار الياس – أنطلياس.
  5. دير مار الياس – قرنايل.
  6. دير مار سمعان – عين القبو.
  7. دير مار يوسف – زحلة.

الرهبانية اللبنانية المارونية

  1. دير مار ساسين – بسكنتا.
  2. دير مار جرجس – الناعمة.
  3. دير مار مخايل – بنبايل.
  4. دير مار موسى الحبشي – بعبدات.
  5. دير مار الياس – الكحلونية.
  6. دير مار أنطونيوس – زحلة.
  7. دير السيدة – مشموشة.
  8. دير ما أنطونيوس – بيت شباب.
  9. دير مار تقلا – المروج.
  10. دير مار مخايل وجبرايل – المتن.

أديار وكنائس مارونية مختلفة

  1. دير مار يوحنا – زكريت.
  2. كرسيّ مطرانية دمشق – عشقوت.
  3. كنيسة مار يوحنا – صليما.
  4. سيدة القصر – صليما.
  5. سيدة النجاة – ساحل المتن.
  6. كنيسة مار يوحنا – جوار الجوز.

الأوقاف الدرزية لأديار الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك:

  1. دير مار جرجس – دير الحرف.
  2.  دير مار الياس – شويّا.
  3. دير مار أشعيا النبي – برمانا.
  4. دير مار يوحنا – الخنشارة.
  5. دير مار جرجس – بمكّين.
  6. دير المخلص – جون.
  7. دير السيدة – قرب دير المخلص (جون).
  8. دير مار جرجس – المزرعة.
  9. أديار في زحلة.

الأوقاف الدرزية للاتين

الكبوشيون:

  1. عبيه.
  2. صليما.

اليسوعيون:

  1. دير سيدة النجاة بكفيا.

الأوقاف الدرزية للسريان:

دير مار أفرام – الشبانيه.

الأوقاف الدرزية للبروتستانت.

.

مهارات معلِّم القرن الواحد والعشرين وصفاتُه

التربية والتعليم..استشراف المستقبل

تهتمُّ التربية ببناء الإنسان بناءً متكاملًا، معرفيًّا وتربويًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا ووجدانيًّا… إلخ. ويُعدُّ الأفراد للعيش في المجتمع، وَفْق ما يتطلَّبه من معارف وخبرات وسلوكيات يحتاج إليها الفرد. وهي المحور الأساس لبناء الأجيال الصاعدة، التي تمتلك القدرات العلمية والذاتية لمواكبة متطلبات المستقبل. وأهمية قضية التربية ودورها في تهذيب الإنسان وبناء مجتمعه، ليست جديدة، وتُعتبر من أهم القضايا المسيطِرة والمحورية، التي رافقَت الإنسان منذ بدء التاريخ الإنساني قديمًا حتى يومنا هذا.

دور التربية والتعليم في ظل ظروف استثنائية

في ظل الظروف الراهنة التي نعيشها، والتعطيل القسري المفروض علينا، وانطلاقًا من أنَّ المدرسةَ مؤسّسةٌ اجتماعيةٌ رسميّة، تقومُ بعدّة وظائف ومَهامّ، أهمّها وَظيفة التّعليم ونقل الثّقافة والتّربية، وإيجاد البيئةِ المُناسبة للنُموّ العقليّ والجسديّ والانفعاليّ والاجتماعيّ؛ كان لا بد من وجود وسائل وطرق لإبقاء التواصل قائمًا بين المدرسة والمعلم والتلميذ، حيث جاء في مقال للدكتورة نسرين شيا من الجامعة الأميركية في دبي أنه:
«وفق تقارير الأمم المتحدة فإنَّ حال الحَجْر الجاري لثُلث سكان العالم قد عرقل انتظام التعليم لثلاثمائة مليون طالب وتلميذ على الكوكب. الملايين من الأساتذة والمدرسين، والهيئات الإدارية، وصنّاع القرار، وجدوا أنفسهم، في مشهد وُصِف بأنه «غير مسبوق»، مدفوعين دفعًا نحو التعليم أُون لاين (التعليم عن بُعد من خلال الشبكة العنكبوتية)». لذا، كان «مشروع العرفان للتعليم عن بُعد»، هذا المشروع يُعدُّ خطوةً تربوية متقدمة، تتميّزُ بها مدارسُ العرفان، لتعليم الطلاب في التعطيل القسري. وهنا لا بد من أنْ نُعرِّف بالفرق بين العطلة والتعطيل القسري.

العطلة والتعطيل القسري

العطلة هي تَوقُّف الطلاب عن الذهاب إلى المدرسة، وَفْق رزنامة تربوية، كعُطَل المناسبات والأعياد وعُطَل الفصول. أما التعطيل القسري، فهو توَقُّف الطلاب عن الذهاب إلى المدرسة لأسباب قسرية، كالعواصف الشديدة والأعاصير واندلاع الحروب وانتشار الفيروسات. ويكون الوضع السائد، هو القلق، والتشوُّش الفكري، والبقاء في المنزل. وهنا يأتي دور المدرسة، في المساهمة الفعَّالة في إزالة الخوف والقلق، ورفع المناعة الفكرية والنفسية، وذلك من خلال تقديم نشاطات تربوية متنوعة وفعالة، من خلال منصَّة تربوية فعّالة.

مشروع العرفان للتعليم من بعد

لقد جرى تحديثُ المشروع وإطلاقُه مُجدَّدًا، ليكُون منصّةً تربويةً رائدة. ويُعِدُّ المعلمون والمعلمات مضمونَها بإشراف المنسّقين وتوجيه الإدارة. فيتفاعلُ معها التلامذةُ، ويُنعشون ذاكرتَهم، ويُغْنون عقولَهم بالمعلومات المفيدة، ويرتاح لها الأهالي بتنظيم حياة أولادِهم المنزلية، والاطمئنان إلى مستقبل عامِهم الدراسيّ.
فكانت منصّةُ العِرفان التربوية، التي تمتدُّ من صفوف الحلقة الأولى حتى نهاية المرحلة الثانوية، وتشمل كلَّ الموادّ التعليمية.
فهذه المنصةُ مساحةٌ تفاعلية مُتاحة لتلامذة العرفان، ليتابعوا دروسَهم من كَثَب، وليعتادوا التحديث التربوي والتقني، وليبقوا على صلةٍ دائمة بمدرستهم ومعلميهم، ولنظلَّ وإيّاهم في أجواء العلم والمعرفة، على الرغم من الانقطاع، ولتستمرَّ العرفانُ رائدةً في رسالتها التربوية، على الرغم من كل الصعاب.

المهارات المطلوبة من المتعلم في ظل التغيرات المستجدة

   في ظل هذه التغيرات التي طرأت على المجتمع، أصبح تحديد المهارات المطلوبة للمتعلم أمرًا أساسيًّا؛ بغية الوصول إلى فردٍ قادرٍ على التعامل مع متطلبات المراحل الحالية واللاحقة لتَخرُّجه في المدرسة. وعليه، لا بد من أن يكون متمكِّنًا من المهارات الأكاديمية والحياتية الداعمة، وقادرًا على التأقلم والمنافسة ومواجهة التحديات.
هذه التغييرات والتطورات الحاصلة في مجتمعنا، وفي ظل التطورات في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فرَضَت على الحكومات وصُنَّاع السياسات التربويين، إعادة التفكير في مختلف القضايا التربوية، ومنها المعلم، لِمَا له من دور مهم في إعداد نشاطات تربوية مميزة، تُواكب كل المستجدات، وتساهم في ترسيخ ثقافة القرن الحالي، وتوظيف مستحدثاته في عمليَّتَي التعلم والتعليم، والتركيز على مهارات الحياة، ومهارات التعلم المستمر، وبشكل أشمل مهارات القرن الحادي والعشرين، التي تساعد المعلم على تحقيق التعلم والتعليم النَّوعِيَّين.

المهارات المطلوبة من المعلّم في ظل التغيرات العالمية

   يُعَدُّ المُعلم عنصرًا رئيسيًّا من عناصر العملية التعليمية التعلمية؛ إذ هـو المُيسِّر والمُنظِّم والمُطوِّر لعملية التعليم والتعلم، والمسؤول عن إحداث التغييرات المطلوبة في شخصية المُتعلم، المعرفية والوجدانية والنفس حركية. ويلعب دورًا مهمًّا في تنمية مهارات المتعلمين، وتنمية التفكير الناقد، من خلال الإستراتيجيات والممارسات الهادفة له في عملِيَّتَي التعلم والتعليم.
تَكمن أهمية دور المعلم في إعداد متعلم القرن الواحد والعشرين، الذي يتمتع بالمهارات الآتية: التفكير الناقد، والتواصل والعمل الجماعي، والإبداعُ وحلُّ المشكلات، والقيادة وصنع القرار، والمواطنة المحلية والعالمية، والريادة والمبادرة، والثقافة التكنولوجية، والتمكن اللغوي.

لذا، يجب أن يكون لمعلم القرن الحادي والعشرين، سمات وخصائص عدة، تُميِّزه عن المعلم التقليدي، منها:

  1. مواكبة التطورات التكنولوجية.
  2. الإلمام بالذكاءات المتعددة وكيفية توظيفها لذاته ولطلابه.
  3. استخدام الأجهزة الذكية، والتوجه الرقمي، والتعاون والتواصل.
  4. التعلم القائم على المشاريع.
  5. الابتكار.
  6. البحث عن المعلومات.
  7. حل المشكلات.
  8. إدارة الوقت.
  9. اتخاذ القرارات.
المهارات التي يجب أن يتميز بها المعلم

أوّلًا: مهارات التعلم والإبداع، وتشمل الآتي:

  1. التفكير الناقد وحل المشكلات
    تَكمن أهمية هذه المهارات في توافر التقنيات الحديثة، للوصول إلى المعلومات والبحث فيها ونقدها، ويمْكن تعلُّم هذه المهارات من خلال نشاطات وبرامج متنوعة من الاستقصاء وحل المشكلات، ومن خلال مشاريع تَعلُّم هادفة، تعتمد على إثارة الأسئلة وطلب حلول للمشكلات.
  2. الاتصال والتشارك
    اهتم التعليم بمهارات الاتصال الأساسية كالتحدث والكتابة، في حين استدعت الأدوات الرقمية ومتطلبات عصرنا الحالي، مخزونًا شخصيًّا من مهارات الاتصال والتشارك أكثر اتساعًا، لتشجيع التعلم. ويمْكن تعليم هذه المهارات وتنميتها من خلال الاتصال والتعاون المباشر مع آخرين، واقعيًّا أو افتراضيًّا بواسطة الشبكة.
  3. الابتكار والإبداع
    يتطلب القرن الحادي والعشرون الاستمرار في ابتكار خدمات جديدة ومنتجات محسنة للاقتصاد، ويمْكن رعاية الابتكار والإبداع عن طريق بيئات تعليم، تُشجِّع على إثارة التساؤلات، والانفتاح على الأفكار الجديدة، وتصميم مشاريع للطلاب تؤدي إلى اختراع حلول لمشكلات واقعية.

ثانيًا: مهارات الثقافة الرقمية، وتشمل الآتي:

  1. الثقافة المعلوماتية
    إن الوصول إلى المعلومات بفاعلية وكفاءة، وتقويمها، واستخدامها بدقة وإبداع، يمثِّلون بعض المهارات التي تحدد الثقافة الرقمية. ومن الضرورة بمكان، توجيه الطلاب إلى فهم كيفية استخدام أنواع مختلفة من الوسائل، لتوصيل الرسائل، وكيفية اختيار المناسب من بينها، خاصة في بيئات التعلّم الجديدة المعتمدة على شبكات الاتصالات عن بعد، حيث دور المعلم أنْ يساعد طلابه ومدرسته على استثمار البيئة المعلوماتية الاستثمار الأفضل.
  2. الثقافة الإعلامية
    توفِّر مهارات تصميم الرسائل ونقلها، واختيار طرق التواصل لنشر الأعمال ومشاركتها مع طلاب آخرين؛ ثقافة إعلامية، تَبني وتُعزِّز فهم دور الإعلام في المجتمع، وتنمي المهارات الشخصية والتطوير الذاتي.
  3. ثقافة تِقْنِيَّةِ المعلومات والاتصال
    مع تَميُّز جيل عصر المعرفة بالتقنية، إلَّا أنهم يحتاجون دائما إلى التوجيه، حول الاستخدام الأفضل لتطبيق الأدوات الرقمية في مهام التعلم، وإلى تقويم مخاطر استخدام مواقع التواصل الاجتماعي. فالطلاب سيستفيدون من نصائح الكبار وتوجيهاتهم.

ثالثًا: مهارات الحياة والعمل، وتشمل الآتي:

  1. المرونة والتكيف
    تُجْبرنا السرعة الكبيرة للتغير التقني، على التكيف مع الطرق الحديثة للاتصال والتعلم والعمل والحياة. ويمْكن تعلُّم مهارات المرونة والتكيف، بالعمل على مشاريع تزداد تعقيدًا بالتدرج، وتتحدى فرق الطلاب لتُغيِّر طريقتهم في العمل، والتكيف مع التطورات الجديدة في المشروع.
  2. المبادرة والتوجيه الذاتي
    يمثِّل توفير المستوى المناسب من الحرية لكل طالب، لِيُمارِس التوجيه الذاتي والمبادرة، تحدِّيًا للمعلمين. وتُوفِّر المبادرة نشاطات مثل: التمثيل المسرحي، ولعب الدور، والتمهُّن (التدريب على مهنة معيَّنة)، وممارسة عمل ميداني؛ جميعها تَخلق فُرصًا لممارسة التوجيه الذاتي والمبادرة
  3. التفاعل الاجتماعي والتفاعل المتعدد الثقافات
    أكَّد البحث المعاصر أهمية الذكاء الاجتماعي لنمو الأطفال، ولنجاح التعلم بوساطة برامج ومواد متنوعة تدعم المهارات، وذلك بتصميم بيئات تَعلُّم مترابطة، تُقدِّم نشاطات -على سبيل المثال- لحلِّ الخلاف بين الطلاب، وعقْدِ تشكيل فريق معًا، قبل البدء في مشروع تعاوُنيّ.
  4.  الإنتاجية والمساءلة
    مع تزايد الطلب على العاملين والمتعلمين المنتجين في قطاع الأعمال والتعلم، تَبرز الحاجة إلى هاتين المهارتين لجميع الطلاب، وتعمل أدوات العمل المعرفي والتقنية، على تعزيز الإنتاجية الشخصية، وتيسير عبء المساءلة المتعلقة بمتابعة العمل والمشاركة فيه، بحيث يدير الطلاب العمل ويُبرزوا نتائجه.
  5. القيادة والمسؤولية
    يؤدي تقسيم العمل بين أعضاء فريق المشروع، وتوزيع المهام حسب نقاط قوة كل عضو، ومساهمتِهم في مُخرَجات مبتكرة، ومن ثم انتقال كل عضو إلى مشروع آخر مع مجموعة مختلفة للطلاب، نمطًا قويًّا من التعلّم، يمكِّنهم من تحمل المسؤولية وممارسة القيادة. وهي مهارات مهمة لموظف المستقبل.
أدوار المعلم المختلفة في القرن الواحد والعشرين

   أيضًا في ظل التطورات التي يشهدها القرن الحالي، أصبح لزامًا على المعلم كما ذكرنا، امتلاك مجموعة من الأدوار والمهام، حيث إنَّ دوره تحوَّل من معلِّم، إلى متعلِّمً ناشط ومرشد للمتعلّم وأعماله، وميسِّر وملاحظ للتعلم ومتأمِّل فيه، ليكون قادرًا على مساعدة المتعلمين على التغيير، وتشجيعهم وحفزهم على التأمل في ممارساتهم وأعمالهم، إذ لم يعُدْ هناك مجال لتلقين المعلومات، أو التدريس وفق أسلوب «محتوى واحد يلائم الجميع»، إذ للطلاب شخصيات وأهداف وحاجات مختلفة. وتقديمُ تدريس متفرِّد هو أمر ممكن بل وضروري أيضًا، عندما يكون متاحًا للمتعلم أن يختار. فإنه يشعر بتملُّكه للتعليم؛ ما يزيد من دوافعه ومجهوده. وهي طريقة ممتازة لمخرجات تعلُّم أفضل. وهذا دور المعلم المرشد، مَصْدر المعرفة، الذي يقوم بإعداد المعلومات وتوفير الأجهزة والمواد اللازمة للطلاب لاستخدامها، والتي تمكِّنهم من التوصل إلى الاستنتاجات بأنفسهم.

ختامًـا

   لا بد من العمل الجادّ، والسعي الدؤوب المتواصل، من أجل الارتقاء بجودة العملية التعليمية. وهذا يحتاج إلى بناء المعلم الواعي، والمُفكر، والباحث، والمُبدع، والمُبتكر، والقادر على إحداث التغييرات المطلوبة في المتعلمين وأفراد المجتمع المَحلِّي ومؤسساته. المعلم الذي لديه إستراتيجية خاصة للمستقبل من النواحي كافة، خاصة من الناحية التكنولوجية، حيث تقع عليه مسؤولية كبيرة عن الإلمام بكل ما هو جديد في مجال التقنيات التعليمية والتربوية، بحيث ﻟﻢ يَعُدْ هو اﻟﻤﺼﺪر اﻟﻮﺣﻴﺪ اﻟﺬي ﻳﺘﻠﻘﻰ ﻣﻨﻪ اﻟﻤﺘﻌﻠﻢ؛ وإﻧﻤﺎ هناك وﺳﺎﺋﻞ أﺷﺪ تأثيرًا وأﻋﻤﻖ أثرًا. وﻳﻘﺘﻀﻲ ذﻟﻚ ﻣﻨﻪ اﻻﺳﺘﺨﺪام اﻹﺑﺪاﻋﻲ واﻟﻮاﻋﻲ، واﻟﺘﻮﻇﻴﻒ اﻟﻔﺎﻋﻞ ﻟﻬﺬه اﻟﻮﺳﺎﺋﻞ ﻓﻲ ﺧﺪﻣﺔ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﺮﺑﻮﻳﺔ.
إن اﻟﺘﻌﻠﻢ ﻣﺪى اﻟﺤﻴﺎة ﻳﻘﻮد إﻟﻰ ﻣﺠﺘﻤﻊ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ، اﻟﺬي ﺗﺘﺎح ﻓﻴﻪ ﻓﺮص اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻓﻲ ﺷﺘﻰ اﻟﻤﺠﺎﻻت؛ ﺳﻮاء ﻓﻲ اﻟﻤﺪرﺳﺔ، أواﻟﺤﻴﺎة اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ، أو اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، أو اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ. ولِكَون اﻟﻤﻌﻠﻤﻴﻦ هم أكثر ﻓﺌﺎت اﻟﻤﺠﺘﻤﻊ اﻟمَعنيّة ﺑﻬﺬا اﻷﻣﺮ، ﻓﻬﻢ ﻣﻜﻠﻔﻮن ﺑﺮﻓﻊ ﻣﺴﺘﻮى ﻣﻌﺎرﻓﻬﻢ وﺗﻄﻮﻳﺮ ﻗﺪراﺗﻬﻢ ﻋﻠﻰ اﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ ﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ واﻟﻤﻌﻠﻮﻣﺎت وﺗﺤﺪﻳﺜﻬﺎ ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار، للوصول بالمتعلم إلى ما يجب أن يكون عليه في القرن الحادي والعشرين.


المراجع:
  1. كورونا يشل الجامعات… هل لبنان جاهز للتعلّم من بُعد؟ دكتورة نسرين شيا أستاذة مساعدة في الجامعة الأميركية في الإمارات، اختصاص تربية، التعلّم من بُعد. https://nahar.news/1160218
  2. معلم القرن الحادي والعشرين- د. أحمد عوضه الزهراني – يحيي عبد الحميد إبراهيم
  3. التنمية المهنية الإلكترونية للمعلمين في ضوء معطيات العصر الرقمي – مركز الأبحاث والدراسات التربوية
  4. مواصفات معلم القرن الحادي والعشرين بين النظرية والتطبيق – دكتور صلاح عبد الرازق
  5. التّعلّم في التّعطيل القسريّ – د. سلطان ناصر الدين.

لَرُبَّما يلزمُك حجرٌ لِيَقظتِك

 

لَرُبَّما يلزمُك حجرٌ لِيَقظتِك

أحدُ رجال الأعمال الكبار والمُتخَم بالمالِ والمُمتلكات يسيرُ يوماً بسيارته الفارهة والباهظة الثمن، وإذ بحجرٍ يضربُ مؤخِّرةَ سيارتِه، فأوقفها ونزل مسرعاً ليتفقّد الضّرر الذي أصابها ومن فَعل ذلك؟
نظرَ يميناً ويساراً فإذا بولدٍ يقف إلى جانب الطريق، والظاهر أنَّه لَرُبَّما كان هو الذي رمى بالحجر إلى السيّارة، فأمسكه دافعاً إيّاه إلى جانب الحائط ثم رفع قبضة يده ليصفع وجهه مردِّدًا وقائلاً : يا لك من ولدٍ أزعر، لماذا قذفت سيّارتي بهذا الحجر، ألا تعلم أنّه سيكلِّفك أنت ووالدك مبلغاً كبيراً من المال..؟
انهمرت الدموع من عينيّ ذاك الصّبي، لكنّه تجاسر وقال: سيدي لا أدري ما العمل، لقد مرّ وقتٌ طويلٌ وأنا أحاول لفت انتباه أيِّ شخصٍ يمرّ من هنا لكن لم يكترث أحدٌ لي، ولم يتوقَّف أيّ شخص ليسألني ما بك وكيف أساعدك، ثم نظر وأشار بيده إلى الناحية الأخرى من الطريق وإذا بولدٍ صغير مرميّ على الأرض ثم تابع كلامه قائلاً : إنَّه أخي وهو لا يستطيع السّير فهو مشلول، وبينما كنت أقوده وهو جالسٌ على كرسيّه اختّل توازنه فإذا به يهوي في الحفرة من جانب الطريق، وأنا صغيرٌ وليس بمقدوري أن أرفعه مع أنني حاولت كثيراً. فهل من فضلك أن تساعدني وإنّي مستعدٌّ لأجلب لك ثمن ما تضرّر من سيارتك من والدي.
الرجل الثّري صاحب السيارة، وكأنَّه استفاق من غفلة بعد أن أصابته نوبة من التفكير والتأنيب لذاته مردّداً قائلاً بينه وبين خالقه: أحمده على عدم تَسرُّعي بضرب الولد وإهانته، ثم أسرع إلى الولد المشلول الساقط في الحفرة فأجلسه ووضعه في الكرسي ثم أخذ منديلاً من جيبه ليمسح جراحه والتراب الذي تعفّر به وجهه.

الولد الذي ضرب الحجر نظر نحو الرجل وقال: سيدي لا تَلُمني من جديد وإنني ذاهب إلى والدي كي أجلب لك ما تريد، وأرجو أن تنتظرني هنا إذ يلزمني بعض الوقت. هزّ الرجل برأسه مطوَّلاً وأجاب: أنا الذي سأعتذر منك يا بُنيّ، ثم قبّل وجنتيه قائلاً: سامحك الله، سامحك الله وإنني سأبقي سيارتي هكذا حتى إذا نظرت إليها أتذكّر خَطَئِي وأقول عسى ألّا يُضطرَّ شخصٌ آخر يرميني بحجر كي أنظر إلى حاله..
هنا أقول: أليست هذه العبرة تماثل حال الحِراك أو «الثورة كما يقولون» في وقتنا الرّاهن من ضرب للحجارة سواء أكانت للمسؤولين أم إلى سيّاراتهم أو حصارهم أو قطع الطّرقات أو رفع العياط أو الصّياح في وجههم؟ لكن المؤسف أنَّنا لم نرَ رجلاً أو زعيماً يماثل ذلك الرّجل، فيتوقَّف ثم يُضمِّد الجراح ويعتذر عمّا اقترفته يداه أو طمعه.

حقاًّ إنَّه بعد مشاهدتنا، وعبر التلفاز، لهؤلاء الشباب والشابات وجهدهم وعزيمتهم وتعرّضهم للمطر والإهانات من قبل السلطات العسكريّة، ورغم ذلك فهم صامدون مستمرّون في مواقعهم ومواقفهم كي تتحقّق مطالبهم وأقلُّها لقمة عيشهم، أمّا جشع المسؤولين السياسيين والمقاولين السّارقين، وحتى التجّار الكبار اللاّعبين بالدولار وسواه لإفقار الشّعب وجعل مصيره ومساره في مهبّ الرّياح ناسين ومتناسين، بل ضاربين عرض الحائط غير آبهين لصراخ هذه الفئة الكبيرة من شعبهم، فهمّهم الأوَّل فيما بينهم أن يُقالَ: فلانٌ يملك ملياراً وآخر يملك ثلاثة وذاك خمسة وهذا بنظرهم غاية الذكاء والمقدرة…
أخيراً لهذا الشعب المقهور والمُذَلّ، ونحن منهم، نقول: ما لكم غير الصّبر والثّبات ورمي الحجارة، وفي النهاية لا يصحّ إلاّ الصّحيح، والله تعالى حاضرٌ ناظرٌ ولكل ليلٍ نهاية.

أنا ما قلت أنك لن تصبح والياً،

أنا ما قلت أنك لن تصبح والياً، بل قلت أنك لن تصير شريفاً

رجلٌ من بلاد نابلس رزق بولد سيء السيرة والسريرة، وبعد أن استنفذ معه كل ترهيب وترغيب ووسيلة، اضطر لطرده من بيته ونسيانه وما باليد من حيلة.
الولد حطّ به الرحال في بلاد الشام، ثم ما لبث أن انخرط في سلك العسكر في أيام بني عثمان. وأخذ يترقى أن أصبح قائداً كبيراً.
بعدما حالفه الحظ في إحدى المعارك، حيث كان النصر بوجهه أو من تخطيطه، عينه الصدر الأعظم ولياً على الديار الحلبية.
فطن عندها بوالده الذي حكم عليه بالفشل حكماً مطلقاً. وإنه لن يصير ولداً حسن السيرة.
أرسل الجنود لجلبه تحت الحفظ دون أن يخبرهم أن المطلوب هو والده.
لهذا سيق كأي رجل مخفورٍ ذليل إلى مدينة حلب.
بعد أن استدعاه الوالي، مثل بين يديه وهو منحني الظهر يرتعد من الخوف حتى أنه لم يتجرأ على رفع نظره نحو من استدعاه.
عندها سأله عن ابنه الذي طرده سابقاً، فظن المسكين أن ابنه قد ارتكب جريمة عظمية وهذا ما استوجب سوقه بالطريقة المخزية التي جُلب بها. فقال: «سيدي الوالي، ابني المذكور كان سيء السيرة والسريرة، منحرف الأخلاق، فاقد الكرامة.
وحينما يئست من جعله شريفاً، تبرأت منه وطردته من زمن طويل، وأنا حالياً لست أعرف عنه شيئاً ولست مسؤولاً عن تصرفاته».
ضحك الوالي وقال: «أنا ابنك سيء السيرة والسريرة، وها قد أصبحت والياً».
رفع الرجل المخفور قامته، وحدّق ملياً في وجه ابنه الوالي: « أنا لم أقل أنك لن تصبح والياً، بل قلت أنك لن تصير شريفاً، وما زلت عند ظني»..

الرَّحى

تشكل الرّحى حاليًّا أكبر تجمّع سكّني في محافظة السويداء بعد مدينة السويداء نفسها، أمّا في قديمها فقد أشار إليها العالم الآثاري علي أبو عساف إذ ذكر بأنّها «من القرى القديمة الهامّة، وذكر المؤرّخون القدامى أنّ مياهها قد جُرَّت بقناة إلى السويداء. وكان فيها معبد للربّة اللات (أثينا، عند اليونان القدماء). وكتابات يونانيّة، وبعض أجزاء البيوت القديمة»(1)، ومن الثابت أنّ ازدهارها في القديم مُتزامن مع ازدهار السويداء وقنوات منذ العصر النبطي والروماني والبيزنطي المسيحي / الغساني /.حيث كانت مُحاطة بسور قديم وإلى الشرق منها مسافة 2كلم تقع خربة «خراشة» وبقايا دير أثري قديم يُعْرَف باسم «دير حَنّا» يقع وسط الحرش على مسافة 4 كلم منها، وهناك آثار دير حبيب شمال شرق القرية نحو 3كلم وإلى الغرب منها تقع عين الحنيش على مسافة نحو 100م، وكان بها مطاحن مائية إحداها جنوب القرية على وادي المَلَز وأخرى غرب كوم خراشة نحو 300م.وكان فيها بقايا جامع إسلامي (في دار يوسف عباس أبو راس حاليّاً).
وفي الرّحى مَزار يُدعى بـ «السلطان سليمان» وفي جداره الجنوبي حجر مثقوب يدعى حجر الغَشْوَة لِمَنع وقوع الأطفال في الغَشْوة، إذ يُمَرّر الطّفل منه ثلاثاً فيشفى.
عندما ضعفت الدولة العثمانية، خاصة في قرنيها الأخيرين؛ الثامن عشر والتاسع عشر ازداد خطر الغزوات البدوية حتى كاد الجبل أن يفرغ من سكانه خصوصاً على أطرافه الجنوبية والشرقية والشمالية.
وقبل أن يتوطّنها بنو معروف الموحّدون قبيل أواسط القرن التاسع عشر كانت الرّحى قرية ضئيلة الشأن كما نعتها الرحّالة بركهاردت عندما مرّ بها عام 1810 ولم يذكر شيئاً عن سكانها الذين كانوا من غير سكانها الحاليين، ويبدو أنَّهم لم يُحسنوا استقباله فنعت قريتهم بـ «الحقيرة»(2). وكانت حينها قرية مسيحية صغيرة تقطنها عائلات مسيحية من أصل غساني تنتمي لعشائر الكَركية والمرجيّة وكانت الرحى في العقدين الأوَّلين من القرن التاسع عشر واسعة المراعي التي تصل إلى قرية سالة على الطرف الشرقي من الجبل، يسكنها آل النمير والجهيّم والخوري وشليويط… (وقد انتقل هؤلاء إلى سُكنى السويداء كآل الجهيم وإلى قرية الدارة كآل شليويط وخَرَبا كآل الخوري وآل الجابر إلى الأصلحة غرب السويداء). كانت قرية غنية بالينابيع أغزرها عين خراشة وعين الخشبة شرق البلدة وعين الدِّمْشِق جنوب شرقها وعين الحصوة غربها كما كان في القرية مطخان لجمع مياه الشتاء وسيول الينابيع لسقاية المواشي ويرجّح أنّ أصلهما مقالع لأحجار البناء استفيد منهما لهذا الغرض أحدهما مكان الموقف الحالي يأخذ ماءه من وادي القرية (وادي المزار)، والثاني مطخ النوفرة ويقع في الحديقة الحالية للقرية. وقد رُدم كلاهما بعد إنشاء شبكة مياه الشرب في القرية.
أمّا سكن العائلات المعروفيّة فقد بدأ نحو أربعينيات القرن التاسع عشر(3).
وفي معنى اسمها: الرّحى جمع أرحاء، وتعني الصّدر. وسيّد القوم يقال فيه: هو رحى قومه، والرحى: الطاحون، والراجح أنّ اسمها جاء من تعدّد الطواحين على أوديتها السيلية وينابيعها.
وتتبع الرّحى منطقة السويداء وتبعد عنها 5 كلم إلى جهة الجنوب الشرقي وتتصف بطبيعة أراضيها الحجريّة الجبلية خاصة من جهة الشرق، بينما تميل بلطف إلى الغرب منها حيث ينحدر سطحها بشكل أمْيَل للسهولة، وكانت في قديمها قرية غنيّة بالمياه، ويشير سعيد الصغير أنّه في القرن الثاني للميلاد بُني في السويداء معبد لآلهة المياه كانت مياهه مجلوبة بأقنية من قرية الرحى(4).
وترتفع القرية 1250 م فوق سطح البحر، وهي قرية قديمة العمران، وفيها معبد وثني يحمل اسم الآلهة النبطيّة اللات(5).
ويذكر اللبناني عبد الله النجار ـ مدير معارف جبل الدروز عام 1924 ـ اسم الشيخ فرحان أبو راس قاضي الدم (من قرية الرحى بين عامي 1915ــ 1959) من بين زعماء وشيوخ القرى الذين شيّدوا أركان الجبل قبل نحو مئة عام(6).
عام 1981 كان عدد سكانها 2930. أمّا اليوم فيقطنها نحو 25000 نسمة وفدوا إليها من سائر قرى الجبل بحكم قربها من مدينة السويداء مركز المحافظة التي تستقطب الكثير من الموظفين والعاملين في المهن المختلفة، بالإضافة إلى وافدين من خارج المحافظة منهم نحو 150 أسرة من دروز إدلب وآلاف آخرون من المحافظات السورية وفدوا بتأثير المحنة السورية بعد عام 2011..

بشير الشهابي الثاني يلجأ إلى قرية الرّحى في جبل حوران
جانب من غابة الرحى

ويذكر الشيخ عباس مسعود من بلدة الرّحى في كتابه «موجز تاريخ العالم»، أنّه لما مات الكُرجي ـ سليمان باشا ـ خلفه على ولاية عكا (عبدالله الجزار ) وكان فتىً لا يتجاوز التاسعة عشرة من عمره (هو نجل أحد كبار أرباب الدّولة في الآستانة)(7) وعندما أصبح حاكما لسواحل سورية الجنوبية، (وهو إذا لُقِّب بالجزار) فلكثرة ما سفك من دماء كسلفه أحمد الجزار لأنّه أكثر طموحاً منه ولم يتحرّج عن المُصارحة برغبته في خلع السلطان محمود الثاني وتتويج نفسه خليفة للمسلمين، ونقل العاصمة من الآستانة إلى عكّا، فكان طبيعيّاً أن يلحّ على الأمير بشير التابع له بطلب المال ليُفْقِرَه ولا يترك له فرصة لتقوية نفسه، فلمّا عجز بشير عن تلبية مطالبه انسحب إلى حوران عام 1820، وقد نزل الأمير بشير الشهابي ومعه كتيبة من جنده الفرسان في جبل حوران الدروز وكان الأمير بحاجة إلى من يقدّم له ولجنده الغذاء الكافي، وكان (حينها) زعيم البلاد ابن حمدان بمدينة السويداء فجمع لديه شيوخ القرى وسألهم: من يستطيع أن يلتزم تقديم الغذاء للأمير بشير وجنده فقالوا لا يستطيع أحد أن يقدّم هذا الطلب إلّا الخوري سلمان النّمير في قرية الرحى فأقرّ رأي الجميع على ذلك ونزل الأمير بشير على نبع «خْراشة» وكان الخوري يملك حينئذٍ أكثر أراضي الرَّحى ويملك من المواشي عدداً يزيد عن الثلاثة آلاف رأس من البقر والغنم والماعز فاستقبل الخوري الأمير بغاية من الاحترام وصار يقدم له جميع ما يلزمه من رز وبرغل وذبائح وسمن وجميع المواد الغذائية الموجودة حينئذٍ
وبعد أن اجتمع مشايخ الدروز وكبار الموارنة في قرية السمقانية بلبنان وقرروا رجوع الأمير جاء الأمير إلى عند الخوري سلمان وعرض عليه كي يستلم ثمن ما قدّمه ويقال إنّ المبلغ يزيد عن ألف ليرة ذهبيّة فقال الخوري أنا قدّمت طعام الضيافة للأمير ولا يمكن أن آخذ قرشاً. فقال الأمير: الضيافة تكون للأفراد وبعض الجماعات لكنّها لا تكون للكتائب والجيوش فأبى الخوري أن يستلم شيئاً…»(8)..

سكان الرحى الحاليون
الشارع العام

أقدم من سكن الرحى من العائلات المعروفية هم آل أبو راس، قطنوها نحو عام 1840 وعميدهم حينها عثمان أبو راس وهم عشيرة عربية قحطانية «وهم منتشرون في عدة أقطار عربية… الفرع الدرزي منهم ارتحلوا من الحجاز إلى العراق ونزلوا أخيرًا في الموصل ثم انتقلوا إلى حلب في حدود القرن الثالث الهجري زمن التشتت القرمطي على الأرجح وهذا حال عائلات درزية كثيرة غيرهم ثم حدث لهم ارتحال جديد زمن الحروب الصليبية ويذكر شيوخهم أنهم سكنوا كفرقوق (من حواضر راشيا)، وقد ارتحلوا عن وادي التيم سنة 1792 وقصدوا الجبل نحو عام 1805(9).
نزل جدهم عثمان أبو راس في القريا ومعه أخوه محمّد وأبناء عمه علي ومراد ونصر الدين، وقد ترأس عثمان سكّان القريا الأوائل ومنهم البلخيّة الحوارنة مدة 25 سنة ثم انتقلت الأسرة من القريا إلى العفينة فَعَيْن مَصادّ (قرية مصاد الحالية) فالرّحى، وقد عقد آل أبو راس مع مسيحيي الرحى حلفاً بالتآخي على النار والدم. لأن آل أبي راس الدروز هم أزديون يمانيون كالغساسنة المسيحيين اليمنيين أصلاً. وفيما بعد أخذ آل أبو راس مكان آل الخوري الذين انتقلوا إلى خربا بالتراضي بين الفريقين كما يقول الرحّالة حنّا أبوراشد، ومن الراجح أن سكن آل أبو راس للرحى يعود لعام 1840، ومن رجالهم فيها من مارس قضاء الدم قديماً وحديثاً ففي عشرينيّات القرن الماضي كان منهم القاضي هاني أبو راس، ومن الأسرة فصيل يسكن في بلدة نيحا الشوف وينتمون لتجمّع بني خميس»… ومن العائلات التي استوطنت في الرحى إلى جانب آل أبو راس آل كنعان وهؤلاء أصلا من آل شنيف قدموا من جبل الشوف من دير القمر، وكانوا قد سكنوا برهة في عين وزين بعد ترحيلهم من منازلهم في دير القمر، ولما انتقلوا إلى جبل الدروز كما كان يدعى في حينه سكنوا في خربة المجيدل جنوب غرب السويداء، وقد عرض عليه شيخ الدروز الحمداني حينها سكنى السويداء على أثر خلاف بينه وبين آل قطيش، لكن محمّد أبو راس شيخ قرية الرحى شجّعه على القدوم إليه في الرحى، إذ قال له «هذه القرية بيت شَعْر ومراعٍ واسعة لمواشيك في فضاء البرّية» وأعطاه ربع أراضي القرية وكان الرجل يمتلك أعدادا كبيرة من المواشي منها أغنام نحو 400 رأس ونحو 40 بقرة حلوباً وثلاثة أفراس كحايل تُسقى من الحليب وكان في الرحى ثلاث مضافات الأولى لآل أبو راس والثانية لآل كنعان والثالثة لآل أبو صعب وممّا يجدر ذكره أن آل كنعان هم أخوال الأمير السيد وأخوال الشيخ أبو حسين محمّد الحناوي.
ومن عائلات الرحى آل أبو غازي والحلبي وعلوان وأبو زكي ومنذر والأعوج ورباح وأبو درهمين وعبد الخالق وأبو غاوي والشعّار وعقل وأبو حمزة وهي عائلات لبنانية الأصل بمعظمها …وهناك المئات من الأسر الوافدة من حواضر الجبل وغيرها وقد تملّكت بيوتا في الرحى لقربها من السويداء مركز المحافظة ويبلغ عدد الكُنى 365 كنية من غير عائلات الرحى الأصليّة…
وكانت بعض الأسر البدوية تسكن في البلدة لكن وبسبب من التعديات على الكروم والمزروعات نشبت فتنة تسببت بترحيلهم من الرّحى عام 2000.

مصادر الرزق في الرحى

تتعدد مصادر الرزق في البلدة وأبرزها زراعة الحبوب والكرمة والتين والتفاح واللوزيات كما يربون الأبقار والدواجن ويعملون بالتجارة والأعمال الحرة والوظيفة في دوائر الدولة والخدمات العامة يضاف إلى ذلك؛ الهجرة والاغتراب في الخليج وفنزويلّا والعديد من دول الخارج، وتشكل الحوالات التي ترد من المغتربين مصدراً هاما من مصادر الرزق للمواطنين المقيمين في الرحى وهناك كثيرون يرددون عبارة شائعة على الألسن تقول: «لولا الحوالات لجاعت السويداء..».
وفي البلدة ثلاثة آبار جوفية أحدها على عمق 1200م لتزويدها بمياه الشرب

الزراعة وتربية الحيوان:
قبل أن تصبح الرحى بلدة خدمات، هي بالأصل قرية زراعيّة تبلغ مساحتها العقاريّة 14000 دونمًا، منها 8000 دونم أراض زراعية، ونحو 4000 دونم هي مساحة المخطط التنظيمي، و2000 دونم أملاك دولة من ضمنها حرش الرّحى وسُرُر الوديان وتوجد بعض المناطق الإدارية داخل القرية القديمة تحت تصرّف البلدية ومنها ما وُزِّع للمنافع العامّة لبناء مدارس أو حدائق أو محاضر تخص البلديّة، (حديقة واحدة مساحتها نحو 1000م2 وساحات عدد 4 مساحتها نحو 4000م2).
وبعد أن صُنفت البلدة ضمن منطقة الاستقرار الأولى تراجعت زراعة الحبوب فيها لصالح زراعة الأشجار المثمرة وهذه من أهم زراعتها حاليًّا.
الزراعات في بلدة الرحى
الزيتون ويشغل: 3015 دونمًا إذ تؤمن الاكتفاء الذاتي فقط حيث لا جدوى اقتصادية مُغرية منه بسبب الارتفاع عن سطح البحر ونقص كميّة الأمطار التي يتراوح متوسّطها السنوي بين350 ــ 400 ملم3. وقد يتراجع إلى ما دون ذلك في سنوات الجفاف. ومن المعروف أنّ شجرة الزيتون تتطلب 800 مم3 سنويًّا، ويزرع الزيتون في الأراضي الواقعة إلى الغرب من طريق الكفر ــ السويداء المارّ بالرّحى. أمّا:
التفّاح: فيُزرع إلى الشرق من البلدة ويشغل مساحة 2773 دونماً، ويبلغ عدد الأشجار 69325 شجرة، بالإضافة إلى كروم العنب والتين بمساحة نحو 1000 دونم (25000 غرسة)، واللَّوز (6000 شجرة) والكرز…
الحبوب: تراجعت إلى نحو 375 دونماً تُزرع بالقمح والشّعير والحِمَّص..
تربية الحيوان: في الرحى 159 بقرة حلوباً ودواجن وطيور تربّى في المنازل…
الجمعية التعاونية الزراعية: تقدم خدمات للفلّاحين بسعر التكلفة من المصرف الزراعي كأعلاف الأبقار الحلوبة والغراس على أنواعها والعمل على شق الطرق الزراعية وتعبيدها مجاناً وعقد ندوات توعية زراعية للمزارعين وإجراء دورات تدريب زراعية حقلية للزيتون والتفاح ودورات إرشاد زراعي وإذاعة مواعيد الرش للأشجار المثمرة وعرض كافة البيانات للأخوة الفلاحين فيما يتصل بأصول الزراعة حسب التنظيم الزراعي. وتعمل على طلب دعم الفلاحين ماليّاً في حال حدوث صقيع والتعويض على المتضررين من قبل الجهات المختصة في الدولة.
ومن المشكلات التي تواجه مزارعي البلدة تراجُع جَوْدة وفعالية الأدوية الزراعية والمبيدات، إذ أصبحت مسألة استنفاع وغش، بالإضافة إلى عدم فعاليّتها فإنّها تضر بإنتاج المزارعين…
كما يوجد في البلدة 45 براداً لحفظ الفواكه كالتفاح وغيرها متوسط سعتها 1000طن للبرّاد الواحد، وفرن يخبز يومياً 2طن من الطحين، ومحطتا بترول ومركزين لبيع المازوت للمواطنين.
وفي البلدة 3 صيدليات و 3 أطباء أسنان وطبيب عام ومعمل للأوكسجين الصناعي يعمل فيه نحو ثلاثين عاملاً وعاملة، ومعصرة زيتون ومعمل للراحة وثلاثة محلات لصنع الحلويات وأربعة معامل لصناعة أحجار البناء الإسمنتية، و 6 محلات لتصنيع الخشب (موبيليا) و 5 محلات حدادة أفرنجية ومحل خياط عام واحد و 2 محل كهرباء سيارات و 2 محل ميكانسيان و 2 محل كومجي (دواليب) و8 محلات ألبسة و 5 محلات أدوات صحية و3 محلات لبيع الفرّوج ولحام بقر واحد و13 محلاً لبيع الخضار والفواكه و 40 محلّاً سمانة وتوابعها و 2 محل تصليح الدراجات النارية ومدرسة لتعليم قيادة السيارات.

بعض من الآثار
شخصيات هامة في تاريخ الرحى

اشتهر الشيخ أبو يوسف حمد أبو راس كقاض للدم اصطلح عليه في الجبل والشيخ أبو حسن مرعي أبو صعب كمجبّر مجّاني لكسور العظام على مستوى محافظة السويداء. وخارجها.
والشيخ أبو حمد عباس ملحم مسعود معلم مدرسة ضليع في اللغة العربية ومرجع واسع المعلومات وله كتاب «موجز تاريخ العالم».
وهاني أبو صعب الذي تصدى لحملة الشيشكلي التي هدفت لاعتقال سلطان باشا الأطرش وقد استشهد في حرش السهوة غرب طريق الكفر …
وفيّاض جودية الذي ترك أسرته في عريشة في الكرم وذهب مجاهداً ضد الفرنسيين في معركة المسيفرة استشهد هناك…
والباحث في التاريخ الشيخ فؤاد أبوراس وله عدة كتب في ذلك منها: تاريخ البريد، ويوميات الثورة السورية الكبرى، وقبائل تنوخ وأيامهم المشهورة والنزوح السكاني إلى جبل حوران، وسنفرد له بحثاً خاصاً في عدد لاحق.
الدوائر والمرافق العامة البلدية: تؤمّن تخديم مواطني البلدة البالغ عددهم نحو 25000 ألف نسمة، حيث تشرف على إنارة الشوارع (2000 نقطة ضوئية بنسبة تخديم 70%) وتشرب البلدة من ثلاثة آبار جوفية تخدّم 85% من بيوتها عبر شبكة مياه الشرب، وتعمل على تعبيد وتزفيت الشوارع التي يبلغ طولها 65 كلم تخدّم 66% من السكان وتراقب المحلات التجارية وتمنح تراخيص البناء والتراخيص الإدارية وتنظيم الأراضي وتبلغ نسبة البيوت المخدّمة بشبكة الصرف الصحي البالغ طولها 67 كلم، 77% من بيوت البلدة، والبيوت المخدمة بالكهرباء 100%.
جمعية الهلال الأحمر: رئيسها السيد عدنان أبو راس، وقد أفادنا أن الجمعية تملك مبنى مساحته 175 م2 مهيّأ كمركز صحي يستقبل طبيب أطفال يوماً في الأسبوع ويراجعه نحو خمسين مريضاً وطبيبة نسائية يوماً آخر، كما يستقبل عيادة شاملة متنقلة كل شهرين مرّة، وفي المبنى مخبر يعمل يومياً على تحليل السكر لزائريه مجّاناً وهناك عشرون متطوعاً من ممرضين شبان وشابات من القرية يقدمون الخدمات الطبية لرواد المركز…
وفيه يتم تقديم مساعدات، سلال غذائية على الوافدين من المحافظات السورية المنكوبة وعلى المحتاجين من أسر الشهداء والجرحى والمعاقين بواقع 350 سلة غذائية.
كما يتم تقديم مساعدات مادية وعينية للأسر الفقيرة وللطلاب الجامعيين المحتاجين وتعمل على تكريم المسنين وتقديم الهدايا لهم وتوزع عكّازات (65 عكازاً) وأسرّة طبية للعجزة و(ووكر للمشي) وأدوات طبِّية وكراسيَ للعجزة على شكل إعارة وقناني أوكسجين لمرضى الربو ويتم دعم هذه الجمعية من قبل متبرّعين من داخل الرحى وخارجها وتساعد الجمعية في تقديم قرطاسية وأقلام وحقائب لطلاب المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية في الرحى بالإضافة إلى تقديم المساعدات للطلاب الجامعيين الفقراء وعددهم عشرون طالباً بواقع 3000 ل.س شهريّاً لكل طالب
وتعمل على تأهيل وتدريب الكوادر على كيفية إعطاء الحقن الطبية والإسعافات الأوّلية…
وتتعاون مع عيادة سنية في البلدة تخفض 35 بالمئة من تكلفة العمل.
الجمعية الخيرية في البلدة: رئيسها الأستاذ غسان أبو راس وقد أفادنا أنّ الجمعية تأسّست عام 2010، بهدف رعاية الأسر المحتاجة وتقدم مساعدات عينية من ألبسة وأغذية كما تقدم الدعم المالي والمعنوي في المناسبات لأسر الشهداء والأمهات وتقوم بتقديم الدعم المالي لطلاب الجامعة المستحقين بواقع 5000 ليرة شهريّاً لـ 25 طالباً وطالبة واللباس الشتوي لتلامذة المدارس المستحقين (سترة وطاقية ولفحة وخفافة وجرابات لـ 310 طلاب)، كما تقدم 50 سلّة غذائية شهريّاً من أرز وسكر وزبدة ولبن وزيت للأسر المحتاجة
ويبلغ عدد أعضاء الجمعية 800 عضواً من أبناء البلدة وتتلقّى المساعدات من المشتركين وأهالي البلدة والمغتربين وتقوم بالإضافة إلى ذلك بمشاريع توعية للمواطنين على مخاطر المخدرات وإقامة معارض لرسوم الأطفال.
كما تملك مستودعاً للأجهزة الطبية يقدم أسرّة طبّية مُخدّمة للمعاقين على شكل إعارة مجانية (16 سريراً) وثماني كراس ٍطبيّة مدولبة ومخدّمة للمقعدين وثماني أُخرى غير مدولبة وووكر لمساعدة المصابين بعجز عن المشي، وعصي وووكر للأطفال وعكازات وأسطوانات أوكسجين لمرضى الربو عددها ثماني أسطوانات تتم تعبئتها بنصف الكلفة مساهمة خيريّة من معمل الحلّال (750 ليرة سورية بدلاً من 1500ليرة)، وأربعة أجهزة رذاذ لمرضى الربو وضيق التنفس.
كما تقيم الجمعية دورات تقوية مجانية لطلاب الصف التاسع والثاني عشر بنصف الأجر سابقاً وستكون مجانية لهذا العام.
وتسعى الجمعية لاستملاك قطعة أرض وبناء مكاتب كمشروع استثماري وصالة أفراح وبرّاد تفاح خاص بها.
كما تقيم الجمعية أمسيات شعرية ومحاضرات ثقافية ودينية تبين أصول علاقة الفرد بالأسرة والأسرة بالمجتمع وتعمل على نشر ثقافة العمل الخيري وتوضيح مخاطر وسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال وأضرار المخدرات.
وفي الرحى فرقة فنون شعبية تراثية منذ 1970 ونادٍ رياضي ومجلس عبادة للموحدين الدروز بناؤه يوحي بالبساطة والغنى الرّوحي الذي يتمتع به الموحّدون الدروز(10).


المراجع:

1. أبو ساف علي، الآثار جبل حوران، ص 157.
2. بركهاردت، رحلة في جبل حوران، تر: سلامة عبيد، ص 21.3.
3. مقابلة مع الباحث في التاريخ فؤاد أبو راس، في 15/3/2020.
4. الصغير، سعيد، بنو معروف في التاريخ، 358.
5. نصر، إسماعيل متعب، السويداء ص 90.
6. النجار، عبد الله، بنو معروف في جبل حوران، ص 126، 456.
7. الصليبي، كمال، تاريخ لبنان الحديث، ص 55.
8. مسعود العريضي، عباس، موجز تاريخ العالم، ص 455ــ 456.9.
9. عمّار، يحيى حسين، الأصول والأنساب، ص 9.10. المصدر نفسه
10. أبو الحسن، صالح عْمَار، ديوان شعر شعبي، ص 16

فِكرةُ المَوت عندَ أبي العَــلاء المَعَرِّي

في المَوت والأسئلة المرتبطة به

صدقَ أبو العلاء المعرّي، عبقريُّ كلِّ الأزمنة، حين اعتبر وبجرأة نادرة، أنَّ ما من حقيقة عَصِيّة على الشك، أكثر من حقيقة الموت:

سألتُ عن الحقائق كلَّ يومٍ فما ألفيتُ إلاّ حـرفُ جَحْـدِ
سوى أنِّي أموتُ بغيرِ شكٍّ ففي أيِّ البلاد يكون لحدي!

من يجرؤ غير المعري على القول أنّ كل ما لديه أو ما بلغه من حقائق يمكن الشكّ بها كلّها، خلا الموت (سوى أنِّي أموت بِغَير شكٍ). جرّ البيتان أعلاه عليه أكثر من اتّهام ممَّن كانوا يتربّصون به الدوائر، فيما هم كانوا قاصرين عن إدراك المعنى العميق الكامن في البيتين أعلاه. وسأعود إلى تحليل تَفرُّد هذين البيتين من الشعر بكلِّ المعايير في ثقافتنا، وربّما في الثقافات العالمية الأُخرى. لكنَّنا لِنمرَّ أوّلاً بفكرة الموت نفسها، وما تحتويه من أهمّية بل وأولوية.
أجَلْ، لا شيءَ مُشترك بقوَّة بين كائنات الكون كافة، كمثل الاشتراك في حقيقتَيِّ الولادة والموت.
وإذا كنّا في الكثير من الحالات – وبخاصّة في تلك البالغة الصِّغَر (الميكرو) أو البالغة الكِبَر (الماكرو) أو البعيدة جدّاً، far distant – لا نستطيع ملاحظة حالات الولادة، فإنَّ حالات الموت (أي الزّوال والاختفاء) هي بالمقابل ساطعة، من موت شجرة في الحديقة، إلى موت قريب، إلى موت حضارة، وصولاً إلى «موت» مَجَرّات بأكملها في الفضاء البعيد، تبعد عنا ألاف ملايين السنوات الضوئية، لا نكتشفها إلَّا لِلَحظات وقبل أن تتلاشى وتبتعد، أي «تموت» بمعنى ما.
ما الموت إذاً؟ في المعاجم الدقيقة الموت هو: «نهاية أي شكل من أشكال الحياة في الإنسان، أو الحيوان، أو النبات» إلَّا أنّه يمكن الحديث كذلك على «ما يشبه الموت»: موت صحيفة، موت إمبراطورية، موت آمالنا، موت قلب، موت حُب، وما يشبه ذلك على سبيل المثال.
وفق جورج أليوت، وغير بعيد عن فكرة أبي العلاء في بيتَيِّ الشعر أعلاه، «الموت قائم في كلّ جزء من الوجود»
باختصار، الموت هو المُتَغيّر الطارئ، بل القوَّة التي تنهي الحياة. قوّة مكروهة، غير مُسْتَحَبَّة؛ قوّة قادرة، أقوى منَّا، ولا سبيل لنا لردّها، تخطف منّا في لحظةٍ مَنْ أو ما نُحب من دون أن تكون لنا القدرة على منعها؛ قوّة مخيفة، أقوى من الوِلادة، بل أقوى من الحياة نفسها – لذلك سيقول المعرِّي في بيت من الشعر في قصيدته الخالدة:

إنَّ حُزناً في ساعة الموت أضعافُ سُرورٍ في ساعة الميلاد

في كلّ الأحوال، ودون استثناء: الموت أقوى مِنّا (لاحِظْ معي المعنى العميق والمُتداخل بين «الموت حقّ»، و «الله حق». ذلك صحيح على وجه الإطلاق، حتى حين يختار شخص أن ينتحر – أي يميت نفسه إراديّاً – فهو في الحقيقة إنَّما يخضع بطريقة مختلفة لسلطة الموت. خذ مثلاً حين تَجَرّع سقراط كأسَ الموت في مُعتقله، فهو إنَّما كان يمتثل لسلطة القانون، وإنْ يكُ غير عادل: اختار الموت، كأسَ السمّ، على أن يخالف القانون الذي طالما دعا إلى طاعته.
الموت الإرادي هو من دون شك أقوى أشكال الموت الصادمة، ولكن لعلّ قوته وصداه في هذه الحياة، كما بعدها: لذلك يستشهد الأبطال طائعين، ويستشهد القدّيسون والرّسل طائعين، وأعظم مثال على ذلك قبول يسوع الاستسلام لجلاّديه – وكان في وسعه كما قيل تفاديهم – والعبرة جليّة: التخلّص من الفكرة المادية التقليدية في أنَّ الموت هو نهاية الحياة. أراد يسوع أن يعطي درساً شخصيّاً، أنه بالإمكان قهر الموت بالموت. أي الخلاص عبر الموت. ولا أخرج عن الموضوع إذ قلت: إنَّ إقدام سقراط طائعاً على تجرّع كأس الموت (وكان يستطيع الهرب من السجن وتفاديه)، وإقدام يسوع على قبول الموت والصّلْب راضياً (وكان يستطيع تجنبّه)، إنّما كسراً نهائياً مع سُلطة الموت، بل ومع الديانات البدائية الطبيعيّة التي عبدت الموت (أو إله الموت تجنُّباً له): مثال سقراط، ويسوع، إضافة إلى مُعتقد الحياة بعد الموت، هي رمز لانتصار الحياة على الموت – أي كسر لحتميّة الموت المخيف المطلق والذي لا رادّ له.
إلّا أنَّ الموت يبقى أكثر من ذلك. رغم ألّا نقاش في حتمية الموت الذي سيعقب عاجلاً أو آجلاً كلَّ ولادة، في الإنسان والحيوان والنبات، إلّا أنّ البشر توقفوا دائماً وطويلاً عنده، فتأمَّلوا ما انطوى عليه من معانٍ كُبرى. خاف منه البعض، هَزِئَ به بعضٌ آخر، وتفكّر فيه قلَّة من المفكّرين (مثل المَعرّي قديماً وشوبنهاور حديثاً) والقدِّيسين (من أمثال القديسة تريزا)، وبعض المتصوِّفة الذين تمنَّوا الموت ليُسرعوا في التخلُّص من الجسد، الحجاب الكثيف الذي يعيق انطلاق الروح لتشاهد الله روحاً وعقلاً خالصاً، وربَّما لتتَّحد به عند بعض غُلاة المتصوِّفة.
وفي السياق هذا تحديداً يأتي الوعي العميق للطابع الإشكالي الذي قدّمته المسيحيّة المُبكِّرة حين جرى ربط الخطيئة بالموت، وفي سيرة يسوع الناصري القصيرة على وجه التحديد «الذي قهر الموت بالموت».

الطابع الإشكالي غير البسيط للموت يمكن متابعته قبل ذلك في الأشكال الثقافية المختلفة للبشر، وتحت غير عنوان: الحياة والموت، الدّين والموت، الحضارة والموت، الفن والموت، الحب والموت، العبقرية والموت، الانتحار والموت، الجنون والموت، التقمّص والموت، الموت والليل، الموت في الفلسفة، الموت في الأنثروبولوجيا، وغيرها من الأبواب والمباحث.
وعليه فالدرس الأوّلي والأكثر أهميَّة الذي نستخلصه من المقارنات تلك هو أنَّ الموت، وفي كلِّ الأحوال، هو جزء من الحياة وليس نقيضاً لها: فالحياة إنَّما تكون بالولادة والموت معاً. الموت، إذاً، مكوّن آخر من مكونات الوجود، أو عنصر من عناصره. وعليه فأنت تَجدُه حاضراً بقوّة في نتاجات البشر كافّة، وفي دياناتهم وممارساتهم الدينية على وجه الخصوص.

الموت في ديانات البشر، البسيطة ألأوّلية ثم التوحيدية اللّاحقة

لا تخلو ديانة قديمة من الديانات، أو دين حديث من الأديان، من اتِّكاء حاسم إلى فكرة الموت.
فكل ما بقي أو بلغنا من الثقافات الأولى البسيطة، أو ما سنُسَمِّيها على ما هو شائع ثقافات الجماعات «البدائية» يشير إلى أنّ البدائيين، جماعاتٍ وأفراداً، مَحَضُوا ظاهرة الموت أقصى درجات التوقير والاحترام، فتشكّل نسيج حياتهم المادي والرّوحي والاجتماعي حولها ومن خيوطها، بل لعلّها كانت حجر الزاوية في دياناتهم الأوّلية البسيطة. وليس في ذلك ما يدعو للاستغراب. فَحدَثُ الموت في جماعة صغيرة جدّاً (أكان في الخليّة الأصغر أو في الأوسع قليلاً) هو أمر صارخ لا تمرّ به الجماعة مرور الكرام. فأن يكون بينهم فردٌ شديد الالتصاق بالأفراد الآخرين في الجماعة ثم فجأة يزول، يختفي، يغدو غير موجود (أي يموت) ومن دون سبب واضح للبدائي ذاك، لأمرٌ صعب التصديق. لذلك يمرّ ردّ فعل الانسان (البدائي وغير البدائي) حيال موت أحد أفراد أسرته أو جماعته الصغيرة، بثلاث حالات متعاقبة:
1) الصدمة النفسية والجسدية، ثم: 2) الطّقوص التي تُظهرُ التوقير والاحترام، وأخيراً 3) التأمُّل في واقعة الموت نفسها وربما استخلاص أفكار إضافيّة منها وبسبب منها.
تظهر الصدمة رمزيّاً وجسديّاً في التَّفَجُّع الذي يصيب أفراد أسرة الميت، من عدم التصديق إلى الرغبة في التماهي معه حتى في الموت: وتفجّع عشتار أمام مشهد موت أدونيس ظل يُلهِم الفنّانين والشعراء طويلاً.
أمّا التوقير فهو فعلُ الاحترام الهادئ لِلمَيْت الذي يلي صدمة الموت. تستمرّ الطقوس المعبّرة عن توقير الأسرة والجماعة للفرد الميْت لأيّام وأحياناً لأسابيع، وفق تفاصيل وطقوس تتعمّد إظهار أقصى درجات المحبّة للفرد الميت (وفي وسعك أن تقول الخوف منه أيضاً) والاحترام لذكراه وكأنَّه لم يغِب أبداً، إلى درجة أنّ بعض القبائل في إفريقيا، وربما في أمكنة أخرى، وحتى اليوم، لا تقوم بدفن موتاهم إلّا بعد حين، أيّام، أسابيع، وربّما أكثر من ذلك.
وأخيراً، وبعد انقضاء الدّهشة والطقوس، ينشأ حال من التأمُّل في واقعة الموت التي حدثت، التفكير فيها وربَّما أستخلاص أفكار إضافية منها كما سنرى. أُقدّم حالات التأمُّل والتفكير التي تعقب حدث الموت والطقوس المرتبطة به ما نجدها في ملحمة «جلجامش» في بلاد ما بين النهرين (قبل نحو خمسة آلاف سنة) في الأفكار التي ضجّ بها جلجامش، ثم التبدّل الشديد الذي حدث في سلوكه بُعيد موت «أنكيدو»، منافسه أوّلاً ثم صديقه لاحقاً. جلجامش قبل موت صديقه هو غير جلجامش بعد موته كلِّياً.
قبل حَدثِ موت صديقه؛ كان جلجامش هو البرِّيّة المتوحشة في أقصى تعبير لها من غريزة وتخريب، ونهب، واعتداء، وفوضى وسواها. أمَّا بعد حدث موت صديقه «أنكيدو» فهو شخص مُندَهش، مصدوم، يمسك بصديقه الميت غير مُصدّقٍ موتَه، يريد إعادته إلى الحياة؛ وحين يُخْفق، ويتأكد من إخفاقه، يخرج إلى أقاصي الدنيا يفتّش عن «نبتة الحياة» المقاومة للموت؛ وحين لا يجدها في كلِّ الأمكنة، يصل إلى فكرة «ما يتجاوز الموت» فإذا هي في الفن، في عمارة سور ضخم، يقي المدينة شرّ الموت، أي يمنعه من أن يصل إلى من نُحِب. ورمزية «السور الضخم» واضحة وهي تؤسّس لكل الأشكال الثقافية التي تنتصر على الموت – الفن، الدين، الأفكار، والأعمال الحسنة أو الصالحة التي تجعل من صاحبها أقوى من النِّسيان والزوال، أي أقوى من الموت.
هذا السياق، في تعبيراته المختلفة والمتغيّرة، مشترَكٌ في ثقافات البدائيين كافَّة، بل إنَّه لَأمرٌ معبِّرٌ جدّاً أن تكون طقوس الموت عند البشر لا تزال منذ زمن البدائيين وإلى زمن قريب واحدة في جوهرها، رغم تباعُد الأمكنة والأزمنة والحضارات.
لا نجانب الحقيقة إذا قلنا: إنَّ جزءاً كبيراً من ثقافة الجماعة البدائية الأولى البسيطة قد نشأ من رحم فكرة الموت أو اتّصل بها على نحو وثيق. فجثمان الميت وبخاصة إذا كان كبيرَ أسرته أو جماعته يُسَجّى لفترة ما بين أفراد الأسرة أو الجماعة وقبل أن يُوارى الثّرى – والمدفن الأوّل عند البدائيين كان داخل مكان سكن الأسرة أو الجماعة الصغيرة. ثم انتقل الدّفن ليصبح خارج المسكن، ولكن غير بعيد منه. وفي كلِّ ذلك تستمرُّ صور الميت حيَّة في أخيلة أفراد الجماعة، في نهاراتهم كما في أحلامهم. وكانت لذلك مَبعثاً إضافياً للخوف ومن ثمَّة للتوقير وإظهار الاحترام والتمسّك بذكرى الميت حتى درجة التماهي. ما جرى التعبير عنه في الديانات الإحيائية animism المنتشرة في الجماعات البدائية، إنَّما يعني بمعنى ما أنَّ الميت لم يمت وهو مستمرٌّ وباق بشكل من الأشكال، وهي تَظهر في الطقوس وفي استعادة أحزان لحظة الموت والتَّماهي معه وبخاصة في الالتصاق به إلى درجة الرّغبة في الموت معه – الأمر الذي بقي بقوة في بعض ألوان الديانات الهندوسية. ولا يخفى ما لذلك من اتّصال وثيق بسائر أشكال التنظيم الاجتماعي والروزنامة الاجتماعية للأسرة الصغيرة، كما للجماعة ككُل.
وديانات البدائيين غير منفصلة إطلاقاً عن قوة صدمة الموت في حياة هؤلاء. فبحسب ديورانت في موسوعته «قصّة الحضارة»، المجلّد الأول، الفصل الرابع:
«مُعظم الآلهة البشرية قد كانوا في ما يظهر عند البداية رجالاً من الموتى، ضُخّموا بفعل الخيال… فظهور المَوتى في الأحلام كان وحده كافياً للتّمكين من عبادتهم.» ويضيف:
«لذلك تجد الكلمة التي معناها «إله» عند كثير من الشعوب البدائية معناها في الحقيقة «رجل ميت»، وحتى اليوم ترى كلمة spirit في الانجليزية أو geist في الألمانية معناها رُوْح أو شبح، وكان اليونانيون يتبرّكون بموتاهم على نحو ما يتبرّك المسيحيون بالقديسين.» (ص 108 الترجمة العربية)

أكثر من ذلك، فإنَّ حياة ما بعد الموت في ثقافات وديانات كثيرة (في المصرية القديمة كأوضح مثال) هي أهم بكثير من الحياة الدنيا قبل الموت. بل إنَّ حياة ما بعد الموت هي التي تنظّم حياة ما قبل الموت: بحيث يتَّجه كل جزء منها نحو الحياة الثانية كيما يجعل رحلة ما بعد الموت للشخص سهلة وخالية من العذاب الشديد. وفي السياق نفسه تحديداً، نذكر أنَّ «كتاب الموتى» لدى المصريين القدامى هو جامع ثقافتهم المادية والروحية والفكرية والاجتماعية برمّتها، ولم يُنقَل عنهم أي كتاب مكتمل آخر خلا ذاك: «اقترب رهيباً أيها الموت»
هذه الملاحظات تنسحب على معظم الديانات الأولى للبشر، كما لو أنّها في جزء كبير منها «عبادة الأسلاف»، أي عبادة الموتى في الأسرة أو الجماعة. وعليه، يمكن القول: إنَّ الموت في الجماعات البدائية كان، كما يبدو، أكثر أهمية من الحياة.
وفي الديانات الهندوسية والشرق آسيوية عموماً، الموت ثم الولادة من جديد، أكثر من مرّة، شرط للخلاص من آثام الدنيا والالتحاق بـ «براهما» في نعيم أبَدي. الموت المؤقت أكثر من مرّة واحدة، يعني في أكثر من حياة واحدة، شرط إذاً لنيل الحياة الأبدية.
وحين جاءت بعد ذلك الديانات التوحيدية، استمرّت فكرة الموت فكرة مركزية في الإيمان الديني، وعلى قاعدة أنَّ حياة ما بعد الموت هي الأبقى، «المَقَر»، فيما الحياة الدنيا زائلة، مُجرّد «ممر». وآيُ ذلك نجده في اليهودية حيث تُسجّى جثة الميت، فلا تُترك وحيدة، بل من حولها عائلته ومحبُّوه. ولا يجوز الأكل أو الشرب إلّا بعد دفن الميت، رمزاً للاحترام والتوقير، وتستمرُّ الطقوس لسبعة أيام تتخلّلها صلاة (كاديش) حيث يجري الترحُّم على الميت أو طلب الرّحمة له.
أمّا في المسيحية فأهميّة الموت استثنائية، إذ هي تتصل بالخطيئة الأولى من جهة، وبواقعة صلب المسيح وقيامته بعد ذلك، من جهة ثانية. فموت يسوع انتصار على الخطيئة الأولى؛ كما أنّ موته على الصليب كان فداء لبني البشر، ودرساً في كيفية تحقيق خلاصهم. فكرة الموت هي في جوهر فكرة الخلاص في الإيمان المسيحي، هي تصنع التجلّي والخلاص. وعليه لا يتورّع بحّاثة كثيرون – ومنهم ديورانت نفسه في قصة الحضارة – عن القول إنَّ يسوع اختار الموت عامداً. ولا يخفى ما لواقعة الموت والصلب والتحمُّل الأسطوري للعذاب على الصليب، ثم القيامة من الموت بعد ثلاثة أيام، من أهميّة محورية في الإيمان المسيحي.
واحتلّت فكرة الموت في الإسلام مكاناً بالغ الوضوح بل والصدارة، في آيات القران الكريم، وفي أحاديث رسول الله، وأقوال الصحابة والوُعّاظ المسلمين منذ فجر البعثة النبوية وإلى يومنا هذا. وبحسب البحّاثة، فقد ذُكِر الموت في ثمانين موضعاً في القرآن الكريم. والآيات تلك تصدح بفكرة: إنّ الموت حقٌّ، لا فكاك منه، من مثل قوله تعالى في الآية الكريمة: «كلُّ نفسٍ ذائقةٌ الموت وإنّما توفَّون أجوركم يوم القيامة» (آل عمران، 185). وهو أيضاً معنى قوله حين تكمل الآية: «وما الحياة الدّنيا إلّا متاع الغَرور».
اللّافت في الآية الكريمة أعلاه ليس فقط إعلانها الموت مبدأً شاملاً، بل اعتبار الموت ممرّاً إلزاميّاً، كيما «توفَّون أجوركم يوم القيامة». الموت إذاً مبدأٌ مركزيٌّ في العقيدة الإسلامية، تُبنى عليه عقائدُ أُخرى مهمة من مثل يوم القيامة، وفكرة البعث، عالم الشهادة والغيب، وسواها ممَّا يجعل الموت مكوّناً حاضراً باستمرار، وإلى الدرجة التي تجعل ديوان أبي العتاهية، الزاهد الإسلامي في المئة الثانية، على سبيل المثال، كما لو كان كتاباً في الموت، لاستشعار الحقيقة خلف هذه الدنيا الفانية.
ومن الأمثلة الأُخرى القويّة ملاحظة أنَّ طقوس «يوم عاشوراء» عند المسلمين الشيعة تسترجع واقعة موت الحسين وأهل بيته، خطوة خطوة في أدق التفاصيل، فتغذّي من جديد الإيمان الديني وتشحنه بما يحتاجه من عاطفة جيّاشة ودموع وإظهار للندم وعقاب اختياري وعنف مادِّي بحق الجسد والرّوح.
هذه الملاحظات الواقعية هي عيِّنة فقط، لكنّها كافية كما أعتقد، لإظهار أهميّة الموت في ثقافات البشر كافّة، في تفكيرهم كما في طقوسهم الحياتية اليومية على حدٍّ سواء. وعليه فأهميّة ما فعله المعرّي لا تكمن في اكتشافه أهميّة الموت، بل في ذهابه بالفكرة إلى أقصى ما تحتمل، واستخراج ما تحتويه من أفكار فرعية، ثم جعلها القاعدة لأفكار وعقائد أخرى.

مركزيَّة فكرة الموت في فلسفة أبي العلاء المعرّي
طه حسين

أمرُ الموت مع أبي العلاء المعرّي (363هـ \ 449هـ. 973م – \ 1057 م)، في فلسفته، وقبل ذلك في حياته، مختلف، وأشدّ إبهاراً وغِنًى – على عادة فيلسوف المعرّة وجرأته في غير مجال وفكرة.
قبل ذلك، نقول إنّ المعرّي في أدبه بحرُ مَعانٍ عجيب، وفي فلسفته «حداثوي» في غير شأن وتفصيل، غير تقليدي أو اتّباعي، على عادة معظم المفكّرين الذين سبقوه أو جاؤوا بعده. هو يشبه، في فكرة الموت كما في أفكار أخرى كثيرة، نيتشه وشوبنهور والوجوديين عموماً: أي يعيش فِكرته. هو لا يتحدث عنها، بل هي تتحدّث عنه.
المعرّي، عبقريُّ كلّ الأزمنة وفق توصيف العالم العلاّمة الشيخ عبد الله العلايلي، ولا شبيه له، وفق شهادة طه حسين، عميد الأدب العربي في زمنه، الباحث الأكاديمي، والعميد في الجامعة، ووزير التربية في مصر لفترة ما، يقول:
«قد كتبت عن أبي العلاء ما أَذِن الله لي أن أكتب، وأظنّ أنِّي قد عرَّفته بعضَ التعريف إلى هذا الجيل الحديث. ولكني لم أؤدِّ إليه من ذلك إلَّا بعض حقِّه، وما زالت له على حقوق كثيرة أرجو أن يعينني الله على تأدية بعضها؛ فقد عرّفت أبا العلاء إلى خاصة الناس، وأحبُّ أن أُعرِّفَه إلى عامَّتهم، وأن أعرّفه إلى عامتهم بالترجمة الصحيحة عنه، والتفسير الدقيق لشعره. فلو نُشِرت اللزوميات في عامّة المثقفين لما فهمها أكثرهم، لأنَّ أبا العلاء لم ينظم اللزوميات لعامّة المثقفين. بل لست أدري! لعلَّه أن يكون قد نظمها لنفسه، وللَّذين يرقَوْن إلى طبقته من أصحاب العلم الكثير والبصيرة النافذة» ويختم طه حسين مقدَّمته:
«أنا أجد صوت أبي العلاء الأعذب في النفس وأحَبَّ إلى القلب من كلِّ صوت ومن كلِّ صدى»
طه حسين، صوت أبي العلاء، 6-7

تحتلُّ فكرة الموت موقعاً حاسماً في فكر المعرّي، بل وركناً أساسيّاً من فلسفته، إذا ما أمكن صياغة أفكاره في نسق فلسفي. وهدفنا، باختصار، إظهار أولويّة الفكرة في تراث المعرّي الأدبي والفلسفي. فمراجعة ما تركه من تراث شعري أو نثري تُظهر أنّه كان مهجوساً بفكرة الموت؛ بل هي تقدمت عنده على ما عداها. والأولوية تلك وجبَ أن تكون، برأيه، حقيقة ساطعة ثابتة، بل الحقيقة الثابتة التي لا يخالجها الشكّ:

سألتُ عن الحقائق كلَّ يومٍ فما ألفيتُ إلاّ حـرفُ جَحْـدِ
سوى أنِّي أموتُ بغيرِ شكٍّ ففي أيِّ البلاد يكون لحدي!

هذه النتيجة الخطيرة، تعيد طرح السؤال المتكرّر الذي طرحه منتقدو المعرّي المعاصرون له، كما الذين جاؤوا من بعده، ويتعلق بحقيقة إيمان المعرّي الديني.
نصُّ المعرِّي بالتأكيد حمّال أوجه، ولا يصح في الكثير من الأحيان أخذه على ظاهره:

وليس على الحقيقة كلُّ قولي ولكن فيه أصنافُ المَجازِ

في ظاهر الأمر يحقُّ لقارئ المعرِّي أن يرى في أكثر من مجال، وموضوع، تناقضات في المواقف – رغم أنّ الأمر ليس بهذه البساطة – إلَّا أنَّ الثابت في مواقفه استخدامه الكثيف لفكرة الموت ليؤسّسَ عليها نقده، وموقفه الأخلاقي كما الفكريّ عموماً.
فما حقيقة معتقدات المعرِّي الفكريّة، وربما غير الفكرية أيضاً، انطلاقاً من فكرة الموت؟
هذا ما سنحاول تبيانه.
أعظمُ ما قاله المعري في الموت لعلّنا نجده في قصيدته «غير مجدٍ في مِلَّتي واعتقادي».
في القصيدة ألم الشاعر، ووصف المُصَوِّر، ولكن فيها وهذا هو الأكثر أهميّة: تأمُّل الحكيم النظر في الموت وما يستخلصه من معانٍ وعِبَر. إليكم بعض أبيات القصيدة وجُلُّها في معنى الموت:

غيــرُ مُجْدٍ فـي مِـلَّتي واعتــقادي نَــوحُ بــــاكٍ ولا تَـــرنُّـمُ شــادِ
وشـبيــهٌ صـــوْتُ النَّـــعيِّ إذا قيـ ـسَ بصوت البشير في كلِّ نادِ
أبَكَـــتْ تِـلْكُمُ الحمـــامــةُ أم غنّــ ـتْ علـى فَـرْعِ غُصنها الميّــادِ
صـــاحِ! هذي قبورُنا تملأ الرّحْـ ـبَ فأيْــن القبورُ مـن عهد عادِ؟
خـفّفِ الـــوَطءَ ما أظنُّ أديـــم الـ أرضِ إلّا مـن هــــذه الأجســادِ
وقبــيـــحٌ بنـــا وإن قَــدُمَ الــعهـــ ـدُ، هَـــوانُ الآبـــاءِ والأجـــدادِ
سِرْ إنِ اسْطَعْتَ في الهواء رُوَيداً لا اختيالاً على رُفـات العبـــــادِ
رُبَّ لـحْــــدٍ قد صارّ لحداً مراراً ضـــاحكٍ مِـــن تزاحُمِ الأضدادِ
ودَفيـــنٍ عـلــى بـقايــا دفيــــــنِ في طويلِ الأزمــــــان والآبــادِ
ضجعةُ الموتِ رَقدةٌ يستريح الـ ـجسمُ فيها، والعَــيشُ مثلُ السُّهادِ
واللّـبيـبُ اللّـبيـب مَــن ليْـــــسَ يغتـــرُّ بكَوْنٍ مـصيــرُهُ للـفســــادِ

هذه أبيات اخترناها من قصيدة طويلة للمعرّي تقع في أربعةٍ وستّين بيتاً، قيلت أصلاً في رِثاء صديق له. لا تقوم أهميتها في مناسبتها، أو في ما يقال من تشاؤم المعرّي، فتلك أمور معروفة، وإنّما في المعاني الجديدة كلِّيّاً التي حمّل بها أبيات قصيدته، وسَنُظهر منها ما اتَّصل بموضوعنا فحسب.
المؤسف حقّاً أنّ قُرَّاء الأدب العربي، بل أساتذته، لم يرَوْا في القصيدة تلك إلّا تعبيراً عن تشاؤم المعري، وذمِّه الدنيا، وغلَبة الحزن على السرور فيها، وتحسّره على الشباب الذي مضى، وما إلى ذلك من معان سطحيّة ممجوجة ومكرورة.
أمّا عميدُ الأدب العربي، المفكّر المتعمّق طه حسين، فكان له رأي في معاني القصيدة جديرة بأن نُضيء عليه، يقول: «نعتقد أنَّ العرب لم ينْظُموا في جاهليتهم وإسلامهم، ولا في بداوتهم وحضارتهم، قصيدة تبلغُ مبلغ هذه القصيدة في حُسن الرّثاء. نتّهمُ ذوقنا ونتّهم أنفسنا بالتعصّب لأبي العلاء إشفاقاً على الآداب العربية ألّا يكونُ فيها من الرِّثاء الجيّد ما يعدلُ هذه القصيدة، ولكنّا نضطرُّ بعد الدرس وإجادة البحث إلى تبرِئة أنفسنا من هذه التهمة.»
لم يكن المعري أوّل من تحدث عن الموت، لكنّ المعري قدّم في الشعر العربي لأوّل مرّة لا أفكاراً فقط، بل وصفاً ثقافيّاً للموت: في صور سوداء، وموسيقى جنائزية، وبقايا أجساد، وقبور ضاحكة بل هازئة. وبالوصف الأثنولوجي الثقافي نفسه، نقرأ للمعري في قصيدة أخرى مشابهة:

يا روحُ، شخصي مَنزلٌ أُوطِنتِه ورَحلتِ عنـه فهل أسِفتِ وقــد هُــدِم
عِيْدَ المريضُ وعاوَنته خـــوادمٌ ثم انتــقلتِ فـمـــا أُعيــنَ ولا خُــدم
حملوه بعد مجـــــادلٍ وأســـــرّةٍ حمْــلَ الغـريبِ فَحَـطّ في بيـتٍ رَدِم
لــــو كان ينطِـــق مَيّتٌ لســألتُهُ مــــاذا أحسّ ومــــا رأى لمّـــا قَدِم؟

سلسلة من الأسئلة تتركّز كلُّها في الموت، الحقيقة الأبديّة السرمديّة، وبدأ بها كوصّاف إثنولوجي ماهر، ليبني منها موقفاً من الحياة والدِّين والله والوجود.
أحال المعرِّي الموت من مجرّد فكرة مكروهة لا نرغب السماع بها، إلى إشكاليّة، أي إلى سبب يدفع لتساؤلات توصل إلى فلسفة كاملة محورها قناعته في ألّا حقيقة ثابتة في الكون، بعد البحث والتدقيق، غير حقيقة الموت:

سألتُ عن الحقائق كلَّ يوم فمـــا ألفيتُ إلّا حرفَ جحدِ
سوى أنّي أموت بغير شَكٍ ففي أيّ البلاد يكون لحدي

إذا أسسنا على هذه الفكرة، التي لا شك فيها، يتغيّر كلّ موقف آخر لنا، وكلّ مفهوم آخر عندنا، وأهمُّها إطلاقاً: إذ يتساوى ترنّم الشادي ونوح الباكي. ويصبح أوّلُها شبيهاً بآخرها:

ومهما كان من دنياك أمرٌ فما تُخليك عن قمَــــرٍ وشمسِ
وآخرها بــأّولــها شـــبيهٌ وتصبــحُ في عجائبـها وتُمسي

يمكن من الأبيات أعلاه استخلاص نتيجة كبرى وهي أنّ الموت للبشر- لو أمعنوا النظر – هو الجوهري والأساس في وجودهم، والباقي تفاصيل تقصُر أو تطول، وتأخذ مؤقتاً هذا اللون أو ذاك.

أتدري النجوم بما عندنــــا فتشكو من الأيـــن أسفارُها
وهل قــــام من لحده ميّتٌ يعيب على النفس أخــفارها
كأنّ حيــــــاة الفتى ليـــلةٌ يُرَجّي أخو اللُّب إســــفارَها

من الأبيات أعلاه، ومن غيرها، في اللّزوميات على وجه الخصوص، يمكن للقارئ الردّ على منتقدي المعري والمتشككين في حقيقة إيمانه الديني. لا حاجة للقول: إنّ المعرّي يقول في عشرات الأمكنة، وبوضوح، إنّه لا يشارك الدهرييّن تشكيكهم في وجود خالق لهذا الكون، وأنّ الله هو مبدع الكائنات. أمّا لماذا كان شكّه الذي رأيناه عنيفاً، متشدّداً؛ فالجواب إنه غير اعتيادي لا أكثر. إذ السائد في الموضوعات الماورائية في ثقافة مجتمع المعرّي هو التسليم من غير برهان، أو نظر، أو إعمال للعقل. هو مجتمع النّقل لا العقل. هُوَ ذا ما كان يواجهه المعرّي، بل يتحدّى صحّته وصوابيّته. فهو سيصل إلى الإيمان صريحاً، كما نرى في عشرات مقطوعاته الشعرية، كما في أعماله الأُخرى، إلّا أنه يريد لإيمانه أن ينبني على أسس لا يطالها الشك. وقد انتهج ديكارت (1596-1650) المنهج نفسه، المنهج الشكِّي، طريقاً لبناء إيمان قائم على البرهان لا على التقليد، أي على العقل لا على النقل. وقد قارب الغزالي نفسه المنهج ذاك، لكنّه لم يصل به إلى غايته.
أمّا الباحث عن إيمان المعرّي الراسخ بالخالق، وخلقه، فسيجد عشرات الأدلّة، وهاكم القليل منها لا أكثر:

الله لا ريب فيه وهو مُحْتَجِبٌ بادٍ وكلٌّ إلى طَبعٍ له جُذِبا

ثم يضيف في مزيد من العبقرية والتفرّد – الذي لا يشترك فيه معه إلّا القليل عبر الدهور:

سألتموني فأعيتني إجابتُكم من ادّعى أنّه دارٍ فقد كذبا

يحتاج البيتان أعلاه إلى أطروحة دكتوراه كاملة لشرح المعاني العميقة المتضمَّنة، وربّما لا مثيل لها إلَّا عند القِلّة القِلّة من الفلاسفة. ومُحِلّلُ البيتين أعلاه سيحفِر عميقاً وسيجد ما يدهش من الأفكار، وضيق المساحة المُتاحة لهذه المقالة تمنعني من الاستفاضة في الموضوع.
لكني أضيفُ بَيْتَي شعر آخرَين من اللّزوميّات يصدح المعرّي فيهما بجهله – وأيّ جهل؟؟؟؟. يقول:

أقررت بالجهل وادّعى فَهمي قومٌ فأمري وأمرُهم عَجَبُ
والحقُّ إنــي وإنَّهُمُ هَــــــــدرٌ لســتُ نَجيباً ولا هُــم نُجُبُ

تلك مجرّد خلاصات بسيطة قاد إليها عمق نظر المعرّي في فكرة الموت، وإعلانه مركزية فكرة الموت في حياة البشر، وإلى حد اعتبارها المدخل باتّجاه اكتشاف الأفكار والعقائد الدينية والأخلاقية الأخرى، وربما البيان الحِسّي الملموس على صِدقها أيضاً – إذا كانت بحاجة لبيان حسّي؛ وتهكُّمه من الذين يدّعون المعرفة التّامة – وهم ليسوا على ذلك في شيء.
تفرّد المعري في الاستخدام الواسع لفكرة الموت في الوصول إلى الحقيقة، ثمّ في الشك الذي يكنس الجهل بعيداً، ويبني معرفة الله على حقائق لا يطالها الشك، تفرُّدٌ يُحسبُ له، لا عليه، وهو بعض ما بنى سمعة المعري كناقد مُتَشدّد صارم، من دون أن ينال ذلك من إيمانه بخالق للكون على ما أظهر طه حسين في كتابه «صوت أبي العلاء»، (القاهرة، حزيران، 1944)..

المُوَحِّدون الدّروز في مُخْتَبر الأنثروبولوجيا الألمانية

في العام 1892، بدأ ماكس فون أوبنهايم الذي حمل ألقاباً عدة منها – المستشرق والمؤرخ والآركيولوجي والأنثروبولوجي – رحلته نحو الشرق، حيث مكث لفترة وجيزة في القاهرة، ثم غادرها إلى الصحراء السورية التي وصلها في العام 1894. وهناك استطاع نسج علاقات جيدة مع القبائل البدوية(1). وفي العام 1895 دوَّن أوبنهايم تفاصيل رحلاته في الصحراء في مذكرات مصوّرة تحت عنوان «من البحر المتوسط إلى الخليج الفارسي»، بالألمانية «Vom Mittelmeerzum Persischen Golf». هذا الكتاب هو دراسة أنثروبولوجية ميدانية بحثية عن الأقليّات الدينية والمذهبية في العراق والشام، وكذلك عن القبائل والعشائر في هذه المنطقة. نُشِر باللّغة الألمانية بين عامي 1899 /1900 بجزءين وحقّق شُهرة واسعة، وبسبب أهميته الفائقة، قامت الحكومة البريطانية بترجمته إلى اللغة الإنجليزية وتوزيعه على ضباط الاستخبارات البريطانية(2). في أحد فصول هذا الكتاب، دراسة بحثية عن إحدى طوائف الجنوب السوري، طائفة المسلمين الموحّدين الدّروز.

أصل الدّروز وجغرافيّتهم البشريّة
ماكس فون أوبنهايم

استهلّ ماكس فون أوبنهايم دراسته عن طائفة الموحدين الدروز أو «سادة الأسرار» بشيء من غموض يلفُّ نشأتهم، فالصليبيون لم يذكروهم في كتاباتهم على الإطلاق(3)، مع العلم بأن أتباع هذا المذهب تحت زعامة آل تنوخ خاضوا سلسلة معارك ضخمة ضد الدويلات الصليبيّة ولا سيّما في بيروت، ومع ذلك بقيت المصادر تشير إليهم بـ»حلفاء» الدول السنّية المتعاقبة من الباطنيّة(4).
ذكر أوبنهايم بأنّ أصل الموحدين الدروز يعود إلى الجماعات الإسلامية العربية التي هاجرت في القرن الهجري الثاني إلى جانب جماعات تركية وكردية إلى لبنان، الذي كان آنذاك مسيحيًّا أراميًّا، وهؤلاء جميعًا امتصّهم العنصر العربي، أي صَهر جميع الجماعات المهاجرة في بوتقة عربية ثقافية واحدة. ومع أنه أكّد اختلاف التكوين الجسدي بسبب تأثير الجغرافيا على الدروز بسبب سكنهم في المناطق الجبلية الوعرة، إلّا أنّه دحض فكرة اختلاف «شكل» الدروز عن المسلمين والمسيحيين، التي نطق بها أصحاب هذا الرأي فقد أعطى وصفًا مختلفًا يبدو دقيقًا بعض الشيء لسكان المناطق الجبلية من الدروز عن باقي سكان المناطق المجاورة، فقد قال أوبنهايم:
«بسبب نظرتهم الحربيّة المعاندة [..] وبنيتهم الجسدية القوية، يبدون مختلفين عن سكان البادية السورية، أو عرب السهول، ومع ذلك [..] إن تقاليد الدروز حسبما تأكّدت بنفسي تناقض هذا الرأي، إذا ما علمنا أنّ هؤلاء المهاجرين انعزلوا في الجبال مئات ومئات السنين، حيثُ شكّلوا كُلًّا مغلقًا، فإنّنا نفهم سبب اختلاف شكلهم وتميزهم عن غيرهم»(5).
فقد كان طيب المكان ونقاوة الهواء الجبلي وخصب الأرض عوامل مهمّة في تكوين طبيعتهم البيولوجية، فتجد أجسامهم على جانب عظيم من الصحّة والقوة(6).
من هنا يستطيع القارئ أن يلاحظ بحسب أوبنهايم بأنّ الدروز هم عربٌ اقحاحٌ، ولا صحّة للمرويّات التاريخية الأُخرى عن أصلهم ونشأتهم.

تقاليد اجتماعيّة صارمة واقتصاد زراعي

وقد أوغل أوبنهايم في الإضاءة على العادات الاجتماعية والممارسات اليومية التي تحكم الدروز فيما بينهم وبين باقي المجتمعات التي تختلف عنهم، فهم مُلزمون بتعلّم القراءة والكتابة، وعندهم قابلية غير قليلة للتعليم(7)، والإخلاص لإخوانهم فريضة والتقيد بها أمرٌ صارم، والابتعاد عن ارتكاب أعمال مشينة مثل السّرقة، والدعوة إلى قلة الكلام، والبساطة في المظهر، والاقتصاد في الإنفاق، وهذه تُعتبر جميعُها من الفضائل، ويؤكد أوبنهايم على أنّ جميع من يعرفهم، حتى أعداءهم لا يُسقط عنهم صفة الشجاعة في ساحات الوغى والمروءة، فهم لا يعتدون أبدًا على نساء خصومهم(8) فالدروز شديدو التمسك بالناموس الأدبي، لا يسطون على أعراض غيرهم وعندهم احترام للحريم(9). ومن مظاهر المعاملات الاقتصادية الاهتمام بالزراعة، وحرث الأرض والحصول على قُوْتِهم اليومي منها، في ظروف صعبة جدًا. فالزراعة مورد رزقهم الأساسي، وعائدات الزرع تُعتبَر عائدات «نظيفة»، فهم يأكلون ما في الأرض «طيّبًا» و«حلالاً».
وممّا يُوصف به الدروز مَزيّة الكرم والاحتفاء بالضيف، وحيث كان الدروز أصلهم من العرب كانت هذه العادة فيهم، كعادة حب الثأر واقتفاء الأوتار(10).

السلوك الاجتماعي عشائري، والنظام السياسي إقطاعي

على مرِّ التاريخ لازمت طائفة الموحدين الدروز صفاتٌ عدَّة، منها التمسُّك بالحياة الزراعية، والشدة في القتال، الشجاعة والبسالة، ولكن الشك ساورهم دائمًا، فهم قلقون على أمنهم الذاتي، ولهذا السبب اختاروا العيش في جيوب جبلية وعرة يصعب الوصول إليها، يمكن الدفاع عنها بسهولة، تستنزف قوة المهاجمين، ولهذا عمومًا، اختاروا دائمًا دعم القيادات المحلّية حتى الموت أيًّا كان ذلك، كذلك هم مأمورون دينًا بالجهاد وإطاعة الحكام؛ عملاً بقوله تعالى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، ولأجل ذلك كان لهم في المجاهدات قدم الصدق، وبالإجمال فإنّ منهاجهم يحظر عليهم الخروج على الحكام والعداوة مع بقية الطوائف(11) ،استنادًا إلى هذا التحليل من المؤرخين الذين قاموا بدراسة الواقع السياسي وطبيعة النظام العشائري السائد لدى الدروز، يمكن الاستنتاج بأنَّ الدروز طوّروا نظامًا إقطاعيًّا معقّدًا خاصًّا بهم.
يُعرف عن النظام الإقطاعي الأوروبي أنّه كان يتألّف من العناصر التالية (1) السيد الإقطاعي أو مالك الأراضي (2)القلعة أو القصر (3) الفلاحون والأرض، عندها تبدأ لعبة صراع العروش وتثبيت النفوذ بين الأُسر الإقطاعية، فَرُقعة الأراضي تحدّد اتساع نفوذ السيد الإقطاعي، وغناه ونفوذه يحدّدان مدى قوّته وتميُّزه عن باقي الأسر الإقطاعية الأخرى، أضف إليها الضرائب والهدايا التي كانت تُرسل إلى أصحاب الشأن ووكلاء السلطنة العثمانية – إذا جاز التعبير- لشراء الرّضى والصداقة، وترتبط هذه الظاهرة ارتباطًا وثيقًا بالسياسة والسلطة، لأنها تُعتبر مجال نزاع بين زعماء الأسر، فعلى الزعيم أن يُظهر كرمه وسخاءه عبر إغداق الهدايا وأشياء ثمينة أخرى، هذه التركيبة فرضت نفسها أيضًا في النظام الإقطاعي اللبناني والدرزي بحيث فسّرها أوبنهايم تفسيرًا انثروبولوجيًّا دقيقًا:
«حتى أواخر هذا القرن التاسع عشر كان النظام الإقطاعي ما زال سائدًا عند الدروز كما كان في أوروبا العصور الوسطى، بحيث كانت السلطة في لبنان بيد حاكم ينتمي إلى أسرة عريقة، ويعَيَّن مقابل التزامه بدفع الضريبة، وهذا الحاكم يشبه الدّوق الكبير في أوروبا، يوجد تحت سلطته أمراء أصغر وزعماء عائلات محترمة يمارسون السلطة دون اتّخاذ لقب أمير»(12).
ويتابع «كان يتبع الأمراء، المشايخ، وهؤلاء يتبعهم عائلات فقيرة، تمتهن الزراعة، يجبون الأمراء الضرائب من أتباعهم المشايخ الذين بدورهم يجبون المحاصيل من العائلات الفلاحية، وكان الأمراء – يوزّعون- الألقاب على المشايخ تباعًا»(13).
كما لاحظ أوبنهايم التّرف في حياة العائلات الإقطاعية الدرزية والأمراء وأتباعهم، حيث روى بأن قصورهم تشبه قصور العائلات الإقطاعية الألمانية على تلال ضفاف نهر الراين وبجانبها القرى الصغيرة المتناثرة والأراضي التي تتمّ فيها عمليّة الإنتاج، فالدروز أهل حراثة وزرع(14)، وهذا يشبه إلى حدٍ كبير قصر آل أبي اللّمع في راس المتن، والسراي الأرسلانية لآل أرسلان في الشويفات الغرب، وقصر المختارة في الشوف مقر آل جنبلاط في جبل لبنان، ومقرات آل الأطرش في القريّا وعِرَى الأكثر نفوذًا في جبل العرب.
كما أنّ زيارات المشايخ لأمرائهم كانت معهودة بين الأسر كما يقول أوبنهايم إلّا أنها دليلٌ صارخٌ أيضًا ويؤكد سلطة المقاطعجية على باقي عامة الناس، فتبادُل الهدايا لا سيّما الخيول والسلاح والمجوهرات وحسن الضيافة، والكرم والسّخاء، هي إشارة قوية إلى العادات الاجتماعية المتينة، ولكن في التفسير السياسي لها دلالة على حسن سير الأمور بانتظام بين الأمير والشيخ. فأي خلل أو تسويف في دفع الضرائب وتقديم الهدايا قد يعرِّض الشيخ أو الوكيل إلى استبداله بوكيلٍ آخر.

الأزياء الدّرزيّة

تعبّر الأزياء عن الهوية الثقافية، هذا ما أوضحه أوبنهايم عندما وصف أزياء رجال الدين الدروز وعامة الناس من ذكور وإناث، زِيّ رجال الدين – يتألّف من قميص وسروال واسع ما نعنيه بالعامية – الشروال-، وفوق القميص عباءة قصيرة ذات كم قصير مخطّطة بالأبيض والأحمر أو الأبيض والأسود، وفي الوسط زنّار أبيض من الصّوف أو من الجلد، أمّا غطاء الرأس فيتألّف من العمامة البيضاء خالية من التجاعيد(15) ، أمّا الشباب العاديون فيعتمرون الكوفية ويضعون فوق الكوفيّة «العِقال» المصنوع من شعر الجمل.
زِيّ النساء – يُمكن للمرأة أن تختار ارتداء المنديل، وهو حجاب أبيض فضفاض، تغطّي به وجهها باستثناء عيونها خاصةً في وجود أشخاص آخرين. وتضع النساء المناديل على رؤوسهن لتغطيتها ويتمّ لفُّها حول أفواههن ويلبسن القمصان السوداء، والتنانير الطويلة التي تغطي أرجلهن إلى الكاحل(16).
الدّروز يشعرون بالضّجر حين لا يخوضون حربًا:
يدخل المستشرق الألماني في سرديّة التاريخ السياسي للموحدين الدروز، بدءًا من الحروب الصليبية، ثم إنّ وجودهم في المنطقة التي سُمّيت «الشوف» له أبعاد حربيّة:
«ثمَّ هاجر الأمير معن عام 1119 مع قومه من حلب إلى الجهة الغربيّة من لبنان، واستقرّ بطلب من طغتكين حاكم دمشق السلجوقي، الذي طلب منه مساعدة الدروز الذين ناصروا قضية الإسلام ضد الصليبيين، وسميت المنطقة التي استقر فيها بـ «شوف» أي الترقّب والمراقبة، وهي سِمَة الحراسة والمراقبة والدفاع، وبالفعل فإنّ المرء يستطيع مسح المنطقة برؤية كامل الأفق والشريط الساحلي(17)» يروي أوبنهايم.
ثم يشرح بإسهاب كيف بعد هزيمة الصليبيين، وضعف سلطة آل تنوخ، لمع نجم «آل معن» وكيف استطاعوا بفضل حِنكتهم العسكرية والحربية من تزعُّم الدروز والحصول على مكانة مرموقة بينهم، ثم ينتقل بالحديث إلى فخر الدين الأوّل ثمّ من بعده إبنه قرقماز والد فخر الدين الثاني، مبيّنًا كيف تنبّه الأوروبيون عبر التوسكانيين الإيطاليين إلى وجود طائفة وجماعة دينيّة تسمَّى الدروز في عهد الأمير فخر الدين الثاني ابن معن، ثم صعود وسقوط فخر الدين الثاني وكيف كافح خلفاؤه من بعده للحفاظ على الإمارة إلّا أنَّها انتقلت إلى آل شهاب في نهاية المطاف والحديث عن الانشقاق اليمني والقيسي زمن حكم الأمير حيدر الشهابي، وكيف أنهت معركة عين دارة عام 1711 وجود اليمنيين سياسيًا في الشوف وتهجيرهم إلى حوران حيث تزعمهم «آل حمدان»، وقد أوضح أوبنهايم، أنّ الانشقاق ما لبث أن عاد من جديد ولكن هذه المرّة بمسمّيات مختلفة، أَلا وهي الغرضيّة اليزبكية (أسماها اليزبكجية) والغرضية الجنبلاطية كانقسام سياسي بحت كما تطرَّق أيضًا إلى انقسامات أخرى مثل شقراوي- صمدي (آل أبو شقرا و عبد الصّمد) التي هي انقسامات عائلية بحتة، وكيف قويت شوكة آل جنبلاط عندما ورثوا أملاك الشيخ قبلان القاضي وقاموا ببناء قصر ما زال موجودًا حتى اليوم في قرية (بزران)، يقصد بعذران. يعتقد البعض أنَّ الغموض يكتنف مصدر الانقسام الجنبلاطي اليزبكي، إلَّا أنّ المصادر تلقي الضوء واضحا على هذا الأمر، فالشيخ علي جنبلاط كان على علاقة طيّبة مع عائلة أبي شقرا واعتُبِر شقراويًا، وبما أنه كان أبرز الأعضاء في الحزب «الشقراوي»، اكتسب الحزب اسمه تدريجيًا، وعليه فقد حلّت الجنبلاطية محل الشّقراوية(18)، كما نشأ الحزب اليزبكي من اتّحاد ثلاث عائلات صمَدية(19).
وخصّص فصلاً عن بشير الشهابي الثاني واتّهمه بخيانة بلاده وغدره بالدروز، وتزلّفه للباشا الجزار، وصراعه مع بشير جنبلاط والأسر المقاطعجية وحلفه مع والي مصر محمّد علي وابنه ابراهيم باشا، وينهي أوبنهايم عهد بشير شهاب بقوله بأنّه أي ـ بشير ـ يتحمل التناقض الذي حصل بين الدروز والموارنة، وكانت له عواقب وخيمة في المستقبل(20).
في تحليله للأحداث العسكرية وأداء الدروز الحربي، يصل الاستنتاج بالقارئ إلى أنه ومنذ وصول المصريين إلى جبال لبنان وحتى فتنة 1860 خاض الدروز العديد من المواجهات العسكرية والانتفاضات وقد اعتاد سكان المناطق الدرزية على دفن ضحايا المواجهات حتى أصبحت الحرب «صُنعة» اعتاد عليها الدروز، ويمتهنونها مثلها مثل أيّ صنعة أخرى، لدرجة وكأنهم «يشعرون بالضّجر عندما لا يخوضونها»، وكأنّ قدرهم وموقعهم الجغرافي يُحتم عليهم دومًا العيش في حالة حرب حتى وإن كانت مستترة وغير مُعلنة، ولهم عشق بذكر المرويّات الحربية والوقائع، وميل عظيم إلى الفتوة، وشدة اعتقادهم بالقضاء والقدر مع انقيادهم إلى رؤسائهم، وطاعتهم لكبرائهم، تمهّد لهم في الغالب، سبيل الفوز(21).

التحالف الإنكليزي الجنبلاطي
قصر المختارة الذي زاره أوبنهايم في رحلته

عندما زار ماكس فون أوبنهايم قصر المختارة مقر آل جنبلاط، أدّعى بأنّه رأى صور اللورد فريدريك هاملتون تمبلبلاكوود والمعروف اختصارًا باللورد دوفرين مُعَلَّقة في إحدى أروقة القصر، وهو الدبلوماسي الإنكليزي الذي نجح في الحفاظ على مصالح بريطانيا في جبل لبنان، وهذا إن دل على شيء، فإنّما يدل على عمق العلاقة بين آل جنبلاط والإنكليز، الذين وقفوا بجانب الدروز منذ سقوط الأمير بشير الثاني، والذين منعوا أيضًا إعدام عدد كبير من الدروز كعقابٍ لهم على حوادث الفتنة، وهذا العمل يرمي إلى الحفاظ على الدروز كقوّة سياسية بوجه الموارنة وفرنسا. لذلك اعتقد الجنبلاطيون أنَّهم المفضلون لدى الإنكليز.

ميزة المدرسة الألمانية الاستشراقية

كان الاستشراق المصدر الأوّل للبدايات التأمّلية الأنثروبولوجية في الشرق الأوسط(22)، فالمدارس الاستشراقية والأنثروبولوجية الغربية تنوعّت بحسب أهدافها ومع هذا يضعهما بعض النّقاد في نفس الخانة، أي علمان استعماريان نشأا في مرحلة الاستعمار ولخدمته(23)، وإذا كانت المدرسة الأنجلوسكسونية وثيقة الصلة بأهداف التبشير البروتستانتي، والفرنسية بالتبشير الكاثوليكي، وكلتاهما مارستا الاستعمار السياسي والثقافي بوحشيّة، فإنّ المدرسة الألمانية، التي اهتمّت بالثقافات والمخطوطات الإسلامية وترجمتها، لم يكن لها أهداف سياسية استعمارية(24)، وإنْ مارست بعض المحطّات العدائية وخصوصاُ في إفريقيا والمغرب العربي.

دور أوبنهايم الحقيقي

لذلك أظهر الألمان اهتماما جديَّاً بدراسة الثقافات الشرقية للعالم الإسلامي، ونشر الدراسات الأنثروبولوجية لفهم العقل «السوسيو – ديني « للعالم الإسلامي والجماعات المشرقيّة(25).
فأوبنهايم يُعْرَف عنه ولعه بالدراسات الشرقية، وعلى الرغم من أنّه لا ينتمي إلى المدرسة الألمانية الاستشراقية التقليدية، لأنّ عمله انحصر في البداية بالتنقيبات الأثريّة(26) ثم لاحقاً في إطار خدمة المشروع الاستخباراتي الألماني في الشرق الإسلامي، إلّا أنّ الفضل يعود إليه كما العديد من المستشرقين الألمان وغير الألمان في تقديم روايات علميّة عن الجماعات العرقية والمذهبية وأحوال الديار الشامية واستكشاف البِنى الثقافية وإخراجها للعلن بعيداً عن الأساطير والخرافات والأحكام المُسبقة من قبيل محاربة الإسلام ومعاداة المسلمين(27).


المراجع

  1. (Abenteuer Orient – Max von Oppenheim und seine Entdeckung des Tell Halaf (German
  2. كبيبو، محمود، الدروز، ماكس فون أوبنهايم، الوراق للنشر، 2006
  3. اعتبر الصليبيون بأن الدروز شأنهم شأن الجماعات الإسلامية الأخرى، فرقة من الإسلام مثلهم مثل الشيعة الإثني عشرية، والإسماعيلية، والحشاشين أتباع شيخ الجبل والمذهب النزاري.
  4. الصليبي، كمال، منطلق تاريخ لبنان، دار نوفل، 2012.
  5. كبيبو، محمود، الدروز، ماكس فون أوبنهايم، الورّاق للنشر، 2006.
  6. الأسود، إبراهيم، ذخائر لبنان، هنداوي، 2018
  7. الأسود، إبراهيم، ذخائر لبنان، هنداوي، 2018
  8. كبيبو، محمود، الدروز، ماكس فون أوبنهايم، الورّاق للنشر، 2006
  9. الأسود، إبراهيم، ذخائر لبنان، هنداوي، 2018
  10. المصدر نفسه
  11. المصدر نفسه
  12. كبيبو، محمود، الدروز، ماكس فون أوبنهايم، الورّاق للنشر، 2006
  13. كبيبو، محمود، الدروز، ماكس فون أوبنهايم، الورّاق للنشر، 2006
  14. الأسود، إبراهيم، ذخائر لبنان، هنداوي، 2018
  15. كبيبو، محمود، الدروز، ماكس فون أوبنهايم، الورّاق للنشر، 2006
  16.  https://web.archive.org/web/20190419172241/https://www.britannica.com/topic/Druze
  17. كبيبو، محمود، الدروز، ماكس فون أوبنهايم، الورّاق للنشر، 2006
  18. http://www.al-amama.com/index.php?option=com_content&task=view&id=494
  19. أدى قيام الحزب الجنبلاطي القوي الى إثارة الشهابيين والعمل على اقامة حزب منافس من العائلات الثلاث المناصرة للشهابيين، ابو اللمع، تلحوق وعبد الملك برئاسة عبد السلام يزبك العماد وهكذا نشأ الحزب اليزبكي الذي استبدل الحزب الصمدي.
  20. يقصد فتنة 1860
  21. الأسود، إبراهيم، ذخائر لبنان، هنداوي، 2018
  22. http://www.alhayat.com/article/1163469/
  23.  المصدر نفسه
  24. عبدلله، أمير، رائد، المستشرقون الألمان وجهودهم تجاه المخطوطات العربية والإسلامية، مجلة كلية العلوم الإسلامية، 2014
  25. https://www.alaraby.co.uk/blogs/2018/9/27/جهاد-إسلامي-بلكنة-ألمانية
  26. اكتشف مدينة تل حلف الأثرية في شمال سوريا عام 1899
  27. https://www.alaraby.co.uk/books/2017/3/6/محمد-المزوغي-تحقيق-ما-في-نقد-الاستشراق-من-مقولة .

المـــزاد

ليلَى تُنادي في المــزاد
ليلَى تبيعُ ضفائرا
ليلَى تبيعُ أصابعا
وتبيع أطفالاً لها
وتودُّ بيْعَ جنينها
ذاك الذي في رحمها
كانت تُقبّل بطنها
……………………………..
في الدمعٍ أمس توضّأت
ياقوم … قد فتح المزاد
……………………………
الله أكبر كبِّروا
رجلُاً ضريراً جائعًا
عذراء فاتنة هنا
ونبيع كحلاً حارقا
ونبيع أسراراً لكم
ونبيع شِعراً ماجنا
وقصائداً ثكلى بدمع
ونبيع أقلاماً بها
ووثائقاً أوصى بها
قمصانكم سنبيعها
أكواب دمعٍ هاهنا
وخرائب لأوابدٍ
وحقائبُ الأطفال مَن
والمصطبات وكم لنا
سنبيع حتى ثوبنا
إلاَّ الكرامة وحدها
ورغيف خبزٍ طازجٍ
كم خبّأتْه لطفلها
قد مات حين تأخرت
جاؤوه بالموت الرحيم
ليلى تنام كلبوةٍ
وتضمُّ عِطر بلادها
علَّ الإغاثةَ في السما

مَن يشتري رحم البلاد
وتبيعُ تاريخَ العباد
داست على شرف الزِّنــاد
ناموا بأقبيةِ الفساد
كيْ تشتري ماءً وزاد
شربَ السوادَ على السواد
ليلاً … ويغلبها العناد
………………………………..
صَلّت … وأعلنتْ الحداد
ياقوم … قد بدأ المزاد
……………………………….
ناشدتُكم أن تشتروا
أولاده قد هُجِّروا
مِن لحظ عين تُبهر
لنسائكم فلتحذروا
قد سرَّبوها العسْكَر
ما قال يوماً عنتر
تمائمٍ تتعطّر
الأجداد مجداً سطروا
للإرث جَدٌّ أكبرُ
بالذات ذاك المئزرُ
ودم لجرح يقطر
جدَي وجَدّك عمّروا
بالأمس صُبحاً فُجّروا
في الذكريات نثرثر
نعرى فإنَّا ننذر
يا سادتي لن تشتروا
مِن كَف ليلَى يعبرُ
المحموم جوعًا يسهر
مرّت عليهِ الأشهُر
فلا يثور ويثأر
مِن وهج جرحٍ تزأر
مِن عُريها تتدثر
تأتي ولا تتأخَّر!

“صفقةُ القرن”، أو “وَعْد بلفور الجديد”

مقدمة:

أ. د. محمد شيّا

بلفور

إذا كان «وعْدُ بلفور»، كما قيل فيه، «وَعْدُ من لا يملك إلى من لا حقَّ له»، هو فضيحة بريطانيا مطلع القرن العشرين، فإنَّ «صفقة الرئيس ترامب» التي أُعلنَ عنها في كانون الثاني 2020 هي بلا أدنى شكّ فضيحة الولايات المتّحدة مطلع القرن هذا. إلّا أنَّ المفارقة الصارخة هنا هي أنّه لم يكن مطلع القرن العشرين من ‘هيئة أُمم متَّحدة’ ولا «مجلس لحقوق الإنسان». ولا كان هناك أكثر من قرار للأمم المتحدة بدولة فلسطينيَّة مستقلّة في حدود 4 حزيران 1967. ولا كانت هناك أكثرية ساحقة في الأمم المتحدة تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه الوطنية والتاريخية، وبمنظّمة التحرير الفلسطينية ثم بالسلطة الفلسطينية ممثّلاً شرعياً للشعب الفلسطيني. وعليه، فإعلان ترامب، بل صُهرِه، لمُقتَرح سخيف يقوم على رَشوة الفلسطينيين ببضعة مليارات من الدولارات مقابل بيعهم لحقوقهم الوطنية مخالف لأبسط حقوق الإنسان، في حق كل إنسان، وكل شعب، أن يكون له وطن. وهو مخالف أيضاً لسلسلة طويلة من القرارات والتوصيات الدّولية بحق الفلسطينيين بدولة مستقلّة على كامل أراضي ما قبل حزيران 67.
لا يملك ترامب، ولا سواه، حقّ التصرّف بأرض لها هُوِّيَّة تاريخيّة، ومقوّمات وطنية، ينطبق عليها منطوق القانون الدّولي.
ولا تملك إسرائيل أن تتصرّف بالأرض الفلسطينية، تمزيقاً وتقطيعاً، فهي دولة تحتلُّ هذه الأراضي بالقوة العسكرية، وغير مسموح لها وفق القانون الدولي التصرّف بحدود الأراضي، وسكانها، بتأثير القوة العسكرية للاحتلال.
ولا يملك أيٌّ كان في العالم الحقَّ بالتفاوض على الحقّ الفلسطينيّ ومستقبل الأرض الفلسطينيّة والشعب الفلسطيني، أو التصرّف بالثوابت تلك، نيابة عن أصحاب الأرض – الفلسطينيون ممثَّلين بسلطتهم الشرعية.
أكثر من ذلك، ربّما لا يملك الفلسطينيون أنفسُهم – وهم لن يفعلوا – أن يتخلَّوا عن حقوقهم الشرعية التاريخية بكامل أرضهم، وعن إقامة دولتهم المستقلّة، وتطبيق حق العودة للّذين هُجِّروا قَسراً من ديارهم.
قضيَّة الشعب الفلسطيني المُحِقَّة، في امتلاك أرضه الوطنية، وإقامة دولته المستقلَّة، وعودة اللاجئين، هي بكل دقة قضية إنسانية تخص الفلسطينيين ماضياً وحاضراً ومستقبلاً بالدرجة الأولى، وتخصّ أيضاً كلَّ الشعوب والجماعات التي يُراد لها أن تستسلم لمنطق القوّة والاحتلال والعَسف المتمادي..
هذا هو المنطق الذي يحكم مُقترح ترامب في ما أسماه «صفقة القرن»، وهي ليست في الحقيقة إلا «مؤامرة بداية القرن».
لن تنجح القوَّة ألأميركية الاقتصادية الطاغية اليوم، ولن تنجح الغلبة العسكرية الإسرائيلية في ميزان القوى الراهن، في إجبار الشعب الفلسطيني والشعوب العربيه معاً على التخلِّي عن أبسط الحقوق الفلسطينية، أو في تحويل مفاعيل الاحتلال إلى وقائع سياسية وحقوقية (فالاحتلال باطل وما ينشأ عنه باطلٌ بالتالي).
والأكثر إلفاتاً، أيضاً، هو أنَّ مُقتَرح ترامب الخطير هو إهانة لشعوب العالم الأخرى، ويعيد إلى الواجهة دعاوى الاستعمار الغربي في احتلال مناطق العالم وشعوبها، ونهب ثرواتها، وإعادة توزيع سكّانها، دونما أي سند قانوني أو حتى تاريخي – خلا الاستناد إلى منطق القوة والغلَبَة المادية (العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية).

ويحقُّ لنا أخيراً التساؤل: هل هذه نهاية الطّريق لما بَشّر به هانتنجتون وفوكوياما وغيرهما من غُلاة العنصرية الأمريكية نهاية القرن المُنصرم؟ أم أنّه مجرد نزوع سياسي اقتصادي أمريكي مجنون لا يراعي حقيقة مواقف الأمريكيين أنفسهم، ولا يخدم على المدى البعيد مصالحهم لدى الفلسطينيين والعرب وسائر الشعوب الحُرّة؟
هوذا ما تحاول الإجابة عليه مُداخلات الملف الذي تفتحه الضّحى اليوم وربما نتابعه في أعداد لاحقة ايضاً.


كنيسة القيامة
صفقة القرن تداعياتها ومستقبلها

السفير حسّان أبي عكر

بدأ الإعلان عن صفقة القرن منذ ما يزيد عن نصف سنة وتمَّ تأجيلها غير مرّة، تارة بحجّة الاكتمال وطوراً بحجة إيجاد الفرصة المناسبة لعرض مشروع جلل بهذا القدر.
والوجه الأوّل لهذه الصفقة أو الصفحة الأولى منها أن جاريد كوشنير صهر الرئيس ترامب اليهودي ومستشاره للشرق الأوسط هو المسؤول عنها، وبمساعدة مسؤولين مكتومين من إدارة الرئيس ترامب، هم المخطّطون الرئيسيون فعلاً لهذه الصفقة بينهم مستشاران يقيمان داخل المستوطنات غير الشرعيّة في ضواحي مدينة القدس.
وحين أعلن عن الصفقة منذ أكثر من شهرين بدأت الصفحات أو المقومات الأولى تنكشف وارتبطت بالظروف الملائمة لكلّ من ترامب ونتنياهو. فالرئيس ترامب بدأ معركة التجديد لرئاسته الثانية وما يلزمها من مشاريع ووعود للناخبين وللهيئات الأميركية اليمينية واليهودية وللجمهوريّة المتطرفين.
أما نتنياهو الذي يعاند وما زال يقاتل للبقاء في رئاسة الحكومة والتخلص من ملاحقات القضاء الإسرائيلي له بتهمة الفساد واستغلال السلطة، وهو لا شك كان مطلعاً على الصفقة، فرأى في الإعلان مناسبة جديدة له للفوز بالانتخابات والالتزام بوعوده القديمة لليمين اليهودي، شريكه في حكومة الليكود.
وإذا كانت الصفقة قد تأخّر إعلانها تحضيراً للوقت المناسب المذكور سابقاً فقد بدأت المقدمات أو الصفحات الأولى تتوالى. فقد اعترف الرئيس ترامب بإلحاق هضبة الجولان بالكيان الإسرائيلي في مخالفة واضحة للسياسات الأميركية السابقة ولكامل مقررات الشرعية الدوليّة. ثمّ تبعه الاعتراف اللاحق باعتبار مدينة القدس عاصمة لدولة إسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها. وكل هذا انتهاك لقرارات الأمم المتحدة ودون أي اعتبار لأصدقاء الولايات المتحدة وخاصّة دول الخليج العربي.
وبات من الواضح أن سياسة الرئيس ترامب منذ وصوله إلى سدّة الرئاسة كان يضع الأولويّة في سياسته في الشرق الأوسط الوفاء بوعوده للّوبي الأميركي – اليهودي واليمين الأميركي الذي لا يرى صديقاً أو حليفاً في الشرق الأوسط إلا إسرائيل، ولا يشيطنّ إلا دولة إيران وتوابعها.
وكعادة دولة إسرائيل بانتهاز السياسات والفرص الأميركية في أوقات حرجة ومفصليّة لابتزاز المرشحين الرئاسيين عبر اللوبيات المتنوعة، فكيف إذا أضفنا إلى كل هذا انقسام إسرائيلي كان واضحاً في موسم انتخابي لعبت فيه الكتلتان المتنافستان كل أوراقهما للفوز بانتخابات ثالثة، تحدّد موقع رئاسة الحكومة أو تودي ببنيامين نتنياهو السجن وربما إلى إنهاء حياته السياسية كما حصل مع رئيس الوزراء السابق يهود أولمرت. ولكن يبدو أن الحبل قد ابتعد عن عنقه مؤقتاً.
وقبل إيجاز البنود التي تضمنتها هذه الصفقة الفريدة لا بد من تذكر عمليّة الإعلان التهريجية والتمثيليّة والتي وزع فيها ترامب الهدايا والتقدير والشكر لمنجزي هذا المشروع النبيل والمبارك. فما هي أهم بنود هذه الصفقة؟
– تتحول «دولة» فلسطين إلى خمس كانتونات أو غيتوات وتتصل بقطاع غزة بنفق طوله 56 كلم. ويبقى حوالي 400 ألف من سكان المستوطنات في أماكنهم، ليتحول صاحب الأرض إلى السجين.
– لا حاجة للسلاح لهذه الدولة إلا سلاح الشرطة، إذ ليس لها عدو!
– يبقى غور الأردن التابع للضفة الغربية تحت السيادة الإسرائيلية لأسباب استراتيجية.
– يخصص مبلغ ستين مليار دولار للمشاريع الاقتصادية والتنموية لتتحول هذه «الدولة» إلى نموذج اقتصادي عالمي. (الصين خصّصت أكثر من هذا المبلغ لمكافحة وباء كورونا). ويخصص كذلك قسم من هذه المساعدات أو المليارات لدول المنطقة المجاورة كمشاريع ومساعدات مقابل إبقاء الفلسطينيين اللاجئين حيث هم موجودون، أي بتوطينهم (منها 6 مليارات للبنان أي أقل من هدر الكهرباء لثلاث سنوات!)
– هكذا تباع الأوطان! بتاريخها وحجرها وبشرها وبالجوار كذلك!

تداعيات صفقة القرن:
عبّر الطرفان الفلسطينيان عن رفضهما، القاطع للصفقة (وأطلق عليها لقب الصفعة) كل على طريقته:
– رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أعلن رفض منظمة التحرير للخطة وندد بالتنازلات الأميركية وبمخالفة كل مقررات الشرعيّة الدولية وتمسّك بالقدس الشرقيّة عاصمة لفلسطين وبحل الدولتين.
– منظمتا حماس والجهاد الإسلامي في غزّة حرّكتا الجماهير في تظاهرات رفضٍ إلى الحدود مع إسرائيل وانتهت بعدد من الضحايا. واعتبر الفريقان الفلسطينيان أن الرد العربي لم يكن كافياً رغم الدعوة إلى اجتماع طارئ لمجلس الجامعة العربية الذي تمسَّك بمقررات المبادرة العربية لعام 2002 وحلّ الدولتين والقدس الشرقية كعاصمة لدولة فلسطين…
– غير أن هذا الرفض الكلامي قد تعوّدت عليه كل من إسرائيل والولايات المتحدة. وأخطر ما في الأمر أن الصفقة قد دفنت حل الدولتين وكل المقومات السكانية والاقتصادية والسياسية لقيام أية دولة أو دويلة في المستقبل: إذ بالإضافة إلى تفتيت الضفة الغربية إلى أربعة تجمعات سكانية بات عدد البؤر الاستيطانية اليهودية يزيد عن أربعمئة ألف نسمة كما أسلفنا، وإذا نصّ أحد بنود الصفقة عن مرحلة انتقالية للتنفيذ تمتد إلى أربع سنوات فإن عدد المستوطنات سيزداد في هذه الفترة وهذا يذكرنا باتفاقات أوسلو والمراحل ألف وباء وجيم وقضم الأراضي. وها هو نتنياهو وقبل الانتخابات وقبل الانتخابات لم يتأخر عن توقيع قرار جديد ببناء مستوطنات جديدة.
– وإذا اعتبرت الأطراف الفلسطينية والعربية أن الصفقة ولدت ميتة فلا يعني أن الطرفين الإسرائيلي والأميركي سيتركانها بلا توظيف أو تطبيق. فالطرف الإسرائيلي سيستغل الرفض الفلسطيني ليتّهم كل الأطراف بالسلبية والتطرّف والإرهاب واعتماد العنف.
أما الإدارة الأميركية فستواصل سعيها لعزل الفلسطينيين وحرمانهم من المساعدات الدولية والضغط على الدول وعلى المنظمات لتقليص المساعدات نتيجة عدم التجاوب. لا بل ستزداد استجابةً لتحقيق مطالب المنظمات الصهيونية في موسم الانتخابات القادمة.

نظرة إلى المستقبل:
أما وان الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة لم تغيّر في السياسة العامة الاسرائيليّة في المستقبل المنظور، وأن التنافس الانتخابي بين الرئيس ترامب والديمقراطيين سيتم على الأرجح في أحد وجوهه على إغداق الوعود على اللوبي اليهودي، أو على معاقبة الفلسطينيين لعدم رضوخهم لصفقة القرن فيمكن مقاربة مستقبل القضية الفلسطينية من خلال الاعتبارات أو التساؤلات الصريحة التالية:
1- لم يعد حل الدولتين قائماً على الأرجح نتيجة بنود الصفقة وتغيّر الوضع الديمغرافي في الضفة كما أسلفنا – ولم تعد نتيجة لذلك المبادرة العربية لعام 2002 القائمة على حل الدولتين وعلى اعتبار القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، لم تعد فعلياً قابلة للعرض أو المفاوضات. وإذا لم يتم احترام مقررات الأمم المتحدة ولا الأخذ بعين الاعتبار المجتمع الدولي، فما بالنا بمبادرة السلام العربية.
وفي أتون الصراعات العربية والفوضى واهتزاز أسس وكيانات بعض الدول العربية، هل من مجال لاجتماع عربي أو لقيام مشروع يحظى بالإجماع العربي ليكون أساساً للتفاوض؟
2- في زمن مضى طرح مشروع لدولة واحدة في شعبين. فهل يعود هذا المشروع للتداول كواقع يُفرض على الفلسطينيين المحاصرين في الضفّة الغربية؟ إن ما يسمّى بالديمقراطية في الكيان الإسرائيلي ووجود أقليّة عربيّة تعيش داخل هذا الكيان الإسرائيلي ووجود أقليّة عربيّة تعيش داخل هذا الكيان وتشكّل خمس السكان: وقد نجحت هذه الأقليّة بإيصال 16 نائباً ونائبة في انتخابات شهر آذار الفائت (بينهم 5 نساء إحداهنّ درزيّة). أي أنها أصبحت القائمة الثالثة من حيث العدد في الكنيست الإسرائيلي. وقد تتحوّل إلى قائمة المعارضة الرسمية إذا ما تشكّلت حكومة اتحاد وطني. هل هذا يشجّع النخب الفلسطينيّة في الضفّة أو بعض الأحزاب في السير بمشروع دولة واحدة بشعبين كأمرٍ واقع؟ ورغم أن وضعت إسرائيل سابقاً شرطاً باعتبار إسرائيل وطناً يهودياً، فهل هذا الأمر ومنع حق العودة يعرقل السير في مشروع دولة واحدة بشعبين؟
3- بالمقابل وكلّما زاد الانفصال الأيديولوجي بين الضفّة وقيادة منظمة التحرير يصبح من الصعب توحيد مطالب القضيّة ويزيد من ابتعاد كوادر قطاع غزّة عن المجموعة العربية وعن مصر.
فهل من بوادر لمصالحة فلسطينية ترأب الصدع وتنطلق إلى حلول تجابه الحالة المأساوية القائمة؟
أخيراً تعيش منطقة الشرق الأوسط حالياً على أتون من الحرائق أو على فوهة مجموعة من البراكين تجعل أثار الدمار هائلة وواسعة وطويلة التأثير أو الاستيعاب.
فالدول العربية تترنّح وتتقاذف شعوبها الأمواج العاتية: دول ما زالت تحترق وتتآكلها ألسنة النيران، ودول تعالج نكباتها أو تستعد لنكبات آتية.
والصراع الأميركي-الإسرائيلي من جهة والإيراني من جهة يزيد من اصطفاف دول المنطقة ومن العقوبات عليها وعلى أتباعها في دول أخرى، مع احتدام الاشتباك الإقليمي في سوريا، كل هذا المناخ المقلق، بالإضافة ما زاد عليه فيروس كورونا من مصائب وانخفاض أسعار النفط – يجعل من الصفقة لصانعيها في أكثر الظروف ملاءمة، ولا يهم إن لم يتوفر شريك ثانٍ للصفقة – حتى أن الظروف التاريخية والاستراتيجية التي أوجدت وعد بلفور بعد الحرب العالمية الأولى ليست أسوأ أبداً من الظروف الحالية. ولا يخطئ البعض إذا ما خطر له أن يصف الصفقة بالمرحلة التالية المكمّلة لوعد بلفور.
وحتى لا يكون المشهد مأساوياً إلى مرحلة اليأس أو الاستسلام يبقى خيار التمسّك بالأرض والبقاء والصمود والمقاومة بكل الأساليب الممكنة الحل الأوحد، بانتظار تبدل الظروف وتغيير موازين القوى على امتداد المنطقة.


صفقةُ القرن في مُواجهة القانون الدَّوْليّ

العميد د. رياض شيّا

في الثّامن والعشرين من كانون الثاني / يناير 2020، وفي احتفال أُقيم في البيت الأبيض، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن خطّته المُنتظَرة للسلام في الشرق الأوسط المُسمّاة بـ «صفقة القرن» “Deal of the Century”، بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنجامين نتنياهو، وعدم حضور أيّ ممثّل للفلسطينيين.
تناولت هذه الخطة معظم المسائل المتعلّقة بالنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، مُقْتَرِحة مرحلةً انتقاليةً لمدّة أربع سنوات، وتعطي إسرائيل السيطرة على 30 % من الضفة الغربية وسيادتها على المستوطنات، وبقاء القدس مُوَحّدة كعاصمة لإسرائيل، وتشكيل دولة فلسطينية (رمزيّة)، وغير ذلك…
رفض الفلسطينيون بأجمعهم هذه الخطّة، وكذلك فعلت الجامعة العربية، وعارضها العديد من دول العالم والمنظّمات الدّولية، ومعظم منظمات حقوق الإنسان في العالم وحتى داخل الولايات المتحدة وداخل إسرائيل. وليس أدلّ على ذلك سوى ما صرّح به الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرس تعليقاً على خطة ترامب: نريد اتّفاق سلام ثنائيّاً مبنيّاً على قرارات الأمم المتحدة، ووفقاً للقانون الدَّولي. ومنظمة السلام الإسرائيلية “B’Tselem” اعتُبرت الخطّة شكلاً من الفصل العنصري Apartheid.
أمّا في التقييم الأوّلي لخطّة صفقة القرن، فيمكن القول أنّها مخالفة بالكامل لمبادئ القانون الدّوْلي وللقرارات الدَّولية. وبسبب عدم استنادها إلى المعايير القانونية الدولية المستقرّة لحلّ النزاعات، فهي ليست وثيقة قانونية صالحة لحل النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي المُمْتَد لسبعة عقود خلت من الزمن، والذي صدرت بشأنه عشرات القرارات الدولية التي تعترف بحقوق الفلسطينيين بإنشاء دولتهم المستقلّة وحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى أرضهم، مقابل عدم الاعتراف بكلّ الإجراءات الإسرائيليّة، وخاصّة رفض احتلال إسرائيل للضفّة الغربيّة وتغيير معالم القدس، ورفض حركة الاستيطان الإسرائيلي، وغير ذلك من تداعيات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
أمّا أهم المعايير القانونية التي خالفتها خطة صفقة القرن فسنعرض لها بالاختصار، وهي التالية:
أوّلاً – عدم الاعتبار لحق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير:
إنّ الحق بتقرير المصير (Right to Self-Determination) هو من المبادئ الأساسيّة في القانون الدّوْلي، سيّما وقد تصدَّرَ الاتفاقيّات الرئيسية للقانون الدولي لحقوق الإنسان الصادرة عام 1966 التي اعترفت بها جميع دول العالم، وقد تكرّس هذا المبدأ في كثير من القرارات الدّولية. وفي معرض الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، اعترفت الجمعية العامّة للأمم المتحدة بصورة علنيّة بحق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير، وفي ما يلي عيّنة من هذه القرارات. القرار رقم 2649 تاريخ 30 تشرين الثاني / نوفمبر 1970، والقرار رقم 2672 تاريخ 8 كانون الأول / ديسمبر 1970، وفي القرار 3089 تاريخ 7 كانون الأول / ديسمبر 1973، وكذلك في القرار 3236 تاريخ 17 كانون الأول / ديسمبر 1974، وغيرها من القرارات.
وإذا كان المظهر الأوّل لحقِّ الشّعوب بتقرير المصير هو في الاستقلال وفي السيادة على أرض الدّولة وعلى كامل مقدّراتها السياسيّة والاقتصادية ومواردها وثرواتها الوطنية، فإنّ الخطة التي أعلنها ترامب تجرّد الشعب الفلسطيني من كل ما يؤمّن حقه بتقرير مصيره، وقد وضعت جميع مقدراته تحت السيطرة الإسرائيلية.

ثانياً – دولة فلسطينيّة منزوعة السيادة:
نصّت صفقة القرن على إنشاء دولة فلسطينيّة بعد أربع سنوات، عند نهاية الفترة الانتقالية، إذا وافق الفلسطينيون على الصفقة كاملة. تقوم هذه الدولة في القسم المتبقّي من الضفة الغربية وقطاع غزة، بعد إلحاق المستوطنات وغور الأردن بإسرائيل والبالغة مساحتها أكثر من 30% من مساحة الضفّة. وعدا تقطيع أوصال هذه الدّولة من خلال المستوطنات القائمة التي تجاوز عددها الـ 140 مستوطنة، ما جعلها مُفكَّكة وغير مترابطة، فإنّ الخطّة تنصّ على أن تكون الدولة مُجرّدة من السلاح، وتتعهد بجمع السلاح من أيدي الفلسطينيين. فأيّة دولة فلسطينية هذه يجري الحديث عنها، وكيف ستمارس سلطتها مع تجريدها من جميع عناصر القوّة التي تحتاجها لبسط سلطتها وحماية أمنها الداخلي والخارجي؟
إنّ السيادة هي الركن الأساس لوجود الدولة، كما هو مُتعارف عليه في القانون الدولي منذ أبصر النور بعد معاهدة وستفاليا عام 1648 مرتكزاً على احترام سيادة الدولة. وعليه، كيف ستتمتّع الدولة الفلسطينية الموعودة هذه بكامل سيادتها؟ إنّها ستكون دولة رمزيّة فاقدة السيادة، لا حول ولا قوّة تستعين بها سوى بجارتها القوية – إسرائيل التي صادرت سيادتها.
يضاف إلى ما ذُكِر أعلاه أمرٌ هام آخر، وهو أنّ تجريد الدولة الفلسطينية الموعودة من سيادتها يجعل مِنْ «حلّ الدولتين» غير ذي قيمة. فهذا الحل قد جرى تأسيسه بقرار الأمم المتحدة رقم 181 تاريخ 29 تشرين الثاني / نوفمبر 1947، لتعتمده لاحقاً جميع مبادرات السلام في الشرق الأوسط وقَبِل به المُجتمعان الدَّولي والعربي (وحتى الفلسطيني) والقوى المؤيّدة للسّلام في إسرائيل.

ثالثاً – تشريعُ الاحتلال:
منحت صفقة القرن إسرائيل الشرعية لاحتلالها الضفة الغربية من فلسطين بالقوّة خلال حرب حزيران / يونيو 1967، والتي كانت يومها تحت السيادة الأردنية، وذلك في مخالفة صريحة للقانون الدَّولي الإنساني وللقرارات الدَّولية. فخضوع أجزاء الضفّة الغربية التي ستقوم عليها الدولة الفلسطينية المُجردة من سيادتها، أي وجودها باستمرار تحت السيادة الإسرائيليّة، يعني أنّ احتلال إسرائيل لتلك الأراضي، والمرفوض من القانون الدولي، قد أصبح شرعيّاً.
إنّ المادة 42 من لائحة الحرب البرية الملحقة باتفاقية لاهاي الرابعة لعام 1907 تعلن بوضوح: «تُعتَبر أرض الدولة واقعة تحت الاحتلال عندما تكون تحت السلطة الفعلية لجيش العدو..». وكذلك قرار مجلس الأمن الرقم 242 تاريخ 22/11/1967، الذي يؤكّد عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالحرب، ولم يعترف بالاحتلال الإسرائيلي، بل يدعو إسرائيل إلى الانسحاب من جميع الأرضي العربية المحتلّة، ومن بينها الضفة الغربية والقدس الشرقية، وذلك كمقدَّمة لإحلال السلام الدائم في الشرق الأوسط.
إنّ الاحتلال كان وسيبقى أمراً مرفوضاً ومُغايراً للقوانين والأعراف الدَّوليّة، ولا يمكن تصوّر قبول أي حلّ للصراع القائم والمُستمر دون انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي العربية والفلسطينية إلى حدود حزيران 1967.

رابعاً – مسألة عودة اللاجئين:
تنص خطة الصفقة على إمكانية عودة بعض اللاجئين إلى الدولة الفلسطينية المستقبلية، ومنع عودتهم إلى دولة إسرائيل نهائياً. إنّ هذا التدبير مُخالف بالكامل لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 194 تاريخ 11 كانون الأول / ديسمبر 1948 الذي ينص على عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي تركوها بسبب حرب العام 1948. وأهميّة هذا القرار هي باستمرار تمسّك الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بهذه العودة. فقد جرى التذكير به في مُختلف قرارات الأمم المتحدة وأقسامها وهيئاتها لدى مناقشة المسائل المتعلّقة بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. إلّا أنّ الأهمية القصوى التي علقتها الأمم المتحدة على هذا القرار تكمن في إدراكها بصعوبة حل الصراع دون عودة اللاجئين إلى ديارهم. وللتدليل أكثر على هذه الأهمية، فإنّ الأمم المتحدة لم توافق على قبول عضوية إسرائيل لديها (في القرار 273 تاريخ 11/5/1949) دون اشتراط قبول إسرائيل بالقرار 194 المُشار إليه وبالقرار ذي الرّقم 181 تاريخ 29/11/1947 المتعلّق بتقسيم فلسطين الذي يتضمن إقامة دولة فلسطينية. لكن قبولها بتلك الشروط لم يُترجَم فعليّاً، بل عملت على تناسيه كليّاً بوجود غطاء أميركي مستمر.
إنّ الجمعية العامة للأمم المتحدة أخذت مجموعة كبيرة من القرارات التي تؤكد على ضرورة إعادة اللاجئين إلى أرضهم واعتبار ذلك من الحقوق غير القابلة للتصرّف. وعلى سبيل المثال، القرارات 394 (1950)، 2052 (1965)، القرار 2253 (1967) وغيرها. وكذلك الأمر بالنسبة لمجلس الأمن الذي أكّد بقراره الرّقم 237 تاريخ 14 حزيران / يونيو 1967 مطالبة إسرائيل بتسهيل عودة إسكان الذين فَرّوا بسبب العمليّات الحربيّة.
وبرغم جميع تلك القرارات الدوليّة المتعلقة بعودة اللاجئين الفلسطينيين، جاءت صفقة القرن اليوم لتدير لها ظهرها، ولتوافق إسرائيل على سلوكها المستمر منذ البداية بعدم السماح لهؤلاء بالعودة.

خامساً – التغيير الديمُغرافي:
لم تكتفِ الخطة بعدم قبول عودة اللاجئين فقط، بل أضافت إلى ذلك مسألة نقل السكان من منطقة طولكرم وجنين التي عُرِفَت بالمثلَّث. إنّ هذه المسألة هي مخالَفة صريحة للقانون الإنساني الدَّولي، إذ إنَّ معاهدة جنيف الرابعة للعام 1949 المتعلقة بحماية السكان، تحظر تغيير الطابع الديمغرافي والمركز القانوني للأراضي المحتلّة. فالمادة 49 من هذه المعاهدة تحرّم النقل أو الإخلاء الجبري الفردي أو الجماعي لسكان الأراضي المحتلّة مهما كانت الأسباب.

سادساً – تشريعُ المُستوطنات:
على الرّغم من الموقف المعارض لإقامة المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة الذي دأبت عليه الإدارات الأميركية المختلفة، وعلى الرّغم من معارضة المجتمع الدولي لإقامتها أيضاً، جاءت صفقة قرن الرئيس ترامب تنصّ على تشريع الاستيطان الإسرائيلي بنصِّها على أنّ إسرائيل غير مُلْزَمة باقتلاع أيّة مستوطنة، وستقوم بضم تلك المستوطنات إلى الأراضي الإسرائيلية المجاورة. وإذا كانت إسرائيل قد قامت بإحلال المستوطنين في الأراضي العائدة للفلسطينيين، فإنّ المادة الثامنة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدَّولية الصادر في روما عام 1988 تعتبر قيام دولة الاحتلال بنقل جزء من سكّانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلُّها هو بمثابة جريمة حرب. كما نصّ القرار 465 (1980) الصادر عن مجلس الأمن الدولي على «أنّ سياسة إسرائيل وأعمالها لتوطين قسم من سكّانها ومن المهاجرين الجدد في الأراضي الفلسطينية وغيرها من الأراضي العربية المحتلة منذ 1967 بما فيها القدس تشكل خرقاً فاضحاً لاتفاقية جينيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين في زمن الحرب، كما أنّها تشكل عقبة جديّة أمام تحقيق سلام عادل وشامل في الشرق الأوسط، ودعا القرار إسرائيل لتفكيك المُستوطَنات القائمة وإعادة الوضع إلى ما كان عليه. وفي ذات التوجّه، تبنت الأمم المتحدة في 20 كانون الأول / ديسمبر 1971 القرار رقم 2851 الذي يطالب إسرائيل بشدّة بإلغاء الإجراءات لضمّ أو استيطان الأراضي المحتلّة.
هذا يدل على استخفاف صفقة القرن بالقانون الدَّولي والقرارات الدَّولية وعدم الاكتراث بها.

سابعاً – قضيّة القدس:
إنّ قضية القدس كانت ولا تزال واحدة من مُرتكزات القضية الفلسطينية الرئيسة. فمع الإجراءات التي واظبت إسرائيل على ممارستها لتهويد هذه المدينة وتكريسها عاصمة لها، جاءت خطّة صفقة القرن لتكرّس وحدة المدينة وعدم تقسيمها والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل. والصفقة في ذلك خالفت رؤية الأمم المتّحدة وقراراتها بهذا الشأن، منذ البداية، التي لا تعترف باحتلال إسرائيل للقدس الشرقية التي تضم الأماكن المقدسة، واعتبارها جزءاً من الضفة الغربية.
فقد رفض مجلس الأمن في القرار رقم 252 تاريخ 21 أيار / مايو 1968 الاستيلاء على الأراضي بالغزو العسكري، ورفض مصادرة إسرائيل للأملاك والأراضي في القدس، ودعاها إلى إلغاء جميع إجراءاتها لتغيير وضع المدينة، واعتبر تلك الإجراءات باطلة. وكذلك في قراره رقم267 الذي يشجب بشدّة جميع الإجراءات المُتّخَذة لتغيير وضع مدينة القدس، ويدعو إسرائيل مُجدَّداً إلى إلغاء هذه الاجراءات. وفي القرار رقم 271 تاريخ 15 أيلول / سبتمبر 1969 أدان مجلس الأمن إسرائيل لتدنيسها المسجد الأقصى ودعوتها إلى إلغاء جميع الإجراءات التي من شأنها تغيير وضع القدس.
من جهتها، رفضت الجمعية العامّة للأُمم المتحدة الإجراءات الإسرائيلية في القدس، أسوةً بمجلس الأمن، في القرارين 2253 و2254 بتاريخ 4 و14 تموز 1967 وأدان كلَّ التدابير والإجراءات الإسرائيلية التي تغيّر وضع القدس.
هذه أهم مخالفات صفقة القرن لمبادئ القانون الدَّولي وللقرارات الدَّولية الكثيرة بشأن مسألة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وبتناول الصفقة لمُعظم عناصر هذا الصّراع وتبنّي وجهة النظر الإسرائيلية فيها، فإنّ خطورتها تكمن في سعيها إلى تصفية القضية الفلسطينية وتكريس غَلَبَة إسرائيل والمحافظة على أمنها ومكتسباتها، وإجبار الفلسطينيين على قبولها.
هل سيُكتَب النّجاح لهذه الخطّة، أم ستنتصر إرادة أصحاب الحقِّ الرافضين لها، وينتصر معها القانون الدَّولي والشرعيَّة الدَّوْليّة؟.


صفقةُ القرن وضياع القدس مسؤولية من؟

أ. رياض زهرالدين

جاءت اتفاقية صفقة القرن المبرمة مؤخراً بين الرئيس الأمريكي (دونالد ترامب) ورئيس وزراء الكيان الصهيوني (بنيامين نتنياهو) والمتضمنة جعل القدس عاصمة موحدة لدولة اسرائيل، لتكون من منظور التسوية السياسية الأمريكية، بمثابة الحل النهائي للصراع العربي – الإسرائيلي ، دون أي ردة فعل جديّة من قبل الأطراف المتضررة من فقدها المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين عند المسلمين ، وكنيسة القيامة عند المسيحيين ، والمتوقع صدورها عن الشعوب أو الدول الإسلامية أو العربية أو السلطة الفلسطينية، إما بسبب عجزها عن الفعل وهي الغارقة في أوحال حروب أهلية لا تنقطع منذ عشرة سنوات، أو إنّه يؤكد صحة ما صرح به (بنيامين نتنياهو) في مؤتمر لرؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية في القدس الغربية الذي عقد في شهر شباط من العام الحالي : إنه كل الدول العربية قد طبعت علاقاتها مع إسرائيل إمّا علناً أو سراً باستثناء ثلاثة دول .
ولمعرفة الأسباب العميقة لذلك التخلي عن الحق عند الأطراف المفترض أنها متضررة من صفقة القرن، لابد لنا من ذكر بعض التفاصيل حولها:

أولاً: تفكك النظام الإقليمي العربي وضياع بوصلة الهدف:
منذ إطلاق وعد بلفور المتضمن إقامة كيان لليهود في فلسطين، توحدت كلمة العرب على القول: إنّ الدفاع عن عروبة فلسطين قضية مركزية للعرب أجمعين، وتعمق ذلك الخط الرافض للسياسة الغربية الكولونيالية في أعقاب نيل الأقطار العربية استقلالها ودخوله في سلسلة مواجهات عسكرية كبرى مع الكيان الغاصب لفلسطين، حيث تأكد خطرها على شعوب المنطقة، وأن وظيفة ذلك الكيان تتمثل بمنع نهضتها وتقدمها الحضاري.
واستمر ذلك الخط الاستراتيجي تقريباً إلى حين قيام حرب الخليج الثانية في ١٩٩٠، حيث تبين للعالم أجمع بحسب بنيامين نتنياهو في كتابه (مكان تحت الشمس): (اختفاء العداء الأساسي المتجذر مع إسرائيل من مراكز هامة في العالم العربي في الوقت الذي تحول التناقض الرئيسي بين العرب أنفسهم) (1).
إن النتيجة التي ترتبت عن تلك الحرب كانت تفكك النظام الإقليمي العربي، ذلك التفكك الذي بدأ مع زيارة أنور السادات للقدس وانتهى بوقائع غزو العراق للكويت، وما نتج عنه من فقدان الحاضنة العربية لمشروع المقاومة الفلسطينية ممثلاً في برنامج منظمة التحرير الفلسطينية، الذي أعلن قيام دولة فلسطين في عام ١٩٨٨ بالجزائر، وتبني البرنامج المرحلي في إقامة الكيان الفلسطيني النهائي.
وعزز ذلك الانهيار العربي في مواجهة مشروع التسوية الأمريكية الصهيونية في المنطقة تزامنه مع انهيار مشروع آخر لعب دور السّند الداعم للنظام العربي والحق الفلسطيني المستباح دولياً، هو تفكك الاتحاد السوفييتي عام ١٩٩١، وما ترتب عنه من استباحة أمريكية وتفرد بقيادة العالم. ومن ضمنها استئناف مسار التسوية السياسية في مؤتمر مدريد برعاية أمريكية فعلية وسوفيتية شكلية.

ثانياً: بدء تفكك المشروع الفلسطيني المقاوم:
إن بروز هذين المتغيرين دفع منظمة التحرير الفلسطينية ، التي كانت الطرف الخاسر الأكبر في حرب الخليج الثانية بخروج العراق أولا من المعركة، ونتيجة اصطفافها معه في حربه على الكويت ثانيا ، للقبول بالتخلي عن مشروعها الوطني بالكفاح المسلح والانخراط بمسار علني في مدريد وسري في أوسلو كمسار فلسطيني مستقل عن سائر مسارات التفاوض مع العدو الإسرائيلي، والتوصل إلى اتفاق منفرد في أوسلو عام ١٩٩٣ ، حيث بموجب ذلك الاتفاق قبلت منظمة التحرير بالتخلي عن مشروع الدولة الفلسطينية ، وبسلطة حكم ذاتي في غزة وأريحا أي على مساحة تقدر ٣% من أرض فلسطين التاريخية ، وإبقاء مسار التفاوض حول مشروع الدولة الفلسطينية ( الحدود ، واللاجئين ، ومصير القدس) مؤجّلا لحين مفاوضات الحل النهائي المفتوحة الزمن ، والتنازل عن إدارة ملفي العلاقات الخارجية والأمن الخارجي والمستوطنات وإدارة ٩٧% من الأرض الفلسطينية لإسرائيل. وكل ذلك مقابل سلام متخيل أصبح مع رفض اسرائيل استئناف التفاوض على الحل النهائي مع الفلسطينيين، نتيجة فقد أوراق القوة في التفاوض وغياب الرعاية الدولية الجادة والمنصفة إلى مجرد وهم.
أمام سلطة فلسطينية منقسمة موزعة بين حركتي حماس في غزة وسلطة حركة فتح في أريحا المفصولتين جغرافيا بقوات الاحتلال، تتنازعان على سلطة مثلومة الحد، زاد في عجزها التناقض الإقليمي الحاد، ظروف كلها منعت الفلسطينيين من النهوض مجددا من وحل التسوية المجحفة. أما التنظيمات الفلسطينية التي تمسكت بخيار المقاومة الفلسطينية المسلحة وبرنامج منظمة التحرير الفلسطينية لعام ١٩٨٨، ورفضت اتفاق أوسلو، كالجبهتين الشعبية والديمقراطية، فقد جرى احتجاز تطورها وتعذر عليها العمل بخط سياسي منفصل عن مسار التسوية في أوسلو، خياراً ثالثاً ضعيفاً بين مشروعين متنازعين ومسيطرين.
وبذلك نجد أن ضياع القدس هي مسؤولية فلسطينية بالدرجة الأولى وعربية بالدرجة الثانية وإسلامية بالدرجة الثالثة، وضياع القدس بات أمراً شبه مؤكد في ضوء ميزان القوى المختل بين طرفي الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.

ثالثاً: الحل الديمقراطي العلماني في فلسطين وحال الأمة العربية
من ينظر لحال الأمة العربية والإسلامية اليوم، وهي تعاني من ضياع ثورات الربيع العربي بحثاً عن ديمقراطية مرجوّة تعيد لنضال الشعوب دورها واعتبارها، والغرق بدلاً من ذلك في أوحال الصراع المذهبي والانقسام الحاد بين السنة والشيعة، واستنقاذ الطاقات وتدميرها، في حين أعداؤها ينتجون ويتقدمون، سيجد أن ذلك الواقع هو من أعطى الفرصة التاريخية التي انتظرتها إسرائيل طويلاً، لإعلان القدس عاصمة موحدة لدولة إسرائيل دون الخشية من أية عواقب نتيجة المؤامرة.
ولكن حال الأمة هذا لا يعني نهاية الصراع التاريخي في المنطقة وقبول الفلسطينيين إبقاء الكولونيالية الصهيونية في فلسطين إلى الأبد، وإنّ الطرف الصهيوني بات عدواً لا يقهر، ومشروعه بخير وخالٍ من الثغرات ولا يعاني من المصاعب!!.
إن قوة اسرائيل متأتية من ضعف العرب أنفسهم، فمشروع الدولة اليهودية وإقامة جدار الفصل العنصري في فلسطين سيحميها مؤقتا من الغرق ديموغرافيا في البحر الفلسطيني ، ولكنه طالما هي غير قادرة على التفاعل حضاريا مع شعوب المنطقة وبالدرجة الأولى مع الشعب الفلسطيني، هذا سيبقي مشروعها غير قابل للحياة إلا بتحويله من مشروع غاصب لحق شعب بالحياة إلى مشروع ديمقراطي علماني ، يقبل بالتعدد الاثني إلى جانب التعدد السياسي وبحل الدولتين على أرض فلسطين التاريخية، بينما مشروع الدولة اليهودية الراهن ، يضعها في خانة التطرف الديني الأصولي ، ويدخلها في نفق الصراع الأهلي الدائر بين السنة والشيعة في المنطقة . ومشروع الدولة اليهودية النقية قد يكسبها التجانس على مستوى العقيدة الدينية، ولكنه لا يلغي التمييز العرقي والطبقي داخلها. لذلك نزعة التطرف والتمييز العنصري بين اليهود ستقف عائقاً أمام تطورها في المستقبل، مما يبطل قوتها كمثال حضاري جاذب لليهود المنتشرين في العالم، خصوصاً بعد توقف خزان الهجرة اليهودية من روسيا ودول أوروبا الشرقية إليها، والتي صاحبت انهيار المعسكر الاشتراكي في عام (١٩٨٩- ١٩٩١) وكانت حدثاً استثنائياً، حيث من المرجح أن تكون موجة الهجرة اليهودية تلك هي الأخيرة للاحتلال، نتيجة ميل يهود العالم نحو الاندماج في المجتمعات الغربية، وتجريم سياسة معاداة السامية دولياً. كما أن مشروع الدولة اليهودية يحصر دورها في المنطقة بالوظيفة الأمنية التي لن تنتهي إلا بإبادة جميع العرب الرافضين التطبيع معها. في حين أن الحل الديمقراطي العلماني، سوف يحولها إلى مشروع قابل للحياة وقادر على التفاعل الإيجابي أو على الأقل غير متعادٍ مع المحيط.


صفقةُ القرن وتداعياتُها على لبنان

د. هشام الأعور

يبدو أنّ لبنان سيكون أحدَ البلدان المُستَهدَفة بما يُعرف بـ « صفقة القرن» ، ذلك أنّ الصفقة لا تستهدف تصفية قضية فلسطين فقط، وإنّما إعادة ترتيب البيئة الإقليمية المحيطة بفلسطين المحتلّة بما يتوافق مع المصالح الأميركية – الإسرائيلية المشتركة.
إنّ أجندة إعادة ترتيب البيئة الإقليمية المحيطة بفلسطين إنّما تهدف إلى تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، وقطع الطريق على أيّة نهضة حضارية في المنطقة، وبما يعيد توجيه بوصلة الصراع من صراع عربي – إسرائيلي إلى صراع عربي – عربي، وصراع طائفي – مذهبي – عرقي. وبالتالي يُدخِل لبنان دائرة الاستهداف، باعتباره أحد البلدان المقاومة للمطامع الإسرائيلية، بما يضمن إفقاده فعاليته في معارضة «الصفقة»، وكذلك حلّ قضية اللاجئين الفلسطينيين على أرضه؛ سواء بتسهيل هجرتهم أو بتوطينهم من خلال منحهم الجنسية اللبنانية.
بعد تولِّيه سُدّة الرئاسة الأميركية أعلن الرئيس دونالد ترامب عزمه التوصل إلى صفقة نهاية للصراع العربي الاسرائيلي زاعماً بأنّه سيحقق ما فشل أسلافه عن تحقيقه مستنداً إلى قدرته كرجل أعمال على المناورة وعقد الصفقات. وهو ما طرح مؤشّرات كانت تستوجب القلق والحذر الفلسطيني والعربي والدولي من هذه الخطة التي تتضمن بشكل واضح وأحادي الجانب المصالح الإسرائيلية، وتأخذ بالكاد مطالب الفلسطينيين بعين الاعتبار، حتى الدولة الفلسطينية الموعودة ستكون سيادتها محدودة، فالصفقة كانت مجرد تبنٍّ من الإدارة الأميركية لمصالح «إسرائيل» بالكامل، وتجاهل لمطالب الفلسطينيين ،وبالتالي لن تؤدي إلى إحلال السلام، بعد أن جعلت من القضية الفلسطينية مجرّد قالب حلوى تحصل «إسرائيل» على القطعة الأكبر منه فيما لا يحصل الفلسطينيون إلّا على بعض الفُتات. إنّ صفقة القرن ليست صفقة؛ لأنّه لم يحصل تشاور مع الفلسطينيين حولها، بل هي خطّة إسرائيلية تبنّاها ترامب لتصفية القضية الفلسطينية، وتتضمَّن إقامة دولة فلسطينية في صورة «أرخبيل» تربطه جسور وأنفاق، وعاصمتها «في أجزاء من القدس الشرقية»، مع جعل مدينة القدس المحتلَّة عاصمة مزعومة لإسرائيل، وحل قضية اللاجئين خارج حدود إسرائيل.
إنّ صفقة القرن» هذه، كما يُنظر إليها من واشنطن، تنطلق من الفكرة القائلة بأنّ الزمن (26 عاما مرّت على اتفاقية أوسلو للسلام) أثبت أنه لا يُمكن توقع التوصل إلى أيّ حل وسط في المدى المنظور بين الفلسطينيين والإسرائيليين. تبعاً لذلك، فقد حان الوقت لفرض حل أحادي الجانب.. حتى وإن انتُهكت مبادئ القانون الدولي.. وحتى وإن قُدّم تبرير لكل المقتنعين بأن القوة الأميركية تنتهي بفرض قانونها في نهاية المطاف. وهذا يعني بالتأكيد أنَّ صفقة القرن لن تؤدي إلى إحلال السلام في المنطقة، بل ربّما تجلب توتُّراً جديداً وتقود إلى إشعال انتفاضة الشعب الفلسطيني لا سيّما وأنَّ هذه الصفقة كان قد سبقها اعتراف واشنطن بالقدس كعاصمة «لإسرائيل»، وهو ما يجعل المرء يعتقد بأنّ ما قام به ترامب كان الهدف منه ليس تحقيق السلام وإنّما دعم حليفه نتنياهو الذي يُواجه في داخل بلاده هجوماً عنيفاً نتيجة فضائح فساد، ويصارع بكل قواه من أجل الظفر بفترة حكم جديدة، كما أن ترامب حرص «على مساندة الرئيس الذي يُمارس عليه هذا الضغط من خلال إطلاق تصريحات مؤيدة للكيان الغاصب، حيث إنّ اتفاق سلام من هذا القبيل يحقق أحلى أحلام اليمين الإسرائيلي المتطرف بالنظر إلى الوضع الحرج الذي يمر به حاسماً هذه المرّة.
واللّافت في هذا الأمر أيضاً هو ردود الأفعال على خطّة ترامب الذي اعتبر أنَّ «القادة العرب لا يخشون اليوم إسرائيل بل إيران، حيث تمثّل فلسطين اليوم بالنسبة لهم حملاً زائداً»، فمن خلال إجراء مقارنة ولكن ما يثير القلق هي ردود فعل الدّول العربية المتواضعة اليوم على خطاب ترامب الذي يملي على الفلسطينيين ّ «اسرائيل» للسلام، في حين اكتفت جامعة الدول العربية بالدعوة إلى عقد اجتماع طارئ على المستوى الوزاري فقط.
لا شك بأن ردود الأفعال المتواضعة على صفقة القرن إنَّما تعود إلى أوضاع البلدان العربية الضعيفة من الناحيتين العسكرية والاقتصاديّة وذلك بعد تفكُّك الاتحاد السوفياتي الذي كان يصدّر الأسلحة لمصر وسوريا ما تسبّب باندلاع الحروب السابقة مع «إسرائيل» في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وتراجع اعتماد الولايات المتحدة الأميركية على النفط،، وانتشار ظاهرة «الربيع العربي» التي أدّت إلى الإطاحة بعدد من الرؤساء العرب عن سدّة الحكم والتي تزامن مع ظهور «الجماعات التكفيرية المسلّحة» أو ما بات يُعرَف «بالإرهاب التّكفيري».
لقد باتت صفقة القرن حديث الموسم إقليميّاً وعالميّاً، إذ إنّ هذه الصفقة ليست نزاعاً إسرائيلياً- فلسطينياً وحسب، بل تغييراً جدّيّاً في خريطة وكيانات الشرق الأوسط، وقد تطال هذه التأثيرات لبنان الذي يُعتَبر في واجهة الصراع مع «إسرائيل»، ومع قيام الإدارة الأميركيّة بإنشاء صندوق استثمار عالمي لدعم اقتصادات الفلسطينيين والدول العربية المجاورة ولبنان هو من بين هذه الدّول والذي يستضيف ما يزيد على الـ400 ألف لاجئ فلسطيني حيث يعيش 174 ألفا و422 لاجئا فلسطينيا في 12 مخيّما و156 تجمُّعًا في محافظات لبنان الخمسة، – حسب إدارة الإحصاء المركزي اللبنانية – والذي يرفض لبنان توطينهم وهو الذي استضافهم نحو 70عاماً.
لكن المفارقة أنّ تأثيرات صفقة القرن وتداعياتها على لبنان ستكون خطيرة على مستوى التغيير الجغرافي وترسيم الحدود مع «إسرائيل» في ظل الضغط الاميركي على لبنان بالقبول بخطّ « هوف» الذي يقتطع ثلث المنطقة الإقليميّة اللبنانيّة الغنيّة بالنّفط والغاز لمصلحة «إسرائيل»، كما سيواجه لبنان تغييرا ديموغرافيّاً ملحوظا وبتعديل في التوازن الطائفي الذي يقوم عليه النظام اللبناني نتيجة توطين نصف مليون لاجئ فلسطيني مقيمٍ في لبنان حالياً، مع العلم بأنه في حال موافقة لبنان على صفقة القرن، – وهذا أمر مستبعد – فأوّل هذه التّأثيرات سيكون جغرافياً، حيث سيتمّ زيادة مساحات الأراضي اللبنانية وذلك بـ «ضم أجزاء من سوريا»، بحسب خريطة المشروع. أمّا اقتصاديّاً، فسوف تتزايد الاستثمارات العربيّة والأجنبيّة على أراضيه، بحسب ما زعم به ترامب عن مشاريع استثماريّة في الدّول العربيّة المشاركة بخمسين مليار دولار أميركي، ما من شأنه أن يعزّز وضع البلاد في كافة المجالات الحيويّة، إضافةً إلى تفعيل المرافئ البحريّة بناءً على ترسيم الحدود البحريّة فالصفقة تستخدم المدخل الاقتصادي والمالي كمدخل للدفع باتجاهها؛ حيث إن المعاناة الهائلة التي يعاني منها الاقتصاد اللبناني، وتصاعد الدَّين القومي، والعجز الضّخم في الميزانية، والإشكالات المعيشية المزمنة في الكهرباء وغيرها. كلّها يمكن أن تجد حلاًّ بدعم أمريكي وغربي؛ إذا ما أعطت الأطراف اللبنانية الفاعلة أو معظمها ضوءاً أخضر باتّجاه متطلّبات الصفقة، وهو ما ينطبق على إمكانية حل إشكالية التنقيب عن الغاز في الساحل اللبناني واستثماره وتصديره، دون اعتراضات أو عراقيل إسرائيلية.
في انتظار مرحلة التّصعيد القادمة، يمكن القول بأن صفقة القرن لا تعني أن «إسرائيل» وصلت برّ الأمان، فحتى الآن لم يكن السلام ممكناً إلّا مع دولتين عربيتين، مصر والأردن. فليست المشاعر العربية تجاه «إسرائيل» هي التي تغيّرت، بل الظروف التاريخية والتبعيات والأولويات الوطنية، وهذه يمكن أن تتغير مرّة أخرى مستقبلا بنفس السرعة التي تمت بها في الماضي، فيما يبقى أنّ الأمر متوقف الآن على وحدة الصف الفلسطيني، ووحدة الصف اللبناني، في مواجهة الصفقة الجائرة المقترحة. كما سيتعيّن على الدول العربية أيضًا إظهار موقفها التاريخي بمواصلة التمسك بالقضية الفلسطينية والمقدّسات، مع التعويل على دور لدول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين للحد من الغلو الأمريكي وعدم جعل الفلسطينيين يشعرون بالعزلة.
هل سيجد العرب أنفسهم مجدّدًا منقسمين أمام القرارات والآراء المتضاربة، ولتدخل المنطقة العربية مرحلة جديدة بين الرّفض والقبول؟ لا يسعنا سوى الانتظار. ولا نبالغ إذا قلنا إنّ لبنان والشرق الأوسط كلّه «في عين العاصفة».

مت نقيّاً

إن تملك خيراً وزّعهُ
إن تملك مالاً قدّمهُ
إن تملك حبّاً انثرهُ
إن تملك علماً انشرهُ
وقلبكَ بالصّدق فعطّرهُ
وجسدكَ الذي تجمّله
لديدان الأرض مرجعه
….
فعلام تكنزُ أموالك ؟
وتحصي وتجمع أرقامك ؟
وإلام تؤجّل أحلامك ؟
وتحرق أجمل أيّامك ؟
عش لحظتك الآنيّة
في حبّ وحريّة
في الآن تحيا فقط
وغداً نسيّاً منسيّا
….
عانق أحبابك في الآن
فهم بيد الرحمن
جسدكَ طعامٌ لدود الأرضِ
وروحك خالدة أزليّة
وإلام تخفي أسرارك؟
والعشق شعلة إلهية
….
عش لحظتك بكلّ صدقٍ
فعمرنا مكتوب مرسوم
على لوح إلهيّ مرقوم
جسدنا طعامٌ لدود الأرض
وحياتنا رسالة إلهية
حياتنا رسالة إلهية

العدد 31