الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

«فلما فرحوا … أخذناهم بغتة»

«التغيير». لا يوجد اليوم في قاموس الناس، مثقفيهم وعامتهم، ما هو أكثر استعمالاً من هذه الكلمة. ولا يبدأ حديث في صالون أو في مجموع إلا ويبرز بعضهم ليحرك لسانه بهذه الكلمة فإذا بالأعناق تهتز وتنحني بالموافقة وينشأ على الفور بين المتحاورين تفاهم على حاجتنا الماسة إلى «التغيير»
كأن بشر هذا الزمان وقد تقطعت جذورهم وانحلت شخصيتهم في كيمياء الحضارة المادية والاستهلاكية فقدوا من جراء ذلك حس الاكتفاء والطمأنينة فباتوا جرياً مع وتيرة الزمن في بحث لاهث لا ينقطع عن شيء جديد يداوون به حس الحرمان والخواء الروحي والوحشة والقلق العميق من قادم الأيام. هؤلاء الذين هم في الأصل ضحية التغييرات السريعة التي أذهلت وجودهم وزعزعت أفكارهم ومعتقداتهم وقضت على استقرارهم، يبحثون عن الدواء في الداء نفسه كمن يضيع طريقه وسط نفق مظلم فيقرر التوغل أكثر معتقدا بأن النفق موصول في طرفه الآخر بعالم النور، فإذا به يحثّ الخطى مبتعدا عن نقطة ارتكازه أكثر فأكثر داخل النفق الذي لا آخر له ولا بديل من ظلمته إلا المزيد من الظلمة والضياع. وحتى وإن سعى هذا المسافر التعس لأن يعود القهقرى من حيث أتى حالت العتمة والشعب الكثيرة للنفق بينه وبين أن يعرف طريق العودة إلى عالم الضياء.

عاش الناس على سوية الفطرة والبساطة آلاف السنين وترعرعوا في كنف الطبيعة يأكلون من خيرها ويحمدون الله تعالى على وفير إنعامه فكانت حياتهم البسيطة نعمة حقيقية لأنها كانت في تناغم تام مع الأرض ومع قوانين الاستدامة التي ترعى الكون. كانوا مستقرين في قراهم لا يبرحونها إلا لتجارة أو سبب جلل، وكان في هذا الاستقرار منفعة لهم ومنفعة للأرض التي يعيشون عليها ويخدمونها على مدار العام. كان العمل في الأرض هو الغذاء وهو الصحة البدنية والروحية وهو الصلاة اليومية الحقيقية وكان اجتماع الأسرة الواسعة تجديد يومي لروابط البشر في حاجة الواحد منهم للآخر ولقانون التعاون على العيش وصنوف الدهر وكانت هذه الحاجة المتبادلة في أساس روابط المحبة بين الناس. في الوقت نفسه كان مجتمع العمل والتعاضد الأوسع هو المدرسة التي يتعلم فيها الأحداث اليافعون أصول السلوك وأسس الأخلاق القويمة والتقوى ويتربون فيها على مهنة الرجولة حتى إذا اكتملت أهليتهم واجتازوا اختبار النضج والعقل دُعوا -عندما يكون الزمن قد دار دورة- إلى تسلم الراية من السابقين.

في ذلك الزمان-كان يقول المعلم الشهيد كمال جنبلاط- «كانت قوى الجذب هي الغالبة في الكون» أي القوى المتسببة من طاقة الحياة والتي تجعل الكائنات كلها من جماد وبشر وحيوان ونبات تنجذب إلى المركز وتحافظ (كما تحافظ الذرة) عن ذلك الطريق على اتزانها وتماسك أجزائها، ومن ذلك أيضاً ينبع السلام والسعادة لأهل الأرض. ولا شيء يعبِّر عن قوة الجذب هذه أكثر من المحبة أو الحب الشامل الذي هو لحمة الكون وسداه ومحور توازنه. أما في زمن التفكك وما قد يطلق عليه البعض نهاية الدور، فإن قوى الجذب -حسب المعلم أيضاً- تضعف لتقوى قوى التنافر و”الضدّية”، حتى إذا حصلت لهذه الغلبة بدأت عناصر الوجود بالتفكُّك تدريجياً إيذاناً بانهيار الحياة كما عرفناها، واختتام دورة كاملة في التاريخ الأبدي لهذا الوجود الذي يحير العقول.

هناك آية جميلة في القرآن الكريم تلخص تلك القاعدة الكونية، وهي قوله تعالى: «فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ» (الأنعام:44)، إن الخالق ينبئ في محكم كتابه عن الحالة التي ستؤخذ فيها حضارة البشر بغتة وهي حالة يكون العالم قد امتلأ فيها بكل أنواع المتاع والمتع ويكون الناس قد غرقوا فعلاً في لجة الأغراض التي تستعبد نفوسهم وتدفعهم إلى شتى صنوف العداوة والغفلة وقسوة القلب. وقد فرح الناس كثيراً، بل ثملوا وأضاعوا عقولهم في هذه الملاهي والمقتنيات التي نزلت عليهم وعلى رأسها أدوات القتل والقوة الغاشمة والتكنولوجيا، وحتى الأطفال أصبحت لهم حصة من آخر مخترعات “القتل الافتراضي” بألعاب الفيديو أو “تقنيات الثرثرة” وقتل الوقت التي يلهون بها مع الكبار.

الشيء الأكيد هو أن مغزى الآية قائم في حياتنا اليوم، ليس فقط في الغفلة والغرق في لجة الإنكار والأنانية والاستكبار، بل هو في تسارع التفكُّك الكوني على كل صعيد نتيجة غلبة قوى النفور والتباعد على قوى الجذب. وها هي الشراسة -بل قل التوحش ونزعة الافتراس- التي يقتل بها الناس بعضهم البعض وذئبية المشاعر والأحقاد، وها هو عنف الطبيعة الذي يتفجر براكين وزلازل وفيضانات وأعاصير، وها هو عبوس البيئة الحانية وتبدل الفصول وغور الأمطار وربما قريباً ظهور عواصف شمسية مدمرة، ها هو كل ذلك يرسل إلينا نذراً واضحة بأن السقوط يتسارع، وبأنَّ علينا أن نستقيم وأن نصحِّح قلوبنا وسلوكنا قبل فوات الأوان.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading