الجمعة, شباط 21, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, شباط 21, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

العرس القروي

العرس القروي

من فـــرح حقيقــي واحتفــــال بالثقافـــــة
إلى مسرحيات مملة ومتفرجين وتبذير ومباهــاة

لا يوجد مكان يمكن فيه معاينة التآكل التدريجي لثقافة الموحِّدين الدروز وأسلوب حياتهم كما هو واقع في حفلات الزفاف، هذه المناسبة التي كانت على الدوام إحدى أهم مؤسسات الثقافة الجماعية وتعبيراتها تحوّلت وفي غضون عقد من الزمن إلى شيء آخر لا يمت بأية صلة إلى ثقافة الموحِّدين الدروز أو آدابهم أو ثقافاتهم، كما أنه لا يمت بأي صلة للوظيفة الأصلية التي أعطيت لحفل الزفاف في الماضي وهي شد أواصر التضامن والمحبة بين الأسر والقرى وبين أعضاء القرية الواحدة وتأكيد قيم التوحيد الأصلية مثل إكرام الضيف والاحتفاء بالعريس (والعروس) وإحياء النسب الجديد بين العائلتين والاحتفال بوقوعه وتواصل الناس مباشرة عبر مشاركة الجميع بالمناسبة، أو المساعدة في إعداد الطعام أو المشاركة في حلقات الرقص وغير ذلك من تعبيرات النخوة والتضامن التي كانت بالفعل تفرح الصدور. فما الذي جعل هذه المؤسسة المهمة في ثقافة الموحِّدين الدروز بل ونسيجهم الاجتماعي تتقهقر إلى الحالة التي نشهدها اليوم؟ وكيف يمكن إحياء “العرس الدرزي” عبر مبادرات هادفة ومصممة على صون الهوية والثقافة أمام هذه الهجمة الشرسة للإبتذال؟

