الغجر في العالم العربي
لغز قديم وحياة شقاء ..وموسيقى
ثاروا على العباسيين في القرن التاسع الهجري
وملك أميرهم مصر متمرداً على الخليفة المأمون
إنطلقوا من الهند إلى أكثر من 45 دولة في العالم
في أكبر موجات نزوح لشعب في تاريخ البشرية
تعرضوا للإضطهاد والعزل في المجتمعات الأوروبية
لكنهم نعموا بحرية وأجواء التسامح في العالم العربي
يعتبر الغجر المنتشرون في العالم أحد أغرب ظواهر المجتمع البشري وعلاماته الفارقة، إذ نشأ إلى جانب الحضارات البشرية المختلفة شعب جديد له ثقافته ولغته وأسلوب عيشه ومعتقداته لكنه شعب لا يمتلك أرضاً أو مستقراً معيناً فهو لذلك في ترحال مستمر لا يحلّ في مكان حتى يبدأ بعد أسابيع أو أشهر رحلة جديدة بين الأمكنة، وهو شعب يختلف عن البدو الذين لا يخرجون عن نطاق مكاني معين و«يمتلكون» عملياً مراعي وواحات أو يتشاركون فيها فيرعون فيها إبلهم وأغنامهم ويمارسون التجارة أحياناً. أما الغجر فإنهم لا يمتلكون أرضاً وهم شعب متنقل في نطاقات جغرافية أوسع وغير ثابت في مكان ولا يوجد له لهذا السبب نشاط اقتصادي محدد أو واضح، ولهذا فقد طور الغجر «اقتصاداً» خاصاً بهم يلائم طبيعة حياتهم غير المستقرة وأمزجتهم وتقاليدهم، علماً أن الكثير مما يقومون به حملوه معهم من المناطق التي انطلقوا منها في جنوب الهند ومنطقة السند قبل أكثر من ألفي عام. بصورة عامة، يعيش الغجر من مهن وحرف بسيطة مثل الغناء وإحياء الأعراس وقراءة الطالع وصنع الحلي وحدادة الكير وصنع بعض الأدوات الموسيقية وعلاج البهائم وصناعة المراجيح وتجارة الخردة والعطارة, وألعاب السيرك مع حيواناتهم المدرّبة من قردة وكلاب وثعابين, وعندما تضيق الحال بهم فإنهم يدفعون أطفالهم إلى التسوّل وقد اتهموا في بعض المجتمعات بإحتراف النشل وقد برعوا فيه إلى درجة أنهم باتوا مضرب مثل في خفة اليد فبات الناس يحذرون حتى الاقتراب منهم في الأسواق.
لكن من الخطأ وضع جميع الغجر في سلة واحدة، فهم أصلاً تحولوا إلى فروع كثيرة لكل منها ما يميّزه في أسلوب عيشه وفي الأعمال التي يقوم بها وقد استقر الكثير منهم وتوقفوا عن الترحال الدائم وتحول الكثير إلى العمل في مهن ثابتة كالزراعة أو بعض الصناعات بعد أن اندثر العديد من الحرف التي تميزوا بها في الماضي فلم يعد هناك مثلاً من يشتري الطبول أو يصلح طباخات الكاز (الكيروسين) أو يعالج أسنانه عند الغجر أو يشتري منهم الخردة وبعض العدة المصنوعة من الحديد المحمى، فكل هذه الأمور اختفت مع تقدّم أساليب العيش في العالم. وقد اختار عدد قليل من الغجر الاستقرار في المدن ونال بعضهم التعليم واندمجوا لكن غالبيتهم ما زالت تفضل حياة الحرية والتنقل، إذ أن روح الغجر وشخصيتهم وثقافتهم وأسلوب عيشهم لا تزال مرتبطة بأسلوب التنقل والحرية التي يوفرها لهم.


لكن الخطأ في النظر إلى الغجر كان على الدوام اعتبارهم شعباً متجانساً لأنهم وإن كانوا يتحدّرون جميعاً من الهجرات التي جاءت من جنوب الهند ومنطقة السند فإنهم تفرقوا مع مرور القرون على عشرات البلدان وتعايشوا مع حضارات مختلفة فنشأت الفوارق الكثيرة بينهم حتى على مستوى اللغة والعادات وهناك من يحصي اليوم أكثر من 30 أو 40 عشيرة أو فرعاً من الغجر في العالم يختلف كل منها في الكثير من الأمور، وبطبيعة الحال هناك فارق بين الغجري الذي يعيش في بريطانيا أو ايرلندا أو رومانيا وبين ذلك الذي يعيش في مصر أو في جنوب العراق أو لبنان.
ولا يوجد إحصاء محدد لعدد الغجر في العالم لأن الكثيرين منهم سعوا للإندماج بالمجتمعات التي يقيمون فيها وأخفوا أصلهم الغجري وكذلك لأن الغجر لا يمتلكون وثائق هوية في بعض البلدان وهم ليسوا مشمولين بتعداد السكان، لكن مصادر مؤسسات الغجر وأهمها الاتحاد العالمي للغجر تقدر أعدادهم ما بين 12 مليوناً في العالم منهم نحو 1.3 مليون يعيشون في العالم العربي.
مصدرهم وهجراتهم
يتفق جميع الباحثين والمؤرخين على أن الغجر هم من الشعوب الهندو-آرية وقد يكونون من الفئات الدنيا التي كانت مكلفة بالأعمال الوضيعة أو من طبقة المنبوذين Untouctables أو الـ Harijans الذين كانوا يعاملون معاملة أقرب إلى العبيد ويتعرضون للتمييز الطبقي الشديد. وقد أظهر تحليل جيني أجري عام 2012 على فئات مختلفة من الغجر أنهم قدموا من شمال غربي الهند وأنهم من أصل عرقي واحد وقد قدموا كمجموعات من شمال غربي الهند قبل نحو 1500 عام، علماً أن لغة الغجر تدل على أنهم جاءوا من منطقة راجستان. وقد تكون الهجرات الغجرية الأولى حصلت على نطاق ضيق في القرن الثالث الميلادي عندما تمكّن ملك فارس أردشير من احتلال أقسام من الهند (تمثل اليوم معظم باكستان) في العام 227 ميلادي، ويبدو أن فارس كانت تعاني من نقص في العمالة وقد تكون شجعت على الهجرات الأولى للغجر باتجاه الغرب. وبعد 200 عام من ذلك التاريخ سعى ملك فارس بهرام غور (420-438م.) لاستقدام الآلاف من الغجر من الهند للعمل في إيران في مهن الرقص والغناء ويقال إنه استقدم نحو 10 آلاف منهم وأعطاهم عند وصولهم ثيراناً وأتاناً وقمحاً بحيث يمكنهم تأمين معيشتهم بالعمل في الأرض، في المقابل كان على هؤلاء الهنود أن يرفِّهوا عن فلاحي الإمبراطورية الفارسية بالغناء والرقص دون مقابل، إلا أن الموسيقيين الهنود وجدوا من الصعب القيام بالعملين في آن واحد بحيث انتهت السنة الأولى بعد قدومهم دون أن يتمكنوا من حرث وزرع الأراضي التي أوكلت إليهم، عندها طلب منهم الملك أن يتركوا الأرض ويتنقلوا في البلاد على حميرهم ويخيموا أينما شاءوا على أن تكون مهمتهم دوماً إدخال الحبور إلى حياة الفلاحين ورعايا الملك، ونظراً إلى أن ترك الزراعة وحياة الترحال الدائم يجعلهم بلا عمل يؤمن عيشهم فقد سمح الملك لهم بتقاضي أجور على أعمال الترفيه وخدمات إحياء الأفراح غناء ورقصاً وتقاضي المال على بعض الخدمات والأعمال الأخرى.
الهجرات الكبرى
لكن الهجرات الكبرى لهم بدأت في القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي وقد توجهت تلك الهجرات غرباً قاطعة مناطق فارس باتجاه جنوب العراق وتركيا، وتابع قسم منهم طريقه بإتجاه البلدان الأوروبية وتحوّل قسم بإتجاه الشرق فإتجه إلى دول البلقان وروسيا، وتظهر الخريطة المرفقة الطرق المفترضة لهجرات الغجر والتاريخ الزمني التقريبي لتوجههم نحو المقاصد التي اختاروها. وتظهر الخريطة أن هجرات الغجر انطلقت جميعها من الشرق باتجاه الغرب والشمال لكن حصلت بعد ذلك هجرات معاكسة عندما استولى اليونان البيزنطيون على أنطاكية في العام 855 فأطلق ذلك حركة هجرات جديدة، إذ توجه بعض الغجر إلى اليونان في طريقهم إلى البلدان الأوروبية بينما هاجر البعض الآخر إلى كريت حيث عادوا منها إلى لبنان وفلسطين ومن هؤلاء مثلاً الزغاري وهم من الغجر الذين يعيشون الآن في إيران.
أما هجرة الغجر جنوباً باتجاه القارة الأفريقية فلم تبدأ إلا في الربع الأخير من القرن العاشر الميلادي، أما هجراتهم إلى العالم الجديد في الولايات المتحدة وأميركا الجنوبية فقد بدأت في مطلع القرن التاسع عشر واشتدت مع العام 1860 وهو تاريخ الحرب الأهلية وتحرير العبيد في الولايات الأميركية الجنوبية.
اللافت أن الغجر الذين خرجوا من الهند ربما بسبب الاضطهاد والفقر الشديد اعتبروا أنفسهم بعد ذلك بمثابة «سادة الأرض» وهم إلى اليوم يفتخرون بإنتمائهم الغجري وينتقصون من قيمة غيرهم من الأقوام ويطلقون عليهم كلمة (Gadjo) ومعناها بلغتهم «غير المهذب» أو «المتعجرف». وهذه الكلمة تدل على أنهم احتفظوا بنوع من الكره لأسيادهم السابقين وعبروا عن ذلك بإلصاق تهمة العجرفة أو التكبر على الأقوام التي احتكوا بها، وقد يكون في هذه التسمية شيء من الصحة إذا عرفنا أن الغجر الذين هربوا من الهند طلباً للحرية والكرامة الإنسانية تعرضوا إلى أنواع اضطهاد جديدة كانت أقسى أحياناً في البلدان التي حلّوا فيها خصوصاً في أوروبا.
تاريخ اضطهاد
ففي القرنين الخامس عشر والسادس عشر كان الغجر أو «الروما» عرضة للاضطهاد في أكثر بلدان أوروبا الغربية بل كان وضعهم أقرب إلى العبيد، وأدى تكاثر أعدادهم إلى إثارة مخاوف الحكومات وكان الرأي العام معادياً لهم وقد نسجت حولهم روايات مثل قيامهم بخطف الأولاد وامتهانهم السرقة والنشل وغير ذلك فابتعد عنهم الناس، وتحت تأثير تلك المشاعر المعادية أخرجت سويسرا جميع الغجر من أراضيها وحرّمت عليهم دخولها بقانون نص على أن أي غجري يعثر عليه في سويسرا يتم إعدامه فوراً، وقامت بريطانيا بترحيلهم ثم أصدرت قانوناً مشابهاً للقانون السويسري في العام 1554وكذلك فعلت ألمانيا والسويد وفرنسا والدانمارك ورحّلهم البرتغاليون إلى مستعمراتها البعيدة وراء البحار. ورغم التحسن النسبي في أوضاعهم، إذ سمح لهم بالتجوال في عرباتهم، فإن التصنيف الرسمي للغجر بقي يضعهم في فئة العبيد، فكانوا في بعض دول أوروبا يقطعون جزءاً من آذان نسائهم كعلامة فارقة لتمييز الغجريات عن الحرّات وكان يتم دمغ رجالهم كما تدمغ المواشي وتمّ تنظيفهم عرقياً في عدد من المناطق. بفعل هذه الأجواء المعادية توجه قسم كبير منهم نحو شرق أوروبا مثل بولونيا وروسيا حيث تلقوا معاملة أفضل طالما واظبوا على دفع الضرائب إلى خزائن الدولة. في وقت لاحق ومع تحسن أوضاع الهجر نسبياً برز في وجههم خطر جديد هو محاولات دمجهم قسراً بالمجتمعات القائمة وذلك عن طريق تقييد حريتهم في الترحال والتجول وتخصيصهم بأماكن محددة واتخذت محاولات الدمج القسري في ألمانيا ثم إسبانيا شكل فصل الأسر عن بعضها، وكانت الحكومات تأخذ أطفال الغجر قسراً إلى معسكرات تعليم وتنشئة للدولة بحيث يتم إعدادهم ليكونوا مواطنين عاديين وينسوا تقاليدهم الغجرية، لكن كل تلك المحاولات فشلت واحتفظ الغجر بشخصيتهم وهويتهم وثقافتهم وتقاليدهم. كما أجرى الأوروبيون محاولة لخلق «وطن للغجر» في مناطق بين رومانيا وبولونيا والمجر، لكن الغجر رفضوا ذلك من منطلق حماية أسلوب عيشهم الحر والتنقل وعدم الإنتماء إلى مكان محدد.
لكن شعب الغجر أنشأ اتحاداً عالمياً يمثلهم في كل البلدان ويستهدف مناقشة قضايا وجودهم وحماية حقوقهم كما تبنى غجر العالم تسمية واحدة للغجر في جميع البلدان هي «الروماني» Romani كما صنعوا لأنفسهم علماً يرمز إلى أمة الروماني، وكان من اللافت أن علمهم يشبه إلى حد كبير علم الهند كما يبدو في الصورة المرفقة، إذ تتوسطه عجلة ذات 16 شعاعاً بينما العلم الهندي تتوسطه عجلة ذات 24 شعاعاً ويرمز اللونان الأخضر والأزرق في علم الغجر إلى الحقول الخضراء والآفاق الواسعة وبالتالي حال الترحال الدائم في بلاد الله الواسعة.
الغجر في التاريخ العربي
المكان الوحيد الذي وجد فيه الغجر مجالاً للعيش بصورة طبيعية نسبياً كان المنطقة العربية والدولة الإسلامية التي كانت بطبيعتها دولة جامعة وتعمل بمبدأ أخوة الدين ولا توجد فيها عنصرية قومية مثل العنصريات الأوروبية، وكان مظهر الغجر الرحل (وكانوا يسمون «الدوم») شبيهاً بمظهر البدو، علماً أن العديد منهم استقروا في ضواحي المدن الكبيرة مثل البصرة والقاهرة وكانت لهم مهن ودخل قسم كبير منهم في الجيش وشارك في الحملات العسكرية للملوك والخلفاء. وقد اشتغلوا في البصرة كشرطة وحراس سجون، وقد اختصوا أيضاً بالعمل في الملاحة البحرية، واستقر بعض السبابجة مع ذريتهم في البصرة حتى أن أحد أحيائها يحمل اسمهم ، فيما قطن البعض الآخر أهواز العراق ليعملوا في الزراعة ورعي الأغنام.
ثورة الغجر على العباسيين
من مفارقات تاريخ الغجر في المنطقة أنهم بلغوا في مطلع العصر العباسي درجة من القوة والإنتشار العددي شجعتهم على إحداث قلاقل وفوضى عارمة في جنوب العراق وكان الغجر يسمون في المنطقة «الزطّ» والغجري «زِطّياً».
في العام 201 هـ (816م) ثار الزطّ على الخليفة العباسي المأمون وقطعوا الطرق بين وسط العراق وجنوبه ونهبوا الغلال، وتعاظمت ثورتهم وانضم إليهم فقراء ومَوالون إلى أن تمكنوا في العام 205هـ (820م) من التحكم بمنطقة جنوب العراق بكاملها وفشلت جيوش المأمون في إخماد الثورة التي استمرت بصورة متقطعة حتى عهد الخليفة المعتصم وأثرت في هيبة الدولة العباسية وكانت ربما مع ثورة الزِنج لاحقاً (255-270 هـ / 869-883م)، أحد أسباب انهيارها. وقد أرسل المعتصم الذي كان قائداً عسكرياً ماهراً في العام 219هـ (834م) أحد أشهر قواده وهو عجيف بن عنبسة لحرب الزطّ، فعمد الأخير إلى جمع المعلومات عن أماكن تجمعهم وقطع عنهم المياه وهاجمهم فهزمهم وأسر وقتل الكثيرين واستسلم الزطّ له فنقلهم من مناطقهم بزوارق إلى بغداد وعددهم اثنا عشر ألف مقاتل وخمس عشرة ألف امرأة وطفل، وكانت الزوارق تمرّ بموكب لثلاثة أيام وهم ينفخون بأبواقهم، ومن بغداد نقلتهم الدولة العباسية إلى أنطاكية لمواجهة الدولة البيزنطية ولتخفيف خطرهم على الاستقرار والإفادة من قوتهم.
لكن حين هاجم الروم أنطاكية عام 241هـ (855م) فإنهم ساقوا جميع الزطّ مع ما كانوا يمتلكونه من ماشية ومتاع إلى داخل بلاد الروم، ولم يفلت منهم إلا قليل وكان نقل شعب الزط أو الغجر إلى بيزنطة إيذاناً بموجة هجرات تالية بلغت بهم بلدان أوروبا الغربية ثم الشرقية حيث توزعوا في القارة واتجهوا إلى حياة مسالمة، لكن لم يرحل كل الزط من العراق بل بقيت قلة منهم وخرج منهم عام 295هـ (907م) رجل يدعى حاتم الزطّي والتحق ببقايا القرامطة بعد هزيمتهم على يد الفاطميين وتزعّمهم، ويحكى انه حرّم عليهم الثوم والبصل والفجل والكرّاث، كما حرّم عليهم إراقة دماء الحيوانات.
المفارقة الأغرب هي أنه بينما كان الزطّ يثيرون القلاقل في وجه الخليفة المأمون فإن أحد أبرز قادته الذين شاركوا في فتح مصر كان زطّياً وكان يدعى السّريّ بن الحكم بن يوسف الزطّي، وقد دخل مصر مع الجند الخراسانيين المرافقين لليث بن الفضل عامل الرشيد عام 182هـ ، وحين نشبت الفتنة بين الأمين والمأمون تزعم الزطّي الجند الخراسانية ودعا للمأمون واستولى على غرب الدلتا وصعيد مصر، وبعد موت السريّ خلفه ابنه أبو نصر محمد الذي مات عام 206هـ وأعقبه أخوه عبيد الله بن السريّ فاستولى على مصر كلها بعد حروب دامية، ولما أراد المأمون أن يقره والياً أعلن العصيان واستقل بالملك، وفي سنة 221هـ، (835م) توجه المأمون عبد الله بن طاهر إلى مصر فهزم الزطّي الذي طلب الأمان ثم رحل إلى العراق ليقضي نحبه في سامراء عام 251 هـ.




الغجر في ظل الدولة العثمانية
عرف الغجر في ظل الدولة العثمانية الحياة الحرة غير أن السلطان سليم في عام 1530م اصدر فرماناً يضبط فيه بقاء الغجر في عدد محدد من مقاطعات الإمبراطورية، وأعفى ابنه السلطان سليم الثاني الغجر العاملين في مناجم البوسنة من الضرائب، ولكن مع تراجع موارد الدولة العثمانية في أواخر القرن السابع عشر ازدادت الضرائب عليهم حتى أثقلتهم ، إلا ان حياتهم بقيت في ترحال مستمر وتعدّدت أعمالهم وتحوّلت من الصناعات التعدينية إلى صناعة المكانس وتنظيف مداخن المنازل ، كما عملوا موسيقيين وراقصين ومدربي دببة وحدّادين . وفي البلاد العربية أعفاهم العثمانيون من الضرائب والتجنيد، وعاشوا كما يشاءون يمارس بعضهم التسوّل والتنجيم ويقيمون الحفلات الساهرة، ويصنعون الطبول والغرابيل ويصنعون الخناجر والمقصّات ويعالجون الأسنان.


تسميتهم
كان الغجر يسمون في بلادهم الهند الـ«دوم» Dom وهو إسم مشتق من كلمة Doma السنسكريتية التي تدلّ على أناس مكلفين بأعمال وضيعة وهؤلاء الناس موجودون في الهند على نطاق واسع ضمن نظام الطبقات ويدعون الهاريجان harijans ويعود الفضل إلى المهاتما غاندي في تحريرهم إذ قاد حملة وطنية للتآخي معهم واعتبارهم بشراً لهم نفس الحقوق. بعد ذلك ومع توجههم نحو أوروبا تحول اسم Dom إلى روم Rom فعرفوا به هناك لكن الإسم الذي عرفوا به في منطقة الشرق الأوسط هو “دوم” Dom أو دومي وأصبح دومري، ومن المألوف في لبنان مثلاً أن يقال عن مكان بعيد وغير مسكون (ما فيه ولا دومري!) ويعتقد أن موجات الغجر انقسمت في القرن السادس الميلادي وأدى ذلك إلى تسميات مختلفة لهم حسب المنطقة التي انطلقوا إليها.
في المنطقة العربية يسمى الغجر بأسماء عدة منها الكالور والقرباط والزط والزرغاري وهذه الأسماء تشير أكثر إلى أنساب قبلية فكان الغجري يسأل عن أصله فلا يقول «غجري» بل يقول «زرغاري» أو «قرباط» لأن ذلك يوحي بإنتمائه إلى شعب معين وكان هذا أفضل من أن يقول «دومي» التي تعني غجرياً بالمطلق. وأطلق عليهم أيضاً إسم السبابجة وفي العراق الكاولية وفي بعض مناطق الخليج الصلبي، والسبابجة صفة أطلقت على بعض الزط بسبب لون بشرتهم الأسمر الداكن، والفرد من هذه الجماعة يقال له «سبيجي». لكن الكلمة الأكثر انتشاراً في بلاد الشام هي كلمة «نَوَر» وهي جمع «نَوَري» والنور تستخدم أحياناً كإهانة أو للدلالة على أشخاص لا قيمة لهم أو هم في أدنى سلم الاعتبار. وفي إيران تستخدم كلمة «كولي» بنفس المعنى أي للحط من قيمة شخص عبر تشبيهه بالغجر.
لغتهم ولهجاتهم
أظهرت الدراسات اللغوية والإثنية أن لغة الغجر تشبه في الكثير من تعابيرها اللغة الهندية Hindi وهناك مفردات عديدة مشتركة بين الهندية ولغة الغجر وهذا ليس مفاجئاً إذا أخذنا في الاعتبار أن موجات الغجر هي هجرات لشعوب شمال غربي الهند ووسطها، أما قواعد اللغة الغجرية فهي أقرب إلى قواعد اللغة البنغالية.
لكن الدوم أو الغجر ومع احتفاظهم بأساسيات اللغة التي حملوها معهم من الهند فإنهم أخذوا بلغة الشعوب التي هاجروا إليها لذلك ليس مستغرباً أن ترى بعضهم يتكلم لغتين أو ثلاثاً لكنهم عموماً لا يتعلمون القراءة والكتابة بلغة البلد الذي يقطنون فيه فهم لذلك أميّون بالمعنى الفعلي. لكن بالإضافة إلى التحدث بلغة البلدان التي يعيشون فيها أو انتقلوا إليها فإن الدوم يتكلمون عادة إحدى لهجات اللغة المشتركة لغجر العالم، لكن اللهجات تباعدت مع مرور الزمن بحيث افترقت وتمايزت حسب المناطق الجغرافية، ولهذا السبب اتخذ الاتحاد العالمي للغجر قرارات بتوحيد لغة «الروماني» كما تسمى في أوروبا ووضع أسس كتابتها وقواعدها بما يحفظها من احتمال التحول إلى لغات عديدة لا يمكن للناطقين بها أن يتواصلوا في ما بينهم. في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي يتحدث الغجر بلغة الدومري (وهي اللغة المميزة لغجر المنطقة) داخل مجتمعهم ومع أفراد أسرهم، وقد تمكنوا من الحفاظ عليها بسبب تقليد التحدث الشفهي بها من جيل إلى جيل. ويستخدم تعبير نوري للدلالة على شعب الغجر لكن كلمة «النوري» هي عملياً إحدى لهجات اللغة الدومرية، واللافت أن غجر الشرق الأوسط يتحدثون العربية بلهجة البلد الذي يعيشون فيه، فهم يتحدثون باللهجة المصرية في مصر وبالسورية في سورية وباللبنانية في لبنان، وتستخدم اللغة الدومرية أيضاً في أفغانستان وروسيا وأوزباكستان.
بالطبع معرفة الغجر السطحية بلغة البلاد وأهلها وغياب أي تقليد للكتابة أو النقل باللغة الدومرية جعل الغجر مجموعة ضعيفة وهامشية، إذ أن القدرة على التواصل بالكتابة كانت عبر التاريخ ولا تزال أهم واسطة لحفظ الهوية والتاريخ الخاص بشعب بحيث يمكن تناقله من جيل إلى آخر. لذلك تجد قليلاً من شعب الدوم يمكنه اليوم أن يحكي تاريخ شعبه لأن انعدام الكتابة حرمهم من التدوين، كما أن عدم وجود هذا الإرث المكتوب يجعل الغجر غير قادرين على شرح حقيقتهم وتاريخم وتميزهم الثقافي، لذلك تراهم غالباً يسعون للتعبير عن أنفسهم بالرقص والغناء أما في المجتمعات العربية المحافظة يحتاج الغجر إلى التواصل مع أهل البلد وشرح هذا الإرث وإلا فإن العرب المسلمين في أكثريتهم سينظرون نظرة نفور أو عدم رضى إلى تقاليد الدوم نساء ورجالاً في الرقص والغناء.
وتعتبر لغة الدومري في الأصل قريبة من الهندية لكن أضيفت إليها في المنطقة التعابير الفارسية والتركية والعربية، وهي لغة تكاد تندثر بسبب لجوء الغجر المتزايد لاعتماد لغات ولهجات الشعوب التي يعيشون بالقرب منها، وقد أدت حالات الاضطراب والحروب التي ألمت بالعراق وسوريا إلى تأثر الغجر بصورة كبيرة نظراً إلى تشكك الجماعات الأصولية في صحة إسلام الغجر واتهامهم بالتقية وبإهمال ممارسة الفرائض والشعائر الإسلامية.


” افتقاد الغجر للغة مكتوبة حرمهم أهم وسيلة للتعبير وكتابة تاريخهم الخاص وجعلهم بلا أي رواية يمكن نقلــــها إلى أجيالــــهم عبر الســـنيـن “


حياتهم وعاداتهم
حافظ الغجر في كل مكان على ستار من الكتمان والغموض حول عاداتهم وأساليب عيشهم فهم يتكلمون لغتهم الخاصة في وجود الأجانب ولا يتحدثون إلى الصحافيين ويكرهون أي اهتمام غير عادي بهم أو باعتقاداتهم، لكن مراكز الأبحاث والجهات الرسمية تمكنت عبر الزمن من رصد مجموعة من الخصائص التي تميز حياة الغجر وتفسر كونهم شعباً أو إثنية مختلفة لها عاداتها واحترامها لهويتها.
من أهم سمات حياتهم أنهم يخافون البحر ويفضلون عبور الصحارى مراراً على عبور نهر ولو مرة واحدة، هذا مع العلم أنهم اضطروا لركوب البحر للوصول إلى الأميركيتين الشمالية والجنوبية وقد يكون ذلك بسبب اشتغال نفر قليل منهم بالبحرية أو صيد الأسماك.
إحدى المشكلات التي تواجه الغجر هي عدم وفرة المياه بسبب عزلة مضاربهم وكثرة الترحال، لذلك فإن المياه عندهم مخصصة للشرب وسقي الحيوانات والطبخ، وهي تعتبر ثمينة يحافظون عليها ويتجنبون هدرها.
يعطي الغجر أهمية كبرى لعذرية الفتاة ويشجعون الزواج المبكر وعلى أهل العريس أن يدفعوا مهر الفتاة لذويها، وكان الغجر يطبقون تقليد تزويج الصغار وهي عادة متبعة أيضاً في الهند وهو ما أثار بعض الجدل في أوروبا لكن هذه العادة لم يعد معمولاً بها إلا نادراً. وزواج الغجر يتم بأسلوب الخطف أو «الشراء» حيث يبيع الأب ابنته لقاء ثمن أو بإتفاق العائلتين وهو الأكثر شيوعاً. وزواج الغجري أو الغجرية بغير الغجر منكر ويطرد فاعله من العشيرة، وفي حفل الزواج يقوم رئيس الجماعة بكسر رغيف خبز قسمين ويضع ملحاً داخل كل قطعة ويقدمها للعروسين ويقول لهما (عندما تملّان هذا الخبز والملح يملُّ أحدكما الآخر) ثم يتبادل العروسان القطعتين قبل الأكل ولهذا الطقس أهمية خاصة في مجتمع الغجر تقترب به من الحفل الديني تجعله في مرتبة طقوس مقدسة، والحامل الغجرية تعفى من جميع الشؤون المنزلية.




مفهومهم للطهارة
يعتقد الغجر بأن الأجزاء السفلية من الجسم مثل الأعضاء التناسلية غير طهورة وهم لذلك يغسلون الثياب التي تستخدم في الجزء السفلي من الجسد على حدة ولا يمزجونها مع بقية الثياب، كما أن الولادة عندهم تعتبر ناقضة للطهارة لذلك يستحسن أن تحصل الولادة خارج المنزل وتبقى المرأة التي أنجبت غير طاهرة لمدة أربعين يوماً.
والموت عند الغجر يفسد الطهارة أيضاً وهو يؤثر على جميع أفراد أسرة الميت الذين يبقون غير طاهرين لمدة معينة بعد الدفن. وعلى عكس أجدادهم الهنود فإن الغجر يدفنون موتاهم ولا يحرقونهم فهذا الأسلوب غير متبع أو مسموح به في الإسلام ولا في المسيحية وهي المجتمعات التي يعيشون غالباً في ظلها.
وللغجري ثلاثة أسماء الأول (سري) والثاني (بين أفراد العشيرة) والثالث (بين الناس) وفي السجلات والقيود وتهمس الأم بالاسم الأول (السري) في إذن الوليد مرة واحدة عند الولادة وذلك لتضليل الأرواح الشيطانية الشريرة وعند بلوغه سن الرشد.
ولا يموت الغجري تحت خيمته أو في فراشه أو عربته بل يأخذونه إلى خارج الخيمة ويحضر الشهود وتغسل جثته بعد الوفاة بالماء المالح ويلبسونه ثياباً جديدة وبعد إعلان الشهود وفاته تجتمع العشيرة للبكاء والنحيب وتدفن معه الشوكة والملعقة والكمان ويعزف عليه لحن حزين وتوزع النقود على الشهود وينسى بعد موته.
ديانتهم ومعتقداتهم
يميل شعب الدوم عموماً لتبني الديانة الشائعة في البلد الذي يعيشون فيه. ففي الشرق الأوسط يعني ذلك تبني الدين الإسلامي، وهم غالباً ما يحجون إلى مكة المكرمة لكن بينما يوجد بينهم مسلمون مؤمنون حقاً وممارسون فإن أكثريتهم مسلمون بالإسم فقط ولا يقومون بالفرائض الدينية مثل الصلاة والصوم، فهم يعتبرون أن الدين مسألة خاصة وهم لا يحبون الحديث في أمر الدين مع أي كان لكنهم يتأثرون كثيراً بفكرة سيطرة الأرواح على حياة البشر ويفسرون كل ما يحدث لهم أو للعالم بتأثير أرواح شريرة أو لعنة معينة، لذلك ترى قارئات الطالع من نسائهم يعرضون على الزبون إعطاءه شراباً يقيه من العين ومن الخط ونوايا الشر وغير ذلك. ولا يوجد بين الدوم العرب إلا عدد قليل جداً من المسيحيين وذلك لسبب بديهي هو عدم اهتمام المجتمع الغجري بالدين وثانياً لأن تحول الغجري أو الدومي إلى مسيحي في بلد مسلم يجعله عرضة لضغوط كثيرة ولاسيما وأن أكثر تلك الحالات القليلة تتم بواسطة مبشرين محليين أو أجانب.
حتى في الدول الأوروبية حيث تبنوا الديانة المسيحية لا يوجد بين الغجر رهبان أو قساوسة أو حتى كنائس وما زال كبير السن بينهم وهو غير زعيم العشيرة- المرجع الأول في أمورهم وتوجيههم وهو الحكم في نزاعاتهم، ويعتقد الأوروبيون أن الغجر ما زالوا يمارسون طقوس «الشاكتية» التي حملوها من الهند. وتعتبر الشاكتية أحد أربع أكبر تيارات دينية في الهندوسية وهي تتصل بفرع اليوغا الهندية المسمى Tantric yoga التي تقوم على التحكم بالفكر والجسد وتطهير النفس واتباع تلك الطريقة يمكنهم من الحصول على قوى غير عادية ومن قراءة المستقبل والقيام بالكثير من الأمور التي يعجز عنها الإنسان غير المتمرس بطرق اليوغا.
” ديانتهم موروثة من اليوغا الهندية مع إيمان بالأرواح وقدرتها على التأثير سلباً وإيجاباً في مصير البشر “


مصادر عيشهم
يتميز نمط عيش الغجر العرب بتنوع واسع فمنهم من يزال يعيش نمط العيش المتنقل (رحّل) وهؤلاء يقدمون خدماتهم في إحياء الحفلات كموسيقيين أو كعمال معادن للأماكن التي يخيمون فيها أو لمجموعات أخرى من الغجر الرحّل وبسبب نمط عيشهم المتنقل فإن هذه الفئة يتم التعامل معها بكثير من الشكوك والحذر. في المقابل هناك منهم من يعمل كعمال موسميين مثل المساعدة في قطاف المحاصيل في وادي الأردن أو في قطاف التبغ في شمال الاردن. وهناك غجر من سكان الخيام يتنقلون في لبنان بين سهل البقاع وبين المناطق اللبنانية كما يفعل البدو الرحّل، وغالباً ما يرتبط ذلك بإعتبارات موسمية في القطاع الزراعي علماً أن قليلاً من الغجر العرب يعملون في الارياف ويعيشون حياة المزارعين لأن مفهوم امتلاك الأرض لا يدخل في نمط حياة الترحال الذي يغلب عليهم. وفي بعض البلدان مثل العراق فمن المألوف ان تشاهد قوافلهم من الجمال والحمير تنتقل من منطقة إلى أخرى تقدم خدمات الأعراس وحفلات الرقص والغناء وقراءة الطالع وأعمال الخفة والأعمال البهلوانية، لكن عدم امتلاك الغجر للأراضي التي يقيمون مخيمهم عليها يجعلهم دوماً عرضة لضغوط تضطرهم لإخلاء مواقعهم والانتقال إلى مكان آخر.
بعض الغجر يمكن اعتبارهم يعيشون حياة ترحال جزئي أو موسمي فهم يعيشون في بيوت قريبة من المدينة خلال العام (في فصل الشتاء) بينما يعيشون في خيامهم في العراء بقية أيام السنة. أحد الأمثلة على ذلك غجر منطقة كرمان في إيران فهم يؤمنون عيشهم كحرفيين أو كباعة ووسطاء أو قارئي الطالع أو راقصين وغير ذلك من المهن الصغيرة، وبينما يمارس الرجال أو النساء هذه الأعمال فإن أطفالهم ينتشرون في الشارع للتسول ولا يذهبون إلى المدارس.
بين الغجر الذين يمكن اعتبارهم متوطنين ثابتين أي أنهم تركوا حياة الترحال الغجر القاطنين في لبنان وفلسطين وقبرص. وهؤلاء يعيشون في أكواخ أو في شقق في مناطق شعبية في المدن أو القرى. وبالطبع فإن الغجر المتوطنين لديهم فرص أكبر للتعليم والحصول على أعمال دائمة لكن العديد منهم يصعب عليهم إيجاد عمل بسبب تصنيفهم غجراً لكن السبب الأهم هو أن معظمهم أميّون ولا يملكون أي مهارات تؤهلهم للاستخدام في عمل ثابت وهم لذلك يسعون للعمل المياوم ويعرضون خدماتهم لأصحاب العمل في الزراعة أو غيرها.
في لبنان يعيش قسم من هؤلاء في مناطق بائسة مثل مخيم شاتيلا وهو مخيم يتألف من بنايات مهدمة بفعل القصف وأكواخ تم بناؤها باستخدام الأنقاض إذ لا يسمح بإدخال مواد البناء إلى المخيمات. ويقع مخيم شاتيلا في نطاق مشروع حكومي طموح لإعادة تخطيط وإعمار ضواحي بيروت والمسمى مشروع «أليسار» وهو ما قد يعني إجبار الغجر القاطنين في المخيم على مغادرته.
ويعتبر غجر قطاع غزة من الغجر المتوطنين وتشتهر نساؤهم بالرقص في الأعراس وقد أنشأن اتحاداً أو نقابة لهن بهدف منع المنافسة على الأسعار.
بسبب النظرة المعادية للغجر المنتشرة في المنطقة العربية فإنهم حيثما وجدوا يسعون لإخفاء هويتهم وتبني شخصية أو هوية بديلة فهم في لبنان مثلاً يحبون أن يعتبروا من شعوب البدو الرحل وفي إيران ينسبون أنفسهم إلى شعب الكاشكاي وفي فلسطين المحتلة يسمون أنفسهم عرباً وفي الأردن ينسبون أنفسهم إلى التركمان .
أما الغجر أنفسهم فيتميزون في صفوفهم بين مجموعات أو «عائلات» مختلفة من الدوم. فالقرباط والنور يعيشون في أماكن متجاورة في سوريا لكنهم يختلفون كثيراً في طريقة عيشهم وأعمالهم ولغتهم وثقافتهم الشعبية. القرباط مثلاً طوروا لأنفسهم مهناً وحرفاً مثل العلاجات الأولية للأسنان والأشغال المعدنية والنجارة وأعمال البناء بينما يستمر النور في التركيز على الترفيه موسيقى ورقصاً وتسولاً كما تفشت بين نسائهم بعض المهن غير الأخلاقية وهم يفتقدون أي شعور بالإنتماء إلى شيء أو مكان أو اعتقاد سياسي أو ديني. لهذا فإن قرباط سوريا يرفضون نسبتهم إلى النور ويعتبرون ذلك إهانة لهم.
خاتمة
يمكن القول إن الغجر تمتعوا في العالم العربي في ظل الممالك الإسلامية والدولة العثمانية بحرية أكبر مما نعموا بها في أي مكان في العالم، وقد اعتاد المجتمع العربي وبسبب الإسلام وتسامحه تجاه الشعوب المختلفة على الاختلاط بمختلف الأقوام التي كانت تفد إلى الحواضر العربية من كل مكان في العالم فكان مألوفاً وجود الأفارقة بسحنتهم السوداء أو السمراء ووجود الآسيويين والفرس والروم والهنود والتركمان والأرمن وغير ذلك وهذا التنوع الكبير في الحواضر العربية الكبرى التي كانت مراكز للتجارة والثقافة استفاد منه الغجر ونعموا بالمناخ المنفتح الذي كان يوفره وقد بلغ التسامح مع الغجر حداً شجعهم على إثارة القلاقل وخلق المتاعب للدولة العباسية التي اضطرت إلى إخماد تمردهم بالقوة، لكن في ما عدا تلك الفترة فإن الغجر رافقوا التاريخ العربي لكنهم عاشوا على الدوام على هامشه ولم يساهموا فيه بسبب طبيعة انتشارهم وأسلوب عيشهم وميلهم الطبيعي للإنغلاق. أما في الظروف الحالية للمنطقة فإنهم يعانون ولا شك بسبب حالة الفوضى وانهيار الأمن وهم يجدون أنفسهم في ظروف خطرة لم يعتادوا عليها منذ مئات السنين، ولا يملكون ما يعينهم على اتقاء شرورها. إنها لعنة الشتات وافتقاد حماية المكان وعصبية الجماعة والتي لا يوجد من دونه أمان في زمن اختلاف الدول وانهيار المجتمعات وسيطرة الفوضى.
بيتـــــــــي كان الطريق الفسيح
وكنت أهيم في الأمكنة
لكنهم منعوا التجوال عليّ
أشعر الآن أنني ميتمحجوز ومقموع
كأنني أعيش في حفرة
سجين أحزاني
أنشد شيئاً واحداً: الحريةيمكنني أن أرى الأشجار
لكن لا أرى نحلاً كثيراً
لأن النحل يطير كما يحلو له
وليس مقيداً مثلي
يمكنني أن أرى المطاحن
لكن لا يمكنني أن أسير في التلال
لأنني ممنوع عن ذلك
بأمر القانونيمكنني أن أرى الأبراج
لكن لا يمكنني أن أشمّ رائحة الأزهار
فأنا لست معتبراً
جزءاً من هذه الطبيعةيمكنني أن أرى العشب الأخضر
لكن فقط من خلال زجاج النافذة
كم أشتهي أن أقترب منه
وأتأمل خضرته على الدواميمكنني أن أرى السماء
والسحاب السابح في أرجائها
أشعر بالحسد وأنا أتأمل
كيف أن كل شيء حر هناكأرى العصافير تقطع زرقة السماء
لا تدري ربما كم هو سهل عليها
أن تذهب أو أن تعود من أي مكان
أنظر إليهم أسراباً فأخرج تنهيدة حسرة
وأتمتم بكلمات مرة
” غجر لبنان وفلسطين وقبرص توقفوا في معظمهم عن الترحال وانتقلـــوا إلى أماكن ســــكن ثابتـة “
الغجر وفن الرقص الشرقي
يعتبر الغجر ولاسيما عشيرة الغوازي منهم المؤسسون الحقيقيون للرقص الشرقي وقد قامت نساؤهم بتطوير هذا الفن فانتشر بسببهن في المجتمعات العربية حتى أصبحت له مدارسه ليس فقط في المنطقة بل في الدول الغربية أيضاً وتكرس كأحد فنون الرقص العالمية. وكان للغجر أيضاً تأثير كبير على تطور رقص الفلامنكو الإسباني والموسيقى البوهيمية أو التسيغان في أوروبا الشرقية وخصوصاً في هنغاريا ورومانيا وبولونيا.
وكان للغجر تأثير كبير على تطور الرقص الشرقي في مصر بل إن البعض يعتبر أنهم ساهموا مساهمة كبيرة في حفظ الغناء الشعبي المصري إذ احترفوا إنشاده، كما برعوا في الربابة والمزمار, ومن النادر أن تجد عازف مزمار أو راوي سيرة شعبية أو مداحاً في مصر لا يكون منهم، وفي غزة أنشأت الراقصات الغجريات نقابة بهدف توحيد أسعار الخدمات التي يقدمنها ومنع المنافسة بينهن. وفي العراق كتبت الصحف في بداية التسعينات عن غزو الغجريات للمسرح القومي كممثلات بارعات وسمي أحد أحياء بغداد بحي «الطرب» بسبب وجود مجموعة من الغجر تمارس فنون الغناء والعزف والرقص وتقطن فيه.