الصفحة الأخيرة
من العيش ..
الى عد الأيام
كان أسلافنا يعيشون الأيام
أصبحنا نعدّ الأيام لكن لا نعيشها حقاً
عندما تفرغ الحياة من معنى مستمر هو معنى الطمأنينة والإنس بالله تبطل أن تكون وجوداً وتصبح «زمناً». الوجود الحقيقي بالله لا ينقطع والزمن هو وحدة قياس الوجود الفارغ. الوجود بالله ديمومة لا تشعرك بالوقت، الإنقطاع عن الله يجعلك وحيداً على بساط الزمان، خائفاً وجلاً.
لأن الله إن لم يملأ الزمان يجعله فارغاً مخيفاً فيتبدّى الوقت على شكل شبح الموت الزاحف. إنسان اليوم فقد الله فإذا هو قرين الموت يتبعه مثل ظله، هو في وحشة الغفلة حبيس الفراغ محروم من كل شيء ذي معنى وغارق في سراب الأشياء.
إنسان اليوم لا يعيش حقاً إلا بمعنى إنفاق الأيام المنصرمة من عمره، كما ينفق المرء رصيد المال، والحياة من دون الروح فقد دائم، وأيام تنقضي من دون كسب، وفي حديث للرسول (ص) أن «من استوى يومه فهو مغبون» أي من انقضى يومه ولم يزد في نفسه شيئاً من العلم ولم يرتق ولو درجة في مواجهة خصاله الذميمة فهو حتماً مغبون لأنه خسر ذلك اليوم الذي حسب عليه عند الله يوماً ولأن الحياة نعمة من الله لا يجوز تبذيرها، وإذا كنا نضن في حياتنا العادية بتبذير المال أو حتى الأشياء الزهيدة فكيف نتجرأ على طرح نعمة الوقت فنحيل الوجود الحق في خضم غفلتنا موتاً؟
في سياق قتل الوقت أو إنفاقه في اللاجدوى، صرنا فعلاً نمضي عيشنا نعدّ الأيام. الموظف يعيش يومه وعينه على آخر يوم في الشهر فهو يعدّ الأيام، والطالب كذلك يعدّ الأيام التي ينفقها يوماً بعد يوم قبل أن يصل إلى آخر يوم تحصيل ويعتبر نفسه حراً مع شهادة تخرّج، كذلك الصائم والمفطر والمبتلى بالدَّين والمبتلى بالربا والحسناء التي ترى انقضاء صباها والرجل الذي ظهر على مفرقه الشيب والقاضي والمحامي والعاطل عن العمل والمزارع والمسافر والقاعد والعاقل والجاهل كلهم يعدّون الأيام، ولا يحيون حقاً، لأن الله نزع بركة الوقت بعد أن فرغ الوقت من ذكره.
من علامات وحشة الوقت ما ابتلي به الناس من أنواع الأمراض والسقم والإكتئاب والخوف، وقلما يوجد اليوم إنسان لا يتناول عدة أنواع من العقاقير والأدوية. ينظر الواحد إلى علبة الدواء فيعدّ كم أحدث في كل مصفوفة من ثقوب وكم بقي من الحبات، فيعلم أنه أمضى عشرين يوماً أو خمس وعشرين يوماً وهو يتناول تلك العقاقير يوماً بعد آخر. والجوارح التي لا يكون عملها في مرضاة الله يبتليها الحق بعمل السخرة في معاينة ما ينيبها من فعل الأيام فتصبح كالمعلقة بين ما يجري عليها من صروف الدهر وبين السخرة في خدمة الدنيا فلا تذوق حلاوة الرضا ولا تقع ألحاظها إلا على الباطل والزائل من بضاعة الأوهام.
من علامات عدّ الأيام الانتظار والتوزّع الدائم للفكر بين ما مضى وانقضى وبين مجهول الأيام القادمة. وانتظار الأياميامأأا وغيوبها عبء على النفوس لكنه رفيق الرغبة والاشتهاءات لأن النفس الراضية في حال سكون وطمأنينة لا يحزنها ما مضى ولا يشغلها ما لم يزل في طيّ الزمان، لذلك كانت بركة الوقت في الماضي أن الناس تعيش أيامها دون أي قلق على صباح اليوم التالي بل كانت حتى في صباحها لا يخطر في بالها أي خاطر في ما خص رزق العشاء، ومعروفة قصة المرأة الصالحة التي تعجبت عندما أرسل لها من بيت الأمير السيد (ق) طعام يكفي للغداء والعشاء فردّت طعام العشاء قائلة إن طعام العشاء سيأتي في وقته، وإنها ليست منشغلة بشأنه لأن ثقتها بالله تعالى تامة لا يشوبها أي شك.
“الله حسبي، كفاني ربي» هذا هو لسان حال العبد المؤمن، أما الحائر الغافل فهو في تفكير دائم: “من أين سيأتي رزق الغد؟”..