السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

“العدالةُ” عندَ أفلاطون

 

تَتَّسِمُ مُحاوَرةُ “الجمهورية”(Politeia -Πολιτεία) بالعُمقِ والدِّقّةِ في طرحها لسؤالَيْن جوهريَيْن: ما هي “العدالة”؟ وهل الحياة العادلة خيرٌ للإنسان أم خلاف ذلك؟ حيث يسعى أفلاطون إلى تعريف “العدالة” (dikaiosyne – δικαιοσύνη)، مستَنِداً إلى مِثال الخير، الذي يُعيننا على فَهْم هذه الفضيلة، معتمداً في ذلك على مبادئه الماورائية والنفسانية والأخلاقية لا سيّما نظريّة “المُثُل”. وما من كتابٍ كان له هذا التأثير الكبير في الفكر الفلسفي والنظريات السياسية بمثل مُحاوَرة “الجمهورية”، حيث يحاور سقراط مختلف الشخصيات حول معنى العدالة وما إذا كان الإنسان العادل سعيداً أكثر من الظالِم، ليستعرض أنواع أنظمة الحُكْم ومدى اتّسامِها بالعدالة أو افتقارها لها لتصل المحاورة في ذروتها إلى مفهوم مدينةٍ مُثلى فاضلة يوطوبياوية “كاليبوليس” (Kallipolis – Καλλίπολις) يحكُمها “مَلِكٌ فيلسوف” قائِمٌ بموجبات العدل.

تطرح المحاورة تساؤلات رئيسية وتسعى للإجابة عنها: هل يُقْدِم الإنسان على التصرُّف بعدالةٍ بدافع الخوف من المجتمع؟ أو خشية عقابٍ إِلَهي؟ أم أنّه يسعى إلى “العدالة” بعيداً عن الخوف أو الرجاء لكونها خَيراً في حدّ ذاتها؟ ينبري أفلاطون إلى تعريف “العدالة” في جمهوريّته هادفاً إلى إثبات أنّ “العدالة” هي فضيلة تستحقّ أنْ تُطلب لذاتها وأنّ ثمة ما يناظرها تناغماً وتوازناً في قوى النفس الثلاث. وتأتي عبقرية أفلاطون وسموّه الفكري والرُّوحي في طرحه لحلٍّ أمثل، وذلك بتعريفه لـ “العدالة” بأنّها متماثلة مع سيكولوجية الإنسان، أي مع قوى النفس البشرية، في مقاربة “نفسانية-اجتماعية”(psycho-social) بل حتى “نفسانية-سياسية”(psycho-political).

«العدالة تبدأ من النفس تناغماً في قواها وفضائلها وتصل إلى الحُكم المثالي بأنوارِ العقل على يدِ مَلِكٍ فيلسوف»

العدالة بين المدينة والفرد

من “الفصل الأول” وحتى “الفصل الخامس” من المُحاوَرة، ومكان أحداثها هو ميناء “بيرايوس” (Piraeus) بالقرب من أثينا، نجد كيف يسعى محاوِرو سقراط، وهم غلاوكون (Glaucon)، وبوليمارخوس (Polemarchus)، وسيفالوس (Cephalus)، وثراسيماخوس (Thrasymachus)، وأديمانتوس (Adeimantus) إلى تعريف “العدالة” كلٌّ من وجهة نظره. وتتضارب الآراء ما بين كونها “ليست سوى مصلحة الأقوى أو فن مَنْح الخير للأصدقاء والشر للأعداء”، إلى اعتبارها “مُجرّد ما نملك” أو حتى كونها “عقداً اجتماعياً يَقِي من الظُلم”، أو “خوفاً من العقاب”،فضلاً عن تساؤلات حول ما إذا كانت العدالة مرغوبة في ذاتها أو لأجل نتائجها.

العدالة.. صحة النَّفْس بهُدَى العقل

بين الحديث عن العدالة في “المدينة” والعدالة في نفس”الفرد” يتدخَّل سقراط. وبعدما يوصي بوجوب التحلِّي بالفضائل الأربع: العدالة والحكمة والشجاعة والحِلْم، مؤكِّداً بأنّ “العدالة” تصقل الفضائل الأساسية الثلاث الأخرى، ولعلّها أم الفضائل عنده، وهي ثمرة نَفْسٍ حَسَنة الانتظام والتناغُم بالفضائل، يرى أنّ الحكمة وجبَ أنْ تكون بين الحُكَّام، والشجاعة بين المحاربين، والحِلْم بين جميع فئات “المدينة الدولة”، وبالتالي تتم “العدالة” فيها،حيث تقوم كلّ فئة بأداء دورها الخاص بها من دون أنْ تتدخَّل مع الفئتَين الأخريَين. ويُجادِل بأنّ النفس المتَّزِنَة بقِواها غير المُنقَسِمة على نفسها سيكولوجياً لا تعيش التناقض بين قِواها العقليّة والغَضَبيَة والشَّهَويّة بل الانسجام والتناغم، وبالتالي تكون نَفْساً عادلة تماماً كشأن “المدينة” بفضائل فئاتها الثلاث.

وبالتالي فإنّ الإنسان الحكيم العادل بالنسبة إلى سقراط هو ذلك الذي يحكُمه الجزء العقلاني من النفس الذي يُدرِك ما هو خيرٌ لكلّ الأجزاء وللنفس ككلّ.ويخلص إلى القول: “إنّ النفسَ إذا كانت في نظامٍ صحيح بين قِواها فهي عادلة، وبالتالي تكون طبيعية. إذ إنّ العدالة هي صحّة النفس”.

إذا تخفّينا هل نعدل؟

يسأل غلاوكون وأديمانتوس سقراط: هل العادِل، الذي يراه الناس ظلوماً، أكثر سعادة من الظالم الذي يُخفي ظلمه ويراه الناس عادلاً؟ يُجيب سقراط مشدِّداً على القيمة الداخلية الجوهرية للحياة العادلة وأنّ العادل بالتالي أكثر سعادة من الظالم.ويدعم غلاوكون فكرته بلجوئه إلى ما يُسمَّى “أسطورة غيغيز” (Legend of Gyges)، وهو رجلٌ اكتشفَ خاتماً يمنحَه قوة التخفِّي. لكنّ غيغيز تمكّن بحسب الأسطورة من إغراء الملكة وقتل الملك والاستيلاء على حُكْم المملكة. والمغزى هو أنّ أي إنسان سواء كان عادلاً أم ظالماً إذا ما تسنّت له فرصة إخفاء ظلمه بسبب تخفِّيه فإنّه “قد يلجأ إلى الظلم ويبتعد عن العدل”. ويحتجُّ غلاوكون لإثبات ذلك بأنّ العلّة الوحيدة التي تمنع النفوس من أنْ تكون ظالمة وتتحلَّى بالعدالة وتتغنّى بها هي الخوفُ من العقاب.

أمّا أديمانتوس فيضيف إلى كلام غلاوكون أنّ الإنسان لا يكون عادلاً إلَّا طمعاً بالمكافأة التي تجنيها العدالة، كالثروة والشَّرَف والسُّمعة والمجد وغيرها، لا لقيمةٍ بحدّ ذاتها في “العدالة”، بل هي بمثابة وسيلة للوصول إلى غاية. وهنا يقود سقراط محاورِيه في نقاشٍ حول “العدالة” في “المدينة” أوّلاً أي على نطاقٍ كبير، من أجل أنْ يُسهِّل لهم رؤية “العدالة” في نفس المرء. ومن ثمّ يُوضِح كيف أنّ تلك الفضائل في “المدينة” تتناظر مع قوى النفس بحسب تشبيه سقراط. وهذا التناظر أو التشابه بين “المدينة الدولة” والنفس البشرية هو مفهوم انفردت به الفلسفة الأفلاطونية التي أضفت عليه بُعداً نفسانياً واجتماعياً وسياسياً..

مخطوطة من القرن الثالث الميلادي ، تحتوي على أجزاء من جمهورية أفلاطون
العدالة تناغمٌ في الجسم السياسي

 

يُلقي أفلاطون الضوءَ في “الجمهورية” بدايةً على المفهومِ الأوَّليّ للعدالة الاجتماعية والسياسية لينتقل بعدها إلى استنباط مفهوم تَمَاثُل تلك العدالة مع “العدالة الفرديّة”، ليتناول من ثم في الفصول الثاني والثالث والرابع، “العدالة السياسية” كتناغمٍ في جسمٍ سياسي منتظم، ويُقسِّم المجتمع المثالي إلى ثلاث فئات رئيسية. أولاً فئة المُنتِجين، من حِرَفيين وفنانين ومزارعين وغيرهم من أصحاب الصَّنْعَة والحِرَف، ثانياً فئة المحاربين، وثالثاً فئة الحُكَّام. ويكون هذا المجتمع عادلاً حينما تنتظم العلاقة بين فئاته الثلاث بشكلٍ قويم ولا يكون ذلك إلَّا إذا ما التزمت كلّ فئة بدورها المناسب في المجتمع وعلى نحو متناغمٍ ومتوازنٍ مع الفئتَيْن الأُخريَيْن.

فعلى المُنتِج أنْ يقصُر عمله على ما يتأتَّى من مهاراته الحِرَفيّة أو الفنيّة أو الزراعية أو الصناعية أو ما شابه ذلك. أمّا المحاربون فينبغي أنْ يتَّسِموا بالشجاعة والولاء والإيمان بقناعات الحُكَّام والذود عنها، أمّا هؤلاء الحُكَّام فينبغي أنْ يمارسوا الحُكْم بما فُضِّلوا على غيرهم من رجاحة العقل وسِعَة الأُفق والاتّزان النفسي وصولاً إلى حُبّ الحكمة والحُكْم من خلال ضياء هُدَاها، وبالتالي تصبح “العدالة” هاهنا تخصُّصية، أي كلٌّ يعمل باختصاصه وضمن نطاق دوره الاجتماعي والسياسي المؤهَّل له من دون التدخُّل في أدوار الآخرين.

العدالة في النفس أولاً!

بالنسبة إلى “العدالة الفرديّة”، يُماثلها أفلاطون في “الفصل الرابع” من “الجمهورية” مع “العدالة السياسية”، فالنفس البشرية بالنسبة إليه تنطوي على ثلاثة أجزاء تتناظر مع الفئات الثلاث للمجتمع. فهناك “الجزء العقلاني”(logistikon – λογιστικόν) من النفس الذي يرنو إلى الحقيقة والتفكُّر الفلسفي والتأمُّل الحِكْمَوي، وثانياً يأتي “الجزء الغَضَبِي الحَماسِي”(thymoeides – θυμοειδές) من النفس الذي يشتهي المجد والشَّرف ويستثير مشاعر الغضب والنَّخوة وحِسّ الكرامة، وثالثاً “الجزء الشَّهَوي”(epithymetikon – ἐπιθυμητικόν) من النفس الذي يشتهي كلّ الأشياء المادية والمقتنيات الدنيوية لا سيّما المال.وتكون هذه الأجزاء الثلاثة في النفس العادلة في حالةٍ تناغُمٍ بين قواها، كشأن التناغم بين فئات المجتمع العادل. فالجزء العقلاني من النفس هو الذي يحكُم، ويدعم حكمه ذلك الجزء الغَضَبي، في حين أنّ الجزء الشَّهَوي يخضع لحُكْم العقل ويتَّبعه حيثما يقوده، تماماً كما تتناغم في المجتمع العادل فئاتُه الثلاث تماثُلاً مع إرادة الحاكم المتَّسِم بالحكمة والعدل.

العدالة غَلَبة للعقلانية

 

وهنا يستفيض أفلاطون مجدّداً في عقد مقارنة بين أجزاء النفس وفئات المجتمع. فكلٌّ من تلك الفئات يهيمن عليها جزءٌ من قوى النفس المنوَّه عنها. فعلى سبيل المثال يهيمن على فئة المُنتِجين القوة الشَّهَويّة التي تدفع هؤلاء إلى جَنِي المال وتحقيق الرفاهية والمتعة. أمّا فئة المحاربين فتُهيمن عليهم القوة الغَضَبيّة التي تتَّسِم بها أرواحهم فتجعلهم شجعاناً مندفعين إقداماً وتوّاقين لتحقيق البطولة ومآثر المجد والسؤدد. في المقابل،تُهيمن على فئة الحُكَّام المَلَكَاتُ العقلية والتَّوقُ إلى التحقُّق بالحكمة، وبالتالي تحقيق “العدالة”. وهنا تتمحور الفصول “الخامس” و”السادس” و”السابع” حول فكرة تهيئة الحُكَّام ليصبحوا “مُلوكاً فلاسفة”!

وحدهم الفلاسفة الذين يُدرِكون مفهوم “المُثُل” (Forms) لا سيّما مِثال الخير، مصدر جميع المُثُل والمعرفة والحقيقة والجمال، بوسعهم أنْ يحكموا بعدالة.فالفلاسفة مُحبِّو الحكمة هم الفئة الوحيدة من البشر التي تمتلك المعرفة والحكمة وبالتالي هم أكثر الناس عدلاً، إذ إنّ نفوسهم تهدف أكثر من الآخرين إلى تحقيق أهداف الجزء العقلاني الغالِب فيها.

موقع أكاديمية أفلاطون الأثري
العدالة غاية مرجوَّة لأجل ذاتها

 

لكن هل تُطلَب “العدالة” لأجل ذاتها أم لِمَا يتأتَّى بفضلها من سعادةٍ أو خير؟ هذا ما يسعى أفلاطون إلى الإجابة عنه أيضاً في “الفصل التاسع” من “الجمهوريّة”، بجدليّةٍ يخلُص منها إلى أنّ العدل غاية مرجوَّة بحد ذاتها. فبعد استعراض الوضع النفسي لطاغٍ من الطُّغاة المستبدّين يُثبِتُ أنّ الظلم، نقيض “العدالة”، يُعذِّب نفسَ المرء، في حين أنّ النفسَ العادلة سعيدةٌ وسليمةٌ وهادئة ومتَّزِنة.

وحده “الفيلسوف الحكيم” قادرٌ على أنْ يحكُم على ما هو خيرٌ وعدلٌ بين الأنماط الثلاثة من البشر: مُحبِّي المال، ومُحبِّي المجد، ومُحبِّي الحقيقة لأنّه سَمَا في مراقِي الفكر إلى محبّة الخير والجمال والحقيقة، وبالتالي فإنّ السعادة الفلسفية الحقيقية تتمثَّل في الحياة العادلة. لكن ذلك لا يعني أنّ “العدالة” مرغوبة من أجل نتائجها والمُتع المترتِّبة عنها، بل إنّ مرغوبية “العدالة” تتّصل بالعلاقة الوطيدة الضمنيّة بين الحياة العادلة والمُثُل العليا في عالم العقل حيث وحده الإنسان العادل الحكيم يقتدي بمُثل الخير والاتّزان والعدالة وتطبيقها في حياته، ومن ثمّ تنعكس تلك من الفرد على المجتمع.

وهنا كالعادة تترابط الصورُ المجازية لدى أفلاطون كَدُرَرٍ متَّصِلة ذات ربطٍ منطقي: عربة النفس، والشمس، والخط، والكهف، وسُلَّم الحُبّ مع الفضائل العليا من خير وحق وجمال وحب وسعادة وعدالة، وصولاً إلى التناظر ما بين أجزاء النفس الثلاثة وفئات المجتمع الثلاث.

المَلِكُ الفيلسوف” مُحِبٌّ للحكمة ويتمتَّع بالذكاء والصِّدْق والحياة البسيطة.

“المَلِك الفيلسوف”.. هو الحل!

 

بين الفصلَين “السادس” و”السابع” يتناول أفلاطون مفهوم “المَلِك الفيلسوف”. ويتمحور الحديث حول “المدينة المثالية” التي يحكُمها فيلسوفٌ حقيقي يُحدِثُ تناغُماً وتعاوناً بين جميع مواطنيها عَدلاً وقسطاً وإنصافاً، وعقلاً وحكمةً وإرشاداً. وهذا “المَلِكُ الفيلسوف” مُحِبٌّ للحكمة ويتمتَّع بالذكاء والصِّدْق والحياة البسيطة، وقد اكتسب فضائله بالتعليم والتأمُّل الحكموي في مِثال الخير الذي يُضِيء وجدانَه تماماً كما يُضِيء النورُ معالمَ الأشياء. ويقول جملته الشهيرة “يَنبغي أنْ يُصبحَ الفلاسفةُ مُلوكاً، أو أنّ المُلوكَ يَنبغي أنْ يَتثقّفوا فلسفياً” فتزول تعاسة الدول والبشر!

ويتضمّن تثقيفُ “المَلِكِ الفيلسوف” الحكمةَ والفلسفة والهندسة والرياضيات وحتى الموسيقى لتهذيب النفس، والتدريبَ الجسدي والعسكري. ويتعلّم الفلسفةَ لمدّة خمس سنوات ومن ثمّ يتدرَّب على فن الجدل “الدايالكتيك”، إلى أنْ يتدرَّب على القيادة الحكيمة العادلة ليُخرِج الناس من ظلمة “الكهف” إلى رحاب النور، بفضل وعيه التام لمِثال الخير ومحبّة الحكمة.

“سفينة الدولة” والربّان الحكيم!

دعماً لهذا المفهوم المثالي، يُورِد أفلاطون هنا على لسان سقراط القصةَ الرمزية “سفينة الدولة”، حيث يُشبِّه الحُكْمَ بسفينةٍ رُبَّانُها مَلَّاحٌ حكيمٌ متبصِّرٌ وعارِفٌ بمواقعِ النجوم، وصاحبُها يفتقد إلى بُعد النظر، وبحّارتُها ديماغوجيون، وركَّابُها سياسيون لا يعلمون شيئاً عن الملاحة وطُرقها الآمنة وفنّ الإبحار بها وسط الغياهب والأمواج المتلاطمة، بل وحده ذلك الملّاحُ العَالِم هو مَن يصل بها بفضلِ حكمتِه إلى برّ الأمان، وذلك في إشارةٍ إلى “المَلِك الفيلسوف” وحُكْمِه المِثالي.

حرض السيبيديس الأوليغارشية على الانقلاب من خلال الوعد بدعم فارسي لأثينا إذا تم الإطاحة بالديمقراطية.
النقيض..تيموقراطية وأوليغارشية وديموقراطية واستبداد!

من أجل الإضاءة على مفهوم العدالة لدى “الفيلسوف الملك”، يُناقِش أفلاطون في “الفصل الثامن” إلى آخر “الجمهورية” وعلى لسان سقراط أنظمة الحُكْم الظالمة الأربعة: “التيموقراطية”(timocracy)، و”الأوليغارشية”(oligarchy)، و”الديموقراطية”(democracy)، و”الطُّغيان” أو الاستبداد(tyranny). والمجتمع يبدأ من أرستوقراطيةٍ راقية تنحدر إلى أوليغارشية التي تنحدر بدورها إلى ديموقراطية ومن ثم إلى أسفل دَرَك الطُّغيان الأكثر ظلماً. والحل البديل هو نظامٌ أرستوقراطيٌّ فلسفيّ حكموي، على رأسه “ملكٌ فيلسوف”، وحُكْمٌ تطغَى عليه محبّة الحكمة. ففي الحُكْم “التيموقراطي”، يُهيمن ذلك الجزء الغَضَبي في النفس، ويشتمل على محارِبين أو قادة كبار يهوَوْن المجد والشَّرَف والظَّفَر وامتلاك المقتنيات، وخيرُ مثالٍ عليه هو مدينة “أسبارطة”. وحينما يطغَى حُبّ جَمْع الثروة على الشَّرَف والمجد ينحدر هذا الحُكْم إلى “أوليغارشية”، الذي يُهيمن عليه أصحاب الرغبة الشديدة بالثراء، فتصبح الطبقة الحاكمة من الأثرياء والأغنياء والمستأثرين بالأموال، فيتَّسِع الفارق بين الأغنياء والفقراء ليبلغ ذروته بثورةٍ من الطبقة المسحوقة التي تسعى إلى إنشاء ديموقراطية.

ومن ثمّ تأتي “الديموقراطية” التي تنشد أقصى حرّية ومساواة بين الشعب لكن سرعان ما تُهيمن عليها الرغبة الدنيوية المادية بطريقةٍ غير مُنتظمة أو مقيَّدة تفتقد إلى الحكمة والعقلانية. ومثل هذه الشَّعبوية في الحُكْم الديموقراطي تُفضِي إلى حُكْم غوغاء يخشون الطبقات السابقة، وهذا ما يغتنمه “الديموغاجيون” للسيطرة على السُّلطة بحُكْمٍ طُغياني. ونصل إلى الحُكْم “الطُّغياني” حيث يصبح الشعب والدولة عبيداً لطاغٍ مستبدّ يستخدم قوته لإقصاء ذوي العقل والنَّخوة لكي تتسنَّى له السيطرة على السُّلطة من دون منازِع. كما أنّه يستحدث حروباً من أجل ترسيخ مكانته كقائد. ولهذا السبب يعتبر أفلاطون أنّ الطُّغيان أو الاستبداد هو الحُكْم الأكثر ظلماً وتغييباً للعدالة على الإطلاق.

السُّلطةُ تُفسِدُ النفسَ العادلة

عَوْدٌ على بدء، يُقارِن أفلاطون على لسان سقراط بين هذه الأنظمة وقِوى النفس لا سيّما في “الفصل التاسع”.ويشير إلى ميل البشر إلى أنْ تُفسِدهم السُّلطة والقوة فينحدرون تقهقراً في أنواع أنظمة الحُكْم تماشياً مع القِوى المضطربة لنفوسهم. فمن النظام الطُّغياني لـ “المدينة” ينتقل سقراط إلى المَنحَى الطُّغياني للنفس البشرية وبالتالي يُجيب على الجَدَل الأول لمحاوِره ثراسيماخوس في “الفصل الأول” الذي ادَّعَى أنّ الإنسان الظالم المفتقد للعدل، أي الطَّاغِي، ينعَمُ بحياةٍ أفضل من الرجل العادل، أي “المَلِك الفيلسوف”. ويؤكّد سقراط أنّ الطَّاغِي عَبدٌ لشهواته فيما هو سيّدٌ فحسب على مَنْ بإمكانه أنْ يستعبده. وبالتالي فإنّ الطَّاغِي يفتقد إلى الحرّية والسعادة بل هو الأكثر تعاسة، ويُشدِّد على عذابات الطَّاغِي المُستَبِّد وآلامِه وحياته المُجهِدَة بدنيّاً وفكريّاً على نقيض “المَلِك الفيلسوف” المُحِبّ للحكمة والحقيقة، إذ إنّ الطاغي لا يذوق طعمَ الحرّية الحقَّة أو الصداقة الراقية ولا يسعَهُ أنْ يحكُم بعدلٍ لأنّه لا يدرك مِثال الخير أو الحق أو الجمال.في المقابل فإنّ النفسَ المُحِبَّة للحكمة أكثر تهيُّؤاً للحُكْم العادل من خلال العقل، وهو ما يجعل الحكمة أفضل من المجد والشَّرَف والرغبة بالمال والسيطرة، وبالتالي فإذا ما قادَت الحكمةُ النفسَ البشرية أو “المدينةَ” فتصل بها إلى برّ العدالة والسعادة على نقيض الطُّغيان. وبذلك يكون سقراط قد فنَّدَ جَدَلَ ثراسيماخوس ليُثبِت أنّ الحكيمَ العادلَ هو مباركٌ، ومباركةٌ الأرض التي يحكُمها!.

خاتمة

إنّ التشبيه بين “النفسِ العادلة” و”المدينة العادلة” يُمثِّل اللِّبنَة الأساس في نظرية أفلاطون حول “العدالة”.فالعدالة تبدأ من النفس تناغماً في قواها وفضائلها وتصل إلى الحُكم المثالي بأنوارِ العقل على يدِ ملكٍ فيلسوف! فهل لهذا القول من تأثيرٍ في أيامنا هذه بعد ألفين وخمسمائة سنة من كتابته؟ هذا ما ستُبديه الأيامُ إذا ما تنامى الوعي العقلاني، فكريّاً وسياسيّاً، على هُدى أفلاطون!


المراجع

  1. The Republic by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
  2. Annas, J. 1999. Platonic Ethics, Old and New. Ithaca: Cornel University Press. An introduction to Plato’s Republic. Oxford: OUP, 1981.
  3. Brickhouse, T. C., and N. D. Smith. 1994. Plato’s Socrates. Oxford: Oxford University Press.
  4. Kraut, R. 1984. Socrates and the State. Princeton: Princeton University Press.(1979).
  5. Parry, R. D. 2003. “The Craft of Ruling in Plato’s Euthydemus and Republic”. Phronesis 48: 1–28.
  6. Vlastos, G. 1991. Socrates: Ironist and Moral Philosopher. Ithaca: Cornell University Press. (1981).
  7. Grote, G., Plato and the Other Companions of Socrates 1 (1865).
  8. Gulley, N., The Philosophy of Socrates (1968).
  9. Taylor, A. E., Plato, the Man and his Work 6 (1949).

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي