الجمعة, نيسان 18, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 18, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

العقل دينًا

المقدِّمة

كيفية-حفظ-القرآن-الكريم-بسهولة
كيفية-حفظ-القرآن-الكريم-بسهولة

تعاني ظاهرة الدين في يومنا هذا من مشاكلَ شديدة التعقيد. فعلى سبيل المثال، باتت علاقة الدين بحياة الإنسان اليوميَّة وبالسياسة غير واضحة المعالم بعد انتشار مفاهيم العلمنة والأنظمة السياسيَّة القائمة على القوانين الوضعيّة، الأمر الذي فرض على الفرد المؤمن والدولة على حد سواء تحدّيات كثيرة خاصةً بعد أن سادت أنماط حياة عصرية تختلف اختلافًا جوهريًّا عن تلك التي دعت إليها التعاليم الأساسيّة لكثير من الأديان التوحيدية الرئيسة؛ وجَعَلَ، تاليًا، التوفيق بين الاثنين أمرًا صَعْبًا، وأحيانًا مستحيلًا. وهناك أيضًا إشكاليَّة علاقة الدين بالعنف الممارس تحت راية المعتقدات الدينية المختلفة. ثمَّ هناك إشكاليّة علاقة الدين بالعلم وعلاقة الإيمان بالعقل، والشرع بالفلسفة، وهي جبهة حرب مُشتعلة منذ العصور القديمة حتى يومنا هذا.
وفي حقبة الحداثة، نجح رُوَّادُ الثورة العلمية ومفكِّرو التنوير في إرساء معادلة تقول إنَّ الإيمان والعقل هما شيئان متناقضان لا يلتقيان: فحيثُ يحضر أحدُهما يَغيب الآخر. ونجحوا في حَصْرِ عمل العقل بالعلوم الطبيعية وأعطوها وحدها القدرة على كشف حقيقة الوجود المادي، وفي حَصْرِ الإيمان بمجال الظنون والآراء الخاصة التي يرتبط بها الناس من خلال مشاعرهم اللاعقلانيَّة. ونرى اليوم أنَّ كثيرًا من القيِّمين على الأديان أنفسهم قد قبلوا هذه المعادلة بعد أن ترسَّخت بمرور الوقت من خلال المناهج التعليمية الحديثة والتقدُّم الـمُطَّرد للاكتشافات العلميَّة والتقنية التي لم تزل تبهر العالم بإنجازاتها الكبيرة. غير أنَّ القبول بهذه المقولة يطرح بنظري الإشكاليَّة الأخطر والتحدي الأكبر أمام الدين، لأنَّ الكتب المنزلة جعلت الحقيقة مقصد الأديان التوحيديّة الرئيس. وبالتالي، فإنّ مثل هذا الفصل لا يضرب فرعًا من فروع الدين بل أصلًا من أصوله.
بالطبع، ليس ههنا المكان للخوض في أسباب نشوء هذه الإشكاليَّة ونتائجها وأبعادها. فغرض هذا البحث هو إظهار أصالة العلاقة الموجودة بين الجانب الإنساني للدين (أي المعرفي والإيماني والمسلكي) وطبيعته العاقلة بوجهٍ عام، وليس بالجانب المعرفي أو الإدراكي منها حصرًا؛ وذلك من خلال تقديم تحليل مُركَّز للخطاب القرآني الذي جعل هذه الطبيعة مَرْكَزًا للهويّة الإنسانيّة ولأهمّ الأعمال الروحيّة المتَّصلة بجوهر التحقيق الديني، وأقصد المعرفة الإلهيّة والإيمان والأعمال الصالحة. وكيف أنَّ الخطاب القرآني، وانسجامًا مع هذا الاتجاه، جعل الدين دليلًا فعَّالًا لتحقيق الكمال الخاص بهذه الطبيعة الإنسانيَّة العاقلة بما يتضمَّنه من إرشاد معرفيّ ومسلكيّ يهدف إلى حفظها وتنميتها.
غرض كهذا يفترض إظهار مقاربة الخطاب القرآني للذات الإنسانية والحالة الوجودية المختصة بها: طبيعتها الخاصة وعلاقتها بالخالق وعلاقتها بالرسالة الإلهيّة المتمثّلة بالنص الموحى، وعلاقتها بالإرادة الإلهيّة والتي يفترض أن تتمظهر في السيرة الموافقة (أو “الطائعة” بالمصطلح الديني)، ولدور العقل من حيث هو القوة الإدراكيّة الخاصة بفهم حقائق الوجود وغيرها من الموضوعات التي تتفرع عنها أو تتصل بها. ولضيق المجال، سأعمد إلى الاقتصار على تقديم الأفكارِ الرئيسة التي تُبرز العلاقة الوثيقة بين الدين والعلم وبين الإيمان والعقل، واستحالة الفصل بينهما، وإظهار الحجج التي أستند إليها في تحقيق هذا الغرض.
وقد تقصَّدت باختيار عبارة “الخطاب القرآني” في العنوان إبراز المنهج الذي سأتّبعه في إظهار ما يقوله الكتاب المنزل عن مفهوم العقل وعلاقته بالدين والإيمان. ويقوم هذا المنهج على تتبُّع المفردات التي تتصل بـ”العقل” بما هو قوة إدراكيّة بوجه خاص وتلك المتّصلة بالطبيعة العاقلة للإنسان بوجه عام ودراسة الروابط المعنويّة (من معنى) والوظيفيّة التي يبنيها الخطاب القرآني فيما بين هذه المفاهيم والمفردات نفسها وفيما بينها وبين مفاهيم ومفردات أخرى تتصل بالعلم والمعرفة والإيمان وغيرها. ويندرج هذا المنهج ضمن التفسير العقلي للنص القرآني لكونه يقاربه باعتباره نصًّا يُقدِّم مفاهيم واضحة ومُتّسقة عن الموضوعات التي تندرج فيه، ومن ضمنها العقل وعلاقته بالدين والإيمان، ويتقصَّى معاني الآيات وغاياتها لا من خلال المأثور والخبر (أي النقل) بل بتحليل النصّ تحليلًا عقليًّا ممنهجًا.
سأبدأ البحث بعرض موجز لنموذجَين بارزَين لمقاربة هذا الموضوع من التراث الإسلامي، وهما ابن رشد والغزالي، وإظهار أهمّ أبعاد نظرتهما إلى المسألة. ثمَّ أقدِّم عرضًا مُركّزًا ومختصرًا لأهمّ ما تفسّره المعاجم التراثية الرئيسة عن معاني العقل لأنتقل بعدها إلى الغرض الرئيس للبحث فأعرض أولًا لعلاقة العقلِ بالهُوية الإنسانيّة، ثمَّ علاقته بالنص المنزل من حيث هو قوة الإدراك المختصّة بالحق الذي هو غاية الوحي، ومن ثمَّ علاقة الرسالة النبوية بالعقل والطبيعة العاقلة، وعلاقة الطبيعة العاقلة بالسيرة الإنسانيّة والمصير الروحي الموعود للمؤمنين.
ويهدف هذا البحث إلى تقديم صورة مختلفة، وربما مناقضة، لتلك المألوفة في أيامنا هذه عن الموضوع. وأعتقد أنَّه من المفيد للدراسات الإسلاميّة خاصةً والدينيّة عامةً إعادة الإضاءة على العلاقة العضويّة بين الاختبار الدينيّ والحالة الإنسانيّة بطبيعتها العاقلة بالعودة إلى النص الديني الأصل ودراسته بمعزلٍ عن الأطر المألوفة في التراث الإسلامي والقيود المنهجيّة والمفاهيميّة التي يشتمل عليها لما قد يساهم ذلك في فتح آفاق جديدة للأبحاث المرتبطة بالموضوع ذاته بوجه خاص والدراسات الدينيّة والقرآنيّة بوجه عام. ومن شأن دراسة كهذه أيضًا أن تقدِّم منظورًا مختلفًا للإنسان المعاصر الذي يبحث عن أطر عقليّة لفهم حقيقة العلاقة القائمة بين العلم والدين والعقل والإيمان بعيدًا عن الخطاب الديني التقليدي من جهة والمقاربات الحديثة، التصالحية منها أو الصدامية، من جهة أخرى، وذلك بتقديم مادة علميّة متّسقة ومفهومة للتفكُّر بالموضوع بأبعاده المتعدّدة في وقت بات يُشكل فيه تطوُّر العلوم الطبيعية والمناهج الاختباريّة على أنقاض المعتقدات الدينية الموروثة أحد أبرز التحديات التي تواجه استمرارية الدين في المجتمعات المدنيّة الحديثة، وينحو العالم فيه أكثر فأكثر إلى التفريق بين الدين والعقلانية وإلى مقاربة التجربة الدينية بافتراضها حالة عرضيّة على السيرة الإنسانيّة بعمقها التاريخي المديد.

نموذجان بارزان من التراث الإسلامي
درج الباحثون في العصر الحديث على مقاربة علاقة العقل بالدين والإيمان في التراث الإسلامي من خلال ما كتب مُفكران إسلاميان معروفان من العصر الوسيط عن الموضوع، وهما القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد ابن رشد (ت. 595هـ/1198م) والإمام حجّة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي (ت. 505/ 1111م). ويُقَدَّم الأول على أنَّه يُمثِّلُ المنحى العقلي في التفسير والتشريع الديني وصديق للفلسفة والعلوم العقليّة والطبيعية، ويُقَدَّم الثاني على أنَّه النقيض الذي يُمثِّل المنحى التقليدي ومناهض للعقل والفلسفة والعلوم العقليّة والطبيعية عامةً. وسأقدّم في ما يلي عرضًا مختصرًا لمقاربتي ابن رشد والغزالي لإظهار أهم معالمهما والإشكاليّة الرئيسة التي تصدَّيا لها كنموذجين لما هو مألوف عن الموضوع في التراث الإسلامي، بهدف توضيح الخلفيّة الجدليّة للموضوع من جهة، ولبيان جدّة المقاربة التي يتضمنها هذا البحث من جهة أخرى.

مقاربة ابن رشد
خصَّص ابن رشد كتاب فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال لتوضيح أنَّ الشرع الإسلامي وخاصةً النَّص المنزل لم يُجِز استخدام المناهج العقليّة في تفسير الكتاب والعلوم الدينيّة وحسب، بل دعا إلى إعمال العقل في فهم الدين والوجود عامةً، وأوجب ذلك على المسلمين في كثير من آيات الكتاب المنزل. وقد بيّن ذلك في مقدمة كتابه المذكور، حيث قال:
فأمَّا أنَّ الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلّب معرفتها به، فذلك بَيِّن في غير آية من كتاب الله تبارك وتعالى مثل قوله تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ (الحشر/2). وهذا نصّ على وجوب استعمال القياس العقلي، أو العقلي والشرعي معًا. ومثل قوله تعالى ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ﴾ (الأعراف/185). وهذا نص بالحثّ على النظر [العقلي] في جميع الموجودات (2).
غير أنَّه عاد وحَصَر جواز استخدام النظر العقلي سواء أكان في تفسير الكتاب أم في دراسة العلوم الدينيّة الأخرى بنوع خاص من الناس، وهم الذين يصلون إلى التصديق بالحقائق عن طريق البرهان، أي بواسطة العقل. فقد استنتج ابن رشد أن النصَّ القرآني قسَّم الناس إلى ثلاثة أقسام وفق طرق التصديق التي توافق طباعهم:
إنَّ شريعتنا هذه الإلهية حقّ وإنّها التي نبّهت على هذه السعادة، ودعت إليها، التي هي المعرفة بالله ومخلوقاته، فإنَّ ذلك مقرّر عند كلّ مسلم من الطريق الذي اقتضته جبلّته وطبيعته من التصديق. وذلك أن طباع الناس متفاضلة في التصديق: فمنهم من يصدّق بالبرهان، ومنهم من يصدّق بالأقاويل الجدليّة… ومنهم من يصدّق بالأقاويل الخطابيّة (3).
وقد بنى ابن رشد استنتاجه هذا على “تضمُّن شريعته طرق الدعوة إلى الله تعالى، وذلك في قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل/125)” (4). ووفقًا لتفسيره للآية المذكورة، فإنَّ كل طريقة من طرق الدعوة المذكورة فيها – أي الحكمة والجدل والوعظ – توافق طبعًا من طباع الناس في طرقهم في التصديق؛ وإنَّ الحكمة هي الطريقة الموافقة لطبع من يصلون إلى التصديق بالبرهان من دون غيرهم. ويحقّ لهؤلاء فقط، بل هو واجبٌ عليهم، أن يعتمدوا المنهج العقلي في تفسير الكتاب المنزل وتأويل الظاهر اللامعقول منه وفي فهمهم للوجود.
ثمَّ أشار ابن رشد إلى أنَّ تناقض ظاهر الآيات مع أحكام العقل هو دليل لأصحاب طريقة البرهان على وجوب تأويل تلك الآيات للوصول إلى المعنى الموافق للعقل (5) . من هنا، يظهر لنا أمران: الأول، أنَّ العقل وأحكامه يشكلان مرجع الحقيقة الأوّل لأصحاب طريقة البرهان، أي أنّ حُكم العقل عندهم يعلو حكم الشَّرع لأنَّ الدليل على وجوب استعمال منهج التَّأويل لفهم معاني الآيات هو تعارض ظاهرها مع أحكام العقل. فعند وقوفهم في الكتاب المنزل على معنى ظاهر يتعارض مع أحكام العقل يجب على أصحاب طريقة البرهان تأويل الآية بحثًا عن معنى خفيّ معقول يكون سبيلًا لهم إلى إصابة المعرفة والتصديق بحقائق الوحي. أمَّا الأمر الثاني فهو أن بقيّة الناس، وهم الأكثرية، يجب عليهم الأخذ بالظاهر اللامعقول كما هو، بالرغم من تناقضه مع أحكام العقل.
إذًا، حصر ابن رشد مقاربته للموضوع بتبيان إجازة الشرع لاستخدام النظر العقلي والمناهج العقلية في دراسة العلوم الشرعيّة وفهم حقائق الوجود، وإظهار وجوبه لقلّة من الناس؛ ولكنّه لم ينفِ وجود سبل أخرى لا تشترط إعمال العقل وتطبيق أحكامه لتحقيق هذا الغَرَض. فابن رشد لم ينف قدرة الناس الذين ينتمون إلى النوعَيْن الآخرين – أي الجدليّين والخطابيّين – على الوصول إلى معرفة الله والإيمان والتصديق به، وتاليًا تحقيق شروط نيل السعادة الأبديّة بالرغم من عَجْزهم عن فهم المعاني المعقولة التي يصل إليها أهل البرهان من خلال تأويل الظاهر اللامعقول. وقد جزم ابن رشد بأنَّه يُمكن للجدليّين والخطابيّين الوصول إلى الإيمان من خلال التصديق بالظاهر ولو كان لاعقلانيًّا عندما أوجب منعهم من قراءة التأويلات البرهانية للظاهر اللامعقول وإلزامهم الوقوف عليه والتصديق به، لأنّ هدمه لهم عبر التأويل يؤدّي بهم إلى الكفر:
وهذا التأويل ليس ينبغي أن يُصرَّح به لأهل الجدل فضلًا عن الجمهور (أي الخطابيين). ومتى صرّح بشيء من هذه التأويلات لمن هو من غير أهلها، وبخاصّة التأويلات البرهانية لبُعدها عن المعارف المشتركة، أفضى ذلك بالمصرَّح له والمصرِّح إلى الكفر. والسبب في ذلك أنَّ مقصوده إبطال الظاهر وإثبات المؤول، فإذا بَطَلَ الظاهر عند من هو من أهل الظاهر، ولم يثبت المؤوَّل عنده، أدَّاه ذلك إلى الكفر، إن كان في أصول الشريعة (6).
كلام ابن رشد هذا في غاية الوضوح، فهو يقول إنَّ المعنى العقليّ الناتج من التأويل يُبطل المعنى الظاهر المنافي لأحكام العقل، وإنَّ الجدليين والخطابيين يعجزون عن إدراكه لعجزهم عن إدراك المعاني المعقولة. وإنَّ حفظ إيمانهم وحقّهم بالسعادة الأبدية يشترط منعهم من التعرُّض للمعنى المؤوَّل لأنَّه معنى عقليّ يبطل المعنى الظاهر. فإذا هُدِم لهم الظاهر بتأويله أنكروه، وبعجزهم عن المعنى العقليّ لا يصلون إلى الحقيقة فيخرجون إلى الكفر. وهذه نقطة إشكاليّة في مقاربة ابن رشد. فكيف يمكن أصحاب طريقة البرهان أنفسهم القبول بهذه المقولة، وفي رأيهم أنَّ ما ينافي أحكام العقل هو باطل؛ فكيف يجوز أن يكون التصديق بالباطل سبيلًا إلى معرفة الله ونيل السعادة الأبديّة؟ للأسف، لا يجد الباحث في كتاب فصل المقال جوابًا عن هذا السؤال المشروع. وسيظهر لاحقًا في سياق هذا البحث أنَّ الخطاب القرآنيّ لم يُشر إلى سبيل آخر غير العقل طريقًا لفهم حقائق الوحي وتحقيق الإيمان والوصول إلى النجاة والفوز بالسعادة الأبديّة.

مقاربة الغزالي
بالرغم من التباين الموجود بين موقف ابن رشد تجاه علاقة العقل بالشرع وموقف الغزالي، فإنَّ الأخير قارب هذه المسألة أيضًا من باب الحُكْم ما إذا كان العقل هو الأداة المعرفيّة أو القوّة الإدراكيّة التي تُدرَك بها حقائق الشَّرع والوجود، أم تلك الحقائق تُدرك بأداة أخرى غير العقل وأعلى منه. وقد قسَّم الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال أطوار الإدراك التي يدرك الإنسان فيها أنواع الموجودات إلى أربعة: الحسّ والتمييز والعقل وعين النبوّة (7) . وفيما يكتسب عموم الناس الحواسّ في سنّ مبكّرة، ثمّ يكتسبون بعدها التمييز في سنّ السابعة ومن ثمَّ العقل عند البلوغ، لا يقدر على أن يكتسب عين النبوّة إلَّا القليل منهم، وهم الذين يسلكون مسالك الزهد وتنقيَة القلب من كلّ ما هو سوى الله. ويشرح الغزالي عن طور العقل وعين النبوّة، فيقول:
ثمّ يرتقي إلى طور آخر، فيخلق له العقل، فيدرك الواجبات والجائزات والمستحيلات وأمورًا لا توجد في الأطوار التي قبله. ووراء العقل طور آخر تنفتح فيه عين أخرى يبصر فيها الغيب وما سيكون في المستقبل، وأمورًا أخرى العقل معزول عنها كعزل قوّة التمييز عن إدراك المعقولات (8).
إذًا، عين النبوّة هذه هي بحسب الغزالي أداة المعرفة التي تُدرك الحقائق المخفيّة عن الوجود، والتي يسمّيها خواصّ الأشياء. ويضيف الغزالي العبادات الدينيّة بفروعها الإيمانيّة والمعرفيّة والمسلكيّة – وبالتالي حقائق الوحي – إلى نوع الموجودات الغيبيّة التي لا تُدرك إلَّا بعين النبوة ويعجز العقل تاليًا عن إدراكها. ثمَّ إنَّه جعل هذه العبادات أدوية للأرواح اللطيفة وحياة لها. غير أنَّه لم يربط بين صحّة هذه الأرواح وسلامتها وبين الطبيعة العاقلة، بل ربطها بمعرفة الله والطاعة له والرغبة في طلبه. وبما أنَّ الله من الغيب، فإنَّ معرفته هي فعل عين النبوة بالأصالة، وفعل العقل بالمداورة وذلك بتعلّمها عن الأنبياء والأولياء والتصديق بها. لذا، فإنَّ العقل لا يقدر على الوصول إلى معرفة الله بقدرته الذاتيّة، بل يصل إلى هذه المعرفة باقتباس المعارف الدينية التي يصل إليها الأنبياء والأولياء بقدرة عين النبوة التي تنفتح لهم كما ذكر أعلاه نتيجة الزهد والإخلاص بمحبة الله ومخالفة الأهواء وتصفية القلوب، وبقبول هذه المعارف كما هي. ويقول الغزالي في هذا معنى:
وكما أنَّ أدوية البدن تؤثّر في كسب الصحّة بخاصيّة فيها لا يدركها العقلاء ببضاعة العقل (9)، بل يجب فيها تقليد الأطباء الذين أخذوها من الأنبياء الذين اطّلعوا بخاصيّة النبوة على خواصّ الأشياء، فكذلك بان لي، على الضرورة، أنَّ أدوية العبادات بحدودها ومقاديرها المحدودة المقدّرة من جهة الأنبياء، لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء، بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواصّ بنور النبوة لا ببضاعة العقل.
ويعتبر الغزالي أنَّ أيّ محاولة لفهم خواصّ العبادات ومقاديرها وحدودها بعين العقل هي ضرب من ضروب الحمق والجهل لأنَّ العقل أعمى عن تلك الخواصّ ويعجز عن فهمها لأنّها من اختصاص عين النبوة:
فكذلك العبادات التي هي أدوية داء القلوب، مركّبة من أفعال مختلفة النوع والمقدار، حتى إنَّ السجود ضعف الركوع، وصلاة الصبح نصف صلاة العصر في المقدار ، ولا يخلو عن سرّ من الأسرار، هو من قبيل الخواصّ التي لا يطّلع عليها إلّا بنور النبوّة. ولقد تحامق وتجاهل جدًّا من أراد أن يستنبط بطريق العقل لها حكمة، أو ظنَّ أنّها ذكرت على سبيل الاتّفاق لا عن سرّ إلهيّ فيها يقتضيها بطريق الخاصيّة (10).
إذًا، من يحاول إدراك خواصّ العبادات بالعقل عن جهل منه بعجز العقل عن إدراكها، سيقوده ذلك الجهل إلى استهجان تلك العبادات وإنكار وجود خواصّ فيها تشفي القلوب من الأمراض الدينيّة. فلجهله السبب الحقيقيّ لعجز عقله عن إدراك خواصّ العبادات، يظنّ أنَّ ذلك دليل على عدم وجود تلك الخواصّ (11). ولكن، وبما إنَّ خواصّ العبادات وحدودها ومقاديرها تُدرك فقط بعين النبوة لا بنور العقل، لا يبقى للعقل بنظر الغزالي خاصيّة ولا فائدة إلَّا تمكين المؤمنين من فهم صورة العبادات – أي التعاليم والأعمال والشعائر إلخ – وشروطها، وإدراك عجزه عن معرفة خواصّها، ومن ثمَّ تفسير سبب عجزه عن إدراكها للمؤمنين؛ وهو أنَّها تقع خارج دائرة نظره. ويوضّح الغزالي خاصيّة أخرى للعقل وهي إقناع المؤمنين بضرورة التسليم للأنبياء والأولياء فيما يعلّمونه للناس عن تلك العبادات لكون هؤلاء قادرين على إدراك خواصّها بعين النبوّة. ويصل الغزالي إلى غاية احتجاجه هذا ليقول إنَّ وظيفة العقل هي أن يهدي المؤمنين إلى ضرورة الاتّباع والتقليد الأعمى للأنبياء والأولياء في أمور الدين والعبادات:
وعلى الجملة فالأنبياء أطبّاء أمراض القلوب، وإنّما فائدة العقل وتصرّفه إن عرّفنا ذلك، ويشهد للنبوة بالتصديق ولنفسه بالعجز عن درك ما يدرك بعين النبوة، وأخَذَ بأيدينا وسلّمنا إليها تسليم العميان إلى القائدين، وتسليم المرضى المتحيّرين إلى الأطبّاء المشفقين، وإلى ههنا مجرى العقل ومخطاه وهو معزول عمَّا بعد ذلك، إلّا عن تفهّم ما يلقيه الطبيب إليه (12).
ويبدو أنَّ الغزالي حرص على الانسجام بتفكيره مع مقولته هذه، فذكر مباشرة بعدها أنَّه وصل إلى هذه النتائج عن خواصّ العقل بواسطة عين النبوة وليس بالنظر العقليّ، حيث قال: “فهذه أمور عرفناها بالضرورة الجارية مجرى المشاهدة، في مدّة الخلوة والعزلة” (13) ؛ والمشاهدة المذكورة هي فعل عين النبوّة.
إذًا، وكما سبق أن ذُكر، يتبيّن من التحليل المدرج أعلاه أنَّ الغزالي قد حصر علاقة العقل بالدين والشرع في المجال المعرفيّ والإدراكي، وجعله خادمًا للتقليد والاتّباع الأعمى للأنبياء والأولياء، يعجز عن إدراك خواصّ الموجودات جميعًا، سؤاء أكانت روحيّة، مثل النفس وأمراضها وأدويتها من العبادات، أم طبيعيّة، مثل أحوال البدن وأمراضه وأدويته ومثل الأفلاك. وبالتالي، عزل الغزالي الدين والشرع عن أحكام العقل وجرّده من أهليّته للحكم على مسائل الشرع، وأعطاه دور التابع الأعمى لعين النبوّة.
وإذا ما قارنَّا بين غاية ابن رشد من كتابه فصل المقال وغاية الغزالي من المنقذ من الضّلال نرى فارقًا مهمًّا يمكن تفسيره على النحو التالي: حاول ابن رشد أن يجد للعقل من حيث هو قوة إدراك الحقّ مكانًا أصيلًا وشرعيًّا في الدِّين، وجعل تعارض ظاهر الشرع مع العقل إرادة إلهية مقصودة تهدف إلى تنبيه أصحاب الطباع العقليّة التي تبني التصديق على البرهان إلى ضرورة تأويل هذا الظاهر اللاعقلاني سبيلًا للوصول إلى الحقائق العقلية الخفيّة. أمَّا الغزالي فلم يكن يرى من ضرورة للتوفيق بين العقل والشرع، كما لم يرَ إشكالية في تعارض ظاهر الشرع مع العقل، ولم يعتبر أنّ ذلك يضرب مصداقية الشرع؛ بل على العكس، رأى فيه تفوُّق الشرع وعجز العقل عن معرفة الحقائق. ويشرح الغزالي فهمه لموقف بعض العقلاء من الآيات ذات الظاهر اللاعقلاني في الشرع على النحو التالي: “وكما أنَّ المميّز لو عرضت عليه مدركات العقل لأباها واستبعدها، فكذلك بعض العقلاء أبى مدركات النبوة واستبعدها؛ وذلك عين الجهل، إذ لا مستند له إلَّا أنَّه طور لم يبلغه ولم يوجد في حقه فظنَّ أنَّه غير موجود في نفسه”(14) . قَبِلَ الغزالي إذًا احتمال أن يكون بعض الشرع مناقضًا لأحكام العقل من دون أن يجعل لذلك التناقض فائدة عقليّة كما ذكر ابن رشد، وتفهّم استهجان العقلاء منه وإنكارهم إياه؛ غير أنَّه رأى في ذلك كلّه إثباتًا لعجز العقل ومحدوديّة قدرته! وسيتبيّن لاحقًا عدم انسجام مقولات الغزالي هذه مع الخطاب القرآني عن العقل ودوره في الدين والعبادة الروحيّة.

(يتبع لاحقاً جزءٌ ثانٍ)

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي