الخميس, نيسان 25, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, نيسان 25, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

ثلاث قصائد لـ يوسف أمري

ثــلاث قصائـد لـ يونــس أمــري
شاعــر الحـب والوحـدة الإنسانيــة باللـــه

بين يدي الحبيب أكتب شعري إجلالاً وتـــذللاً
تعـــال وانظـــر إلى مـــا نالـــني مـــن أثـــر العشـــق

يحتل الشاعر الصوفي يونس أمري بين الشعوب الناطقة بالتركية مكاناً يكاد يكون مشابهاً للموقع الذي يحتله حافظ الشيرازي. فهذا الدرويش الذي عاش زاهداً كل حياته، كان مفعماً أيضاً بالحب الروحي الذي أنفق حياته في التعبير عنه بأعذب الأشعار. عاش في الأناضول التركية في القرن الثالث عشر الميلادي وذاع صيته وأصبح لشعره الرقيق واختباره الروحي وتمجيده للوحدة الإنسانية والحب تأثير كبير على الثقافة التركية، بل والعالمية إلى يومنا هذا.

وبسبب شهرته وأثره في الأدب التركي والعالمي تحول يونس أمري إلى موضوع لندوات ومؤتمرات عالمية تبحث في شعره وفلسفته ولغته الشعرية، وأدخلته منظمة اليونيسكو ضمن قائمة أعظم الشخصيات الثقافية في العالم، بل وأعلنت العام 1991 «السنة العالمية لـ يونس أمري» وتمت ترجمة أعماله إلى لغات عدة حول العالم.
على الرغم من الشهرة التي يحظى بها اليوم، فإن حياة يونس أمري يحيط بها الغموض، وكل ما يُعرف عنه أنه كان درويشاًَ سائحاً في الأرض قبل أن ينضم إلى مجموعة من الدراويش وجد بينهم المرشد الكامل الذي يرقيه في مراتب المعرفة. ويقال إن أمري أمضى عقوداً طويلة في خدمة الدراويش عبر قطع الحطب وجبله إلى الزاوية على سبيل العبودية لله. وبسبب حياته البسيطة حتى وفاته فإن الكثير من وقائع حياته وتجربته بقيت غير معروفة، وحلت محلها بعد ذلك مجموعة كبيرة من القصص والأساطير التي رفعت الشاعر إلى مرتبة القداسة وحاكت القصص الكثيرة والغريبة أحياناً التي استهدفت إظهار مكانته الجليلة لدى أهل الأناضول التركية وما نسب إليه من عجائب وكرامات. هناك قصة عن لقاء أمري بشاعر الصوفية الأكبر جلال الدين الرومي وانبهاره الشديد، لكن ليس معروفاً إن كان أمري اتبع طريقة ذلك الشاعر، وإن كان مؤكداً أنه اتخذ له شيخاً ومرشداً.
وصف نفسه يوماً بهذه الأبيات:
أنا يونس أمري درويش الأحزان
أثخنتني الجراح من الرأس وحتى الأقدام
بين يدي الحبيب أكتب شعري إجلالاً وتذللاً
تعال وانظر إلى ما نالني من أثر العشق
يتّسم شعر أمري بفلسفة تشدد على وحدة البشر والحب الإنساني وتشكو من التفرقة والتأثير السلبي للتعصب، بل إنه يفرق في شعره غالباً بين دين الحب والوحدة الإنسانية في الله وبين أولئك الذين يحكمون على الآخرين ويفرقون بين الناس باسم اختلاف العقائد، لأنهم لا يفهمون حقيقة الإيمان ويتعلقون بظاهره فحسب.
في ما يلي ثلاث قصائد لـ يونس أمري منقولة عن الترجمة الانكليزية للنص التركي:

إبحث عنه في داخلك

إن عزمت على أن تمسح
كل هذا الصدأ عن القلوب
فقم بنشر هذه الكلمات
فهي بحق مختصر الحياة

«من لا يرى
شعوب الأرض كلها كخلق واحد
هو عاص لله حتى ولو رأى فيه
بعض أهل الورع قديساً»

أصغي أيضاً, فإن لي رأياً
في ما يسمونه الشرائع والقانون
الشرائع سفينة
والحقيقة هي البحر

مهما كانت ألواح السفينة
سميكة ومتلاصقة
فإنها لا بدّ ستتحطم وتتبعثر
إن هاج البحر وماج

جنوني هو عشق الحبيب
وحدهم المحبون يدركون مغزى كلامي
الإثنينية يجب أن لا تكون
الله وأنا العبد يجب أن لا نعيش متفرقين

الله يتخلل هذا العالم الكبير
لكن حقيقته سر مخفي على الجميع
إن أردت البحث عنه فأنظر في داخلك
فأنت لست كياناً منفصلاً عنه

لست بناظر لدين أحد من الناس
كما لو كان خصماً لاعتقادي
والحب الحق لا بدّ أن يسود
عندما تتحد العقائد كلها في الحقيقة الكاملة

الناس أطلقت عليّ اسم «الصوفي»
لكن لي مع ذلك عدوّ: الحقد
ليس في قلبي كدر أو كره لأحد
لأن هذا الوجود في نظري واحد

عندما يختبر الإنسان
الحب الحق
لا بدّ سيترك التعصب
للعقائد وروابط الأوطان

وأنتم لا تنفكون عن التذكير بالعقائد
وتدعون الناس إلى ما تسمونه النعيم
وماذا في النعيم. بضعة حوريات؟
أقول الحق: ليس هذا مرادي

رباه
لم كل هذا القدر من الكلام
وما الحكمة من كل هذا الجدل
حول حفنة من تراب؟

كلمــــة واحــــدة

في إمكان كلمة واحدة أن تضيء
وجه رجل يعرف معنى الكلمات
الكلمة التي تنضج في عالم الصمت
تختزن قوة كبيرة على الفعل

الحرب يمكن وقفها بكلمة
وهناك كلمات تداوي الجراح
وكلمات يمكنها أن تبدل السم
إلى عسل مصفى

دع الكلام ينضج في داخلك
ولا تدع مجالاً للخواطر المرتجلة
هلم وافهم ذلك الكلام
الذي يحول المال والثروات إلى تراب

اعلم متى يمكنك النطق
ومتى يتعين عليك الصمت
كلمة واحدة تقلب سعير جهنم
إلى جنات ثمانية

اتبع طريق القوم ولا يغرنك
كل ما تعلمته في السابق وكن يقظاً
فكِّر قبل أن تنطق
فلسان الحمق قد يدمغ روحك بالسواد

يونس! قل الآن شيئاً أخيراً
عن قوة الكلمات:
فقط كلمة «أنا»
تقطعني عن الله

الإنسان الحقيقي

لن تكون إنساناً حقيقياً على الطريق
إن لم تكن بسيطاً متواضعاً
وإن نظرت باستعلاء إلى أي مخلوق
فسيتم دفعك إلى أسفل الدرجات

إن ارتفعت نفسك فإنك سترفع بعيداً عن هذا الطريق
لا فائدة من كتم ما أنت فيه
لأن ما في جوفك يظهر لا محالة في سيمائك

حتى ذلك العابد ذو اللحية البيضاء
ذلك الذي يُظهر الحكمة في محيّاه
لو تجرأ فكسر قلب إنسان
ما الفائدة من حَجِّه إلى مكة؟
إن كان عديم الرحمة
فما الغاية من وجوده؟

قلبي هو عرش المحبوب
والمحبوب هو مقصود قلبي
كل من يكسر قلباً لإنسان
فلن يجد طريقاً إلى الله
لا في هذا العالم
ولا في غيره

الذين يعرفون لا يتكلمون إلا نادراً
لكن الضواري منهمكة دوماً بسيل من الكلام
كلمة واحدة تكفي من في قلبه العلم الحق

إن بحثت عن المعنى في الكتب المقدسة فهو ذا:
كل ما كان نافعاً لك تقاسمه مع غيرك

كل من يأتي إلى هذه الدنيا يهاجر منها
وكل من شرب خمر الحب يفهم قولي

يونس! لا تنظر باحتقار إلى هذا العالم

أبق ناظريك مسمرتين على وجه الحبيب
لأنك عندها لن ترى الصراط
في يوم الحساب العظيم

العرس في راشيا وحاصبيا

العرس في راشيا وحاصبيا

جلب العروس على الفرس في لوحة عن العرس الدرزي في القرن الثامن عشر
جلب العروس على الفرس في لوحة عن العرس الدرزي في القرن الثامن عشر

حسرة على اندثار العرس القروي وأفراحه
وخروج المجوز والدبكة ومشاركة الناس

يتذكَّر المواطنون في منطقتي راشيا وحاصبيا أعراساً مضت بكثير من الحسرة. كانت المنطقة حتى عقدين ربما من الزمن ما زالت مصانة من منتجات المدنية المعاصرة وغزو الاستهلاك وقيم المباهاة. وكان الناس يتابعون إرث الأجداد في مناسبات الفرح، ويعيشون سعادة حقيقية في العرس القروي، الذي كان فعلاً مناسبة جامعة وفرصة للتعبير عن مشاعر المحبة والتآخي، وتأكيد قيم الرجولة التي يقوم عليها كيان الطائفة عبر الأجيال.
ماذا حدث إذاً حتى تبدَّلت الأوضاع؟ كيف قَبِلَ الناس خروج الدبكة والمجوز والعزيمة وتحدِّي رفع «العمدة”، وأخلوا بدلاً من ذلك بدعاً ومبتكرات، ليس فقط لا علاقة لها بالتراث، بل هي أيضاً مرهقة لأهل المناسبة، وباتت تُشكِّل عبئاً يدفع البعض لتأخير الزواج بانتظار أن يتدبَّر التكلفة فيجرؤ على دخول الميدان.

يتذكَّر الأستاذ نعمان الساحلي، مدير ثانوية الكفير الرسمية، كيف كان العرس مناسبة جامعة فعلاً يشارك فيها حتى رجال الدين الذين كان لهم القسط الأول في إجراء عقد الزواج، لكنهم كانوا أيضاً يتقدَّمون أهل العريس وأصدقاءه في المسيرة نحو منزل والد العروس، لتسير خلفهم مجموعة من الشباب بالحداء والأهازيج والتصفيق يرافقهم العريس والأهل والأصحاب.
كان أصدقاء العريس يأخذونه إلى مكان يُعرف بـ “جرن العريس”، حيث يشذِّب شعره ويستحمّ ليرتدي سروالاً جديداً، وغالباً ما يكون هذا السروال قد لبسه من قبل عرسان سابقون في البلدة، وكانت هذه الاستعدادات تتم على وقع الأهازيج والردّات السائدة آنذاك وتُعرف بـ “الترويدة”:
طلَّت الخيل وطلَّينا بأولها وإن أدبرت الخيل مكسّرها الرجاجيمة
وبعد الإنتهاء من ارتداء العريس لثيابه الجديدة، يقول أحد الشبان ردَّة حداء ما زالت تتردَّد حتى اليوم تقال لشقيق العريس:
فــــــــــــلان كــــــــــرّب عالفــــــــــرس عريسنــــــــــا جهــــــــــازو خلــــــــــص
يـــــا نجــــــوم بــــــي أعلــــــى سمــــا عـــــــــــــالأرض تعملــــــــــو حــــــــــرس
قبل استلام يد العروس كانت عائلتها تأتي بـ “العَمدة”، وهي عبارة عن جرن حجري لا يقل وزنه عن 50 كيلوغراماً وتضعه أمام العريس وتطلب منه أن يرفعه، وذلك لإثبات جدارته بالحصول على عروسهم، وتالياً أهليته للتقرُّب منهم والانتساب إليهم بالمصاهرة. وكانت هذه إحدى اللحظات الأكثر دراماتيكية وإثارة في حفل الزفاف، لأنَّ العريس يصبح في داخل حلقة واسعة من الشباب والكبار الذين يترقَّبون قيامه برفع الجرن. فإن قام بذلك علّت الأهازيج وهلَّل الجميع، وخصوصاً وفد عائلة العريس الذين يعتزون بالإنجاز الذي “بيض وجههم”، وعندها يتم تسليم العروس للعريس بكل طيبة خاطر. لكن كان العريس في بعض الحالات يفشل في رفع “العمدة”، وكان ذلك يعتبر نكسة لا بدّ من مواجهتها بسرعة. وكان ذلك يتم عبر التدخُّل الفوري لأحد المقرَّبين منه لإنقاذه من الموقف. وغالباً ما كان العريس غير الواثق من قدرته على التحدِّي يصطحب معه مجموعة من الشبان المعروفين بقوة البأس والذين يكون على أحدهم القيام بهذه المهمة إذا دعت الحاجة، لكن على الشاب أن يكون من عائلة العريس وليس أي شخص آخر. لأن المهم هو المعنى الرمزي لهذا الاختبار لدى أهل العروس، وهو أن العائلة التي تُصاهرنا عندها “رجال” يمكن أن يهبُّوا إلى نصرتها عند الحاجة.

المشايخ باتوا يتجنَّبون الحضور لأنهم لا يريدون أن يكونوا شهوداً على ما يحدث في أعراس اليوم

وهل حدث أن تراجع أهل العريس عن تسليم العروس في حال فشل العريس في رفع الجرن؟
نعم، يجيب الأستاذ الساحلي. مضيفاً: “حدث ذلك لكن في حالات قليلة عندما كان أهل العروس يمثلون أسرة عريقة أو ذات عنفوان وبأس، ولم يكونوا لذلك ليقبلوا أن يكون صهرهم العتيد أقل منهم شأناً في ميدان المروءة والفروسية، لأن “الصهر سند الظهر”، كما يقال. كما أن مجتمع الموحِّدين كان يقوم على مكارم الأخلاق وقيم الرجولة والشرف والعِفَّة والبنية الجسدية على اعتبار أن الأسر كانت تتخيَّر في أنسابها القَوي والعفيف، لأنها كانت ترى في ذلك ضمانة الحصول على ذرية قوية وصالحة تنتفع بها الجماعة في أوقات الحرب كما في أوقات السلم.
بعد وصول العروس إلى منزل العريس كان يأخذ بيدها ويبارك له الحضور. وعندها يدعو أهل العريس جميع الحضور إلى تناول الطعام، وغالباً ما كانت أرض الدار هي المائدة، فكان الخوان يوضع على الأرض ويجلس الناس متربعين أو على ركبهم لتناول طعام الفرح، وبعدها تبدأ التهاني ويعقد الشباب حلقات الدبكة ويتبارى بعضهم في غناء المعنّى والعتابا والميجانا. وهذه المشاركة غالباً ما كانت تغذِّي المواهب عند الناس في قول الشعر والمحافظة على تلك العادات. وكان العرس يستمرُّ أسبوعاً كاملاً يبدأ بـ “التعليلة” ليلة الجمعة ويستمر على امتداد الأسبوع، بحيث تشهد كل ليلة حلقات الدبكة والغناء والحداء والفرح على وقع المنجيرة والمجوز، وهي آلة طربية من القصب غالباً ما كانت ترتبط بالرعاة الذين كانوا يسلون أنفسهم بالعزف عليها وسط الطبيعة الخلاَّبة”.

كيف ينظر الأستاذ الساحلي إلى أعراس اليوم؟
يقول متنهداً: “شتّان ما بين الأمس واليوم! لقد زال الكثير من معالم العرس كما كنا نعرفه، وذلك بعد أن بدأ الناس يسيرون في ركب القيم المستوردة وحضارة المادة والتباهي، ويتخلون في سبيل تلك القشور عن العادات الشرقية والعربية، سواء في الشكل أم في المضمون. وقد تحوَّل العرس اليوم إلى حدث باهت لا روح فيه، وحلّت الموسيقى الصاخبة محل حنين المنجيرة وحلقات الرقص العفوي، وحلًت المطاعم بدل الولائم أو العزائم، وحلّ اللبس الغريب وغير المحتشم محل اللباس الراقي للأزمنة السابقة، وأخذت فِرَق الزفة وحركاتها البهلوانية محلَّ حلقات الدبكة الشعبية، وبات الفرح اليوم عبارة عن مهرجان يجلس فيه الناس على الكراسي بلا أية مشاركة أو دور حقيقي في المناسبة.

راشيا-التاريخ-أعيدوا-لها-عرسها
راشيا-التاريخ-أعيدوا-لها-عرسها

محمود فارس غزالي، الذي يقترب من عامه الـ 90، يعتبر أن أعراسنا أصبحت مناسبة جوفاء تهيمن عليها المزايدات والمظاهر الفارغة وتُلقي أعباءً كثيرة على كاهل العريس، الذي غالباً ما يرزح بسببها تحت وطأة الدين لإرضاء الناس.
يذكر غزالي كيف كان “جهاز العروس” في الماضي بسيطاً يوضع كله في صندوق يُعرف بـ “صندوق العروس” أو” الصندوق المطعّم”، وقد كان دولاب الثياب (الخزانة) في تلك الأيام غير معروف. وكانت العَمدة (أي تحدي رفع الجرن) هي التي تقرر معدن الرجال وأهليتهم لنيل العروس، بينما أصبح الشخص يأخذ عروسه هذه الأيام لا شروط إلاَّ شرط أن يكون لديه المال”.
يضيف غزالي أن جميع أبناء القرية كانوا يشاركون بعضهم بدافع المحبة، ولم يكن في المنازل البسيطة سوى إنتاج المنقول ( الزبيب والجوز واللوز والتين) وكانت الهدية هذا النحو، أي من حاضر البيت، فكان أصحاب المواشي المقتدرين مثلاً يقدِّمون للعريس أحد رؤوس الماشية ليصار إلى ذبحها وطهيها لتقدم إلى المعازيم؛ كما كانت الحلوة أو “التحلاية” بعد الغداء من إنتاج البيت (رز بحليب)، أما اليوم فقد أصبحت الهدية من وحي العصر شاملة بذلك الأدوات الكهربائية وصولاً إلى ضيافة البوظة.
من التقاليد المهمة والجميلة التي اندثرت “ليلة النقوط”، النقوط حين كان يصار إلى جمع المال للعريس من قِبَل الحاضرين كلٌّ حسب قدرته مع حفظ سجل بتلك التبرُّعات التي تصبح بمثابة “دين” على العريس عليه أن يوفيه إلى من يتزوَّج بعده من الحاضرين أو من أبنائهم. ومن التقاليد التي ذهبت أيضاً “الشوبشة”، حيث يقوم الأهل والأصدقاء بتقديم المال أو الذهب إلى العروس. أما اليوم، فقد أصبح سيد الموقف رقم حساب العريس في المصرف”.

السيد صالح نوفل، رئيس بلدية الكفير، يضيف القول بأن “نكهة الأعراس” اختلفت كثيراً. فالطبلة والمنجيرة والمجوز تلاشت لحساب آلات موسيقية مستوردة، أو موسيقى معلبة وصاخبة أو مبتذلة، و”هو ما يجعل بلدة الكفير تحنُّ إلى الماضي الذي يكاد يصبح صورة
شاحبة في الذاكرة”.
يقول: “إن المشاركة في العرس أصبحت اليوم رمزية ومن قبيل “المسايرة” أو الواجب، وقد تقلَّص عدد المحتفين، كما تحوّل الحفل إلى حفل لا يلائم مجتمعنا، حتى أننا نكاد نفقد تراثنا الشعبي الذي عاش معنا لمئات السنين”. وأخطر ما حصل في رأس رئيس بلدية الكفير هو الارتفاع الكبير في تكلفة العرس، حيث نرى متوسطي الحال يتماثلون بالميسورين والأغنياء فيلجأون إلى بيع بعض الممتلكات الثابتة لتغطية تكلفة العرس. وهذا الواقع قد يستدعي إقامة أعراس جماعية تساعد على خفض التكلفة. وختم بمطالبة السلطة الدينية لو تستطيع أن تكبح هذا الإفراط لما لقراراتها من رضى وقبول.

الأستاذ عامر عامر، من الخلوات حاصبيا، يستهجن “دخول الموسيقى الأجنبية إلى حياة الريف”، كما يلاحظ شيوع الاختلاط والكثير من البدع التي جعلت هناك انقساماً في المجتمع أزاء العرس بعد أن كانت المشاركة عمومية، بما في ذلك رجال الدين الذين كانوا يشاركون في حلقة الدبكة”. يضيف القول: “إن المزايدات أدخلت الناس في مرحلة الإفراط، إذ كانت مأدبة الغداء في السابق تقام من حواضر بيت الفلاح وكذلك “الضيافة”، حيث كانت مأدبة الطعام تمدّ أمام الناس على الأرض والكل يشارك. أما اليوم فإنَّ الميسورين الذين يزايدون في تقديم الضيافة والطعام، والكثيرون منهم يهدفون إلى إبراز ثرائهم وكسب الجاه، لكن هذا الأمر ينعكس سلباً على ذوي الدخل المحدود الذين يسعون إلى التماثل بهم”.

السيد حسن مدَّاح الذي ينظّم الشعر ويلقيه بدافع المحبة في المناسبات، وخصوصاً الأفراح، يقول عن أعراس اليوم: “رزق الله على أيام زمان” عندما كان أبناء منطقتنا فلاحين بمعظمهم والإمكانات المادية متواضعة، لأن تلك الأيام كانت تسودها المحبة والإلفة والنخوة. أما اليوم فإنهم يحاولون دفن ذاكرتنا وإخراجنا من ذواتنا وهويتنا”. مضيفاً: “في الماضي كان فرح العريس هو أيضاً فرح الناس، أما الآن فأصبحنا نأتي بمن يفرح عن الناس حيث تقوم فرق الزفَّة بتمثيل ما يفترض أن يقوم به أهل العريس وأصدقاؤه”. وأكد أنه يريد لحفل زفاف ابنه أن يكون على وقع التراث وبمشاركة ومباركة رجال الدين، وأن يسير الناس لجلب العروس على وقع الحدا والحوربة، بعيداً عن هذه البهرجة المزيَّفة والمصطنعة التي تبعدنا عن أصالتنا وتراثنا، لافتاً إلى أن إحدى أهم نتائج تدهور العرس الدرزي الأصيل، هو أننا خسرنا مشاركة المشايخ ومباركتهم للمناسبة، وقد باتوا يتجنَّبون حضور تلك المناسبات لأنهم لا يريدون أن يكونوا شهوداً على ما يحدث، خصوصاً زوال الحياء ومشاهد الفوضى بين النساء والرجال سواء في حلقات الدبكة أو الرقص، ناهيك عن المُسكرات التي لا يتوانى البعض عن تقديمها في المناسبة.
وختم بهذه الأبيات من الشعر:
الأفــــــراح نحن كلنـــــــــا نريدهــــــــا منمشي مثل ما قال عنها سيدها
بدنــــا المشايـــخ بالفـــرح يتدخَّلـــــوا حتــى عوايدنـــا القديمة نعيدهـــا

إن-رغبت-مصاهرتنا-فارفع-هذا-الجرن
إن-رغبت-مصاهرتنا-فارفع-هذا-الجرن

العرس القروي

العرس القروي

من فـــرح حقيقــي واحتفــــال بالثقافـــــة
إلى مسرحيات مملة ومتفرجين وتبذير ومباهــاة

لا يوجد مكان يمكن فيه معاينة التآكل التدريجي لثقافة الموحِّدين الدروز وأسلوب حياتهم كما هو واقع في حفلات الزفاف، هذه المناسبة التي كانت على الدوام إحدى أهم مؤسسات الثقافة الجماعية وتعبيراتها تحوّلت وفي غضون عقد من الزمن إلى شيء آخر لا يمت بأية صلة إلى ثقافة الموحِّدين الدروز أو آدابهم أو ثقافاتهم، كما أنه لا يمت بأي صلة للوظيفة الأصلية التي أعطيت لحفل الزفاف في الماضي وهي شد أواصر التضامن والمحبة بين الأسر والقرى وبين أعضاء القرية الواحدة وتأكيد قيم التوحيد الأصلية مثل إكرام الضيف والاحتفاء بالعريس (والعروس) وإحياء النسب الجديد بين العائلتين والاحتفال بوقوعه وتواصل الناس مباشرة عبر مشاركة الجميع بالمناسبة، أو المساعدة في إعداد الطعام أو المشاركة في حلقات الرقص وغير ذلك من تعبيرات النخوة والتضامن التي كانت بالفعل تفرح الصدور. فما الذي جعل هذه المؤسسة المهمة في ثقافة الموحِّدين الدروز بل ونسيجهم الاجتماعي تتقهقر إلى الحالة التي نشهدها اليوم؟ وكيف يمكن إحياء “العرس الدرزي” عبر مبادرات هادفة ومصممة على صون الهوية والثقافة أمام هذه الهجمة الشرسة للإبتذال؟

إحدى أبرز المفارقات في حفل الزفاف القروي الذي نسعى لإنقاذه اليوم هو أنه لم يكن يسمى بحفل الزفاف بل “الفرح” فكان لا يقال “زفاف” فلان بل “فرح” فلان تعبيراً عن الشعور العارم الذي كانت تتركه المناسبة في قلوب المشاركين وذاكرتهم. وأذكر كيف أننا عندما كنا في سن المراهقة أو أدنى منها كنا نسعد أيما سعادة كلما بلغنا بأن هناك “عرساً” (فرحاً) في اليوم الفلاني هو عرس فلان.
كنا ننتظر المناسبة ليس فقط لأننا كنا نشارك أو نتابع مظاهر الفرح والحبور والتوادد العفوي بين الناس، بل لأننا كنا ومن دون وعي منا نطلع من خلال العرس على الكثير مما يشكّل أساس ثقافتنا وقيمنا. كان العرس بالنسبة إلينا مدرسة أو “درس عملي” نشاهد خلاله كيف يتعامل الناس وكيف يفرحون وكيف يحتفلون. كنا نشاهد أهل القرية ونتعرّف عليهم وعلى طباعهم وما يميّز كل فرد منهم بصورة أفضل من خلال رؤيتهم يتحرِّكون ويتحدثون ويتسامرون أو يؤدون رقصاتهم عبر الدبكة أو “الحوربة” أو الرقص الحر، كما كنا نرى كيف كانت كل من العائلتين المتصاهرتين تحتفلان بالمصاهرة وما ينتج عنها من روابط ألفة واعتزاز وشعور بالقوة وهذا مغزى قول السابقين “الصهر سند الظهر” .
باختصار كان كل حفل زفاف أو عرس يعلمنا نحن الصغار أو المراهقون شيئاً جديداً عن أهلنا وبيئتنا وثقافتنا، وكان أهم ما نستذكره ويثير اهتمامنا هو تلك الحالة من التآزر والتآخي والفرح العفوي الذي كان يستثيرها العرس في الجميع، وهي حالة كان قوامها الأهم كون العرس مناسبة فرح جامعة كان على كل شخص المساهمة بقسطه فيها. لكن كان الأهم أيضاً الدور المهم للعرس في التأكيد على ثقافة الرجولة والعنفوان، وقد كان جزء أساسي من رقص الرجال مستمداً من تقاليد الفروسية واستذكار ما سلف من معارك الشرف وحماية الديرة والأهل. وكان الحماس يسيطر على المشاركين عند كل “جوفية” أو مقطع ينشده الرجال في استذكار الشجاعة والغيرة والقيم التي جعلت الموحِّدين يستمرون عبر الزمن ويحفظون كيانهم إزاء كل أنواع البلاء والامتحانات.
بالطبع كان لأعراس الستينات وحتى السبعينات أو قبل ذلك رجالها وقد كان قسم منهم لا يزال يحفظ الكثير عن الثورة السورية الكبرى التي قادها الزعيم الدرزي العربي سلطان باشا الأطرش ورفاقه الميامين، وكانت هناك أيضاً أزمة 1958 والتي نظر البعض إليها كاستمرار لكفاح الموحِّدين الدروز دفاعاً عن الهوية العربية وانتصاراً لرابط العروبة، فكان هذا الرعيل بالتالي عماد تلك المناسبات السعيدة وواسطة لاستمرار العرس في دوره كفرح وكمدرسة للتنشئة وكإحدى مؤسسات تناقل التراث، وقد غاب هذا الجيل مع كل زاده الثقافي ليحل محله جيل آخر يواجه زمنا آخر وظروفاً اقتصادية وثقافية بدّلت كثيراً في حياة الدروز وحياة أهل الجبل واقتصادهم وثقافتهم وأساليب عيشهم اليومي. وأبرز التحديات التي برزت في السنوات الأخيرة من تلك الحقبة كانت ولا شك تحدي التواصل الكوني والتنميط الثقافي بواسطة العولمة والفضائيات ومواقع الإنترنت. وقد لعب هذا التنميط الثقافي دوره بسرعة كبيرة لم تتح لأي كان فرصة التقاط الأنفاس أو التفكير في كيفية التعامل مع الموجات الجديدة، وهناك بالتالي خسارة حاصلة من رصيد الهوية واختلاط ذهني وتشوش في عقول الناس التي تخضع بطبيعتها للمؤثرات.
وهذا القول صحيح خصوصاً بالنسبة للعامة من الناس خارج مجتمع الالتزام الديني أو ما يمكن تسميته مجتمع “أهل الزي”؛ وهو مجتمع أولئك الذين أدخلوا أنفسهم طوعاً وعبر طلب الترقي والسلوك في دائرة واضحة محددة المعالم لما يعتبر في صلب مجتمع التوحيد وسلوك الموحِّدين وما يعتبر مناقضاً له أو دخيلاً عليه وغريباً بالتالي عنه.
ومشكلة “الدهريين” من دروز هذا الزمان أن المنقطعين منهم عن التوجيه السليم والمعرضين لشتى التأثيرات لم يعودوا يعرفون ما هو منهم وما ليس منهم في الحقيقة. وهذا الأمر ينطبق على ما طرأ على العرس الدرزي كما ينطبق على العديد من جوانب الحياة التي تبنيناها من دون مقارنتها مع أي مرجعية أو تعريف ولو عام لثوابت الهوية وجوهر الثقافة والمصلحة أو حتى الفطرة الإنسانية والذوق السليم.
إن طرح موضوع العرس الدرزي ليس هدفاً في حد ذاته، بل هو مناسبة لتسليط الضوء على أهمية إعادة تحديد مكونات الهوية الثقافية لأهل الجبل ووضع بعض الفوارق والعلامات التي تبقي للموحِّدين الدروز

مشكلة “الدهريين” من دروز هذا الزمان، أن المنقطعين منهم عن التوجيه السليم والمعرضين لشتى التأثيرات، لم يعودوا يعرفون ما هو منهم وما ليس منهم في الحقيقة

“الضحى” تدعو لمبادرة أهلية لإحياء تقاليد العرس القروي وإلى صندوق لتشجيع العرسان على التزام الصيغة الأصيلة والتراثية لحفل الزفاف

بعض أهم العناصر والمقومات التي جعلت منهم جماعة تحظى بالاهتمام والاحترام (احترام الذات واحترام الآخرين) في هذا المشرق. لقد جرى التركيز على موضوع الهوية على اعتباره أمراً متعلِّقاً بالعقيدة لكن على الرغم من أهمية ذلك، فإن العقيدة أمر فلسفي أو ضميري، بينما تقوم الهوية بالدرجة الأولى على مكونات وتصرفات ثقافية واجتماعية بالدرجة الأولى، كما تستند إلى مؤسسات “التدريب على الهوية” Initiation مثل التعليم والتنشئة الأخلاقية في الصغر واستكشاف الطبيعة والعلاقة بالأرض ومجالس المذاكرة، كما أن من أهم مكوناتها أيضاً مؤسسات ثقافية مثل حفل الزفاف.
لذلك، وعندما يقال أن حفل “العرس” هو تعبير عن الهوية والثقافة فهذا يعني في الوقت نفسه أن تردي وتقهقر هذه المناسبة من دورها الأصلي لا بدّ أن يعتبر جرحاً كبيراً في الهوية وأحد الأشكال التي نعاين فيها تقهقر المجتمع الدرزي وخسارته للكثير من
عناصر المناعة والقوة.
حقيقة الأمر أن حفل الزواج العفوي والزاخر بالعنفوان وتعبيرات المودة والرجولة والمحبة بين الإخوان، انحط وعلى مدى عقدين أو ثلاثة من الزمن إلى مسرحيات دخيلة ومملة يسلّم فيها أطراف الحفل أنفسهم ومالهم، بل وكل تفاصيل ما سيجري في يومهم العظيم إلى شركات ومبرمجين ومصممين ومزينين ومحلات وشركات سيارات ومصممي ألعاب نارية وغيرها، ومن أجل هذه المسرحية المكلفة والتي غالباً ما يستدين بعض العرسان من أجل الوفاء بمتطلباتها، ينكب الجميع لأشهر طويلة على دراسة الخطة بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة والهم الأول في رأسهم هو كيف سيتم “إخراج” وتمثيل “مسرحية العرس” بما يرضي الجمهور ويجعل من الحفل والسهرة حديث الناس وموضوعاً لإعجابهم وتعليقاتهم. وهناك قصص لا نهاية لها لما تفتَّقت عنه مخيلة مخططي الأعراس أحياناً من ابتكارات وأفكار مدهشة، لكن القليل يتسرب بعد ذلك عن الأزمات وحالات الأرق التي تسبب بها الإنفاق غير المحسوب للعروسين عندما “تذهب السكرة وتأتي الفكرة” في اليوم التالي مع تسلّم الفواتير.
هناك شيء بسيط يؤمن به أهل الفطرة والحس السليم في مجتمعنا وهو أن الله مع الجماعة وأنه يحب للناس أن يفرحوا ويتآزروا، كما أنه لا يحب التباهي الفارغ والذي يولد التحاسد “إن الله لا يحب كل مختال فخور” (لقمان:18) كما أن المولى جل وعلا يكره التبذير ويحذِّر منه “إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين” (الإسراء:27). وهو يحب للناس أن يفرحوا مع التقوى لا أن يسوقهم الفرح في دروب الطيش وترك الآداب. وقد كان توافر هذه الميزات في العرس الدرزي سببا لنزول البركة فكانت بضعة قصعات من الهريسة أو ذبيحة خروف تكفي القرية وتفيض عنها. أما الآن فإن كل هذا الإنفاق وهذا الكرم الاستعراضي لا يجلب السعادة لأحد (باستثناء وكالات تخطيط الأعراس بالطبع والمزينين النسائيين ومحلات الهدايا وغيرهم) لأنه إنفاق بقصد المباهاة وليس إعطاء الفرح للناس، وهو في غالب الأحيان غير مبارك في الحقيقة وكثير من المشايخ سيتأبون على الأرجح من تناول شيء من طعام تلك المناسبات.
لقد وصل ما ينفق في تلك الأعراس الصيفية شديدة البذخ عند الأثرياء والقاصمة للظهر عند محدودي الدخل بضعة ملايين من الدولارات سنوياً، لكنه كما قلنا إنفاق استهلاكي عديم البركة غالباً وسقيم في تعبيراته وصلته بإرث الموحِّدين وبمفهوم”الفرح” كما عرفه مجتمعنا لمئات السنين. وعلى ذكر الإنفاق الباذخ نورد هنا مفارقة بليغة هي افتقاد مناسبات الأعراس الصاخبة لأعمال الصدقة والخير كجزء من المناسبة وكسبيل لنيل البركة والتوفيق للعريسين.
وعلينا أن نفكّر في ما تمثله تلك المناسبات التي تنفق فيها الألوف وأحياناً عشرات الألوف أو حتى مئات الألوف من الأموال، من أجل إحياء يوم واحد أو سهرة. علينا أن نفكر ونسأل أنفسنا ألا يمكن في هذا الجو من الإنفاق بلا حساب أن يتخلل حفل الزفاف مثلاً الإعلان في السهرة من قِبل العريسين أو أهلهما عن تخصيص تبرّع معين لمؤسسات الخير والرعاية الاجتماعية؟ ألا يمكن ومن أجل استعادة بعض الدور الاجتماعي للعرس أن يصبح مثل هذا العمل تقليداً محموداً ويشجّع عليه بدل التركيز فقط على استعراض أشكال المصاغ والحلي الثمينة المقدمة للعروس، أو لفت الأنظار إلى ثوب الزفاف باهظ الثمن والألعاب النارية التي تحول الألوف من الدولارات وللحظات معدودة إلى بارود مشتعل ودخان؟ أليس استذكار أصحاب الحاجات وإظهار روح التضامن في مناسبات الفرح هذه من صلب روحية حفظ الإخوان، وإعلاء قيم الغيرية والمشاركة بين أبناء الطائفة؟ هذا النوع من المبادرات سيرحّب به الموحِّدون الدروز ويقدرونه في نهاية الأمر، وعلى الشباب القادر الذي يخطط لحفل زفافه في هذه الفترة أن يضع هذا الأمر في الاعتبار، إذ إنه بمجرد أن يوجد نفر ممن يدخلون تقليد الصدقة أو الزكاة في الأعراس فإنه من المرجّح أن يتحوَّل ذلك إلى عُرف وإلى مصدر مهم للموارد والعناية كما وسينال أول المبادرين إلى إدخال هذا التقليد الفضل والأجر الكبير. ونحن مستعدون في المجلة للتنويه بهذه المبادرات وإفراد سجل خاص
للتنويه بأصحابها ومكرماتهم.
إضافة إلى ما سبق فإننا نطلق في هذا المقال مبادرة لإحياء تقاليد العرس الدرزي، يشارك فيها بعض حكماء الطائفة وعقالها وفنانوها الشعبيون وأنديتها الثقافية ومؤسساتها وبلدياتها وهيئاتها الأهلية على أن يكون الهدف التشجيع على تصويب مسار حفل الزفاف بصورة تعيد له دوره الاجتماعي وبعده الثقافي في الوقت نفسه الذي تعيد ابتكاره كمناسبة للفرح وإعلاء قيم الأصالة والمشاركة الحقيقية للناس.
يهمنا التأكيد على أن الهدف من المبادرة ليس ممارسة أية وصاية ثقافية على الناس، فهم أحرار في ما يختارونه، لكن الهدف هو المساهمة في وقف هذا التسابق المكلف على الاستعراضات الفارغة والمملة، وذلك عبر اقتراح بدائل جذّابة وأنجح حتى في تحقيق غرض أصحابها. ولا نعتقد أن التفكير في إعادة ابتكار العرس الدرزي أو “الفرح” سيؤثر على تجارات بعض الناس أو يصيب سوق الأعراس ولوازمها بالكساد، لأن إحياء العرس الدرزي سيخلق اقتصاداً جديداً يتجه لتوفير متطلبات هذا النوع المختلف من المناسبات، ونحن نقترح أن يتم ربط الأعراس والهدايا المقدمة بتشجيع بعض أنواع الحِرف والصناعات المنزلية التقليدية التي تصبح هي الممون الأول لتلك المناسبات، سواء الهدايا التي تقدم للعروسين أم الهدايا والتذكارات التي تقدم للمدعوين. ولا حاجة للتفصيل في هذا المجال لكن المهم هو العمل على قيام مؤسسة أهلية ثقافية لإحياء العرس الدرزي تتولى تقييم الوضع الحالي واقتراح البدائل وكذلك إنشاء صندوق مالي محدد الأغراض لرعاية تلك المبادرة، وربما وفي مرحلة أولى تقديم حوافز ودعم مالي للعرسان الذين ينضوون تحت لوائها ويعرضون تنظيم أفراحهم وفق المنظور الذي يعيد الاعتبار لهوية الموحِّدين ويعيد البهجة للمحتفين في أعراسهم.

الصـــــــلاة

الصـــــــلاة

سبيــــــل العبــــادة الخالصــــة
أحــــد أهــــم أركــــان التوحيــــد

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسوله خاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين
الصلاة في جميع الأديان هي حلقة الوصل بين الإنسان وربه. وعلى الرغم من أن الصلاة تنوَّعت بتنوُّع الثقافات والأزمان، فإن الأساس فيها هو نية التوجّه بالخضوع نحو الخالق تعالى. والصلاة الصادقة عبادة محض، بمعنى أن العابد لا يرجو منها غرضاً، ولا يحملها طلباً أو رجاء سوى في ما يرضي الله، لأنها مجرد تسليم وخضوع واعتراف بالعجز في حضرة المولى جلَّ جلاله. كما أنَّ الصلاة تختلف عن غيرها من العبادات مثل الدعاء أو الأذكار في أن لها أوقاتها (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء: 103). ولأن الصلاة امتثال في حضرة المولى، فإنها مشروطة بطهارة البدن (الوضوء)، والنفس (عدم انشغال الفكر بأي شيء سوى الله). فضلاً عن ذلك فإن الوقوف في حضرة الحق أمر عظيم، لذلك اعتبرت الصلاة عاصماً من الفواحش والمنكرات، كما في قوله تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)
(العنكبوت: 45).

أهمية الصلاة
الصلاة في الإسلام هي الركن الثاني، لقول النبي محمد (ص): “بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً”. وهي عامود الدين لا يقوم إلا بها، كما جاء في الحديث النبوي الشريف: “رَأْسُ الأمْرِ الإِسْلام وَعَمُوده الصَّلاةُ، وَذِرْوَة سَنامِهِ الجِهَادُ في سَبِيْل الله…” (أخرجه الترمذي).
فمداومة الصلاة أمر واجب ولا تستقيم حياة الإنسان إلاَّ بها. وهي – أي الصلاة الصادقة – تذكار دائم للمرء تشعره أنَّ خالقه معه ومراقبه، ممَّا يجعله متَّزناً متقياً عند أخذه لأي قرار في حياته اليومية، سواء أكان عادياً أم مهماً، وتردعه عن الإقدام على الفاحشة أو الرذيلة لدوام شعوره بمراقبة ربه. والتزام الصلاة هو أمر واجب ولا عذر للمؤمن في تركها، فمن تركها يكون قد أهمل العمَل بالواجب الشرعيّ، وهذا فيه خطر كبير، قال الإمام علي(ر): “فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك، والصلاة تنزيهاً عن الكبر”، وقد ربط الله تعالى بين تركها وبين اتباع الشهوات حيث قال إنها تنهي عن الفحشاء والمنكر، وحيث ذم المضيعين لها والمتكاسلين عنها: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ آلصَّلاَةَ وَآتَّبَعُواْ آلشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) ( مريم : 59 ). وقد تكلم العديد من العلماء عن فوائد الصلاة على النفس والروح، كقول ابن القيِّم الجوزي: “الصلاة مجلبة للرزق، حافظة للصحة، دافعة للأذى، طاردة للأدواء، مقوية للقلب، مبيضة للوجه، مفرحة للنفس، مُذهبة للكسل، منشطة للجوارح، ممدة للقوى، شارحة للصدر، مغذية للروح، منورة للقلب، حافظة للنعمة، دافعة للنقمة، جالبة للبركة، مبعدة من الشيطان، مقربة من الرحمن”. والشيخ الفاضل أبو هلال محمد (ر) يذكر بوجوب الصلاة في كل يوم، “لأنها أمر رب العالمين، وتشريع سيد المرسلين، وما أمرنا بها إلا لمصلحتنا”، ويقول أيضاً: “هي واجبة محتمة على كل عاقل ديان ممن تأسم بسمة الدين من الرجال والنسوان”؛ ويقول: “إن من خالف أمر الله ورسوله فقد عصى وحاد وكان من أمره في شك متماد”.

صدق الصلاة
كما أن الصلاة تفصل بين المؤمن والكافر، فإن صدقها يفصل بين المؤمن والمنافق: (إنَّ آلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ آللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى آلصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءُونَ آلنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ آللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء : 142). فالصلاة الصادقة يتوجه بها المؤمن إلى ربه بصدق النية – وهي الشرط الأول لصحة الصلاة – مما يعكس خشوعاً على جوارح المؤمن وسلوكه ومعاملته في حياته اليومية: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) (المؤمنون :1-2)، أما المراءاة في الصلاة فهي حرام، لأنها عبادة للناس والقصد منها الشهرة، وقد قال الإمام جعفر الصادق(ع): “ان الله يكره الشهرتين: شهرة اللباس وشهرة الصلاة”. وقد نقل الصحابي الكريم عمار بن ياسر عن رسول الله (ص) قوله: إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها ولا عشرها، وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها (أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبَّان). ونقل عن الصحابي الجليل سلمان الفارسي قوله: “الصلاة مكيال، فمن أوفى استوفى ومن طفف فقد علم ما قال الله في المطففين”. وتوضيحاً للحالة الروحيَّة التي يستحضرها الموحِّدُ إذا ما نوى الصّلاة وأدّاها، شرح الأمير السيِّد جمال الدين عبدالله التنوخي (ق)، في جواب لهُ لابن الكسيح، حقيقة الاستشعار عند الدخول في الصلاة، قال: “نقوم بالأمر، ونمشي بالسكينة، وندخل بالقصد، ونكبر بالتعظيم، ونقرأ بالتوسل، ونركع بالخشوع، ونسجد بالخضوع، ونسلم بالنية، ونتمثل الجنة عن يميننا والنار عن شمالنا، ونقول في أنفسنا ان الله حاضر معنا واننا قد لا نصلي صلاة بعدها”. والانتباه إلى أهمية الصلاة اختلاءً أمر مستحسن، وذلك لضمان صدقها وبعدها عن الرياء، ويكون هذا عملاً بنص الآية الكريمة: (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول).
(الأعراف 205).
والله ولي التوفيق.

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

«فلما فرحوا … أخذناهم بغتة»

«التغيير». لا يوجد اليوم في قاموس الناس، مثقفيهم وعامتهم، ما هو أكثر استعمالاً من هذه الكلمة. ولا يبدأ حديث في صالون أو في مجموع إلا ويبرز بعضهم ليحرك لسانه بهذه الكلمة فإذا بالأعناق تهتز وتنحني بالموافقة وينشأ على الفور بين المتحاورين تفاهم على حاجتنا الماسة إلى «التغيير»
كأن بشر هذا الزمان وقد تقطعت جذورهم وانحلت شخصيتهم في كيمياء الحضارة المادية والاستهلاكية فقدوا من جراء ذلك حس الاكتفاء والطمأنينة فباتوا جرياً مع وتيرة الزمن في بحث لاهث لا ينقطع عن شيء جديد يداوون به حس الحرمان والخواء الروحي والوحشة والقلق العميق من قادم الأيام. هؤلاء الذين هم في الأصل ضحية التغييرات السريعة التي أذهلت وجودهم وزعزعت أفكارهم ومعتقداتهم وقضت على استقرارهم، يبحثون عن الدواء في الداء نفسه كمن يضيع طريقه وسط نفق مظلم فيقرر التوغل أكثر معتقدا بأن النفق موصول في طرفه الآخر بعالم النور، فإذا به يحثّ الخطى مبتعدا عن نقطة ارتكازه أكثر فأكثر داخل النفق الذي لا آخر له ولا بديل من ظلمته إلا المزيد من الظلمة والضياع. وحتى وإن سعى هذا المسافر التعس لأن يعود القهقرى من حيث أتى حالت العتمة والشعب الكثيرة للنفق بينه وبين أن يعرف طريق العودة إلى عالم الضياء.

عاش الناس على سوية الفطرة والبساطة آلاف السنين وترعرعوا في كنف الطبيعة يأكلون من خيرها ويحمدون الله تعالى على وفير إنعامه فكانت حياتهم البسيطة نعمة حقيقية لأنها كانت في تناغم تام مع الأرض ومع قوانين الاستدامة التي ترعى الكون. كانوا مستقرين في قراهم لا يبرحونها إلا لتجارة أو سبب جلل، وكان في هذا الاستقرار منفعة لهم ومنفعة للأرض التي يعيشون عليها ويخدمونها على مدار العام. كان العمل في الأرض هو الغذاء وهو الصحة البدنية والروحية وهو الصلاة اليومية الحقيقية وكان اجتماع الأسرة الواسعة تجديد يومي لروابط البشر في حاجة الواحد منهم للآخر ولقانون التعاون على العيش وصنوف الدهر وكانت هذه الحاجة المتبادلة في أساس روابط المحبة بين الناس. في الوقت نفسه كان مجتمع العمل والتعاضد الأوسع هو المدرسة التي يتعلم فيها الأحداث اليافعون أصول السلوك وأسس الأخلاق القويمة والتقوى ويتربون فيها على مهنة الرجولة حتى إذا اكتملت أهليتهم واجتازوا اختبار النضج والعقل دُعوا -عندما يكون الزمن قد دار دورة- إلى تسلم الراية من السابقين.

في ذلك الزمان-كان يقول المعلم الشهيد كمال جنبلاط- «كانت قوى الجذب هي الغالبة في الكون» أي القوى المتسببة من طاقة الحياة والتي تجعل الكائنات كلها من جماد وبشر وحيوان ونبات تنجذب إلى المركز وتحافظ (كما تحافظ الذرة) عن ذلك الطريق على اتزانها وتماسك أجزائها، ومن ذلك أيضاً ينبع السلام والسعادة لأهل الأرض. ولا شيء يعبِّر عن قوة الجذب هذه أكثر من المحبة أو الحب الشامل الذي هو لحمة الكون وسداه ومحور توازنه. أما في زمن التفكك وما قد يطلق عليه البعض نهاية الدور، فإن قوى الجذب -حسب المعلم أيضاً- تضعف لتقوى قوى التنافر و”الضدّية”، حتى إذا حصلت لهذه الغلبة بدأت عناصر الوجود بالتفكُّك تدريجياً إيذاناً بانهيار الحياة كما عرفناها، واختتام دورة كاملة في التاريخ الأبدي لهذا الوجود الذي يحير العقول.

هناك آية جميلة في القرآن الكريم تلخص تلك القاعدة الكونية، وهي قوله تعالى: «فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ» (الأنعام:44)، إن الخالق ينبئ في محكم كتابه عن الحالة التي ستؤخذ فيها حضارة البشر بغتة وهي حالة يكون العالم قد امتلأ فيها بكل أنواع المتاع والمتع ويكون الناس قد غرقوا فعلاً في لجة الأغراض التي تستعبد نفوسهم وتدفعهم إلى شتى صنوف العداوة والغفلة وقسوة القلب. وقد فرح الناس كثيراً، بل ثملوا وأضاعوا عقولهم في هذه الملاهي والمقتنيات التي نزلت عليهم وعلى رأسها أدوات القتل والقوة الغاشمة والتكنولوجيا، وحتى الأطفال أصبحت لهم حصة من آخر مخترعات “القتل الافتراضي” بألعاب الفيديو أو “تقنيات الثرثرة” وقتل الوقت التي يلهون بها مع الكبار.

الشيء الأكيد هو أن مغزى الآية قائم في حياتنا اليوم، ليس فقط في الغفلة والغرق في لجة الإنكار والأنانية والاستكبار، بل هو في تسارع التفكُّك الكوني على كل صعيد نتيجة غلبة قوى النفور والتباعد على قوى الجذب. وها هي الشراسة -بل قل التوحش ونزعة الافتراس- التي يقتل بها الناس بعضهم البعض وذئبية المشاعر والأحقاد، وها هو عنف الطبيعة الذي يتفجر براكين وزلازل وفيضانات وأعاصير، وها هو عبوس البيئة الحانية وتبدل الفصول وغور الأمطار وربما قريباً ظهور عواصف شمسية مدمرة، ها هو كل ذلك يرسل إلينا نذراً واضحة بأن السقوط يتسارع، وبأنَّ علينا أن نستقيم وأن نصحِّح قلوبنا وسلوكنا قبل فوات الأوان.

السلطان عبد الحميد الثاني

السلطان عبد الحميد الثاني

آخـر حماة الخلافة وأرض فلسطين

قال عنه الأفغاني: “ لو وزن بأربعة من نوابغ العصر لرجحهم”
ووضعه المؤرخون في مصاف السلاطين العظام للمرحلة الذهبية

صارع ببسالة دول الغرب التي تكالبت لتناهب دولة المسلمين
وكاد ينجح لولا الانقلاب الطوراني الماسوني للعام 1909

هرتزل الصهيوني حاول رشوته لفتح باب الهجرة إلى فلسطين
فرفض بإباء ورَدَّ بتشديد القيود على إقامة السيَّاح اليهود

سئل جمال الدين الأفغاني مرة عن رأيه في السلطان عبد الحميد الثاني وكان يجالسه كثيراً فقال:”إن السلطان عبد الحميد لو وزن بأربعة من نوابغ العصر لرجحهم: ذكاء ودهاء وسياسة”، هذه كانت صورة الرجل في عيني المفكِّر الإسلامي النهضوي، لكن في نظر الدول الغربية التي كانت تعدّ لاقتسام الإمبراطورية العثمانية الضعيفة؛ فقد كان السلطان عبد الحميد خصماً عنيداً حاول أن يبدّل الضعف الذي كان قد ألمّ بالسلطنة إلى قوة مستعادة عبر مجموعة كبيرة من المبادرات التي وظّف فيها جهده ووقته ودهاءه السياسي وصبره وغطت كافة المجالات. لكن مما يؤسف له ومما سبب الحزن لهذا السلطان المجاهد هو أن قسماً من مواطني الدولة من عرب ومن أقليات سارع في الانضمام إلى الجهود التي رمت لتقويض الدولة وكان له نصيب كبير في تعميم الحرب الإعلامية والنفسية التي شنت على الخلافة وعلى السلطنة من قبل وسائل الإعلام الغربية، حتى نشأ أدب متكامل شعبي وتاريخ موضوع يقوم كله على تسفيه وتشويه تلك الفترة المهمة من جهاد العرب والمسلمين ضد الحملة الشرسة لتحطيم آخر الخلافات الإسلامية وتمزيق أوصالها.
فمن هو السلطان عبد الحميد الثاني آخر الخلفاء-السلاطين للدولة العلية؟ وما هو الدور المهم الذي لعبه إبان حكمه الطويل نسبياً (-1876 1908)؟ وما هي أبرز العوامل التي أدت إلى انهيار الخلافة وفتح الطريق أمام الغزو اليهودي لفلسطين؟

لقد كتبت المجلدات عن الشخصية الغنية والمثيرة للسلطان عبد الحميد الثاني واتفق العديد ممن كتبوا عنه أنه عُرف بالصمت ودوام التفكُّر والعمل الشاق والبُعد عن اللهو ومداومة الصلاة والأذكار والاحترام الشديد للعلماء والأولياء الصالحين من مشايخ السلوك، كما عُرف بالبساطة الشديدة وكان رائداً في إصلاح الإدارات وقمع الفساد وعمارة الجوامع وتطوير التعليم، كما كان الداعية الأول لوحدة المسلمين تحت علم الخلافة والخصم الأكبر لأطماع اليهود في فلسطين، ويعود له الفضل الكبير في الإدارة المالية الرصينة والمحافظة على أموال الدولة حتى أنه تمكّن في عهده من الوفاء بالقسم الأكبر من ديونها، وساعده ذلك في مقاومة ضغوط الدول الأوروبية التي استخدمت مديونية السلطنة لإضعافها عبر إصدار ما سمي بلغة الصلف الغربي “الإذعانات” Capitulations ثم “التنظيمات” التي استهدفت تشجيع الأقليات التي عاشت بأمان وازدهار طيلة عقود في ظل التسامح المستمر للدولة للتمرُّد عليها.
في ظل تلك الإنجازات المهمة والصمود غير المتوقَّع للسلطان لجأت الدول الأوروبية إلى أسلوبين متكاملين: فهي من جهة قامت بتنظيم حملات إعلامية وديبلوماسية استهدفت تشويه سمعة السلطنة والسلطان نفسه، كما سعت من جهة ثانية إلى زعزعة الدولة العثمانية من الداخل وذلك عبر تشجيع العناصر المتأثرة بالغرب والعلمانية على تسريع جهودها للتخلص من السلطنة والخلافة وتحريض الأقليات المختلفة على التمرد والثورة. وكان الهدف من تلك السياسات إضعاف السلطنة وشل قدرتها على المقاومة وفي الوقت نفسه توفير الذرائع السياسية و”الأخلاقية”، لما اعتبره بعض المؤرخين حربا صليبية متجددة وتهيئة الرأي العام الدولي للتسريع في تمزيق أوصال السلطنة وفي الوقت نفسه إطلاق العنان للهجرة اليهودية إلى فلسطين.
وكان قدّر السلطان عبد الحميد الثاني أن يكون الشاهد الحي على آخر أيام السلطنة العثمانية التي حكمت قسماً كبيراً من العالم القديم أكثر من ستة قرون متواصلة، كما أنه سيشهد في ما بعد وقبل وفاته في العام 1918 النهاية الفعلية للخلافة الإسلامية التي التي استمرت بلا انقطاع كمؤسسة منذ الخلفاء الراشدين كما كان هذا السلطان العثماني العزيز وقوي الشكيمة الشاهد المتألم على بدايات الاستيطان اليهودي لفلسطين بدعم وتشجيع من الدول الأوروبية ولا سيما بريطانيا.
أمام هذه الهجمة الشرسة حاول السلطان عبد الحميد الثاني بكل ما أوتي من وسائل، تحقيق مجموعة من الأهداف التي بدت شبه مستحيلة ويتطلب العمل عليها بالفعل إرادة فولاذية وحنكة ودهاء وظروفاً مؤاتية، لكن المؤرخين المنصفين شهدوا للسلطان بأنه وعلى الرغم من المخاطر واختلال موازين القوى لصالح الدول الغربية، نجح في استعادة بعض المبادرة وفي وقف التدهور وتحقيق مجموعة من الإنجازات الكبرى وأنه كان بالفعل سلطاناً عثمانياً يمكن مقارنته بالسلاطين العظماء للمرحلة الذهبية للسلطنة، وإن كانت الظروف التي عاش فيها لم تساعد على إبراز الصفات العلية التي تمتع بها وطبعت عهده.
وربما كان أبلغ دليل على النجاح غير المتوقع الذي حققه السلطان عبد الحميد الثاني في تأخير المسار الانحداري للسلطنة هو شعور المفاجأة ثم الاستياء الكبير والسخط الذي أظهرته القوى الاستعمارية في أوروبا طيلة العهد الطويل للسلطان عبد الحميد الثاني والذي لم يتوقع أحد أن يؤدي اعتلاؤه العرش إلى تغيير اللعبة وتجمع مقاومة حقيقية لمخططات الاستعمار الأوروبي. وفوجئت أوروبا بشكل خاص بالعزيمة التي أظهرها السلطان الشاب ثم بكفاءته وتصميمه على الدفاع عن السلطنة وولاياتها وعن دار الإسلام ومكانة المسلمين بصورة أعم. وردَّت الدول الأوروبية بتنظيم أكبر حملة للتشهير الشخصي وتشويه الحقائق في تاريخ المنطقة، حتى بات السلطان الشخصية المفضلة لرسامي الكاريكاتور في الصحف الأوروبية، ولاسيما الفرنسية منها، وجرى استغلال أحداث مثل المذابح بين البلغار المسلمين والمسيحيين لتصوير عبد الحميد بصورة الديكتاتور الأحمق والسفاح المتعطِّش للدماء وأطلق عليه لقب”السلطان الأحمر”أي المخضب بدماء الأبرياء خصوصاً المسيحيين من أبناء السلطنة وكان الهدف الأبعد لتلك الحملات ليس التشهير بالسلطان فحسب، بل الحط من قدر العثمانيين والمسلمين وبدت موجة التعبئة تلك مشابهة لتلك الصور التي تم الترويج المحموم لها في الممالك الأوروبية قبل الحملات الصليبية حول المسلمين “البرابرة” الذين يقتلون المسيحيين، كما أن هذا النوع من الحملات سينفذ لاحقا من قبل الإعلام الصهيوني نفسه وعلى نطاق عالمي لاستدرار العطف وتبرير الزحف اليهودي على فلسطين.
ومما يؤسف له أن هذه الموجة كانت من القوة والتنظيم بحيث طاولت بتأثيرها العديد من رعايا السلطنة ومثقفيها، وخصوصاً أنصار الدعوات القومية والاستقلالية وبعض أقطاب الأقليات المسيحية والمؤرخين وقد كان هؤلاء جميعاً بحاجة الى تبرير دعوات الانفصال عن الدولة الإسلامية وتأييد عمليات التفتيت وفرز الكيانات الجديدة التي وقعت على الفور تحت سيطرة الاستعمار الغربي. وبسبب قوة تلك الحملات، فقد انتشر الكثير من تلك الأحكام الظالمة ورسخ في أذهان العامة كما لو أنها كانت حقائق، بل إن الكثير من آثار تلك الحملة تسلل إلى الأدب وإلى برامج التعليم والصحافة وتمت تربية أجيال متعاقبة من العرب على كره العثمانيين واعتبار الغرب صديقاً مخلصاً أعطى فرصة التحرر والتقدّم لشعوب المنطقة.

هاجس الدفاع عن الخلافة

اهتم عبد الحميد اهتماماً بالغاً بأن يرد للخلافة هيبتها التي كانت لها في صدر الإسلام. وكان سلاطين الدولة العثمانية قد حملوا في القرنين الأخيرين اللقب المزدوج، وهو “الخليفة-السلطان”، وقد أبقى لهم هذا الأمر الولاية الدينية على سكان الولايات العثمانية جميعها حتى تلك التي انسلخت عن الدولة انسلاخاً سافراً ورسمياً أو انسلاخاً مستتراً ومقنعاً باسم الاحتلال المؤقت. واستهدف عبد الحميد الثاني من إحياء الخلافة وإعادة مكانتها، ليس فقط تعزيز الأساس الإسلامي للخلافة وتأكيد الهوية المشرقية للأتراك ولشعوب الدولة، بل أراد أن يتخذ منها قوة دافعة توصله إلى وقف التمدد الغربي في أراضي الإسلام والسلطنة. لذلك حرص على أن يقرن اسمه بالألقاب الدينية التي يقرن بها اسم الخليفة مثل أمير المؤمنين، وخادم الحرمين الشريفين، وغير ذلك. كما أنه فضل أن يكون لاسم “دار الخلافة” الصدارة على الاسمين الآخرين للعاصمة مثل اسطنبول أو الأستانة. وقد نص الدستور الذي أصدره في العام 1876 في مادته الثالثة على تأكيد قيام “الخلافة الإسلامية الجليلة” في بيت آل عثمان.

من أقوال جمال الدين الأفغاني
في السلطان عبد الحميد

رأيته يعلم دقائق الأمور السياسية ومرامي الدول الغربية، وهو مُعدّ لكلِّ هوّة تطرأ على الملك، مخرجاً وسلماً، وأعظم ما أدهشني، ما أعدَّه من خفي الوسائل وأمضى العوامل، كي لا تتفق أوروبا على عمل خطير في الممالك العثمانية، ويريها عياناً محسوساً أن تجزئة السلطنة العثمانية لا يمكن إلاَّ بخراب يعمّ الممالك الأوروبية بأسرها .
ويقول: “أما ما رأيته من يقظة السلطان ورشده وحذره وإعداده العِدَّة اللازمة لإبطال مكائد أوروبا وحُسن نواياه واستعداده للنهوض بالدولة الذي فيه نهضة المسلمين عموماً، فقد دفعني إلى مدِّ يدي له فبايعته بالخلافة والملك، عالماً علم اليقين، أنَّ الممالك الإسلامية في الشرق لا تسلم من شراك أوروبا، ولا من السعي وراء إضعافها وتجزئتها، وفي الأخير ازدرادها واحدة بعد أخرى، إلاَّ بيقظة وانتباه عمومي وانضواء تحت راية الخليفة الأعظم”.

كرتون-فرنسي-يسخر-من-السلطان-الذي-في-كل-يوم-يخسر-جزءا-من-الإمبراطوريه
كرتون-فرنسي-يسخر-من-السلطان-الذي-في-كل-يوم-يخسر-جزءا-من-الإمبراطوريه
كرتون-فرنسي-آخر-معاد-للسلطان
كرتون-فرنسي-آخر-معاد-للسلطان
كرتون-فرنسي-يصف-عهد-عبد-الحميد-بـ-30-عاما-من--القتل
كرتون-فرنسي-يصف-عهد-عبد-الحميد-بـ-30-عاما-من–القتل

إحياء الخلافة وحماية لغة القرآن

فور اعتلائه العرش أمر عبد الحميد الثاني بقمع كل مظاهر الفجور في الحريم السلطاني قمعاً شديداً، وأحاط شخصه بعلماء الدين وأنشأ معهداً لتدريب الوعاظ وكان يبعث بهم فور تخرّجهم من هذا المعهد إلى أدنى وأقصى بلاد الإسلام لينشروا الأنباء الحسنة عن الخليفة ويشيدوا بورعه ويبشِّروا بحركة الجامعة الإسلامية وإعادة أمجاد الدولة كما كان حالها في صدر الإسلام، كما أعان الصحف لتقوم بدورها في نشر الدعاية له كخليفة وأنشأ المجلات والدوريات، كما كان يوجّه الدعوات إلى زعماء المسلمين وكبار رجال الفكر الإسلامي لزيارة اسطنبول ويستضيفهم رغبة في توثيق الصلات معهم وتعزيز حضوره في العالم الإسلامي.
وبإشراف منه خصصت مبالغ وفيرة جداً لإصلاح المساجد داخل الدولة وخارجها تمكيناً لها من أداء رسالتها، وزيدت مرتبات ومعاشات علماء الدين وموظفي المساجد وأقيمت معاهد ومدارس إسلامية، وأصدر أوامره بزيادة الاهتمام بالأعياد الإسلامية وشتى المناسبات الدينية عند حلولها على مدى العام. وأدخلت المواد الدينية الإسلامية واللغة العربية على مناهج الدراسة في المدارس المدنية للتشجيع على استخدام اللغة العربية في المجالات الثقافية والإدارية. وهذا على الرغم من أن كوجوك محمد سعيد باشا الصدر الأعظم حاول أن يثنيه عن رغبته في جعل اللغة العربية في مركز مساو للغة التركية كلغة رسمية للدولة. وبتوجيه من السلطات منعت الحكومة إطلاق الترجمة الأوروبية للأسماء العربية والتركية على أسماء الشوارع والمباني العامة.

استراتيجية عبد الحميد

على الرغم من اعتلائه العرش في السن الرابعة والثلاثين فإن السلطان عبد الحميد سيكشف مع الوقت عن كفاءات كبيرة وشخصية قوية وحنكة وفهم تام للظروف المحيطة به. لكن السلطان الشاب لم يكن فقط يتمتع بالذكاء الشديد والإلمام التام بشؤون الحكم وبالوضع الدولي المحيط، بل كان، وهذا هو الأهم، رجل عمل يصرف النهار بطوله وجزءاً من الليل للسهر على شؤون السلطنة وتدبير أمر الدفاع عنها وعن مصالحها ولم يكن بالتالي يضيِّع وقته في الملاهي والفراغ الذي انشغل به بعض السابقين. وهذا التلازم بين الذكاء السياسي وإرادة العمل والكفاح هو وحده الذي يفسر تمكّن عبد الحميد من وقف التدهور والقتال التراجعي لحماية ما تبقى من الإمبراطورية. وكان السلطان من الواقعية بحيث اقتنع بأن لا مفرّ من خسارة ولايات عدة أمام زحف الذئاب الجائعة من أوروبا، لكنه لم يستسلم لهذه الحتمية بل قرر في الوقت نفسه السعي لتوطيد الأجزاء الباقية من السلطنة عبر الديبلوماسية واستغلال تناقضات الدول الكبرى، وفي الوقت نفسه تدعيم الوضع الداخلي للسلطنة وتعزيز العلاقة مع الولايات، ولا سيما العربية التي باتت العمق الأهم للدولة بعد الخسائر المتتالية في البلقان.
لكن الهم الأول للسلطان عبد الحميد تركّز في المرحلة الأولى على وقف خطر “الإصلاحيين” الذين كانوا قد أصبحوا واجهة للدول الأوروبية وكذلك للمحافل الماسونية والجمعيات اليهودية التي كانت تتحين الفرصة لغزو فلسطين، وهو أمر لم يكن ممكناً من دون إضعاف السلطنة ونشر الفوضى في الدولة العثمانية.

كافح باستماتة لوقف التسلل اليهودي إلى فلسطين، فانتقم اليهود بأن جعلوا يهودياً يرافق ضبَّاط الانقلاب ويسلِّمه بنفسه قرار العزل

ضريح-السلطان-عبد-الحميد-الثاني
ضريح-السلطان-عبد-الحميد-الثاني

 

استراتيجية عبد الحميد

على الرغم من اعتلائه العرش في السن الرابعة والثلاثين فإن السلطان عبد الحميد سيكشف مع الوقت عن كفاءات كبيرة وشخصية قوية وحنكة وفهم تام للظروف المحيطة به. لكن السلطان الشاب لم يكن فقط يتمتع بالذكاء الشديد والإلمام التام بشؤون الحكم وبالوضع الدولي المحيط، بل كان، وهذا هو الأهم، رجل عمل يصرف النهار بطوله وجزءاً من الليل للسهر على شؤون السلطنة وتدبير أمر الدفاع عنها وعن مصالحها ولم يكن بالتالي يضيِّع وقته في الملاهي والفراغ الذي انشغل به بعض السابقين. وهذا التلازم بين الذكاء السياسي وإرادة العمل والكفاح هو وحده الذي يفسر تمكّن عبد الحميد من وقف التدهور والقتال التراجعي لحماية ما تبقى من الإمبراطورية. وكان السلطان من الواقعية بحيث اقتنع بأن لا مفرّ من خسارة ولايات عدة أمام زحف الذئاب الجائعة من أوروبا، لكنه لم يستسلم لهذه الحتمية بل قرر في الوقت نفسه السعي لتوطيد الأجزاء الباقية من السلطنة عبر الديبلوماسية واستغلال تناقضات الدول الكبرى، وفي الوقت نفسه تدعيم الوضع الداخلي للسلطنة وتعزيز العلاقة مع الولايات، ولا سيما العربية التي باتت العمق الأهم للدولة بعد الخسائر المتتالية في البلقان.
لكن الهم الأول للسلطان عبد الحميد تركّز في المرحلة الأولى على وقف خطر “الإصلاحيين” الذين كانوا قد أصبحوا واجهة للدول الأوروبية وكذلك للمحافل الماسونية والجمعيات اليهودية التي كانت تتحين الفرصة لغزو فلسطين، وهو أمر لم يكن ممكناً من دون إضعاف السلطنة ونشر الفوضى في الدولة العثمانية.

تجربة قصيرة في البرلمانية

ومعروف أن الإصلاحيين بقيادة مدحت باشا كانوا قد اشترطوا لنقل الخلافة إلى عبد الحميد الثاني أن يقوم فور تسلُّمه للملك بإصدار دستور للبلاد يجعل السلطان مقيداً ببرلمان منتخب وبالوزارة. يومها قبل عبد الحميد ذلك الشرط، لكنه على الأرجح لم يكن مقتنعاً بهذا التركيز على الدستور وإدخال البرلمان في وقت كانت القوات الروسية تعسكر على مشارف اسطنبول وكانت معنويات البلاد متدنية جدياً ليس فقط بسبب الهزائم وخسارة معظم الولايات البلقانية، بل أيضاً بفعل الوضع المالي المتردي للدولة، لكن السلطان المحنك قبل بإجراءات الانتخابات التي أنجبت برلماناً سادته المشاحنات والخطب الرنانة، وكما كان متوقعاً فإن بعض النواب بدأوا يتطاولون على السلطان وأركان الدولة والجيش، الأمر الذي اعتبره عبد الحميد الثاني تهديداً لمعنويات الجيش والشعب في فترة حرجة جداً من حياة السلطنة. وانتهى الأمر بتعليق الحياة البرلمانية (وليس الدستور).
ويشير المؤرخون المنصفون إلى أن السلطان عبد الحميد الثاني لم يكن مستبداً أو معادياً لأفكار الإصلاح، وأنه على العكس نت ذلك كان مقتنعاً بضرورة تحديث النظام والإدارة، لكنه استنتج وفي ضوء ما شاهده من اختبار التجربة البرلمانية أنها فشلت في معالجة التحديات الداهمة التي تواجه السلطنة وأنها على الأقل سابقة لأوانها. وكان السلطان مقتنعاً بقدرته على أن يدفع بنفسه عجلة الإصلاح وأن يدافع في الوقت نفسه عن وجود السلطنة وهيبتها وملكها من دون الحاجة للتعامل مع العوائق الدستورية والنزاعات والانقسامات التي تثيرها أي حياة برلمانية. وفعلياً فقد شهدت الدولة العثمانية على يد عبد الحميد الثاني، وفي ظل صيغة الحُكم الملكي المستنير أو صيغة السلطان – الخليفة، دفعات كبيرة من الإصلاحات لم تشهد لها مثيلاً في أي وقت. وشملت تلك الإصلاحات النهوض بالزراعة وتحديث الصناعة، وتنشيط التجارة خصوصاً مع الولايات المجاورة، وإصلاح القضاء والخدمة المدنية وتأهيل الإداريين والتعليم التقني أو المهني والتعليم العسكري وإنشاء جامعة اسطنبول، والاهتمام بالرعاية الصحية للمواطنين، وتطوير أنظمة المواصلات الحديدية والبرية وتطوير شبكة الاتصالات البرقية والبريدية والبحرية، وإرسال البعثات التعليمية والتدريبية إلى شتى الدول الأوروبية، واستقدام البعثات العسكرية من أوروبا وتعزيز الجيش والأسطول. أضف إلى تلك الإنجازات، تمكّن السلطان عبد الحميد، ونتيجة الإدارة الرشيدة لمالية الدولة، من خفض مديونية الدولة العثمانية إلى حدود مقبولة جداً ولم تعد تشكل عبئاً على كاهل الخزانة. وهذا الإنجاز في حدّ ذاته ساعد الدولة على التحرر من الكثير من الضغوط السياسة عليها، وعزَّز موقع السلطان التفاوضي والديبلوماسي تجاه الدول الغربية.

الخلافة والغزو الغربي

في كل تلك الإصلاحات والإنجازات كان السلطان يتصرَّف كخليفة بالمعنى الإسلامي، وهو وإن لم يصرّح بذلك بوضوح، كان مؤمناً إيماناً حقيقياً بصيغة الخلافة ونظام الشورى. وأظهرت الأيام أن السلطان كان منسجماً مع نفسه وقناعاته عندما التزم جانب الشرع وصيغة الخلافة التي حافظ عليه المسلمون منذ عهد الخلفاء الراشدين، ورفض استبدالها بالصيغة البرلمانية الغريبة عن المجتمع الإسلامي، والغريبة أيضاً عن تركيبة الدولة العثمانية التي كانت رابطة عريضة لأمم وشعوب، بل وأديان، وليست بلداً متجانساً على شكل الدول الأوروبية المسيحية آنذاك.
وكان السلطان بصورة خاصة يشعر بالأسى إزاء ما رآه من انجراف قطاعات من المجتمع العثماني لتقليد الدول الأوروبية والخلط بين الاكتساب المفيد، مثل اكتساب العلوم والتقنيات، وبين التقليد الأجوف الذي روّج له بعض المنبهرين بالغرب، والذي بدأ يطاول تبديل نظام الحياة كله، اللباس والعمارة والأثاث والسلوك، بل وصل الأمر ببعض أنصار الغرب العثمانيين إلى المطالبة بحلق اللحى، بل جعل بعضهم من هذا المطلب معادلاً للإصلاح الدستوري. وسنرى في ما بعد أن مخاوف السلطان عبد الحميد كانت في محلها، لأن هذه النزعات الإصلاحية المتطرفة انتهت فعلاً إلى إنكار التاريخ الإسلامي العريق للدولة العثمانية، خصوصاً خلال حكم أتاتورك، والذي ضمّ خلاصة الفكرة الإصلاحية القائمة على اختيار النموذج الغربي والتخلي عن الإسلام والإرث الإسلامي للسلطنة، ثم قطع الصلة في ما بعد باللغة العربية، بل باللغة العثمانية الكلاسيكية التي كانت زاخرة بالمفردات العربية والإسلامية. وعلى العكس من ذلك كان إيمان السلطان عبد الحميد بالخلافة والرسالة التاريخية لبني عثمان الدافع الأول في محاولته لتعزيز الوحدة بين شعوب الدولة من خلال إطلاق الجامعة الإسلامية والانفتاح على الإصلاحيين الإسلاميين من أمثال: نامق كمال وجمال الدين الأفغاني اللذان سعيا لتطوير الدولة العثمانية من ضمن الحفاظ على الخلافة وعلى حقيقتها الإسلامية. وكان هؤلاء النهضويون الإسلاميون قادرين على تحديد أسباب الضعف الحقيقية للدولة الإسلامية، لكن مع التمييز في الوقت نفسه بين الإصلاحات التي تقوي السلطنة والخلافة، وهي إصلاحات من الداخل وبين الإصلاحات المصممة لإضعافها وهدمها.

تيودور-هرتزل-فشل-في-إقناع-السلطان-عبد-الحميد-بفتح-باب-الهجرة-اليهودية
تيودور-هرتزل-فشل-في-إقناع-السلطان-عبد-الحميد-بفتح-باب-الهجرة-اليهودية

مقاومة طلائع الغزو اليهودي

ارتبط تحرُّك الجماعات اليهودية باتجاه فلسطين في آواخر القرن التاسع عشر الميلادي ارتباطاً وثيقاً بحالة الضعف التي كانت قد ألمَّت بالدولة الإسلامية الجامعة، التي تمثلت في السلطنة العثمانية وشروع الدول الأوروبية في العمل على تفتيتها والانقضاض عليها. وكان تشجيع الأقليات الدينية المسيحية في الغالب ثم تحريك الأقليات القومية العربية والأرمينية والصربية وبعهدها القومية التركية (الطورانية) وغيرها، أحد الأسلحة الفعّالة التي استخدمتها الدول الأوروبية في تفتيت الإمبراطورية تسهيلاً لتمزيقها وتقاسم امتداداتها الجغرافية التي غطت على الأقل ثلاث قارات هي آسيا وأوروبا وأفريقيا.
لم يغب هذا التطور التاريخي عن انتباه الجماعات اليهودية في أوروبا، التي رأت فيه فرصتها السانحة للبدء في تنفيذ حلم راود هذه الجماعات على مدى الزمن، والمتمثل بحلم العودة إلى فلسطين. وقد وضع اليهود أنفسهم في مصاف الأقليات الباقية التي تطالب بحصتها من تركة الدولة العثمانية، وبينما كانت الأقليات الباقية الدينية أو القومية تطالب بالاستقلال السياسي عن السلطنة، فإن اليهود الذين كانوا موزَّعين في القارات وفي بلدان السلطنة رسموا لأنفسهم مطلباً مختلفاً يعكس خصوصيتهم ويلبي أحلامهم، إذ وجهوا اهتمامهم لأن تكون الأسلاب التي يحصلون عليها من تمزيق السلطنة عبارة عن فتح باب الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وذلك تمهيداً بالطبع لما حلموا بأن يمثل انبعاث الدولة اليهودية مجدداً ووضع حدّ لمرحلة التيه الطويل الذي تعرضوا له منذ الخروج الأخير على يد بابل. وبالطبع ساعدت عوامل إضافية على تحفيز اليهود، وخصوصاً الروس، للهجرة إلى فلسطين مثل الاضطهاد الذي اشتد عليهم في روسيا بعد اتهامهم بالاشتراك في تدبير مؤامرة اغتيال اسكندر الثاني، قيصر روسيا في العام 1881. وقد توجه اليهود الروس إلى فلسطين لأنهم لم يجدوا في أوروبا ملاذاً آمناً بسبب الاضطهاد الذي كان يقع عليهم هناك، وأيضاً بسبب ما كان معروفاً عن بلاد السلطنة من تسامح يتيح لكافة الأقليات القومية والدينية العيش فيها بسلام وتآخٍ.
من جهتها رأت الدول الأوروبية في تشجيع الهجرة إلى فلسطين نوعاً من التملُّق لأثرياء اليهود الذين كانوا يمدِّون خزائنها بالمال ويمارسون نفوذاً متزايداً في الحياة العامة وإسهاماً في تفتيت السلطنة؛ كما وجدت فيه حلاً غير مباشر للتخفيف من ضغط الأقليات اليهودية في بلدانها. ولعبت الإمبراطورية البريطانية في هذا المجال دوراً خطيراً بسبب مبدأ الاستعماري الشهير غلادستون الذي كان يضمر حقداً على السلطنة، وعلى الوجود الإسلامي في أوروبا وغيره من الساسة الانكليز، مثل رئيس الوزراء اليهودي دزرائيلي، ثم اللورد بلفور صاحب الوعد الشهير بتأسيس كيان قومي ليهود العالم في فلسطين العربية.
إن أحد أبرز الأمثلة على شخصية السلطان عبد الحميد ورؤيته السياسية الواضحة لدور السلطنة ومسؤولياتها، هو مقاومته الحازمة لمشاريع الهجرة اليهودية إلى فلسطين وللتدخلات الأوروبية التي كانت بدأت تضغط لدعم التسلل اليهودي. وعلى الرغم من أن عبد الحميد الثاني كان مدركاً للموقف شبه اليائس للسلطنة، وهو الذي كان يشهد يومياً على التقطيع التدريجي لأوصالها وتناهب ممتلكاتها، فإن ذلك لم يوهنه أو يفت في عضده، إذ استمرت مقاومته لليهود طيلة فترة حكمه الطويل، فأخذت أشكالاً مختلفة وضع فيها عبد الحميد الثاني كل هيبته الشخصية ودهائه، وما كان قد تبقَّى من نفوذ السلطنة ووزنها وقدرتها على المناورة الديبلوماسية لصد التسلل اليهودي إلى فلسطين. ولم يكن موقف هذا السلطان الفذ من هجرة اليهود من منطلق ديني فحسب، بل كان منسجماً مع رؤية متكاملة لرسالة السلطنة ومسؤوليات الخلافة في حماية أرض الإسلام والدفاع عن مقدساته تجاه ما بدا له بمثابة نسخة جديدة من الحروب الصليبية التي تستهدف السيطرة على الشرق وإذلال شعوبه. ومعروف أن السلطان تلقى عروضاً سخية جداً من اليهود وزعمائهم للتضحية بفلسطين العربية، سواء برشوته شخصياً أو بالمساعدة على تسديد كافة ديون السلطنة، لكنه رفضها بإباء واحتقار لأصحابها، بينما كان بعض قادة العرب يرون في ضعف الدولة وتزايد وطأة المؤامرات الأوروبية عليها فرصة للانقلاب عليها بالتعاون مع هؤلاء الأوروبيين طمعاً في ما زيّن في أعينهم على أنه استقلال وعروش، ليتحوَّل بعد ذلك إلى انتداب واحتلال ووصاية ما زالت تبعاتها ماثلة إلى اليوم، وإن تبدَّل الأوصياء حسب المكان والزمان.
لقد كافح السلطان عبد الحميد باستماتة لوقف التسلل اليهودي إلى فلسطين، فأصدر فرمانات عدة حدد فيها إقامة الزوَّار اليهود إلى فلسطين وحرّم بيع الأراضي إلى اليهود حتى ولو كانوا عثمانيين، ثم حوّل فلسطين من ولاية إلى متصرفية ليجعلها تابعة مباشرة للسلطان بحيث يمكنه مراقبة ما يجري فيها يومياً، كما منع السلطان إنشاء جامعة عبرية في القدس. لكن على الرغم من كل هذه الجهود كان تسلل اليهود إلى فلسطين يقوى يوماً بعد يوم، وتكثفت الحركة بصورة خاصة تحت قيادة ليون بنسكر الروسي الذي وضع عملياً أسس الاستيطان اليهودي وفكرة الدولة اليهودية بدعم أوروبي قبل أن يتلقف هذه الفكرة السياسي اليهودي تيودور هرتزل ليحوّلها في “مؤتمر بازل 1897” إلى حركة ليهود العالم باتجاه فلسطين.

كــــان هاجســــه في الداخــــل وقــــف أنصــــار الغــــرب ومناهضــــي السلطنــــة، وفــــي الخــــارج حماية الخلافة وفلسطيــــن والوحــــدة الإسلاميــــة

    كان مقتنعاً بأنَّه من الأفضل أن يتولَّى هو بنفسه دفع عجلة الإصلاح والدفاع عن وجود السلطنة بدلاً من الرضوخ وفي ظروف خطرة للعوائق الدستورية
كان مقتنعاً بأنَّه من الأفضل أن يتولَّى هو بنفسه دفع عجلة الإصلاح والدفاع عن وجود
السلطنة بدلاً من الرضوخ وفي ظروف خطرة للعوائق الدستورية

كــــان هاجســــه في الداخــــل وقــــف أنصــــار الغــــرب ومناهضــــي السلطنــــة، وفــــي الخــــارج حماية الخلافة وفلسطيــــن والوحــــدة الإسلاميــــة

جواب السلطان وانتقام اليهود

معروف أن تيودور هرتزل سعى لمقابلة السلطان عبد الحميد مرتين وأنه عرض عليه في إحداهما رشوة شخصية، إضافة إلى مساعدة اليهود له على الوفاء بكافة ديون السلطنة، مقابل السماح لهم بإنشاء كيان يهودي في فلسطين. وقد سجل هرتزل نفسه في مذكراته هذا الجواب التاريخي الذي بعثه السلطان عبر مساعد هرتزل على النحو التالي:
“انصحوا هرتزل بألا يبذل أي مساع إضافية في هذا الشأن، إذ إنني لا أستطيع التخلي عن شبر واحد من الأرض فهي ليست ملكاً شخصياً لي بل ملك لشعبي، ولقد ناضل شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه. فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت إمبراطوريتي يوماً فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن. أما وأنا حي فإن عمل المبضع في جسدي لأهون عليَّ من أن أرى فلسطين قد بُتِرَت من إمبراطوريتي. وهذا أمر لن يكون. إنني لا أستطيع أن أوافق على تشريح أجسادنا ونحن أحياء”.
هذا الرد الحاسم من السلطان عبد الحميد يقدِّم أبلغ الأدلة على أمر أساسي طالما تجاهله بعض المؤرخين العرب، وهو أن التآمر الغربي على الدولة العثمانية لم يكن فقط بقصد وضع اليد على أرض الخلافة الواسعة وتناهبها، بل كان أحد أهدافه تمهيد السبيل لقيام إسرائيل. وبالفعل فإنَّ رد السلطان كان أشبه بالنبوءة، لأنه كان يشعر فعلاً بتكاثف المؤامرات عليه ويعلم بحدسه أن هذه القوى العالمية الهائلة ستنال يوماً من الإمبراطورية، وأن ذلك سيكون بمثابة المقدمة للغزو اليهودي لفلسطين. وقد نالت تلك القوى أخيراً منه عبر انقلاب جماعة الاتحاد والترقي واليهود والماسونية الدولية عليه في العام 1908 ثمَّ عزله في العام التالي. وهي حادثة مؤلمة بصورة خاصة لأن اليهود تعمَّدوا أن يكون بين أعضاء الوفد الذي أبلغه قرار العزل اليهودي قره صو الذي كان حضر مفاوضات هرتزل مع السلطان وعروضه له، كما سمع رفض السلطان القاطع لتلك العروض. وكأن قره صو ومن خلفه أرادوا أن يشمتوا بسلطان المسلمين ليقولوا له لقد رفضت عروضنا وها نحن نسلِّمك قرار العزل لنريك من هو الأقوى. وكان التأثير الماسوني في الانقلاب العسكري واضحاً في الشعارات التي تبنَّاها أبطاله وهي «الحرية، الإخاء والمساواة»، وهي شعارات الحركة الماسونية.
يذكر أن السلطان عبد الحميد تعرّض قبل ذلك، ونتيجة لجهاده، لمؤامرتين يهوديتين: الأولى، سعت إلى خلعه بعد سنتين من توليه العرش؛ وتمت الثانية، والأكثر جرأة بزعامة رئيس المحفل الماسوني سكالييري لكنها فشلت؛ كما دبَّر اليهود مؤامرة لاغتياله أثناء خروجه من صلاة الجمعة عن طريق سيارة وضعت فيها متفجرة، لكن السلطان نجا من الحادث.
يروي المؤرِّخ التركي أورخان محمد علي هذا المشهد المؤلم لخلع السلطان عبد الحميد على النحو التالي: «دخل الوفد مع الميرالاي غالب بك على السلطان الذي استقبلهم واقفاً، وبادره أسعد باشا قائلاً له: لقد أتينا من قبل مجلس المبعوثان، وهناك فتوى شرعية شريفة، إنَّ الأمة قد عزلتك، ولكن حياتك في آمان. فاعترض السلطان على كلمة «العزل»، وفضَّل استعمال كلمة «الحل». ثم تلا قوله تعالى من سورة يس : }ذلك تقدير العزيز العليم{. ثم التفت إلى الوفد مشيراً إلى «قره صو» اليهودي قائلاً: «ألم تجدوا شخصاً آخر غير هذا اليهودي لكي تبلِّغوا خليفة المسلمين قرار الحل؟».

مراسم عقد الزواج في جبل العرب «بنــت الرجـــال ما بتتشــاور»

مراسم عقد الزواج في جبل العرب
«بنــت الرجـــال ما بتتشــاور»

من أهم عادات الفرح أو الأعراس في جبل العرب، عقد القران، الذي يقام في منزل والد العروس، وبحضور رجال الدين، وهو ما يسمى “العقد” أو “عقد المشايخ”. وفي هذا العقد تنيب العروس شاهداً عنها، كما ينيب العريس شاهداً عنه، ويدعى كل من الشاهدين “وكيلاً” ويذهب وكيل العروس إلى الغرفة الموجودة فيها العروس ويخاطبها علناً أمام نساء القرية: “والدك خطّبك لفلان إنتي شو بتقولي؟ فتجيبه العروس: “بنت الرجال ما بتتشاور”، وإذا كانت موافقة تقدم له سواراً فضياً علامة الموافقة، ولا يجوز أن يكون السوار من الذهب، للاعتقاد بأن الفضة ميمونة الطالع، وبعد عودة الوكيل بالسوار تبدأ مراسم عقد القران. وخلالها يجلس المأذون أو المكلف بعقد القران من رجال الدين مستقبلاً القبلة، ويجلس وكيل المخطوبة عن يمينه ووكيل الخطيب عن شماله، ويشبكان يديهما اليسريين مع بعضهما على طريقة التصافح بالأيدي، ويربطان إبهاميهما بسوار المخطوبة، ويغطيان يديهما بمنديلها حتى نهاية صورة العقد، ثم يستأذن الحضور بعقد القران.
يسأل المأذون بعقد القران وكيل الخطيبة قائلاً: “أنت وكيل الزوجة؟ يجيب: نعم، وأنت وكيل الزوج؟ يجيب الآخر: نعم، ثم يسأل وكيل الزوجة: أزوجت موكلتك فلانة بنت فلان، البنت البكر، “وإذا كانت المخطوبة متزوجة من قبل فيقال المرأة الثيب” البالغ الخالية من الموانع الشرعية لموكل هذا الرجل فلان بن فلان، على الشروط المتفق عليها من مهر متقدم كسوة لبدنها وإصلاحاً لشأنها، وصداق قد تراضيتم عليه إلى حين الطلاق والفراق على سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ يجيب نعم، وأنت رضيت؟ يجيب: “نعم”.
ويبدأ عقد القران بقراءة الفاتحة “الحمد لله رب العالمين”، ثم يكرر ثلاث مرات سورة “قل هو الله أحد”، ثم سورة “قل أعوذ برب الفلق”، وسورة “قل أعوذ برب الناس”، ثم الآية القرآنية “إنا أنزلناه في ليلة القدر”، ثم خطبة الزواج وهي “بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الخبير بما صنع، اللطيف بما بدع، الكريم بما أعطى ومنع، الذي وصل شمل المتباعدين وجمع، أحمده حمد من آمن بربوبيته وقنع، وسلامه وصلواته على رسوله وآله أئمة الهدى ومصابيح الدجى ما ترنم طائر وسجع، وسلم تسليماً ما أضاء صبح وبرق لمع.
أما بعد، فإن الله قد سن سنة الزواج وبثها وحللها، وجعلها سنة من سنن الأنبياء، وشرعة من شرع الصالحين الأتقياء، وصوناً عن الفحشاء، ووقاية من رب الأرض والسماء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا رهبانية في الإسلام”، وقال تعالى: “ومن كل شيء خلقنا زوجين”، “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودَّة ورحمة”، وقال تعالى: “والطيِّبات للطيِّبين والطيِّبون للطيِّبات”، فسبحان من جعل البعيد قريباً، والغريب صهراً ونسيباً، وقال سيد تهامة، المظلل بالغمامة، والمتوّج بتاج العز والبهاء والكرامة: “يا أمتي تزاوجوا تناسلوا تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة”، وقد صار اجتماعنا ها هنا لأمر قدره الله وقضاه، وحكم به وأمضاه، وقارنه بالسعد والتوفيق في أوله وأوسطه ومنتهاه، فأسأله تعالى أن يلقي بين الزوجين المحبة والوداد (وهنا يردد الحضور آمين بعد كل دعاء)، وأن يرزقهما النسل الصالح من الأولاد، وأن يريهما الأحفاد، وأن يوسّع عليهما الرزق، وأن يحفظهما من مكايد الخلق، وأن يبارك هذا العقد الميمون إن شاء الله”.
بعدها يقدّم أهل العريس الحلوى للحضور، رجالاً ونساء، ويتبادلون التهاني والتبريكات للعريس وأهله.

الشباب والعيش فوق خط الزلازل –

الشبــاب، والعيــــش فــــوق خــــطّ الــــزلازل

قاعـــــدة الإصـــــلاح أن يبـــــدأ الإنســـــان بنفســـــه
والتمـــــرّد الـــــذي لا ينشـــــد الحقيقـــــة قـــــوة هدّامـــــة

الحـــــروب والفوضـــــى تهـــــدم ثقـــــة الشبـــــاب بالمستقبـــــل،
وقـــــد تـــــدفع بالبعـــــض للهـــــرب نحـــــو الإدمـــــان والعبثيـــــة

لم يتعرّض جيل لما يتعرّض له شباب هذه المرحلة من تحوّلات كونية وجيشان سياسي واجتماعي وقيمي في كل مكان، ومن هجوم غير مسبوق للصورة والأفكار غثها وسمينها. فكيف يختط شباب اليوم طريقه وسط هذه الغابة الكثيفة وطرقها الكثيرة الملتوية، التي غالباً ما تؤدي إلى متاهات مميتة؟ كيف يحفظ نفسه من الضياع ويحقق فعلاً كل طاقاته الخيرة والنافعة لتقدمه الشخصي، وكذلك بتقدم مجتمعه؟ الشيخ غسان الحلبي يعرض هنا ومن تجربته الشخصية لتأملات في الدوامة المعاصرة والسبل الممكنة للتفلت منها وتحقيق تطور صحي فكري وروحي للفرد، وخصوصاً لجيل الشباب.

تمحورت الأسئلة العميقة التي كانت تدور في الرأس، منذ سنّ اليفاع في الستينات، حول العالم الذي يُرى ولا يفهم منه الكثير. كان الصراع محتدماً في الأساس بين الأفكار السياسيَّة التي جعلتها بعض الأحزاب آنذاك ايديولوجيَّة شموليَّة، وبعضها الآخر قوميَّة إقليمية، وبعضها طائفيّة وطنيَّة اعتقدت اعتقاداً راسخاً بوجودٍ ميتافيزيقي لبلد الرب لبنان. وكان السّلاحُ الفلسطينيُّ في ضفَّةٍ عروس الأبطال، وفي الضفَّة الأخرى سمّ الأفعى الذي يهدد بالتهام بلد الأرز. وكان العديد من المناطق الجبليَّة والريفيَّة من الشمال إلى الجنوب، وتحت رايات «اليسار» و«اليمين»، يفرّخ معسكرات التدريب والتعبئة استعداداً للدفاع عن القضية المقدَّسة، وكان لكلِّ طرفٍ قضيّته المقدَّسة التي يهون لأجلها بذل العرق والدماء والنفوس المسكونةِ بهواجس تاريخ ملتبس.
اندلعت الحرب وبدت في أيامها الأولى عرضاً مثيراً للبعض، مثل لعبة «أبطال وحرامية». مسؤولون قالوا: يومان أو ثلاثة وننتهي من «الانعزالية». وانتشر السلاح في الأزقّة والأحياء كالفِطر في غابةٍ ملعونة. نعم، خلال يومين أو ثلاثة بات كلّ شيءٍ مستباحاً، لكنّ «الانعزاليين» ردّوا الصاع بأكثر من صاعين. هكذا، انزلقت البلاد بالتدريج –أو ربما دفعت دفعاً- في أتون رهيب من الفوضى والعبث والجولات القتاليَّة والحروب. دخل المقاتلون «هادس» أي عالم الموتى، بحثاً عن انتصارات صغرى يداوون بها جراح الهزائم الكبرى. صاروا كما قال أحدهم آنذاك: «أجساد تتفجَّرُ موتاً.. علّها تصبحُ صوتاً». أصوات مكبوتة سرعان ما تحول أصحابها إلى صور وملصقات على حيطان المدن المذعورة. وكم ابتلعت تلك الملصقات من وجوه الأصدقاء والرفاق والغرباء، وكم من الأبرياء وعابري الطريق ماتوا أيضاً لكن من دون ملصقات أو حتى ورق تذكر فيه عن أخبارهم.
في دويّ القذائف وزخّات الرصاص، وبإزاء الأجساد الممزّقة والأسواق المحترقة والمباني المهدّمة والميادين والحدائق التي انقلبت خطوط فصل وتماس، رأينا قعرَ العالم، وكم كان ذاك القعر حالكاً غوير السواد. تبدَّت الحقيقةُ المفجعة كشمسٍ سوداء: لقد تخلَّى عنّا العالم وحوّل بلدنا الجميل إلى مكبّ لحروبه وفي الأحياء الواجفة تحت القصف العشوائي، وفي الشوارع المفخَّخة وبين سيارات الموت وقطعان المسلَّحين الهائجين المتربّصين بكلِّ ما هو “آخر”، والمستعدِّين ولمجرد “كلمة واقفة”إلى تحويل الحيّ إلى ساحة قتال. استفقنا يومها برعب على أمر واقع جديد، شهدنا بأم أعيننا الحياة التي سيتعين علينا أن نحياها صاغرين بحضور عيانيّ لملك الموت.
بات الانهـيار قدراً متواصلاً ترسَّخ على مدى خمسة عشر عاماً، نشطت فيها الحرب وماكينة القتل والهدم بشكل متواتر، تتخلّله قفزات مجنونة عند كلّ منعطفٍ كبير. عبّأ الموتى هول الوقت بجنائزهم وأربعيناتهم واستذكار تضحياتهم بشكل يغذي عصبـيات الثأر وحكايا بطولاتٍ غائرة في عتمة زمن من “خارج الحياة”. هكذا، في غمار وطءٍ راعِب لا نهاية له، تهافتَ كلّ شيء.
شهدَ الشارعُ مذّاك التحوّلات الكبرى التي أصابت – وستصيب – المجتمع بآفاتٍ مستعصِية. فقد راجت أنواعٌ كثيرة من المخدِّرات في أجواء الرعب والقلق والضغوط النفسيَّة، وسيطرت ثقافة العنف والسلاح وانسداد الآفاق والحاجة إلى الهرب من الواقع الموجع. لم يعدّ الإدمان حالة شاذّة، بل تحوَّل إلى وباء تفشّى في كلِّ وسَط وفقاً لطقوسِ الأمزجة والمكانة الاجتماعية.
لبث لبنان وشعبه في قعر الجبّ سنوات طوال. كان العالم من حوله يتغيَّر وينقلب في كلّ اتّجاه. انهار الاتحاد السوفياتي وسقط جدار برلين وتراجعت حدة العدائية والمنافسة بين المعسكرَين الجبّارين. وتبدّد الحلم الشيوعي الذي بدا أكثر فأكثر طوباوياً بعيداً كل البعد عن الواقعيَّة ومناقضاً للطبيعة الإنسانية، وتزامنَ ذلك مع تنامي صعود الحركات الإسلامية في ساحات العمل السياسي الطامح إلى تغيير أوضاع أمَّة مأزومة.
في تلك الأثناء أدَّت ثورة الاتصالات الحديثة في ناحيةٍ أساسيَّة منها إلى «عولمة» النموذج الغربي في فهم الحياة المعاصرة، وإلى الدفع بقوَّة، في كلِّ الميادين، نحو «الانفكاك» من أنماط السلوك الموروثة. واكتسحَت «الصورة»، التي يسيطر على «صناعتها» الغربُ بنسبةٍ ساحقة، أبصارَ «الجماهير» وبصائرها، بشكلٍ يؤدّي أيضاً إلى تغيير مفاهيم علاقة الإنسان بذاته وجسده، وبعائلته ومجتمعه، وبالعالَم من حوله، وإلى اتّساع الهوَّة بين الأجيال، وإلى تغييرات جذريَّة في حقول السلوكيّات الاجتماعيَّة، والنشاطات الثقافيَّة، والأساليب التربويَّة والترفيهيَّة، في الوقت الذي ترزحُ فيها مجتمعاتنا تحت وطأة تخلُّفٍ مُزمن ذي شبكات قروسطيَّة معقَّدة.
ورهَّلت الحربُ بُنية المؤسّسات في كافّة القطاعات، ولاسيّما منها تلك المولِّدة لفاعليّات المجتمع المدني. وتجذّرت أزمة الحكم نتيجة الخلافات السياسيَّة، والولاءات الطائفيَّة. وبات الاقتصاد الوطني رازحاً تحت وطأة أعباءٍ قاصمة. وصارت وسائل الإعلام، بارتهانها الكامل للاصطفافات السياسيَّة، عامل شحن للعصبيّات، ومصادر مؤكَّدة للتعبئة ورفع منسوب التوتّر اليوميّ.
لا غرو إذاً أن تعصفَ الشكوك بعقول الأجيال الصاعدة نتيجة «العيش فوق خطّ الزلازل»، وصورة مستقبل الحياة محدقة بأخطار كبرى أقلها البطالة، وغلاء المعيشة، وندرة مؤسّسات «الأمان الاجتماعي»، وهشاشة الأمن. في خضمّ هذه الأحوال تكثر الشكوك، وبالتالي الأسئلة بدءاً بمعنى الهويَّة الوطنيَّة، وصولاً إلى سؤال المصير. وإزاء الضحالة الثقافيّة تتعمَّق الأزمات، بل والأخطار المرتبطة بانحلال القيَم، وتفشِّي الإدمان، والتردِّي في السوداوية المودية إلى تفكّك الروابط. كلّ هذا يبرز الضرورة القصوى للحثّ على النهوض، والدعوة إلى استنهاض الهمم في شتّى المجالات. إنّ أصحابَ «الحلّ والربط والمقدرة» في مجتمعنا مُطالَبون بدعم الأندية الثقافيَّة، والمشاريع الإنمائيَّة، والمؤسّسات الاجتماعيّة الخيريَّة والرياضيَّة، ومراكز البحوث والدراسات، والمبادرات «الشبابيَّة» الهادفة إلى دفع عجلة النهوض قدُماً. فبهذا التوجُّه يتصدّى المجتمع الحيّ لأزماتِه الحياتيَّة، ولئن «يضيءُ المرءُ شمعة أفضل من أن يلعن الظلام».
مهما تبدَّت ظروفُ الحياة عن صورةٍ معقَّدة، وصعوبات شائكة، وأخطار مُحتملة، فإنَّ في الروح الشبابيَّة قوَّةً وإمكانات قادرة في معظم الحالات على اتّخاذ خِيار المواجهة والمبادرة إلى العمل المثمر. لدى الشباب الفرصة السانحة لأيِّ خِيار يستحقّونه. لديهم العمر الغض والعقل اليافع، يعني الوقت المناسب لبناء ما يحصِّنون به أنفسَهم ضد أنفسهم (يعني النفس العاقلة ضدّ الإمّارة بالسّوء)، وهذا يعني أن يكون لهم العقل الممتلئ بالمعرفة والثقافة والنباهة لكي يفهموا، من جملة ما يفهمونه، الواقع وإشكالاته، والصّورة وما خلفها، وما هو موقعهم منها كلّ على قدر طاقته من الاجتهاد والطموح الأعلى والتطلع إلى ما هو أجل وأسمى من اللهو الخالص.
المستقبلُ الحقيقي لكلِّ شاب يكمنُ في ما تكتنزهُ بصيرتُه من وعي يتجاوز به الظواهر، ويلتقط الجوهريّ. المستقبل حيث يمكن لكلِّ شاب، منذ الآن، أن يباشرَ شيئاً فشيئاً، ببناء تلك القوّة العقلية القادرة على تأمل ذلك السيل المتدفق من الصُّور والأحداث والصعوبات، والذي بلا أدنى شك سوف يزداد اندفاعاً في تدفقه يوماً بعد يوم.
على كلِّ شاب أن يُحسنَ قراءة ما يقرأ (دراسة وثقافة)، يعني أن يعقلَه أيضاً. أن يُحسنَ الإصغاء لكل حديث مفيد، سواء أكان في قاعات الدرس أو في أي مكان آخَر. أن يعلمَ أنَّ المعرفة قوّة وطاقة Power، وأنَّ الدول التي تملك زِمام القرار في هذا العالم هي التي تملك المعرفة. ولكن، في الوقت نفسه، عليه أن يرذلَ كلّ سخافة وكل سطحيّة وكل ادّعاء كاذب لا يستقيمُ فوق أساس منطقي. أن يرذلَ كلَّ ما يخدع النَّفس بعدم السّماح لكلِّ ما هو خدّاع مزيّف من القول أو من الفكر أو من الصور من الاستيلاء على عقله وأفكاره وروحه، لأنَّ جمالَ الحقيقة لا يُساكِن أبداً أسربة الضلال.
لنتذكر دائماً أنَّ العلمَ لا يعني اكتساب ما يُمكـن من منافسة الآخرين واحتلال المناصب والفوز بعمل يدرّ القدر الأكبر من المال. إنَّ ما هو أرقى للإنسان وللعِلم الذي يجب أن يستزيدَ منه أيّ شاب عاقل في كلِّ يوم، هو أن يبني في ذاته حصناً معنوياً مكوِّناً لشخصيَّة إنسانية تعرفُ تماماً ما تريد، لا لخدمة أناها Ego بل لتكون فاعلاً خيِّراً في مجتمعها عاملة على تثبيت عوامل النهضة فيه، وبذلك لن يصيرَ الشباب المعاصر جيلاً مهزوماً على شاكلة ما رأيناه.
ولا يمكن لهذا المنحى أن يستقيم من دون أن يعي الشباب في ذاته الأهمية الجوهريّة للفضيلة من حيث هي الخميرة القادرة على تحويل الوضيع في الإنسان إلى رفعة، والخسيس فيه إلى إرادة ثمينة، والبخس إلى ذهبٍ خالص هو ذهب التوازن الداخلي الذي يصيِّرُ الناس أسوياء.
تتحقَّق الذات الشريفة بالفضيلة حين لا يدفعها التمرّد إلى نبذ الماضي والحاضر بشكل عشوائي تحت شعار “الحرّيَّة”. من الواجب أوّلاً فهم الواقع على حقيقته وليس كما يتأتى إلينا عِبر انطباعات سريعة خاطئة. والواقع هنا يعني أيضاً “الكنف” الذي انوجد المرءُ فيه بحكم الولادة، وهو يشمل العائلة والمجتمع والنظام التربوي والهوية الثقافية والفكرية وقبل أي شيء آخر: الروحية. إذا اكتسح التمرّدُ حبّ الحقيقة يصبح هدّاماً لأنه يقود صاحبه إلى العبَث والفوضى (الإهمال والكسل والإدمان واكتساب العادات السيّئة إلخ…)، أما إذا تحوّل هذا النزوع إلى إرادة إصلاح بات “طاقة” حيويَّة في حقل “النهوض” الاجتماعي، وقاعدة الإصلاح الحقيقي الفاعل هو أن يبدأ المرءُ بإصلاح نفسه. إنّ هذا الأصل يُبنى في أساس الشخصيّة الإنسانيَّة الواعدة في البدء بزرع بذار الوعي في تربة الروح.
إزاء خطر الفوضى الذي يهدِّدنا، فإن لدى الشباب فرصة الحياة عينها وما تمنحه للمرء من إمكان بناء شخصيِّة قادرة على مجابهة الصعاب مهما تعاظمت. قرأتُ يوماً الأحرف الصغيرة لجملةٍ موضوعة في أعلى المدخل إلى الحيّ الصيني في مدينة سيدني: “اعرف الفضيلة، وثِق بها”. نعم، يحتاج المرءُ إلى المعرفة ليفهم الأهميَّة الجوهريَّة لقيمة الفضيلة. إذَاك، فهو أمام خِيار مصيريّ: إمّا أن يستثـقلها، وإما أن يثق بها. إنّ الذين استثقلوها أوصلوا العالم إلى الحروب والصراعات وتأليه المصالح الذاتيّة وعبادة الثروة السريعة واسترقاق الإنسان، أمّا الَّذين وثقوا بها واختاروها سبيلاً لتحقيق الذات فإنَّهم، على الأقل، أبقوا نورَ الإنسانيَّة مضاءً في مكان ما من هذا العالم.

استفتاء الضحى الشبابية حول انعكاسات الدرس في جامعات بعيدة

قضايا ومشكلات الدراسة في جامعات بعيدة
الموازنـــة الصعبــة بيــن تلبيــة الطمــوح
وبيــن الحفــاظ على ثوابــت السلــوك والهويــة

التحــديــــــات:

> الانتقــال المفاجـئ مـن رقابــة الأهــل إلــى الحــرية والسكــن المستقــل
يعــــرّض الكثيريـــن لمزالـــق وقـــد يزعـــزع ثوابـــت السلـــوك

> الشبــاب يحـنّ إلـى الأهـل واللقمــة الطيبـــة فــي البيـــت
ويكــره الوحــدة وعــبء المواصــلات و”الشنططــة”

> تزايــد الاتجــاه لفتــح فــروع جامعيــة فــي المناطــق
توفــر علــى الطــلاب المــال والمشقــة والمتاعــب النفسيــة

بيروت: “الضحى الشبابية”

الشباب الدرزي موّزع بين الطموح إلى تحصيل التعليم العالي في جامعة جيدة كضمان لمستقبل مهني ومالي آمن، وبين المجازفة بالسفر بعيداً عن الأهل وتحمل المشقة وفي الوقت نفسه التعرض لإغراء الاستخدام غير المسؤول للحرية والعيش بعيداً عن رقابة الأهل والعائلة الأوسع المتمثلة بالقرية والأقارب والبيئة الدرزية. هذه الحيرة تبدو واضحة في التأرجح بين التشديد على أهمية التعليم وفي الوقت نفسه التحدث عن السلبيات الكثيرة التي تطرأ على سلوك الشباب والشابات عند سكنهم لوحدهم بعيداً عن الأهل والمشقات والتكلفة الكبيرة التي يتكبدونها في سبيل أن يتعلموا في الجامعة التي توفر لهم الاختصاص الذي يرغبون في إنجازه.
في هذا الاستفتاء السريع الذي أجرته “الضحى الشبابية” بين أوساط الطلاب والطالبات الدروز الذين يتعلمون في جامعات تقع في بيروت أو في الجامعة اللبنانية، خلاصة لأجوبة سريعة على 10 أسئلة أردنا من خلالها تكوين فكرة عن تجربة الطلاب والطالبات بعيداً عن أهلهم، وكيف يقيِّمونها هم من خلال اختبارهم الشخصي أو ما يلاحظونه حولهم وفي سلوك إخوانهم.
جميع الطلبة الدروز الذين يدرسون بعيداً عن الأسرة ويعيشون بالتالي حرية جديدة لم تكن متوافرة لهم في السابق، يعتقدون أن الواقع الجديد يؤثر سلباً على سلوكيات العديد من الشباب والشابات وإن بصورة متفاوتة. ففي إحدى الإجابات إشارة إلى “استغلال الحرية والبعد عن الأهل” وفي إشارة ثانية إلى ” التمدّن على حساب الأخلاق” أو مشكلة التأخر في السهر أو معشر السوء: أضف إلى ذلك الحنين إلى بيت الأهل وإلى اللقمة الطيبة في البيت والشعور بالوحدة ومشقة المواصلات في الذهاب والإياب بين المناطق.
الملفت أن قسماً مهماً من الإجابات اعتبر “تلبية الطموح” أولوية مما يعني أنه يستأهل المخاطرة بالآثار الجانبية التي تنجم عن السكن المستقل في بيئة المدينة بعيداً عن الأهل. وهذا يوضح أن هناك تشوشاً في تقييم الموضوع وأن الاندفاع وراء الطموح بات أقوى من أن يسمح بتقييم موضوعي وبعيد النظر للمسائل. إننا إذ نعرض ما يلي لإجابات الطلبة نوّد مع ذلك أن نسجل الملاحظات التالية:
1. إن سكن الطالبات المستقل موضوع غير مقبول في البيئة المحافظة للموحدين الدروز، على الرغم من أن نسبة متزايدة من الأهل أصبحوا يتقبلونه. وهذا يعني أن من المفضل للفتيات السعي للدراسة في جامعات قريبة بحيث يرجعن إلى المنزل في كل يوم. وهذا ما لم يكن للأهل منزل آخر في بيروت أو تكون الفتاة برفقة الأخ الشقيق أو الأخت ويكون سكنها مع فرد منهم فقط. ويعني ذلك أن الفتاة المحافظة تختار بالأولوية البقاء في بيت الأهل والتعلم في جامعة قريبة، حتى ولو اضطرت لاختيار تخصص آخر غير الذي قد ترغب به. لأن الحفاظ على الهوية والنفس هو الجوهر، أما التخصصات فهي فروع. ولا يعقل إخضاع الأصل للفروع.
2. إن الموحدين من أهل الإيمان شباناً وشابات يعلمون أن التوفيق في الحياة يأتي من أمور كثيرة، أهمها التوكل الحقيقي على الله في كل شيء، ثم الانسجام مع النفس والعيش وفق القناعات الشخصية وعدم المساومة عليها واحترام الأهل والاعتناء بصحة الفرد عبر اجتناب الأمور الضارة مثل التدخين والكحول وغيرهما. أما الشهادة العلمية فلا تغني عن ما سبق، بل غالباً ما يكون النجاح رهن عوامل أخرى مثل تراكم الخبرة والجد في العمل والاستقامة المهنية وغيرها.
3. إن الركض وراء الجامعات المعروفة في بيروت خصوصاً، غالباً ما يتم بتأثير الطموح الشخصي الاجتماعي من دون النظر إلى وضع الأهل، وهناك ضغوط قوية توضع على الوالدين بشأن التسجيل في تلك الجامعات والعيش المستقل في بيروت. وبالطبع فإن الطموح مشروع لكن على كل منّا الموازنة بينه وبين ما هو ممكن واقعياً في ظروف الأهل وهذا ما لم يتمكن الطالب من الحصول على منحة دراسية من إحدى المؤسسات المانحة (راجع التحقيق الخاص بالمنح في هذا العدد من “الضحى الشبابية”).
4. إن الجبل بات يشهد قيام جامعات محترمة مثل الجامعة اللبنانية في دير القمر أو جامعة اللويزة في الشوف وجامعة البلمند التي يتوقع أن تقوم قريباً في منطقة عاليه وكذلك الجامعة الداودية في عبيه إضافة إلى مشروع فتح فرع للجامعة اللبنانية في راشيا، وهذا فضلاً عن عدد من الجامعات الخاصة. والمنطق السليم يقضي بالسعي للتعلم في تلك الجامعات لأنها توفر مناخاً صحياً للتعليم في إطار المنطقة وبالقرب من الأهل، ولأن أكثر هذه الجامعات يتوافر فيها مستوى جيداً من التعليم والتأهيل للمستقبل. بل يمكن القول إن وجود الجامعة القريبة يحل المشكلة حتى ولو لم يحصل الطالب على منحة دراسية، لأنه يسمح ببقاء الطلاب في منزل العائلة ويوفر عليهم مبالغ ضخمة تدفع في بيروت للسكن والطعام والتسلية وغيرها.

“الضحى الشبابية” أجرت بعض المقابلات مع عدد من الطلاب والطالبات الذين يدرسون في جامعات العاصمة أو في الجامعة اللبنانية في الحدث، وخرجت بهذه الصورة التي تعكس أهم القضايا التي تثيرها الدراسة بعيداً عن المنزل الأسري:

أيمن شرف الدين
أيمن شرف الدين

أيمن شرف الدين (السمقانية – الشوف) يدرس إدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية الدولية LIU يقول إن “الظروف والصدف شاءت أن أتسجّل في جامعتي هذه”، وأبرز النتائج في نظره هي الاستيقاظ باكراً وصعوبة المواصلات وضرورة الاعتماد على النفس والبعد عن الأهل والأصدقاء”، ما هي النتيجة التي خرجت بها من تجربتك؟ يجيب “أهم الإيجابيات هي التعرّف على أناس ومجتمعات جديدة، والانخراط في أجواء تساعدني على التعرف على المجتمع الأوسع وتكوين شخصيّتي المستقلّة”. وهو لذلك أصبح أكثر انفتاحاً على الآخر ولكن، وفي الوقت نفسه، أكثر الماماً بما يميزه عن الثقافات الأخرى أي “أن التعرف على الآخر هو في أحيان كثيرة وسيلة تعرف بها نفسك بصورة أفضل”، على حدّ قوله.

بهاء ابو شقرا
بهاء ابو شقرا

بهاء أبو شقرا (عمَّاطور – الشوف) يدرس المحاسبة في جامعة MUBS يقول إنه اختار الجامعة التي يدرس فيها “لأسباب مادية”، علماً أن شقيقه أيضاً يدرس فيها. وهو يوافق على أن الصعوبات تكمن في العيش بعيداً عن الأهل والأصدقاء. لكنه لا يواجه صعوبة في الانخراط في أيّ جوّ كان، بل على العكس “أرى ذلك شيئاً ايجابيّاًً لبناء شخصيّتي”. يلاحظ مع ذلك أنه “لا توجد عند الجميع المؤهلات الكافية للعيش باستقلالية بدليل انجراف البعض إلى أمور غير مستحبّة”.

الطالبة غنوة (راشيا) تدرس في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية، تشكو من أن الدرس بعيداً عن الأسرة والمنزل يزعجها كثيراً لأن المسافة بعيدة جدّاً مما يضطرها للسكن إلى جانب الجامعة. لكن في أيّام الشتاء قد لا نتمكن من الوصول إلى البيت بسبب الثلوج على “ضهر البيدر”…يعني “شنططة لال ماكسيموم”. هل ترين مثل زميلك إيجابيات في الدرس بعيداً عن الاسرة؟ تسارع إلى القول “لا أرى أي ايجابيات بل الوضع كله سلبي” لأنّني لا أنسجم مع “مجتمع الجامعة” كثيراً وأشعر بأنّني غريبة، ولهذا فإن علاقتي محصورة برفاقي الذين كانوا معي في الثانويّة ونزلنا معاً إلى بيروت. لكن البعض يقول إنه يشعر بالاستقلالية أو الحرية الشخصية؟ تجيب: “لا توجد حرّيّة، هناك مسؤولية لأنني مسؤولة عن نفسي في الجامعة وفي السكن وعلى الطريق”. هل هناك سلبيات إذاً؟ “نعم. العديد من الشباب ينجرّ وراء مجتمع “لا يشبه مجتمعنا كدروز”، ويتصرّفون بشكل غير مقبول، شخصياً لم تتغيّر نظرتي. فأنا لم أزل كما كنت متمسّكة بهويّتي الدرزيّة وفخورة بها. وبالطبع، كنت أفضل لو درست في جامعة قريبة في المنطقة لأن ذلك يوفر عليّ الكثير من التعب الجسديّ و النفسيّ”.

عُلا شاذبك (بعذران – الشوف) تدرس الكيمياء في الجامعة اللبنانية، تقول إنها كانت تفضِّل لو أنها وجدت جامعة في الاختصاص الذي ترغب فيه في منطقتها. لكن وجود سكن للطالبات خفف من مشاكل بعد الجامعات عن السكن. أبرز الصعوبات التي تواجهها هي حمل متاعها في وسائل النقل العام كل أسبوع وما يولده من مشقة خصوصاً في موسم الشتاء. هل تشعرين بدرجة أكبر من الحرية؟ “على العكس حريتي هنا مقيّدة أكثر لأنّني مسؤولة عن المحافظة على مبادئي وثقة أهلي”. وهل يؤثر الدرس بعيداً عن جو المنطقة في سلوك الشباب؟ “نعم يؤثّر في الأكثرية منهم لأنهم يحاولون التمدّن على حساب القيم والعادات المعمول بها في مجتمعهم. والنتيجة هي أنني أصبحت أكثر تمسّكاً بهويّتي، إذ إنّني اكتشفت حجم المشاكل وكذلك حجم الفوارق في السلوك بيننا وبين البيئة السائدة في المدينة وفي الجامعة”.

ربيع حميدان
ربيع حميدان

ربيع حميدان (بعقلين – الشوف) يدرس في كلية الهندسة في الجامعة اللبنانية، لا يرى إيجابيات في الدرس بعيداً عن منطقة سكن الطالب أو الطالبة. لكنه اضطر للمجيء إلى الحدث بسبب عدم وجود الاختصاص المطلوب في جامعة قريبة. تزعجه المسافة والبعد عن الأهل، وكذلك الاختلاف في القيم والسلوك والتربية والأشخاص.هل غير الوضع الجديد في سلوك الشباب الدروز؟ لا يعتقد ربيع أن السكن وحده هو العامل، بل التربية والشخصية لأن الذي يميل للانجراف سينجرف حتى لو كان في جامعة قريبة. ويوضح أخيراً أنه أصبح أكثر انفتاحاً لكن في الوقت نفسه أكثر تمسكاً بهويته “لأن هويّتي هي الوحيدة التي تعرّف عنّي ولأن سؤال الآخرين لي عن هويتي وانتمائي دفعني إلى التعرّف على جذوري والإلمام بها بصورة أفضل من قبل..”.

شذا دلال (راشيا) تدرس في كلية الهندسة في الجامعة اللبنانية، تقول إن شخصيّة الفرد مهمة في تحديد إذا كان السكن بعيداً يؤذيه أو يوسع آفاقه لكن الصحبة أيضاً مهمة جداً وعلى الطالب أن يختار جيداً من يعاشر. مجيئها إلى الحدث سببه أنها تحب دون أن يكون هناك الهندسة فرع قريب للجامعة اللبنانية في المنطقة. يزعجها التعب والمشاكل في السكن والمواصلات.لكن التعرّف على مجتمع جديد أنضج شخصيتها. وبشكل عام كبرت المسؤوليّة بالنسبة لها لأنها وحيدة وعليها أن تعتمد على نفسها في كل شيء. وفي النتيجة فإن شذا ومع انفتاحها على الغير أصبحت أكثر تمسكّاً بهويّتها لأنّها أصبحت تعرف معنى أن تكون درزيّة وكيف يجب أن تحافظ على هذه الهويّة.

زينة نصر الدين (غريفة – الشوف) تدرس الصحة العامة في الجامعة الأميركية، تشعر بعدم الاستقرار نتيجة العيش والتنقّل بين منزلين، فضلاً عن صعوبة التنقّل مع الحقائب أسبوعيّاً ونقل الطعام والثياب والكتب. أفضل ما كسبته هو “زيادة الاعتماد على النفس والثقة بالنفس، التعرّف على زميلات في السكن والتفاعل معهن، التعرف والاحتكاك بمجتمع متنوّع”. وهذا لا ينفي أن الشخص ينسجم أكثر مع أبناء منطقته وبسبب وجود الكثير من الأشياء المشتركة والتقارب في طريقة التفكير”
هل تخشين على هويتك؟ «بما أنّني أسكن مع طالبات دروز فمن المؤكّد أن هذا سيساهم بتمسّكي بهويّتي. وحتّى عندما كنت أسكن مع طالبات غير درزيّات، كنت متمسّكة بشدّة بهويّتي الدرزيّة، فالإنسان قادر على الانفتاح على البيئات المختلفة والتعرّف عليها واحترامها مع تمسّكه بهويّته».
هل الكل ينجح في ذلك؟ «كلا مع الأسف، فهناك قسم كبير من الشبان والشابات الدروز يتأثّرون كثيراً بالبيئات الجديدة لدرجة أنّ بعضهم يصبح كالذي يخجل بانتمائه إلى الجبل مثلاً، كما أن البعض قد يتأثّر حتّى في معتقده الديني بالبيئات الجديدة”.

زينة أبو كروم
زينة أبو كروم

زينة أبو كروم (مزرعة الشوف) سنة خامسة هندسة مدنية في الجامعة اللبنانية، لا ترى عوامل إيجابية في الدراسة بعيداً عن الأسرة والمنطقة وتقول إنها تفتقد الأهل مؤكدة أن السكن المستقل “يجلب المشاكل”. وتقول إنها اضطرت إلى الانتقال بعيداً عن الأسرة بسبب عدم وجود الاختصاص في جامعة قريبة. وهي تشكو بعد المسافة ومشقة التنقل، الأمر الذي اضطرها للسكن في سكن الطلاب في الجامعة. تقول أخيرا ًًأنها أصبحت أكثر انفتاحاً ومتقبلة للآخر، وفي الوقت نفسه أكثر تمسكاً بهويتها الروحية والثقافية والتي “لم تكن عائقاً أمام تقبلي للآخرين”.

مجد فياض
مجد فياض

مجد فياض ( صوفر) سنة رابعة هندسة ميكانيك في الجامعة اللبنانية، يقول «إن السكن بعيداً زادني تمسكاً بالهوية لأن الهوية تصبح أقوى وسيلة للحفاظ على شخصيتك وعدم الاضمحلال في الجو الجديد. أهم الصعوبات في نظره هي البعد عن الأهل، وضرورة تحمُّل الشخص لمسؤوليته عن نفسه بما في ذلك إعداد طعامه والاهتمام بشؤونه. لذلك فإن الوضع سيكون أفضل «لو كانت الجامعة في منطقتي وقريبة من قريتي». هل ترى تأثيراً للسكن المستقل على سلوك الطلاب؟ يجيب بالقول «هناك من يتأثر سلباً، ومنهم من يتأثر إيجاباً. فالبعض يتقرَّب من مجتمعه ودينه أكثر عند التعاطي مع مجتمعات أخرى والبعض الآخر، وبحسب الجامعات وجوِّها، قد يتأثر سلباً”.

 

 

باسل ملاعب
باسل ملاعب

باسل ملاعب (بيصور – عاليه) يدرس الصحة العامة في الجامعة الأميركية في بيروت، يقول “إن الجامعة الأميركية كانت فرصة لي كي أطور شهادتي وأحصل على الماجستير، وجميعنا يعلم مستوى الجامعة الأميركية”. فهو لم يجد صعوبة في الدرس بعيداً إذ وجد منزلاً قريباً من الجامعة. “وهو ما أراحني كثيراً إذ أصبح لدي وقت أكثر للدرس”. هل تأقلمت مع الجو الجديد؟ “أنا لا أتأقلم بسرعة، وخاصة جو الجامعة الأميركية المعروف. لهذا فإنني أبحث بين الجميع على من أستطيع التأقلم معهم بحسب اعتباراتي وأفكاري وقيمي. والعمل الجماعي ساعدني في ذلك كثيراً”. هل هناك محاذير ؟ “نعم، ففي هذه الحالة يكون الإنسان بلا حسيب ولا رقيب إلاَّ نفسه، فهو إذا لم يكن مزوَّداً بما يكفي من قيم ووعي قد ينجرّ إلى أمور عدة بسهولة. وبالنسبة لكثيرين، مغادرة المنزل الأسري إلى ما يسمى “الحرية” يفتح أبواباً كثيرة على المجهول”.

الارشاد الزراعي-زراعة أصناف التفاح الجديدة

زراعــة أصنـاف التفــاح الجديــدة

أبرز ميزات الأصناف المحسّنة لشجرة التفاح :
> قـــوة الأصـــل الجـــذري
> تكيّفـــها مـــع مختلـــف أنــــــواع التــــــربة
> قــــــدرتها علــــــى النمـــو والإثمـــار مـــن دون ريّ
> تحمّلــــــها للبــــــرودة الشــــــديدة
> إنتــــــاج وفيـــر وثمـــار متجانســـة وجميلـــة الشكـــل

تستهدف هذه المقالة مساعدة الراغبين في زراعة التفاح على تكوين ثقافة زراعية أولية حول هذه الشجرة، التي تعتبر ربما ملكة أشجار الفاكهة وأكثرها شهرة وشعبية في العالم.
نبدأ بالقول إن زراعة التفاح تخضع لمعايير عامة تتعلق بزراعة الأشجار المثمرة، وهي معايير تهتم بتنظيم وتأهيل الأشجار المثمرة وتطوير إنتاجها اقتصادياً، كما تركّز على الأعمال الحقلية من تقليم وريّ وحراثة وتنظيم إثمار وتسميد (حسب الحاجة) ومكافحة، إذا لزم الأمر، ثم القطاف، وذلك بهدف الحصول على أفضل إنتاج من حيث الجودة والكمية، وبالتالي القيمة الاقتصادية.

واعد عامة في زراعة الأشجار المثمرة

تخضع زراعة الأشجار المثمرة إلى مجموعة من المحددات الطبيعية والمناخية، ولا بدّ من مراعاة تلك المحددات عند التفكير في زراعة صنف معين من الفاكهة أو الأشجار المثمرة. ومن أهم العوامل التي لا بدّ من مراعاتها خصائص المناخ ومدى ملاءمته للشجرة التي يراد الاستثمار فيها، وكذلك موقع الأرض وخصائصها الطبيعية. وسنفصل كلاً من هذين العاملين في الفقرات التالية:
أولاً : عامل المناخ
يتيح لنا فهم المناخ معرفة الأصناف التي يجب زرعها، والتي تعطي مردوداً اقتصادياً، وهذا العامل لم تتم مراعاته في السابق عندما أهدرت مساحات في الجبل لتجربة أصناف زراعية جديدة بلا جدوى، لأنها لا تنمو الا على ارتفاع معين وفي تربة خاصة. من تلك الأمثلة زراعة أشجار المشمش على ارتفاع 1300 متر عن سطح البحر، وهي خيار غير مجدٍ لأن شجرة المشمش تحتاج إلى حرارة معتدلة في مرحلة الإزهار. ومن أهم مكونات المناخ:
-1 الحرارة: تحتاج الأشجار المثمرة إلى درجات حرارة تختلف باختلاف أصنافها، فمنها ما يحتاج إلى درجة معينة من البرودة كأشجار التفاح والكرز والكستناء، ومنها ما يفضل حرارة معتدلة كأشجار المشمش والدراق والإجاص والخوخ وغيرها، بينما تفضل أشجار أخرى حرارة معتدلة إلى دافئة في فصل الشتاء مثل أشجار الحمضيات.
-2 الأمطار: تنجح الأشجار المثمرة في المناطق التي يزيد فيها معدل الأمطار على 700 ملم سنوياً خاصة في الأراضي المزروعة بالأشجار البعلية، أي التي تعتمد على موسم الأمطار ولا يجري ريها في موسم الشحّ. أما في الجبل، فان معدل الأمطار يزيد على 700 ملم سنوياً هذا يعني أن جميع مالكي الأراضي في الجبل قادر على استصلاحها وغرسها بالأشجار المثمرة وخاصة التفاح والتين والكرمة والكرز والجوز والزيتون … الخ.
-3 البرودة: تحتاج بعض أصناف الأشجار المثمرة إلى البرودة خلال فصل الشتاء من أجل مرحلة السكون والراحة اللتين تمر بهما، أي ايقافها عن النمو، خاصة الأشجار التي تتساقط أوراقها. أما الأشجار دائمة الخضرة، فهي أيضاً تحتاج إلى فترة من الراحة ولكنها تستمر في تغذية أوراقها بشكل جزئي من العناصر الغذائية التي ادّخرتها خلال موسم النمو والنشاط (خلال فصلي الربيع والصيف).
-4 الارتفاع عن سطح البحر: تزرع الأشجار المثمرة في الاماكن حسب ما تحتاجه من ارتفاع ملائم لها ومدروس اقتصادياً، أي أن أشجار التفاح لا جدوى اقتصادية من زراعتها على ارتفاع اقل من 800 متر عن سطح البحر، وعلى عكسها الحمضيات فهي لا تزرع على ارتفاع يزيد على 700 متر عن سطح البحر.

موقع الأرض
-1 التربة الملائمة: تعتبر التربة من العوامل المهمة لنجاح زراعة الأشجار المثمرة وإنتاجها وتأتي في الدرجة الثانية بعد عامل المناخ. مثلاً، إن أشجار التفاح وخاصة المطعمة على أصل جذر تنمو وتتلاءم مع جميع التربة، أما بعض الأشجار الأخرى لا تنمو وتعطي مردوداً اقتصادياً وفيراً الا في أتربة خاصة؛ مثلاً، الزيتون ينمو ويعطي مردوداً اقتصادياً في التربة الكلسية الطميية، وبينما شجيرات الكيوي لا تعطي “إنتاجاً” مطلقاً في التربة الكلسية.
-2 المسافات بين الأشجار: تختلف المسافات من صنف لآخر وحسب حجم وعمر الأشجار اقتصادياً وطبيعة التربة وخصوبتها، وحسب الأصل الجذري المستخدم، فإنَّ أصناف التفاح المطعمة على أصل جذر تزرع على شكل خطوط متوازية يكون بين الخط والآخر 3،5 أمتار وبين الشجرة والأخرى أيضاً 3،5.
-3 عمق التربة وخصوبتها: تحتاج الأشجار المثمرة إلى تربة عميقة نوعاً، منها ما يحتاج إلى تربة عميقة لأن جزءاً من جذورها وتديا كأشجار الكرز، ومنها ما يحتاج إلى تربة متوسطة العمق بين (150-200سم) مثل التفاح، وأخرى إلى أقل من ذلك مثل أشجار الدراق والكرمة، وكذلك حسب أنواع الأشجار وأحجامها.
-4 استصلاح الأرض: من المفضل قبل زرع النصوب استصلاح الأرض أي نقبها وتسطيبها إذا كانت منحدرة على ان لا يزيد انحدارها على نسبة 40 في المئة.
-5 الطرقات: قرب البساتين من الطريق عامل مهم في الزراعة لأنه يوفّر تكاليف وعناء توصيل الشتول والمعدات المستعملة للزراعة والأسمدة العضوية وغيرها، وكذلك نقل الإنتاج منها وإلى الأسواق.
-6 الريّ: من المفضَّل توفير مصدر مياه للريّ لمساعدة الأشجار على اجتياز الحرارة الشديدة في الصيف، كما حصل في هذا العام خاصة في بداية نموها وبعد زرعها في الأرض المستدامة، لأن عندما تقلع النصوب من المشاتل يبقى قسم لا يستهان به من جذورها الشعرية الماصة في أرض المشتل وأيضاً تقلع قبل سقوط أوراقها، وهذان العاملان يؤديان إلى ضعف الشتول وحاجتها إلى الريّ.

تفاح غرني سميث
تفاح غرني سميث

القواعد الخاصة بزراعة أشجار التفاح

تعتبر زراعة التفاح من أقدم الزراعات التي عرفها الإنسان في حقل الأشجار المثمرة. وعرفت هذه الزراعة منذ حوالي أربعة آلاف سنة وتعتبر أشجار التفاح أكثر الأشجار المثمرة انتشاراً في العالم بعد الزيتون.
وفي بداية القرن العشرين بدأت شجرة التفاح تنتشر في الشرق الأوسط بعد أن استطاع بعض المهاجرين العرب التعرّف عليها وتعلُّم على كيفية زراعتها. وقد أثبتت شجرة التفاح تأقلمها وملاءمتها للظروف المناخية والتربة في لبنان خاصة في جبله، حيث أُنشئت البساتين وزُرعت بأشجار التفاح، ومما زاد انتشارها إقبال المزارعين على استيرادها وزراعتها في حقولهم.
ولأشجار التفاح أهمية كبيرة في جميع أرجاء العالم بسبب فوائدها الاقتصادية والغذائية والصحية، كما أن ثمارها لذيذة الطعم وموجودة في الأسواق بشكل دائم لإمكانية تبريدها وحفظها لمدة طويلة نسبياً، وكذلك تتحمل ثمرة التفاح النقل بدرجة كبيرة بالمقارنة مع ثمار الأشجار الأخرى.
كما تحتوي ثمرة التفاح على مواد غذائية للجسم (ماء 85 في المئة – سكريات نحو 14في المئة – أحماض 0،8في المئة – مواد عفصية 0،2 في المئة – فيتامينات أ، ب1، ب2 وسي). (راجع الفوائد الطبية للتفاح في مكان آخر).

> أصنـــــاف التفـــــاح

إنتاج نصوب التفاح المحسنة قد يتراوح
ما بين 40 و200 كلغ في السنة للشجرة الناضجة
-1 أصناف التفاح القديمة:
وهي منتشرة في مناطق عديدة من لبنان، إلا أن هذه الأصناف بدأت بالانقراض لأسباب عديدة منها إهمال المزارع لها لقلة إنتاجها ورخص ثمن ثمارها وعدم مقاومتها للآفات الزراعية، ومن هذه الأصناف التفاح السكري – التفاح البلدي – التفاح الانكليزي – والأحمر المخضر وغيرها.
وغالباً ما تكون هذه الأصناف غريبة الشكل، ومتنوعة في الملمس واللون، حيث يجد البعض أن للأصناف القديمة نكهة أفضل من الحديثة، ولكن ربما تواجه الأصناف القديمة مشاكل أخرى تجعلها غير قادرة على البقاء تجارياً، مثل العائد المنخفض، وسهولة المرض، أو التحمّل الضعيف للنقل والتخزين. ولكن هناك أصنافاً قديمة قليلة لا تزال تنتج على نطاق ضيق، ولكن بعض المزارعين أبقى على قيد الحياة على بعض تلك الأصناف في الحدائق المنزلية، وهم يبيعون إنتاجها مباشرة إلى الأسواق المحلية. هناك العديد من الأصناف الغريبة والمهمة محلياً التي تحمل نكهاتٍ ومظاهر فريدة؛ وبدأت حملات حفظ التفاح في جميع أنحاء العالم للحفاظ على هذه الأصناف المحلية من الانقراض.
-2 أصناف التفاح الحديثة:
هذه الأصناف مستوردة من الخارج ومطعمة على أصول جذرية أوروبية من إنتاج خضري للتفاح. تم اختيار هذه الأصول بعد أبحاث علمية أجريت على عشرات من أصول التفاح البري من أنحاء العالم وانتخب منها حوالي خمسة أصول تتميز بمواصفات عالية لتأقلمها مع جميع أنواع التربة وتنمو من دون ريّ (بعل) وتتحمل البرودة الشديدة والحرارة المرتفعة ومقاومة للآفات الزراعية. أهم الأصناف المطعمة على الأصل الجذري هي: سكارليت سبور- ايس – توب ريد – ايرلي ريد – ايرلي ريد وان – ايرلي غولدن – ريد شيف – غيل غالا – غولدن ديليشوس- ريد ديليشوس – غراني سميث – فوجي وغيرها. جميع هذه الأصناف تعطي إنتاجاً وفيراً وثماراً جميلة اللون والحجم ومردوداً اقتصادياً جيداً لأنها مرغوبة في الأسواق المحلية والخارجية وأسعارها مرتفعة نسبة للأصناف القديمة، كما أنها صالحة للتصدير والتخزين لفترة طويلة وذات قيمة غذائية عالية. أما أسعار هذه الأصناف، وبحسب مؤسسة جورج ن. إفرام (مؤسسة تُعنى بتأصيل الأشجار المثمرة) في سوق الجملة، جمعت بواسطة مسح ميداني أجري في جميع الأقضية ما بين 15 و31 تشرين الأول 2009 فهي كما يلي وفق الجدول المرفق.

الأصناف الجديدة تتميز بإنتاجية مرتفعة وتجانس في الثمار
الأصناف الجديدة تتميز بإنتاجية مرتفعة وتجانس في الثمار

إكثار التفاح:
تتكاثر أشجار التفاح بطرق عديدة أهمها: البذرة، التطعيم، الأصول الجذرية، الفسائل والأخلاف. وسنكتفي بالتحدث عن الأصول الجذرية للأصناف الجديدة المحسنة لأنها الأفضل اقتصادياً.
تتميز الأصول الجذرية بالمجموع الجذري الكبير الذي يساعد الأشجار على النمو بسرعة وتثبيتها في الأرض، كما أنها مقاومة للآفات الزراعية ومقاومة أيضاً للجفاف، وقدرتها السريعة على التأقلم مع غالبية أنواع التربة.
وتزرع هذه الأصول (البادرات) على شكل خطوط في المشتل، ويتم تطعيمها في العام الثاني بالأصناف الحديثة والمرغوبة اقتصادياً، ثم تزرع في الأرض المستدامة (البساتين) في العام التالي. وتعطي هذه النصوب إنتاجاً ابتداءً من العام الثاني بعد غرسها في البساتين والحقول، كما أنها تعطي إنتاجاً غزيراً ومتجانساً في اللون والحجم الكبير نسبياً بالمقارنة مع أصناف التفاح القديمة التي تتأخر في الإنتاج، أي بعد عامها الرابع من الغرس.
تعطي الأشجار الناضجة بدءاً من 40 كيلوغراماً في السنوات الأولى (بين السنة الرابعة والسادسة) من إنتاجها إلى 200 كيلوغرام من التفاح كل سنة (بين السنة الثانية عشرة والخامسة عشرة)، على الرغم من أن الإنتاجية تتفاوت من سنة إلى أخرى حسب العوامل المناخية والخدمات الحقلية. وتتفاوت الأصناف في قوتها والحجم النهائي للشجرة، حتى عندما تنمو على الفسيلة الجذرية نفسها.
اختيار النصوب من المشتل: يفضّل اختيار الشتول المستقيمة والتي يتراوح طولها ما بين 1.5 و2 متر وغير مصابة بالأمراض وتكون تامة الالتحام بين الأصل والطعم، وارتفاع الأصل يكون نحو 40 سم وخالياً من أي أخلاف جانبية، وجذورها كثيفة وقوية وتكون جميع أوراقها متساقطة وتقلع أمام المزارع.

> الشــــــروط المنــاخيــــــة

التفاح يحتاج إلى مناخ معتدل مائل إلى البرودة
ويفضل ارتفاعات لا تقل عن 800 متر عن سطح البحر

تفاح-فوجي-الياباني-يزداد-شعبية
تفاح-فوجي-الياباني-يزداد-شعبية

للتفاح احتياجات مناخية ومتطلبات بيئية أهمها:
-1 الحرارة: ينمو التفاح في المناطق المعتدلة والمائلة إلى البرودة وتفضّل المناطق التي تكون فيها الحرارة معتدلة وتتحمل الحرارة المنخفضة أثناء فصل الشتاء لإكمال مرحلة السكون من دون أي ضرر، لأن الأشجار متساقطة الأوراق ترتاح خلال فصل الشتاء. أما في مرحلة الإزهار وإذا انخفضت الحرارة إلى ما دون الصفر لأيام عدة، لا تتحمل الأزهار فلا يتم عقدها وتسقط على الارض. اما بالنسبة لارتفاع درجات الحرارة، فإن الأجزاء والنواة الحديثة والحساسة تتأذى عندما ترتفع درجات الحرارة إلى أكثر من 40 درجة مئوية؛ وأفضل درجات الحرارة التي ينمو فيها التفاح والثمار وكافة أجزاء الشجرة هي ما بين 15 – 28 درجة مئوية.
-2 البرودة: تحتاج أشجار التفاح خلال فصل الشتاء إلى برودة كافية من أجل مرحلة الراحة والسكون على أن تكون الفترة ما بين 500 و1500 ساعة ولا تزيد فيها درجة الحرارة على 7 درجات مئوية وحسب أصنافها.
-3 الامطار: تحتاج أشجار التفاح في الزراعات البعلية إلى أمطار يزيد معدلها على 700 مللتر سنوياً وما فوق كي تكون الزراعة اقتصادية.
-4 الارتفاع عن سطح البحر: تزرع أشجار التفاح في جبل لبنان على المرتفعات، والذي يكون ارتفاعها ما بين 800 و1800 متر عن سطح البحر (حسب الأصناف)، وذلك لتوفر البرودة الكافية لفترة الراحة والركود.
-5 التربة: تتميز أشجار التفاح المطعمة على الأصل الجذري بمجموعة جذرية كبيرة وعالية. فهي تنمو في جميع التربة، ولكن تفضل التربة الطميية الخصبة والعميقة وجيدة الصرف.
-6 الضوء: إن دخول أشعة الشمس إلى داخل الأشجار ضروري لمساعدتها على تكوين براعم ثمرية من الداخل، وبالتالي إنتاج الثمار الجيدة من حيث اللون والطعم. لذا يستحسن في التقليم إزالة الأغصان والفروع المتشابكة والمتزاحمة لزيادة المساحة الغذائية المناسبة.
-7 إنشاء البستان: بعد اختيار الموقع المطلوب والملائم للاغراس المنوي زرعها، يتم تحضير التربة آخذين في الاعتبار خصائص المجموعة الجذرية لأصناف التفاح من حيث النمو. ويستحسن تنفيذ الأعمال الزراعية التالية:
نقب الأرض: تنقب الأرض على عمق حوالي 90 سم وتنظف من الأحجار وجذور الأشجار البرية إن وجدت، وذلك خلال شهر آب عندما تصبح التربة قليلة الرطوبة لمنع استمرار النباتات البرية المزاحمة على الغذاء مثل العليق، النجيليات (التيّل، الرزينة، السعد)، ونباتات برية أخرى. في المرحلة الثانية، تحرث الأرض على عمق 40 سم على جرار جنزير ثم تحرث حراثة سطحية بواسطة فرامة لتسوية سطح التربة وتكسير الكتل الترابية.
تخطيط الأرض: طرق الغرس كثيرة أفضلها الشكل المثلث والمربع مما يتيح زرع أكبر عدد ممكن من النصوب. يتم تخطيط الأرض لتحديد موقع النصوب وتكون المسافة ما بين خطين متوازيين 3،5 أمتار وبين شجرة وأخرى 3،5 أمتار. كما أن هذه المسافات بين الخطوط تتيح المجال لاستخدام الآلات الزراعية مثل جرار الحراثة.
زرع الشتول: يستحسن قبل الزرع وضع قليل من السوبر فوسفات الثلاثي في قاع الحفرة لأنه يساعد المجموع الجذري على نمو أفضل، مما يؤدي إلى زيادة حجم أكبر للأغراس.
-8 التقليم: يعتبر التقليم من أهم الأعمال الحقلية لشجرة التفاح لأنه من الأعمال الأساسية لزيادة الإنتاج وجودة الثمار وزيادة عمر الشجرة اقتصادياً. وتساعد عملية تقليم الأشجار على التحكم بطبيعة واتجاهات نموها. وأفضل أشكال التقليم هو الشكل الكأسي الذي يمكّن الشجرة من الإثمار من الخارج وفي الداخل أيضاً، كما يسمح بدخول الشمس والضوء.


تبدأ عملية التقليم بعد الغرس مباشرة على ارتفاع يتراوح ما بين 50 و70 سم ويفضل أن تكون الساق قصيرة، لأنها تتعرَّض للعوامل الطبيعية من حرارة وصقيع. وفي الوقت نفسه، يجب الانتباه إلى السماح بمرور الآلات الزراعية بين الأغراس من دون تضرّرها.
في العام الثاني، يبدأ التقليم التكويني فينتخب المزارع ثلاثة أو أربعة فروع وتقطع الفروع المتبقية. أما الفروع المنتخبة، فيقص نصفها العلوي على أن يراعى اختيار البرعم العلوي المتجه إلى خارج الشجرة، وذلك بهدف توجيه الفرع الجديد الذي سينبت منه إلى الخارج أيضاً والحفاظ على الشكل الكأسي للشجرة. في العام الثالث أيضاً يستمر التقليم التكويني مع بدء تقليم تنظيم الإثمار خاصة في هذه الأصناف مبكرة الإنتاج. وتقلم الشجرة بالطريقة نفسها على أن تراعى البراعم الثمرية ويكون هذا التقليم خضرياً وتنظيم إثمار في آن واحد.
ومع تقدم عمر الأشجار، تزداد نسبة عملية التقليم لتنظيم الإثمار على التقليم الخضري للمحافظة على عمر الأشجار والحمل السنوي. من المهم والضروري جداً في تقليم الأشجار أن نحافظ على استمرار نمو الأشجار نحو الأعلى، وأن تبقى مستقيمة وليست ملتوية كي يكون ممر العصارة النباتية المشبعة بالمواد الغذائية سهلاً وسريعاً وتصل إلى الأوراق وتطبخ وتوزع إلى جميع أجزاء الشجرة (أوراق، فروع، ثمار، أغصان، جذع وجذور). وكذلك التقليم الإثماري يهدف إلى تنظيم الحمل بين الفروع والأغصان ليكون متساوياً نوعاً ما مع الإبقاء على بعض الفروع الثانوية لتكوين براعم ثمرية جديدة. وأفضل توقيت لتقليم أشجار التفاح يكون خلال الفترة الممتدة من تشرين الثاني إلى كانون الثاني، أي بعد دخول الأشجار مرحلة الراحة والسكون وتساقط أوراقها.

تفاح-ريد-ديليشيوس-أشهر-أنواع-الستاركن
تفاح-ريد-ديليشيوس-أشهر-أنواع-الستاركن

> تسميـــــد أشجــــــار التفــــــاح

أفضل السماد هو السماد العضوي
وأفضل العضوي سماد الدجاج البلدي

تحتاج أشجار التفاح إلى نسب عالية من العناصر المعدنية خاصة عند مرحلة النمو والإثمار. فإن جميع أنواع التربة تحتوي على العناصر الضرورية للأشجار بنسب مختلفة وحسب أنواعها مثلاً: التربة الطميية أغنى أنواع التربة والتربة الرملية أفقرها. لذا يستحسن وضع الأسمدة العضوية البلدية المخمرة كالسماد الحيواني (المعتمد في غذائه على النباتات والحبوب الخالية من المواد الكيميائية) أهمها سماد الدواجن، سماد الماعز، سماد البقر، سماد الخيل والغنم.
هذه الأسمدة هي الحاضنة الطبيعية والوحيدة لتكاثر الكائنات الحية الدقيقة التي تفكك وتحلل وتحول المواد الغذائية لامتصاصها من قبل أشجار التفاح. جميعها غنية بالآزوت (اليوريا) وتلعب دوراً أساسياً في خصوبة التربة وتساعد على تباعد حبيبات التربة الصغيرة مثل التربة الطينية والثقيلة وتقرب الحبيبات الكبيرة كما في التربة الرملية لتسهيل مرور الجذور بينها. كما إنها تساعد التربة على الاحتفاظ بالرطوبة لوقت أطول وتجديد جذور الأشجار وزيادة عمرها الاقتصادي واكتسابها مناعة لابأس بها ضد الجفاف والآفات التي تعتريها.
وإن سماد الدواجن البلدية التي تتغذى من المواد العضوية مثل القمح والأعشاب وبقايا الخضار والفواكه وغيرها هو من أفضل الأسمدة العضوية وأغناها بالعناصر الغذائية ويتميز باحتوائه على حوالي 7 في المئة من الفوسفور، بالإضافة إلى بعض العناصر الأساسية والنادرة التي تحتاجها أشجار التفاح.

جني الإنتاج
تقطف ثمار التفاح قبل نضجها بحوالي الأسبوع كي تتحمل أعمال التوضيب والنقل والاستهلاك والتبريد. لكن لأصناف التفاح مراحل عدة للنضج حسب أنواعها؛ منها يتم نضجه خلال شهري تموز وآب مثل الغالا، وخلال شهر أيلول مثل الريد ديليشوس وغولدن ديليشوس وسكارليت سبور، وخلال شهري تشرين الأول والثاني مثل غراني سميث وغيرها. تعتبر ثمرة التفاح ناضجة عندما تأخذ الحجم واللون الطبيعي لها وعندما يحتوي مذاقها على القليل من المادة القابضة (البكتين). وتحتاج أصناف الستاركن إلى 130 يوماً لتنضج، والغولدن إلى 135 يوماً. كما يمكن معرفة درجة نضج الثمار من اكتمال اسوداد بذور الثمرة. اما عند قطاف الثمار، فيجب مراعاة النقاط التالية:

1. الانتباه لعدم الضغط على الثمار باليدين لأنه يؤدي إلى تلف الثمار بعد القطاف بوقت قصير، وخاصة الأصناف الصفراء والمبكرة في النضج.
2. عدم جرح الثمار عند القطف.
3. يجب قطف الثمار مع العنق الذي يحملها وبرفعها إلى الأعلى تنفصل عند نقطة الالتحام بالغصن، مع الانتباه إلى البراعم الأخرى التي يعتمد على إنتاجها من السنة المقبلة.

التفاح الطيب معجزة
الغذاء والطب الطبيعي

تشكّل الأشجار المثمرة الجزء الأهم والأساس من الزراعة وتعتبر ثمارها مصدراً غذائياً للإنسان، كما أنها تعدّ من المواد الخام الضرورية للصناعات الزراعية الغذائية.
ولثمرة التفاح فوائد طبية عالية وعناصر غذائية مختلفة كالبروتين والفيتامينات والأحماض والدهون ،اذ تساعد الانسان بعد تناولها على الهضم وتليين الجهاز العصبي والألياف وتنظيم الدورة الدموية.
والتفاح يقوي الدماغ والقلب، والمعدة، ويفيد في علاج آلام المفاصل والخفقان، يسكن العطس، ويوقف القيء، ويداوي عسر التنفس ويصلح الكبد، وهو ينقي الدم من السموم، ويقوي عضلة القلب، وبذوره تقتل دود البطن. التفاح غني بفيتامينات أ، ب، ج. كما يحتوي على مواد سكرية وبروتين ومواد دهنية وبكتينية وأحماض عضوية وأملاح معدنية مثل البوتاسيوم والكالسيوم، والصوديوم وغيرها مما لا غنى عنه في تغذية الخلايا وإنمائها وتقوية العظام وتجديد الخلايا العصبية. أما الأبحاث الطبية الجديدة، فتشير إلى أهمية التفاح في المساعدة على تعديل سكر الدم عبر حثّ البنكرياس على ضخ هورمون الأنسولين لتنقية الدم من السكر الزائد للحفاظ على معدل أفضل لسكر الدم. كما دلّت الأبحاث على أن تناول التفاح يخفض خطر التعرض لمرض الألزهايمر.
ظهرت منافع التفاح كمضاد لأنواع عديدة من السرطانيات خاصة سرطان القولون وسرطان الثدي وإنما بشكل خاص في سرطان الرئة، وكذلك في الحد من خطر التعرض للربو. ومثل المزايا المضادة للسرطان والمضادة للربو في التفاح، وقد ارتبطت فوائد التفاح مع العناصر الغذائية المضادة للأكسدة وللالتهابات.
أيضاً، التناول المنتظم للتفاح يخفّض الكولسترول الضار والتريغليسريد مما يؤدي إلى منع انسداد الشرايين
(تصلب الشرايين)، وبالتالي مشاكل القلب والأوعية الدموية الأخرى. لذا نقول “تفاحة يومياً تغنيك عن الطبيب”
“An apple a day keeps the doctor away”

الأرض

أشكـــــــــو إليـــــــكِ ولا أُصغـــــــــي لشكــــــــــــــــــــــــــــواكِ فتغمـــــريــــــن بلطــــــــــــــــفٍ قلبـــــــــــــــــيَ الشاكـــــــــــــــي
تُعطـــــينَ وجهــــــــــَكِ عــن حــــــــبٍّ وعــــــــــــن كَــــــــــــرَمٍ وتشبعـــيـــــــــنَ المـــــــــــــلا مِـــــــــــن خيــــرِك الزاكــــــــــــــي
يـــــا أمَّنـــــــــا الأرضَ، لـــــــــــو تبديــــــــــــــنَ غاضبـــــــــــــةً فالصيــــــــفُ يُشــــــــرقُ حتمــــــــــــاً مــــــــــن نوايَـــــــــــــــاكِ
يــــــا أُمَّنــــــــــــــــا الأرضَ، مـــــــــــا أحـــــــــلاكِ باسمــــــــــةً يـــــــــــجري الجمـــــــــالُ ربيعـــــــــاً مـــــن مُحيـــــــــــــــّــــــاكِ
يــــــا أُمَّنــــــا الأرضَ، مـــــــــــا أغنـــــــــــاك فاضلـــــــــــــــــةً تستــــــــولديـــــــن الغـــنـــــى مـــن طُهــــــــــــرِ أحشــــــــــــــاكِ
ظَفِـــــــــــرتِ بالنـــــــــور مــــــــن شمــــــــسٍ ومـــــن قمـــــــــر ومِـــــن نجــــــومٍ ترامــــــــــــت نحـــــــــــو مرمـــــــــــــــــــــــــــاكِ
وزادَكِ الليــــــــلُ سحــــــــراً، إذ غفـــــــــــــــــوتِ ولــــــــــــــم تستــــــــــــرحْ فــــــــــــي دورةِ الأيّــــــــــــــــــــامِ عينــــــــــــــاكِ
أنــــــــتِ الجمــــــــــــالُ وأنــــــــــــتِ الخيـــــــــرُ أجمعُــــــــــــــهُ والحـــــــــــــــقٌّ والعـــــــــدلُ بعـــــــــضٌ مـــــــــن سجايــــــــاكِ
*****
يـــــــا أرضُ، يـــــا مخـــــــــــزَنَ الأســــــــرارِ، يـــــــا وطنـــــــــاً أعيـــــــشُ فيـــــــــــــــه علــــــــــــى وردٍ وأشـــــــــــــــــــــــواكِ
هنـــــــــــــاكَ سهـــــــــــلٌ وهـــــــــــــــذا ساحــــــلٌ، وهنـــــــــا وادٍ يُســـــــــــــابقُ سفحــــــــــــاً فـــــــــــــوق مجــــــــــــــــــــراكِ
هنـــــــــــاك نبــــــــــعٌ مشـــــــــى نهـــــــــراً، جــــــرى نغمــــــــاً يُحيــــــــــــي التُــــــــــــرابَ ويَــــــــــــروي مـــــــــــــاؤُه فَـــــــاكِ
هنـــــــــــا السهــــــــــــولُ اخضــــــراراً طاب موسِمُهَـــــــــــــــا هُنــــــــــــا الهِضَـــــــــابُ، وصــــــوتُ الريــــــحِ نـــــــــــــــاداكِ
هنــــــــــــا الزهــــــــــــورُ عطــــــــــــوراً والنـــــــدى أمـــــــــــلاً وكـــــــــــــلُّ نبتــــــــــــــــةِ طيـــــــــبٍ فـــــــــي زوايـــــــــــــــــاكِ
هنــــــــــــا الثمـــــــــــــارُ، هنـــــــا الأشجــــــــــــارُ باسقـــــــةً هنــــــــــــا الطيـــــــــــــــورُ صـــــــدىً مــــــن روحِ نجـــــــــواكِ
وذاك بحــــــــــــــــــــــــــــــــرٌ وآفـــــــــــــــاقٌ ومتّســـــــــــــــــــــــعٌ مــــــن الفضــــــــــــــــاءِ، وجَــــــــــــذبٌ دون أســــــــــــــــلاكِ
النحــــــــــــلُ يجــــــــــــني ويبنـــــــــــــي الشــــــــــــهدَ مملكــــــةً واللهُ مملكـــــــــــــــــــــةَ الإنســـــــــــــــــــــــانِ ســـــــــــــــــــــــوّاكِ
ومثلُـــــــــــــه أنـــــــــــــــــــــتِ، للأكـــــــــــــوانِ مــــــركزُهــــــــا وكـــــــــــــلُّ مــــــــــــا فـــي البــــــــــــَرَايَـا طــــــــوعُ يُمنـــَــــــاكِ
فـــي كـــــــــــــلِّ نبـــــــــــضٍ ولـــــــــــونٍ حكمـــــــــــةٌ لَمَعَــــت مـــــــــن خالــــــــــــقِ الكــــــــــــونِ تَــــــروِي سِــــــرَّ معنـــــاكِ
*****
هويّتــــــــــــي أنـــــــــتِ، عنوانــــــــــي، كيــــــــــــــانُ أبــــــــــي ولــــــــــــونُ وجهــــــــــــي انعكــــــاسٌ مـــــــن مرايـــــــــــــــاكِ
حبّــــــي، سلامــــــي، انتمائــــــي، منــــــــــكِ مُنطلَقـــــــــــي حتـــــــــى أعـــــــــــــودَ إلى أحضـــــــــــانِ مـــــــــــــــــــــــأواكِ
وُلــــــدتُ مــــــن نعمـــــــــــــةِ الرَّحمــــــــــــــــَـنِ، تغمــــــــــــرُني مــــــن تُربَــــــــــــةِ المهــــــــــــدِ حتّــــــــــــَى اللحـــــــدِ كفــّــاكِ
وفـــــــــي رحابــــــــــــكِ أحيـــــــــــــا العُمْــــــرَ مُرتجيــــــــــــــاً وأستمــــــدُّ وُجُـــــــــــــــــــودِي مــــــــــــن عطايــــــــــــــــــــاكِ
وحّــــــــــــدتُ ربــــــــّي، وبالتوحيــــــــدِ قَــــــد مُزجـــــــــت روحـــــــي بروحـــــــــــكِ، مــــــــــــــــا وحّـــــــــدتُ لـــــولاكِ
وقـــــــــــادني فـــــــــي طريــــــــــق المجــــــــــدِ معتَقـــــــــــدي، لـــــــولاه مــــــــــــا صُنـــــــــــتُ مجــــــــــــداً فــــي ثنايـــــــــاكِ
فأنـــــــــــــــتِ لا شـــــــــيءَ مـــن دونــــي، ولســتُ أنـــــــــــا شيئـــــــــــــاً إذا لــــــــــــم تصـــــــــــــنْ عيـــــــنيَّ جفنــــــــــاكِ
*****
زُرعـــــــــــتُ فـــــــــــي تُربَــــــــــــة الأجـــــــــدادِ مؤتَمنــــــــــاً على الثّغــــــــــــور، بثغـــــــــــــــــرٍ ضاحــــــــــــكٍ باكـــــــــــي
هَزئـــــــــــتُ بالـــــريــــــح إنْ هبـــــــــــّت علـــــــى جبلــــــــي ولــــــــــــم تهــــــــــــزَّ الريـــــــــــــاحُ الهـــــــــــــوجُ مبنــــــــــــــاكِ
شـــــــــــدّت جــــــذوري كيــــــانَ العُــــــربِ فـــي بلـــــدي، ومـــــــــــــن تنـــــــــــــوخٍ ومــــــــــــن لَخــــــــــــْمٍ زرعنــــــــــــاكِ
كالسّنديـــــــــــان جذوعــــــــــاً، ليــــــــــس يكســــــرُهـــــــــا غـــــــــــازٍ مـــــــــــن الجـــــــــــــنِّ أو بــــــــــــــــاغٍ تحـــــــــــدَّاكِ
كــــــــــالأرز فــــــــــوق ذرى البــــــــــــاروك منتصِبــــــــــــــــــاً يحكــــــــــــــــي بفخـــــــــــرٍ وإيمــــــــــــــــــانٍ حكايـــــــــــــــــاكِ
كالكـــــــــرم، كالتــــــــــين والزيتـــــــــــــــون، ذا بلـــــــــــــــــــــدٌ حـــــــــــرٌّ أمـــــــــــينٌ، وفـــــــــــي الأديـــــــــــــــــان ذكــــــــراكِ
يــــــــــــــــــــا أرضُ، لا تحـــــــــزني إن داولَـــــــــــــــــــتْ دُوَلٌ، فـــــــــي القلــــــــب تَبقـــــــــــِينَ مهمـــــــا الدهـــــــرُ أدمــــاكِ
إنّــــــــــــــــــا سقينــــــــــــــــــاكِ فــــي التاريـــــخ مـن دمِنـــــــــا وإن عطشـــــــــــــــــــــتِ لأمجـــــــــــــــــــادٍ سقينــــــــــــــــــاكِ
*****
يـــــــــــا أرضُ، إن فُقـــــــــــدتْ منّــــــــــــــا مُروءتُنـــــــــــــــــــا إيّـــــــــــــــــــــــــاكِ أن تَفقــــــــــدي الآمــــــــــالَ، إيّــــــــــــــــــاكِ
فلعنــــــــةُ الديـــــــــــنِ، بعـــــــــــد المـــــــوتِ، تلحقُنـــــــــــــــا، مـــــــــن كــــــــــــــلِّ حبَّـــــــــة تُــــــــرْبٍ، إن غدرنـــــــــــــــــاكِ
ورحمـــــــــــــــــةُ الله للأحفـــــــــــــــــــــــــادِ واصلـــــــــــــــــــــةٌ إن تبـــــــــقِ دومــــــــــاً كمـــــــــا يومـــــــــــــاً ورثنـــــــــــــــــاكِ
يـــــــــــا أرضُ، أنـــــــــــتِ كتــــــــــــابٌ منـــــــــــزَلٌ، قــــــــدرٌ ونحـــــــــن فيـــــــــكِ حـــــــــروفٌ، قـــــــــد كتبنـــــــــــــــــــاكِ
وديعــــــــــــــــــــةُ الله والإســــــــــــــلامِ نحــــــــــــــنُ هنـــــــــــا، مـــــــــن سَالِـــــــــــــفِ الدّهـــــــــــــرِ والأيـــــــــــــامِ جئنــــــاكِ
وأنـــــــــــتِ فينـــــــــــا، مـــــــــــن الأجــــــــــــدادِ، مُودعــــَــةٌ أمانــــــــــــــــــــةً، برمـــــــــوش العــــــــــــــــــينِ نرعـــــــــــــــــــاكِ
إن بِعــــــــتُ أرضــــــــي، إذاً قــــــد بعـــــــتُ مُعتَقـــــــدي، عـــــــــــــارٌ علينـــــــــــــا إذا، يـــــــــــــا أرضُ، بعنــــــــــــــــاكِ
وإن عشقتُــــــــــــكِ، ذا عِــــــــــــــــــــــزٌّ وذا شَــــــــــــــــرَفٌ، وأطهــــــــــــــرُ العشــــــــــــــقِ، حقّــــــــــــــاً، إن حمينــــــــــاكِ
*****
كــــــم عَالــــــــمٍ غــــــــاص فــــي الأعمـــــــاق مُكتشِفـــــــاً! كــــــــــــــم عابــــــــــدٍ عاشـــــــــقٍ قـــــــــد راح يهـــــــواكِ!
كــــــم عامــــــــلٍ صـــــــــــبَّ مــــن أوتــــــــــــاره عرَقــــــــــاً! كــــــــــم زارعٍ فــــــــــــــي الحقــــــــــول السُّمـــــــــرِ غنـــــّاكِ!
كــــــم ثائـــــــــرٍ شـــــــــقَّ صخــــــراً منـــــكِ! كـــــم بطـــــلٍ قــــــــــــــد عـــــــــاش مُستشهــــداً واختــــار لُقيَـــــــــــــاكِ!
لـــــــــــو خيّرونـــــــــــي وحـــــــــــدُّ السيـــــــــف فــي عُنُقـي َبِعــــــــــــــتُ روحــــــــــــــي فـــــــــدىً واختــــرتُ مثــــــــواكِ
ولـــــــــــو بَنـــــــــَوا لــــــــي قصــــــــــــورَ العـــــــزّ من ذَهــــَبٍ بنيــــــــــــــتُ بيتــــــــــــــي سلامـــــــــــــاً فــــي حنايــــــــــــاكِ
*****
يــــــــا أرضُ، مهمـــــــا تغــــــــاوى الشعـــــرُ فـــــــي غَـــــــزَلٍ لا يبلــــــــــــــغُ الوصــــــــــــــفُ بعضــــــــــــــــــاً مـــن مزايــــاكِ
إن كـــــــنـــــــــتُ بالأمِّ قـــــــــــــد شبَّهتــــُــــــــكِ شَغَفـــــــــــاً يظـــــــــــــــلُّ أغنــــــــــــــى مــــن التشبيـــــــــــــــه مغـــــــــــزَاكِ
إن ضمَّــــني صدرُهــــــــا حَيّـــــــــــــــــاً وأنعَشَنــــــــــــــــــــي فلـــــــــــــــن يُطيــــــــــقَ رُفـــــــــــــــاتَ الجســـــــــــــــــمِ إلاّكِ.

إحياء الاقتصاد الزراعي في الجبل

إحيــاء الاقتصـاد الزراعــي فـي الجبـــل
خريطــة طريــــق وممهــــدات أساسيــــة

في العدد السابق من “الضحى” خصصنا ملفاً أساسياً لموضوع الأرض، وقد شدّدنا فيه على ما يلي:
1. إن انسلاخ جمهور الموحِّدين الدروز عن الأرض، تسارع بصورة خطيرة في العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، بحيث باتت أقلية من أهل الجبل تعتمد في عيشها على الأرض وعلى الاقتصاد الزراعي بالمعنى الواسع، بينما انصرفت الغالبية إلى قطاعات الوظيفة العامة أو الخاصة، أو حتَّى إلى قطاعات التجارة والخدمات.
2. إن هذا الاتجاه يهدد بتحويل الأرض من أصول اقتصادية مُنتجة للدخل إلى مجرد أصول عقارية تكتسب قيمتها الوحيدة من قيمتها المحتملة كمواقع للبناء. ونظراً للطلب القوي على البناء، نتيجة التزايد السكاني وارتفاع مستوى المعيشة وتدفُّق التحويلات من المغتربين، فإنَّ أسعار الأراضي كالعقارات، ارتفعت إلى حدٍّ جعل بيعها في كثير من الأحيان مغرياً للمالك، الذي غالباً ما يحتجُّ بأن الاحتفاظ بالأرض كأصول زراعية لم يعد يحقِّق له دخلاً كافياً للعيش، وأنَّ بيعها بالتالي يوفِّر له سيولة نقدية فورية، تمكِّنه من أن يستخدمها في مشاريع معينة، أو أن ينفقها لبناء منزل أو تعليم أولاده، أو تلبية حاجات ملحة.
في الوقت نفسه، شدَّدنا أيضاً على أن الحجة الأساسية التي جعلت الناس يهجرون الأرض ويهبطون بها إلى مستوى العقار الجماد، ليست بالضرورة حجة اقتصادية، بقدر ما أصبحت ترتبط بتبدُّل أسلوب العيش ورغبة الكثيرين – وخصوصاً الشباب الذي يتلقَّى قسطاً من التعليم – تقليد الحياة كما يعيشها أهل المدن، أو كما يرونها على شاشات التلفزيون أو عبر الإنترنت؛ وبالتالي فإنَّ اتخاذهم القرار بهجرة أي نشاط يدوي أو زراعي على اعتبار أنه لا ينسجم مع قيم المجتمع الجديدة الذي يريدون الانضمام إليه، والتوجه تالياً إلى نشاطات لا تتطلب الجهد نفسه في قطاعات التجارة أو الخدمات، أو السفر إلى الخارج للعمل في مجالات مماثلة.
بمعنى آخر، إن تراجع الاهتمام بالأرض لا تبرره بالضرورة أسباب اقتصادية، ولا يمكن من هذا المنطلق تبريره بتراجع إنتاجيتها.
علماً أنَّ هذه النقطة المهمة نخصص مقالتنا هذه للتأكيد عليها وإيضاح نتائجها. وسنبدأ أولاً بعرض بعض الوقائع الأساسية التي تؤكِّد أنَّ إحياء الزراعة وتطوير عدد من الصناعات المتصلة بها قد تكون خياراً مجدياً بل مفضَّلاً إذا تمَّ الأخذ بعدد من القواعد الأساسية التالية:
أنَّ النشاط الزراعي لم يتوقف إطلاقاً في الدول الغربية التي يتسابق البعض إلى تقليدها، بل إنَّ الزراعة والمزارعين ما زالوا يعتبرون في تلك الدول فئة محظوظة لأنها تعيش في الريف وتتمتع بحرية أكبر، وهي تعتبر غالباً فئة ميسورة.
أنَّ التلوُّث المتزايد في المدن بات مصدراً لعدد كبير من الأمراض، كما أنَّ الازدحام المتزايد سلب المدينة الكثير من رونقها السابق وجعل الكثيرين يسعون للعودة إلى الأرياف، لكن العودة هذه تتطلَّب، بالطبع، أن يتمكَّن العائدون من توفير مصدر رزق بديل لهم في الزراعة ونشاطاتها.
أنَّ في لبنان نفسه فئة واسعة ما زالت تعيش على الزراعة، سواء في السهول الساحلية أو سهل البقاع؛ وهناك أيضاً فئة تجمع بين الوظيفة والنشاط الزراعي.
يجب الإقرار بالطبع أنَّ إحياء النشاط الزراعي يتطلَّب وضع استراتيجيَّة شاملة تلحظ توفير متطلبات الحد الأدنى، ولاسيما مصادر المياه، هذا فضلاً عن التدريب والإرشاد لحلِّ مشكلتي التسويق وتصنع الفوائض الزراعية. لكن هذه الاستراتيجية يمكن حفزها واستقطاب الموارد إليها في حال توافر نهضة واهتمام متجددين بالنشاطات الزراعية المنتجة من قِبَل المواطنين، إلى جانب قيام تجارب رائدة ناجحة يمكن للآخرين النسج على منوالها، أي أننا بحاجة إلى روَّاد في هذا القطاع، وإلى تجارب نموذجية توفِّر بحدِّ ذاتها أساساً يمكن للآخرين البناء عليه.
إن منطلق تطوير الزراعة كنشاط اقتصادي في الجبل يتطلب وضع مخطط توجيهي جديد يقوم على دراسة شاملة لأنواع التربة وجغرافية الأراضي والمناخات ومصادر المياه القائمة والتقنيات الملائمة Appropriate technology ، أو تلك التي يمكن إضافتها، كما يقوم هذا المخطط على إدخال ما يمكن اعتباره الجيل الجديد من الزراعات الاقتصادية، وهي عبارة عن نصوب تمّ تكوينها على أصول جذرية قوية، وجرى تأصيلها، بحيث باتت تبدأ بالإنتاج من السنة الثانية للزرع وتتميز بتحمّلها لمختلف أنواع التربة والجفاف الجزئي ومقاومة الأوبئة. وهذه الأصناف من الأشجار المثمرة غير معدلة وراثياً، ولكنها نتيجة تجارب طويلة وناجحة من التهجين واختبار الأصول الجذرية التي يتم التطعيم عليها، باتت معتمدة باعتبارها أنواعاً اقتصادية ترفع كثيراً الجدوى الاقتصادية للحقل.
أنَّ منطقة جبل لبنان نظراً إلى طبيعتها الوعرة، قد حافظت إلى حدّ كبير على المزايا الطبيعية فيها، ولم يلحق بها التلوُّث الكيميائي الذي لحق بالسهول نتيجة للزراعات المكثفة، وللاستخدام العشوائي للمسمدات والمبيدات العشبية أو الحشرية والفطرية. وتالياً فإنَّ الجبل ما زال يحتوي على مقوِّمات أساسية لقيام زراعات عضوية تجعل منه المقصد الأول للمستهلكين الراغبين في استهلاك هذه المنتجات، أو لشركات التوزيع والتسويق المتخصصة في تلك المنتجات أو للزراعات العسلية، أي التي تزرع لذاتها – مثل الخزامى Lavender أو اكليل الجبل Rosemarry أو القصعين Sage أو الصعتر- لكن التي يمكن في حال زرعها بكثافات كافية أن تصبح مصدراً رئيسياً لإنتاج العسل العضوي بخصائص رفيعة غذائية وطبية أيضاً.
أنَّ أي مخطط توجيهي جديد لإحياء النشاطات الزراعية الاقتصادية في الجبل، يجب أن يعتمد على تعيين ثمار ومحاصيل مثلى، وأن يأخذ في الاعتبار دورة المحاصيل لتلك الثمار، بحيث يمكن لتلك المحاصيل أن تنزل إلى السوق في توقيت مناسب يحفظ سعرها، كما أن هذا المخطط يمكن أن يلحظ مجموعة المواصفات التي تتيح تصدير المنتجات الزراعية العضوية أو الطبيعية إلى أسواق مختارة في الخليج أو أوروبا أو في الولايات المتحدة وغيرها.
أنَّ الاستثمار في النشاطات الزراعية الجديدة، وفي مشروع تحويل الجبل إلى مقصد للراغبين في المنتجات العضوية وتسويقه على هذا الأساس Branding على نطاق واسع، يمكن أن يوفِّر فرصاً عديدة للمغتربين الراغبين في توفير مبرِّر أقوى للتواجد الدائم في الوطن، أو استثمار أموالهم في مشاريع مجزية تساهم في خلق فرص العمل للشبان والشابات في القرى الجبلية.
أنَّ إحياء الاقتصاد الزراعي كفيل بوضع الأسس لدورة اقتصادية جديدة في الجبل، لأنَّ الزراعات الجديدة والأصناف المحسنة، والدفع في اتجاه تخصص متزايد لاقتصاد الجبل في الزراعات العضوية التي توفر الأسس لصناعات صغيرة ذات قيمة مضافة عالية، تبدأ بصناعات التعليب والمعالجة والتجفيف إلى التقطير، ويمكن لهذه الصناعات أن تشكِّل في مجموعها قطاعاً متقدماً موجهاً للشريحة العليا أو المتطلبة من المستهلكين وللتصدير لأسواق متقدمة في آن واحد.

لمذا-تأخرنا-في-استثمارها
لمذا-تأخرنا-في-استثمارها
شجرة-التين-الطيبة
شجرة-التين-الطيبة
زراعة-الكيوي-في-الجبل-واعدة-ومربحة
زراعة-الكيوي-في-الجبل-واعدة-ومربحة

أنَّ الصيغة المناسبة للاستثمار الزراعي في الجبل، هي صيغة المشاريع الصغيرة المستندة إلى الأُسر أو إلى المجموعات القروية المتقاربة، وليست صيغة التصنيع ذات العمالة الكثيفة، لأنَّ الهدف منها هو توفير الاقتصاد المنزلي أو القروي الملائم للنسيج الاجتماعي وللقيم والعادات، خصوصاً أن فئة كبيرة من سكان الجبل باتت من الملتزمين بسلوك الدين وموجباته، وهذا الأمر يجعل من الصعب عليها القبول ببيئات الاختلاط الواسع التي تفرضها المصانع الكبيرة. وعلى العكس من ذلك، فإنَّ تشجيع الزراعات الجديدة أو المرتبطة بمتطلبات قطاع المنتجات الغذائية العضوية، ينسجم بصورة أفضل مع المزارع الصغيرة أو المتوسطة، ويستوعب في الوقت ذاته الملكيات الصغيرة التي هي الشكل الأغلب للملكية في الجبل، ولا يتطلب بالتالي إحداث بلبلة أو زعزعة في الأساس الاقتصادي لحياة القرية.
أنَّ الصناعات الجديدة المقترحة يمكنها تغطية دورة إنتاج متكاملة لا تتوقف على تسويق المنتج الأصلي، مثل الثمار أو الأعشاب في سوق تنافسية، بل تتوسَّع باتجاه إضافة القيمة على المادة الخام، بحيث لا تكون تلك المنتجات معتمدة بكليتها على التسويق المباشر قبل أي تصنيع أو معالجة، بل على العكس من ذلك فإنَّ تكوين قاعدة صناعات صغيرة تعتمد على المنتجات العضوية أو الطبيعية كمادة خام، سيجعل من الأفضل والمنطقي أكثر عدم بيع كامل المنتج في حالته الخام، بل العمل على تصنيع أكبر نسبة منه بهدف إضافة القيمة وتحقيق أعلى مردود ممكن على المنتج النهائي.
أنَّ طبيعة الاقتصاد الزراعي، الذي نقترح العمل على تطويره، والمنتجات المحسنة والعضوية ستضع في حدّ ذاتها الأسس لتبني أحدث أساليب خلق الماركات التجارية والترويج والتسويق لتلك المنتجات، وهذا في حدّ ذاته قطاع متكامل لا بدّ أن يقوم ويتطور بسرعة إلى جانب القطاع الإنتاجي، بهدف استكمال دورة المشروع وتوفير مقوِّمات الجدوى والربحية. وبهذا المعنى، فإنَّ تطوير اقتصاد يقوم على الزراعات المتقدمة والأصناف المحسنة والصناعات الغذائية سيضع الأسس لقيام قطاع خدمات وقطاع بيع بالتجزئة ومحلات متخصصة تصبح بدورها مقصداً للمستهلكين من داخل وخارج المنطقة. وفي حال توافر الطلب الخارجي على تلك المنتجات، فإنَّ قطاعات مكملة يمكن أن تنشأ وتتطور إلى جانب المنتجات الغذائية عالية النوعية، مثل، قطاع الصناعات الريفية والحِرفية، وهو قطاع ينسجم أيضاً مع التركيبة الاجتماعية للجبل، بإمكانه أن يتطوّر ليصبح مكوَّناً أساسياً من اقتصاد الجبل وقطاعاته الإنتاجية.
أخيراً، فإنَّ النتيجة الأهم لوضع هذه الرؤية موضع التطبيق هي توفير الأسس لتعظيم حلقات القيمة Value chain في اقتصاد مؤسَّس على الزراعة، لكنّه يشمل بمفاعيله قطاعات أخرى متكاملة ويعتمد بعضها على البعض الآخر. وغنيٌّ عن القول إن هذه الصيغة ستساعد في توفير الآلاف من فرص العمل لسكان الجبل، سواء في البيوت (خصوصاً للنساء)، أو في المشاغل والمحترفات أو في التعاونيات الإنتاجية. وتالياً، سيتبع ذلك توفير الأسس لتعزيز الارتباط بالقرية ووقف النزف السكاني باتجاه المدن، ومعالجة جذرية لواقع بطالة الشباب مع ما ينشأ عنها من آفات اجتماعية متزايدة؛ كما أنَّ المأمول هو أن تسهم النهضة الزراعية -الصناعية في إضعاف الحوافز للهجرة بالنسبة إلى عدد كبير من الشبَّان، وتعزيز الرابطة الاقتصادية والمعنوية للموحِّدين الدروز بأرضهم وقراهم، لأنَّ العمق الجغرافي لن يكون عمقاً فارغاً، بل سيتحوَّل إلى عمقٍ اقتصادي أيضاً.

العدد 2