إحدى أبرز المفارقات في حفل الزفاف القروي الذي نسعى لإنقاذه اليوم هو أنه لم يكن يسمى بحفل الزفاف بل “الفرح” فكان لا يقال “زفاف” فلان بل “فرح” فلان تعبيراً عن الشعور العارم الذي كانت تتركه المناسبة في قلوب المشاركين وذاكرتهم. وأذكر كيف أننا عندما كنا في سن المراهقة أو أدنى منها كنا نسعد أيما سعادة كلما بلغنا بأن هناك “عرساً” (فرحاً) في اليوم الفلاني هو عرس فلان.
كنا ننتظر المناسبة ليس فقط لأننا كنا نشارك أو نتابع مظاهر الفرح والحبور والتوادد العفوي بين الناس، بل لأننا كنا ومن دون وعي منا نطلع من خلال العرس على الكثير مما يشكّل أساس ثقافتنا وقيمنا. كان العرس بالنسبة إلينا مدرسة أو “درس عملي” نشاهد خلاله كيف يتعامل الناس وكيف يفرحون وكيف يحتفلون. كنا نشاهد أهل القرية ونتعرّف عليهم وعلى طباعهم وما يميّز كل فرد منهم بصورة أفضل من خلال رؤيتهم يتحرِّكون ويتحدثون ويتسامرون أو يؤدون رقصاتهم عبر الدبكة أو “الحوربة” أو الرقص الحر، كما كنا نرى كيف كانت كل من العائلتين المتصاهرتين تحتفلان بالمصاهرة وما ينتج عنها من روابط ألفة واعتزاز وشعور بالقوة وهذا مغزى قول السابقين “الصهر سند الظهر” .
باختصار كان كل حفل زفاف أو عرس يعلمنا نحن الصغار أو المراهقون شيئاً جديداً عن أهلنا وبيئتنا وثقافتنا، وكان أهم ما نستذكره ويثير اهتمامنا هو تلك الحالة من التآزر والتآخي والفرح العفوي الذي كان يستثيرها العرس في الجميع، وهي حالة كان قوامها الأهم كون العرس مناسبة فرح جامعة كان على كل شخص المساهمة بقسطه فيها. لكن كان الأهم أيضاً الدور المهم للعرس في التأكيد على ثقافة الرجولة والعنفوان، وقد كان جزء أساسي من رقص الرجال مستمداً من تقاليد الفروسية واستذكار ما سلف من معارك الشرف وحماية الديرة والأهل. وكان الحماس يسيطر على المشاركين عند كل “جوفية” أو مقطع ينشده الرجال في استذكار الشجاعة والغيرة والقيم التي جعلت الموحِّدين يستمرون عبر الزمن ويحفظون كيانهم إزاء كل أنواع البلاء والامتحانات.
بالطبع كان لأعراس الستينات وحتى السبعينات أو قبل ذلك رجالها وقد كان قسم منهم لا يزال يحفظ الكثير عن الثورة السورية الكبرى التي قادها الزعيم الدرزي العربي سلطان باشا الأطرش ورفاقه الميامين، وكانت هناك أيضاً أزمة 1958 والتي نظر البعض إليها كاستمرار لكفاح الموحِّدين الدروز دفاعاً عن الهوية العربية وانتصاراً لرابط العروبة، فكان هذا الرعيل بالتالي عماد تلك المناسبات السعيدة وواسطة لاستمرار العرس في دوره كفرح وكمدرسة للتنشئة وكإحدى مؤسسات تناقل التراث، وقد غاب هذا الجيل مع كل زاده الثقافي ليحل محله جيل آخر يواجه زمنا آخر وظروفاً اقتصادية وثقافية بدّلت كثيراً في حياة الدروز وحياة أهل الجبل واقتصادهم وثقافتهم وأساليب عيشهم اليومي. وأبرز التحديات التي برزت في السنوات الأخيرة من تلك الحقبة كانت ولا شك تحدي التواصل الكوني والتنميط الثقافي بواسطة العولمة والفضائيات ومواقع الإنترنت. وقد لعب هذا التنميط الثقافي دوره بسرعة كبيرة لم تتح لأي كان فرصة التقاط الأنفاس أو التفكير في كيفية التعامل مع الموجات الجديدة، وهناك بالتالي خسارة حاصلة من رصيد الهوية واختلاط ذهني وتشوش في عقول الناس التي تخضع بطبيعتها للمؤثرات.
وهذا القول صحيح خصوصاً بالنسبة للعامة من الناس خارج مجتمع الالتزام الديني أو ما يمكن تسميته مجتمع “أهل الزي”؛ وهو مجتمع أولئك الذين أدخلوا أنفسهم طوعاً وعبر طلب الترقي والسلوك في دائرة واضحة محددة المعالم لما يعتبر في صلب مجتمع التوحيد وسلوك الموحِّدين وما يعتبر مناقضاً له أو دخيلاً عليه وغريباً بالتالي عنه.
ومشكلة “الدهريين” من دروز هذا الزمان أن المنقطعين منهم عن التوجيه السليم والمعرضين لشتى التأثيرات لم يعودوا يعرفون ما هو منهم وما ليس منهم في الحقيقة. وهذا الأمر ينطبق على ما طرأ على العرس الدرزي كما ينطبق على العديد من جوانب الحياة التي تبنيناها من دون مقارنتها مع أي مرجعية أو تعريف ولو عام لثوابت الهوية وجوهر الثقافة والمصلحة أو حتى الفطرة الإنسانية والذوق السليم.
إن طرح موضوع العرس الدرزي ليس هدفاً في حد ذاته، بل هو مناسبة لتسليط الضوء على أهمية إعادة تحديد مكونات الهوية الثقافية لأهل الجبل ووضع بعض الفوارق والعلامات التي تبقي للموحِّدين الدروز

مشكلة “الدهريين” من دروز هذا الزمان، أن المنقطعين منهم عن التوجيه السليم والمعرضين لشتى التأثيرات، لم يعودوا يعرفون ما هو منهم وما ليس منهم في الحقيقة

“الضحى” تدعو لمبادرة أهلية لإحياء تقاليد العرس القروي وإلى صندوق لتشجيع العرسان على التزام الصيغة الأصيلة والتراثية لحفل الزفاف

بعض أهم العناصر والمقومات التي جعلت منهم جماعة تحظى بالاهتمام والاحترام (احترام الذات واحترام الآخرين) في هذا المشرق. لقد جرى التركيز على موضوع الهوية على اعتباره أمراً متعلِّقاً بالعقيدة لكن على الرغم من أهمية ذلك، فإن العقيدة أمر فلسفي أو ضميري، بينما تقوم الهوية بالدرجة الأولى على مكونات وتصرفات ثقافية واجتماعية بالدرجة الأولى، كما تستند إلى مؤسسات “التدريب على الهوية” Initiation مثل التعليم والتنشئة الأخلاقية في الصغر واستكشاف الطبيعة والعلاقة بالأرض ومجالس المذاكرة، كما أن من أهم مكوناتها أيضاً مؤسسات ثقافية مثل حفل الزفاف.
لذلك، وعندما يقال أن حفل “العرس” هو تعبير عن الهوية والثقافة فهذا يعني في الوقت نفسه أن تردي وتقهقر هذه المناسبة من دورها الأصلي لا بدّ أن يعتبر جرحاً كبيراً في الهوية وأحد الأشكال التي نعاين فيها تقهقر المجتمع الدرزي وخسارته للكثير من
عناصر المناعة والقوة.
حقيقة الأمر أن حفل الزواج العفوي والزاخر بالعنفوان وتعبيرات المودة والرجولة والمحبة بين الإخوان، انحط وعلى مدى عقدين أو ثلاثة من الزمن إلى مسرحيات دخيلة ومملة يسلّم فيها أطراف الحفل أنفسهم ومالهم، بل وكل تفاصيل ما سيجري في يومهم العظيم إلى شركات ومبرمجين ومصممين ومزينين ومحلات وشركات سيارات ومصممي ألعاب نارية وغيرها، ومن أجل هذه المسرحية المكلفة والتي غالباً ما يستدين بعض العرسان من أجل الوفاء بمتطلباتها، ينكب الجميع لأشهر طويلة على دراسة الخطة بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة والهم الأول في رأسهم هو كيف سيتم “إخراج” وتمثيل “مسرحية العرس” بما يرضي الجمهور ويجعل من الحفل والسهرة حديث الناس وموضوعاً لإعجابهم وتعليقاتهم. وهناك قصص لا نهاية لها لما تفتَّقت عنه مخيلة مخططي الأعراس أحياناً من ابتكارات وأفكار مدهشة، لكن القليل يتسرب بعد ذلك عن الأزمات وحالات الأرق التي تسبب بها الإنفاق غير المحسوب للعروسين عندما “تذهب السكرة وتأتي الفكرة” في اليوم التالي مع تسلّم الفواتير.
هناك شيء بسيط يؤمن به أهل الفطرة والحس السليم في مجتمعنا وهو أن الله مع الجماعة وأنه يحب للناس أن يفرحوا ويتآزروا، كما أنه لا يحب التباهي الفارغ والذي يولد التحاسد “إن الله لا يحب كل مختال فخور” (لقمان:18) كما أن المولى جل وعلا يكره التبذير ويحذِّر منه “إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين” (الإسراء:27). وهو يحب للناس أن يفرحوا مع التقوى لا أن يسوقهم الفرح في دروب الطيش وترك الآداب. وقد كان توافر هذه الميزات في العرس الدرزي سببا لنزول البركة فكانت بضعة قصعات من الهريسة أو ذبيحة خروف تكفي القرية وتفيض عنها. أما الآن فإن كل هذا الإنفاق وهذا الكرم الاستعراضي لا يجلب السعادة لأحد (باستثناء وكالات تخطيط الأعراس بالطبع والمزينين النسائيين ومحلات الهدايا وغيرهم) لأنه إنفاق بقصد المباهاة وليس إعطاء الفرح للناس، وهو في غالب الأحيان غير مبارك في الحقيقة وكثير من المشايخ سيتأبون على الأرجح من تناول شيء من طعام تلك المناسبات.
لقد وصل ما ينفق في تلك الأعراس الصيفية شديدة البذخ عند الأثرياء والقاصمة للظهر عند محدودي الدخل بضعة ملايين من الدولارات سنوياً، لكنه كما قلنا إنفاق استهلاكي عديم البركة غالباً وسقيم في تعبيراته وصلته بإرث الموحِّدين وبمفهوم”الفرح” كما عرفه مجتمعنا لمئات السنين. وعلى ذكر الإنفاق الباذخ نورد هنا مفارقة بليغة هي افتقاد مناسبات الأعراس الصاخبة لأعمال الصدقة والخير كجزء من المناسبة وكسبيل لنيل البركة والتوفيق للعريسين.
وعلينا أن نفكّر في ما تمثله تلك المناسبات التي تنفق فيها الألوف وأحياناً عشرات الألوف أو حتى مئات الألوف من الأموال، من أجل إحياء يوم واحد أو سهرة. علينا أن نفكر ونسأل أنفسنا ألا يمكن في هذا الجو من الإنفاق بلا حساب أن يتخلل حفل الزفاف مثلاً الإعلان في السهرة من قِبل العريسين أو أهلهما عن تخصيص تبرّع معين لمؤسسات الخير والرعاية الاجتماعية؟ ألا يمكن ومن أجل استعادة بعض الدور الاجتماعي للعرس أن يصبح مثل هذا العمل تقليداً محموداً ويشجّع عليه بدل التركيز فقط على استعراض أشكال المصاغ والحلي الثمينة المقدمة للعروس، أو لفت الأنظار إلى ثوب الزفاف باهظ الثمن والألعاب النارية التي تحول الألوف من الدولارات وللحظات معدودة إلى بارود مشتعل ودخان؟ أليس استذكار أصحاب الحاجات وإظهار روح التضامن في مناسبات الفرح هذه من صلب روحية حفظ الإخوان، وإعلاء قيم الغيرية والمشاركة بين أبناء الطائفة؟ هذا النوع من المبادرات سيرحّب به الموحِّدون الدروز ويقدرونه في نهاية الأمر، وعلى الشباب القادر الذي يخطط لحفل زفافه في هذه الفترة أن يضع هذا الأمر في الاعتبار، إذ إنه بمجرد أن يوجد نفر ممن يدخلون تقليد الصدقة أو الزكاة في الأعراس فإنه من المرجّح أن يتحوَّل ذلك إلى عُرف وإلى مصدر مهم للموارد والعناية كما وسينال أول المبادرين إلى إدخال هذا التقليد الفضل والأجر الكبير. ونحن مستعدون في المجلة للتنويه بهذه المبادرات وإفراد سجل خاص
للتنويه بأصحابها ومكرماتهم.
إضافة إلى ما سبق فإننا نطلق في هذا المقال مبادرة لإحياء تقاليد العرس الدرزي، يشارك فيها بعض حكماء الطائفة وعقالها وفنانوها الشعبيون وأنديتها الثقافية ومؤسساتها وبلدياتها وهيئاتها الأهلية على أن يكون الهدف التشجيع على تصويب مسار حفل الزفاف بصورة تعيد له دوره الاجتماعي وبعده الثقافي في الوقت نفسه الذي تعيد ابتكاره كمناسبة للفرح وإعلاء قيم الأصالة والمشاركة الحقيقية للناس.
يهمنا التأكيد على أن الهدف من المبادرة ليس ممارسة أية وصاية ثقافية على الناس، فهم أحرار في ما يختارونه، لكن الهدف هو المساهمة في وقف هذا التسابق المكلف على الاستعراضات الفارغة والمملة، وذلك عبر اقتراح بدائل جذّابة وأنجح حتى في تحقيق غرض أصحابها. ولا نعتقد أن التفكير في إعادة ابتكار العرس الدرزي أو “الفرح” سيؤثر على تجارات بعض الناس أو يصيب سوق الأعراس ولوازمها بالكساد، لأن إحياء العرس الدرزي سيخلق اقتصاداً جديداً يتجه لتوفير متطلبات هذا النوع المختلف من المناسبات، ونحن نقترح أن يتم ربط الأعراس والهدايا المقدمة بتشجيع بعض أنواع الحِرف والصناعات المنزلية التقليدية التي تصبح هي الممون الأول لتلك المناسبات، سواء الهدايا التي تقدم للعروسين أم الهدايا والتذكارات التي تقدم للمدعوين. ولا حاجة للتفصيل في هذا المجال لكن المهم هو العمل على قيام مؤسسة أهلية ثقافية لإحياء العرس الدرزي تتولى تقييم الوضع الحالي واقتراح البدائل وكذلك إنشاء صندوق مالي محدد الأغراض لرعاية تلك المبادرة، وربما وفي مرحلة أولى تقديم حوافز ودعم مالي للعرسان الذين ينضوون تحت لوائها ويعرضون تنظيم أفراحهم وفق المنظور الذي يعيد الاعتبار لهوية الموحِّدين ويعيد البهجة للمحتفين في أعراسهم.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي