الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الشَّيْخ علي فارس العابِد المُشتاق

يَركا

وُلِد سيدنا الشيخ علي فارس لأبوين فقيريْن في قرية يركا» في النصف الآخَر من العقد الثاني من القرن الثاني عشر للهجرة (بدايات القرن الثامن عشر للميلاد(١). ويركا قرية قديمة «من أعمال ساحل عكَّا»، تميَّزت في أوائل القرن الخامس للهجرة بوجود «كبير شيوخ الساحل من آل أبي تراب» فيها، الموصوف بـ «الخيِّر والأمين والسِّراج»(٢)، لكنَّها باتت في حقبة حُكم العثمانيّين، كما كانت «جميع البلاد»، واقعة تحت وطأة «ظلم شديد من الولاة والحكَّام» الذين كانوا لا يقفون عند استيفاء مال الميري وعوائده، بل تتعدَّى سطوتهُم إلى نهب الفلَّاحين… وحبسهم ومطالبتهم بما هو فوق طاقتهم(٣).

انخرطَ والدُ الشيخ علي في جموع المقاتلة (العسكر غير النظامي وفق أحوال العصر)، فنُقِـل أنَّه «كان جنديّاً في قلعة جدين عند أحد ضبَّاط الظاهر عمر»(٤)، وهو الأمر الذي لا يتطابق مع التسلسل التاريخيّ إذ يردُ في «تاريخ ظاهر العمر» أنَّ المذكور استولى على القلعة المذكورة سنة 1738 م. وهي كانت قبل ذلك في ولاية «أحمد الحسين (وهو) من بيت قديم شريف كان أهله ولاة قلعة جدين الحصينة أباً عن جدّ»(٥). هكذا، تكون سنوات الطفولة واليفاع من حياة الشيخ علي قد انقضت في زمن سطوة أحمد الحسين الذي كان يحكم جميع البلاد الجبليَّة التي حول القلعة، ومثله من الولاة المحليّين الجائرين بحيث كان الناسُ في زمانهم «في ضيقٍ لا يُطاق»، فضلًا عن عبث «العربان» الذين كانوا «يعيثون فساداً في البلاد لعدم إمكان والِيها دفعهم ومنعهم»(٦). بذلك يكون والده قد التحق بجُند الظاهر عمر حين كسر هذا شوكة الحسين واستولى على القلعة، وكان ولدُهُ الشيخ علي، وفقا للسياق، يقارب سنّ الثلاثين.

عرَف الشيخُ عليّ في طفولتِه الفَــقـر، وكان عَجِيّاً (أيْ فاقد الأمّ) قبل أن يتجاوز السَّنة من عمره. ترعرعَ وله أخت تكبره وتحنُو عليه بخلاف زوجة أبيه التي اتَّخذها بعد إرْمَاله. ولا بدَّ من أن يكون الصبيُّ استشعر الوحدة بعد زواج أخته وهو في العاشرة، فضلًا عن ظُلم الخالةِ التي «عاملتْه بكلِّ قسوة وشدَّة»(٧). لكنَّه، قبل ذلك، انجذب بما في أصالة طباعِه الخيِّرة في مكنون فِطرتها، إلى ما هو أبعد منالًا من ظواهر الدُّنيا، فتردَّد إلى مجلس الذِّكر «في سنٍّ لا يُعهد أحدٌ غيره سبقه إلى ذلك»(٨). ولا بُدَّ من أنَّ عليّاً في طفولته المُبكِرة وما بعدها بقليل قد ألِفَ الأجواءَ الرُّوحيَّة في يركا، وسمع من مشايخها، واستشعر لطائفَ المسلك الدينيّ بتهيُّبٍ ولَهْـفـة. وكان له خالٌ من أفاضل المشايخ هو الشّيخ أبو ماضي حسن الذي «امتاز بديانتِه وشوقه»(٩)، ولهُ قصائد منها ما نظمه اشتياقاً إلى «علَميْن زاهريْن» من شيوخ عصره(١٠)، يُستدلُّ منها على عِلمه ومحبَّته لإخوانه. وقد تُوفِّي الشيخ في يركا في العام 1120 هـ. ولا شكَّ بأنَّ ابنَ أخته شبَّ وفي مسامِعِه الكثير من أخباره ومآثره فضلًا عن المعاني الروحيَّة الكامنة في أشعاره.

يروي الشيخ طريف في السيرة أنَّ عليّاً في صغره عندما سمع عن أحوال الآخرة في الخلوة، التهب الشوقُ في قلبِه، وظهرت ملامحُ ذلك على وجهه، فقرَّر مع نفسِه أن يقصدَ عائلة طريف في قرية جولس(١١). وفي هذه الإشارة دلالة على أنَّه سمعها للمرَّة الأولى في بلدته يركا، حيث أنَّه من العادات الراسخة في التقليد أن تُتـلى مجريات يوم الحساب مساء يوم وَقـفة عيد الأضحى من كلِّ عام وفقاً لروايات السَّلف الصَّالِح، ومنها ما كتبهُ الشيخ أبو صالح سلمان طريف من جولس (المتوفّى عام 1110 هـ.)، المشهور «بدقَّة ورعه وسلكِه، والذي فاق على أقرانه بعِلمه ومعرفتِه» وضبطه الخطّ، وكان لفترةٍ «على أخوَّةٍ» مع خال الشيخ عليّ من يركا(١٢).

أحد المزارات في قرية يَركا.

كان لهذا «السَّماع» أثرٌ جذريّ في رُوح ولدٍ لا يزالُ في رَيَعان عُمره. ولا شكَّ في أنَّ جُلَّ المعاني التي تضمَّنها ذكر أحوال الآخرة قد امتَثـلها عليٌّ بمُخيَّلته ووجدانه وقلبه بقوَّةٍ ألهبت جمرةَ الشَّوق في كيانِه، فالتزم الصِّدق لها بما اكتنزهُ من طباع البراءةِ والخيْـر. وما لبثت أن اتَّــقــدَت جُذوةُ التَّعبير بفطرته، فحاكى تلك المعاني ونَظَمها شِعراً بلُغةٍ عفويَّةٍ بسيطةٍ تكادُ في بعض أبياتِها أن تكونَ عامّيَّة، لكنَّها في كلِّ حال تتوالى تباعاً كدفقاتٍ من اختلاجاتِ نفسٍ تائقةٍ إلى صفاءِ الحال ونقاءِ البال في مِرآةِ ما رأتهُ البصيرةُ، وما أدركهُ الفكرُ الغضُّ من أبعادٍ ناءت «بحَملها الجبال».

وكان من لطائف الإرادةِ أن خُلِّدت تلك الحالة بقصيدةٍ من مائةٍ وتسعة عشر بيتـاً، وازتْ ما كتبهُ الشيخ أبو صالح الكاتب نثراً قبل ما يزيد على المائة عام. وقد استُهِلَّت الأبيات جميعها بعبارةِ «أَلا يا نفس»، مخاطباً إيَّاها، مؤنِّباً ومنبِّهاً لها، ومحذِّراً ومستحضِراً مواجب الأمر والنَّهْي وفقاً لِما اتَّبعهُ من حكمةِ السَّلف الطائع، وما سمعهُ من مواعظ مُدرجة في الصحائف القديمة.

تُسمَّى تلك القصيدة التي لا شكَّ أنَّها من بواكيره بـ «النَّـفسيَّة»، وتُجسِّدُ حالة من فرائد الأحوال قياساً إلى سِنِّه. ومثل هذه الأمور الجليلة لا تحدث بين ليلةٍ وضحاها، لذلك يجدر التوقُّف في محاولةٍ لتصوُّر الصيغة الأقرب إلى وقائع الأمور، استناداً إلى قاعدة الانسجام بين المأثورات المنقولة في «السِّيرة»، فيما خصَّ تحديد زمنِ اللقاء مع عائلة «طريف» في جولس، القرية المجاورة لِيــرْكا، في تلك الأرض المباركَة بالعُـبـَّاد في منطقة الجليل شمال فلسطين.

إنَّ سلوكَه وسمْتهُ وحـركاته وسكَناته كانت جُـلُّها انعكاساً ظاهراً لباطنِه المأخوذ بالمعاني الحيَّة من حيث أنَّ القصدَ الأسمى منها (القصيدة) كلّها هو «تهذيب الأخلاق واستشعار الخلَّاق» وهي القاعدة المحوريَّة المنقولة عن كبار العارفِين.

جـولس

تُصنَّف النّصوص الدينيَّة المتعلِّقة بتصوُّر أحداث يوم القيامة في باب «الملاحم»، وهي عموماً جامعة لمحمولاتٍ من المعاني والتصوُّرات المُزلزلة لمفهوم الاستقرار الدنيويّ والخلود فيه إلى الأعراض السائلة في اللحظة الزمنيَّة الآنيَّة. ولا شكَّ بأنَّ الانطباعات التي تتكوَّن في ذِهن المرء من جرَّاء تلقّيه لتلك «المجـريات» تختلف باختلاف خُـلوّ القلب من «علائق الدنيا» كما يعبِّر المتصوِّفة.

كان عليٌّ(١٣) دون العاشرةِ حين ألقِيت على سمعِه «ملحمة» من هذا النوع في أجواء ليلةٍ لا نظير لها من كلِّ عام. ولا بدَّ من أنَّ المؤثّرات التي انغرست في ذاكـرته وقلبِه وخواطره قد وجدت لها أرضاً طيِّبة فسيحة في روحٍ بـريئةٍ صادقةٍ مهيَّأةٍ بجِبلَّتها للتصديق الخالص الذي هو عيْن الإيمان. بات الولدُ، حين يتَّبع شيوخ قريتِه في زياراتهم إلى قرية جُولس المجاورة ليركا، ومجاورته لهم في مجالس الذِّكر وغيرها، متنبِّهاً للأحاديث خصوصاً في تطرُّقها إلى مأثورات الشيخ أبي صالح سلمان طريف الكاتب وما يحفظُه الخلَف من عائلته عنه. وتقرَّب بذلك إليهم حيث يردُ في «السيرة» أنه «دخل بيتهُم لأوَّل مرَّة وهو لا يزالُ في العاشرة من عُمره»(١٤). والأرجح أنَّ هذا «الدخول» المُشار إليه جرى بتبعيَّة شيوخ يركا في إطار تقاليد الزيارات المتبادَلة، وانتقال الوفود من قرية إلى قرية بنيَّة إقامة سهرات الذِّكر الحميد، وإحياء الليل بالطاعة، فضلًا عن آداب القِرى من أجل «المجابرة»(١٥) طبقاً لأصُول الضيافة تكريماً وتبرُّكاً وتمتيناً لأواصر الصِّلة الرُّوحيَّة، وما يتوخّاه المرءُ بذلك من حسن ثواب.

مزار الشيخ علي فارس (جولس).

إنَّ نصَّ قصيدة «النفسيَّة» المحفوظ يُقدِّمُ لنا ثَــبَـتـاً بالأفكار والمشاعـر والتأمُّلات والاختلاجات التي جالت في صدر ناظمِها المتورِّع، في تلك السنوات القليلة التي سبقت سنَّ البلوغ. وهو استهلَّها بعذْل النّـفس (لوْمها) ورؤيتها في محلِّ الغفلة والمعصية ونسيان العهود والوقوع في الزلَّات من أثر الهوى(١٦). ثمَّ التنبُّه لمعنى الغرَض الدنيويّ وزواله، وأنَّ الآخرة آتية لا ريب فيها حيث الوقوف أمام الحقّ بما في الزاد من الأعمال(١٧). وامتثال هذا الأمر يدفع المرء المصدِّق به إلى بذل الهمَّة والجدّ والاجتهاد وحبّ الرسل العظام سعياً إلى رضاهم الموصل إلى رضى ربِّ العالمين ورحمته، فإن تعثرت النفس في ذلك السَّعي بات البكاءُ دواءها، واستشعار حلول الساعة وظهور العدل بكلِّ ما يعنيه ذلك من أحداثٍ «ملحميَّة» تؤولُ إلى دحض الباطل وقيامة الحقّ(١٨).

ولا شكَّ أنَّهُ بالحال نظَمَ «النفسيَّة» لا بمجرَّد القال. وسواء اشتهرت القصيدة آنذاك أم بقيت في عُهدته، فإنَّ سلوكَه وسمْتهُ وحـركاته وسكَناته كانت جُـلُّها انعكاساً ظاهراً لباطنِه المأخوذ بالمعاني الحيَّة من حيث أنَّ القصدَ الأسمى منها كلّها هو «تهذيب الأخلاق واستشعار الخلَّاق» وهي القاعدة المحوريَّة المنقولة عن كبار العارفِين. ولقد بات من الطبيعيّ أن تتعزَّزَ الثقة الروحيَّة وأن تـتوطَّد العلاقات ومشاعر الألفة مع أصحاب البصيرة، وهو الأمرُ الذي يتبدَّى في ما ذكره جامع مأثورات «السيرة» حين أورد في مستهلّها بأنَّ «زيارته الأولى لعائلة طريف حدثت وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة من عُمره»(١٩). لقد بات موضع ثـقة آلـ طريف، ولقِيَ منهُم «حفاوة وبشاشة وجه وكرَم…فتكثَّفت زياراته لهُم…»(٢٠)، ويتَّضحُ من صِيغة العبارة أنَّه المُبادِر إلى القيام بها لِما استشعرهُ منهُم من ودّ واستئناس.

المَغارة

كابدَ عليّ منذ أوائل العمر مصاعب الحياة الدّنيا، وقاسَى «مرارةَ العيْش» اليوميّ إذ «أذاقتْهُ (زوجة أبيه) في طفولتِه الغضَّة ألواناً من العذاب والحرمان.»(٢١) ولم يُعرَف عنهُ إلَّا أنَّه واجهَ كلّ ذلك بالتـقـوى والصَّبْر والرِّضَى، منصرفاً إلى تعلُّم القراءة والكتابة بدافع الشَّوق إلى المعرفة والإدراك السليم للطائف المعاني الدينيَّة وفقاً لتدرُّجه في هذا المحراب الشريف. وعُرف عنهُ جِدّه واجتهاده في الدَّرس والاطّلاع على «مواعظ الخير وقصص الأنبياء» فضلًا عن إنصاته وإمعانِه فـيما يسمعُه في رياضِ الذِّكْر الزاهرة. وقصَّته السَّالفة في سهرة الأضحى وما سمعه فيها وما نظَمه بعد ذلك، فيه دلالات قويَّة واضحة على مدى «الميدان الفسيح» الذي جالت فيه خواطرُه، وما «أشرقت عليه مطالع الرُّوح»(٢٢)، وما اشتغل به كيانُه اللطيف، مُسلِّماً بالكامل لحِكمة الحكيم، ربِّ الأكوان، الرَّحمن الرَّحيم، وكأنَّه يردِّدُ في سرِّه ﴿فَاصْبِر إنَّ العاقِبَة لِلمُتَّـقِـين﴾(٢٣).

صورة مغارة الشيخ علي فارس.

ولا شكَّ أنَّه، عند مشارفتِه سنّ البلوغ وما تلاه، اشتدَّ وعيُه وإدراكُه للصّعوبات التي من شأنها أن تعكِّر صفْوَ سعيِه في التدرُّج الرُّوحيّ المُلازم لصِدق الطَّويَّة (السَّريرة) والتحقُّق السلوكيّ للطائف المعرفة، والارتقاء الدائم في منازل الارتِياض. وتبدَّت لهُ الفجْوةُ التي تولِّدُها تلك «العوائق» لتُباعِدَ المسافات بين الواقع والمِثال. وإذ بالحلقة تضيق حين تيـقُّنه من أنَّ «المَكارِه» في دار أبيه هي اختبارٌ جزئيّ لإيمانِه قياساً إلى عمومِ الفساد والظُّلم في سائر نواحي البلاد من حواليْه، حيث كان لكلِّ مقاطعةٍ منها «شيخ (عشِيرة) من البيُوتِ القديمة ذات الصَّولة»(٢٤) لهُم السَّطوة والنفوذ. وفضلًا عن رجالهم وما يـرتكبونه من مظالم، كان ثمَّة «عسكر الولاية… وهُم أخلاط… دأبُهم الثقلة على الأهالي والتعدِّي عليْهم… وكان يُضرَب المثَــل بسفاهتهِم… يُقال فلان نظير عسكر الدولة مِلْحُه على ذيْله أي لا ذمَّة له ولا عهْد…»(٢٥).

كان للوضع العام أثرٌ مباشَر في الحياة اليوميَّة لفتًى وَرِع ما زال بحُكم الواقع في رعاية أبٍ خادمٍ بسلاحِه لذوي الإمْرة. ويترتَّب من جرَّاء ذلك العـديد من الأمُور المتعلِّقة بالإعالة وبشؤون العيْش تحت سقفٍ واحد. وقد اشتدَّت إلى حدٍّ مُقلِق، هواجسُ الشابّ الصَّاعـد لِما تعلَّمهُ وآمن به، وعلى وجه الخصُوص القاعدةِ الضروريَّة المتعلِّقة بأمر اجتناب الحرام قطعاً، والابتعاد عن الشبهات والمال المغصُوب الذي يحصِّلُه المتسلِّطُون قهْراً وعَنْوة. وما زاد من وحشة الدار قبل ذلك بأعوام، مغادرة شقيقته له بعد زواجها وخلاء أجوائه لخالةٍ مُتعسِّفة (زوجة أبيه).

وتاقتْ روحُه إلى صفاء التحقُّق. وأيقن بأنَّه من المُحال النفاذ إلى مدارج هذا الدَّرب الحميد وسط العقبات الكؤودة المُـزمنة المُعشِّشة وسط الدَّار. إنَّ ما يُحرِّكُ في دخيلةِ ذاته ما يُعتِقُه من كلِّ عَلاقةٍ مانعة هو الصِّدقُ والإخلاص والشُّعور العميق بأنَّ المعاني التي أوْطَن نفسَه عليها، ونظَمها بوْحاً بما اختلجَ في صَدْره، وخاطبَ بها نفسَه، هي أمانة لا بدَّ من الاتِّحادِ في محمولاتِها، باطناً وظاهراً، كما كان في القوْل يكونُ في السلُوكِ والفِعل، وكما كان في العاطفةِ والانفعال يكونُ في العقْل والتَّدبير، وكما كان في الانجذابِ الرّاهـب والخوْفِ التقيّ يكونُ في السَّكينة والثَّبات ووليمة المعرفة الحقّة.

هكذا، وجد نفسَهُ حرّاً بالحقّ، فضاق به سجنُ المكان، ورأى في خَلاء الأرض ما يأويه وهوَ المتآلِف معها في غَدواتِه ورَوْحاته بين يــركا وجولس حتَّى عُرف أنَّ صخرةً كبيرةً بجانب الطريق بينهما كان «يجلسُ بجانبِها ويتفيّأُ بظلِّها»(٢٦) قبل متابعةِ السَّيْر. وثمَّة، إلى الشرق من القـريتيْن، مغارة في «وادي السماك» واقعة بين الصّخور الجبليَّة وسط منحدرٍ عَموديّ حاد، تعلو فوق السَّفح بما يقاربُ ثلاثة عشر مترا،ً ويحتاج الصّعود إليها إلى شيءٍ من الجهد والحذَر، فكانت مأواه الذي صبَتْ نفسُه إليه.

أمضى الزَّاهدُ في «خلْوتِه» المنعزلة أيّاماً لا يعرفُ أسرارها إلَّا ﴿السَّمِيع البَصِيـر﴾. فالغارُ «منقطعٌ عن النَّاس لا يهتدي إليه سوى القاصد والخبير بالمكان»(٢٧). والانقطاعُ عن العلائق سبيلٌ يتوخَّاهُ التقيُّ سعياً إلى الاستقرار في الأُنس وحال الصِّلة بما في طاقة النَّفس من استعداد. لقد عبَّرت قصيدة «النفسيَّة» عن نفسٍ «لوَّامة»، وهي الآن «تكدحُ» لتصير ﴿النّفس المُطمَئنَّة﴾(٢٨). فضلًا عن ذلك، فإنَّ الاستغراق الهادئ في عقْـل المعاني ولطائف دلالاتها الرُّوحيَّة يُصَيِّرُ «العقلَ بالقوَّةِ» عقلًا بالفِعل حيث تصيرُ المعقولات صُوَراً للنّفس على أنَّ النَّفسَ صارت هي بعيْنها تلك الصوَر، وهي الحالة المعبَّر عنها بـ «الرّياضة» إذ تتَّحدُ النّـفسُ بأثر العـقل المتيقِّظ بحقائق الوجود العميقة(٢٩).

صورة المغارة من الداخل.

المراجع:
  1. «سيرة حياة سيدنا الشيخ علي فارس»، عبد الله سليم طريف، جولس 1987. ويقوم هذا الكتاب مقام المصدر لأن مؤلفه استقى معلوماته من الشيوخ الثقات، وعلى الأخصّ من آل طريف في جولس القرية التي عاش فيها الشيخ علي فارس مقرَّبا منهم، كما من بعض الوثائق المحفوظة لديهم. وهو الكتاب الذي أشار إليه د. سامي مكارم بقوله: «معلومات أساسية مروية عن المشايخ الثقات نقلا عن السلف حول حياة هذا الشاعر العارف» وذلك في مستهل كتابه «الشيخ علي فارس»، المجلس الدرزي للبحوث والإنماء والمركز الوطني للمعلومات والدراسات، المختارة، 1990، ص 7. وترجَّح سنة الولادة في أحد الأعوام من 1115 إلى 1119 هـ (1703 إلى 1707 م.)
  2. من مأثور منقول عن الشيوخ، وهو الشيخ أبو السرايا (ذكره الشيخ الأشرفاني).
  3. «تاريخ الشيخ ظاهر العمر الزيداني حاكم عكا وبلاد صفد»، مخائيل نقولا الصبَّاغ العكّاوي، شركة نوابغ الفكر، القاهرة، ط1، 2010، ص 24.
  4. هكذا ورد في كتاب طريف، ص 127، ويبدو انَّ د. مكارم نقل عنه التوصيف ذاته، ص 16. وموقع قلعة جدين غير بعيد عن «يركا» باتجاه الشمال.
  5. «تاريخ الشيخ ظاهر…»، الصبَّاغ، ص 33… وكان نفوذ الزيادنة (عشيرة الظاهر) محدودا آنذاك قبل أن يقوى ويشتد لاحقا.
  6. المصدر ذاته، ص 25، وص 33.
  7. سيرة حياة…، ص 126. أيضاً: «مناقب الأعيان»، الشيخ أبو صالح فرحان العريضي، منشورات الإشراق، عاليه، سنة 2000، الجزء الثاني، ص 159.
  8. المصدر ذاته، ص 130، وقد وردت العبارة فيه كذا: «في سنّ لا يعهد أحدا ان غيره سبقه على ذلك.».
  9. مناقب الأعيان، ج2، ص 86، ذكره الشيخ العريضي استناداً إلى مخطوط «نبذة عن مشايخ البلدان للشيخ أبي زين الدّين حسن العقيلي».
  10. المصدر ذاته، ص 86 – 88. وكلاهما من آل طريف، وهما الشيخ أبو صالح سلمان، والشيخ أبو محمّد خيْر.
  11. تمَّ الاعتماد هنا على المأثورات الواردة في كتاب (طربف، «سيرة حياة…»، جولس 1987) وذلك من أجل ضبط السياق الواقعيّ لسيرة الشيخ، ولاجتناب اختلاط المأثورات في تواترها الزمنيّ. والسبب في ذلك أنَّ هذا المصدر استند بدوره إلى جمْع تلك المأثورات (كما سبق ذكره في الهامش 1) من البيئة التي عاش فيها الشيخ علي، ومن وسط العائلة التي رَعتـهُ في كنفها، ومعظم المنقول منها شفهيّ متواتر، والقليل منها، فضلًا عن مجموع القصائد، مدوَّن مخطوط.
  12. مناقب الأعيان، ج2، ص 82. وللشيخ أبي ماضي حسن قصيدة اشتياق وتحسُّر بعد انتقال الشيخ أبي صالح مع أخٍ له إلى البيَّاضة، جنوب لبنان.
  13. يُسمَّى الشيخ هنا باسمه المجرَّد قياساً إلى سنّه المبكرة.
  14. سيرة حياة…، ص 141.
  15. الجَبْرُ خلاف الكسر. هو أن تغني الرجل من الفقر أو تجبر عظمَه من الكسر. وقال ابن سيده: وجبَر الرجلَ أحسن إليه. والعرب تسمّي الخبزَ جابراً. (لسان العرب). وفي كل حال، فإن استخدام مصطلح «المجابرة» بين الأجاويد عائد إلى أنّ تناول القِرى (الطعام وما يُقدَّم) عند المضيف هو بمثابة «جبْر» خاطر، والتمنُّع عن ذلك يكون «كسراً في خاطره». والله تعالى جابر كلّ كسير وفقير.
  16. ومنه قوله فيها: ألا يا نفس كم هذا الظلاما- وكم أنت تخوضي في الجراما/ ألا يا نفس كم هذا التمادي – على العصيان ثم الاقتحاما/ ألا يا نفس كم لله تعصي – وكم خنتِ عهودا مع ذماما.
  17. ومنه قوله فيها: ألا يا نفس ذا الدنيا دنيَّة – فلا يأخذنكِّ فيها غراما…/ألا يا نفس ما تخشين يوماً – يشيبُ الطفلُ فيه والغلاما/ ألا يا نفس يوم ليس ينفع- لموقعه سوى حُسن النظاما.
  18. ومنه قوله فيها: ألا يا نفس جدّي واستعدّي- وشدّي الحزم مع شدّ الحزاما/ ألا يا نفس اسعي في رضاه- عسى يشفع لك يوم الزحاما.
  19. «سيرة حياة …»، ص 125.
  20. «سيرة حياة …»، ص 141.
  21. «سيرة حياة …»، ص 130. أيضاً «شيوخنا الأعلام»، جميل أبو ترابي، السويداء، 1992، ص 235. وورد في «مناقب الأعلام»: أنها “لم تُحسن معاملتهما» (هو وأخته)، وأنَّه «عاش حياة مريرة لكنه صبَر صبْر الكرام». ص 159، وص 160. وفي «الشيخ علي فارس»، د. مكارم، ص 16 تُذكَر قسوة المعاملة.
  22. «الشيخ علي…»، ص 17.
  23. سورة هود، الآية 49.
  24. «تاريخ الشيخ ظاهر…»، الصبَّاغ، ص 11.
  25. «تاريخ الشيخ ظاهر…»، الصبَّاغ، ص 13. وهذا قبل عهد ظاهر العمر الزيداني كما تقدَّم.
  26. «سيرة حياة …»، ص 139. وجاء فيه أيضا: «تلك الصخرة التي بقيت مكانها لأكثر من قرنيْن من الزمن، ولم يحدث مرَّة أن مرَّ هناك رجل أو امرأة… إلَّا وقبَّـل تلك الصخرة إكراماً وإجلالًا ومحبَّة للمرحوم سيدنا الشيخ علي فارس.»
  27. «سيرة حياة …»، ص 126.
  28. عن النفس اللوامة، راجع الآية 2 من سورة القيامة. وعن «المطمئنة»، الآية 27 من سورة الفجر. والكدح كما قال تعالى في سورة الانشقاق، الآية 6: ﴿يَا أيُّها الإنسَانُ إنَّك كادِحٌ إلى ربِّكَ كدحاً فمُلاقِيه﴾.
  29. التمييز بين حالات العقل ورد في «كتاب النفس» لأرسطو.

ملاحظة: «لله ما كان للمعبود أشوقهم» شطر من قصيدة للشيخ علي فارس.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي