ما لا تعرفُه عن أسلافنا الذين هيمنوا على تجارة العالم
لمـــــــــــــاذا يجــــــــب أن
نحـــــبَّ الفينيقييّــــــن؟
الفنيقيّون سيطروا على تجارة العالم القديم دون جيوش
ونَبغوا في مُسالمة الجميع ومشاركتهم وكسب احترامهم
تستّروا على معتقداتهم احتراماً للشّعوب الأُخرى الزائرة
وأقاموا نُصُبَ عبادةٍ مفتوحةٍ للزّوّار على تنوّع شعائرهم
الفينيقيّون عَربٌ نَزَحوا من جنوب الجزيرة بسبب القَحط
وبصمتُهم الجينيّة وُجِدَت في أكثرِ مدنِ البحرِ المُتَوسّط
إذا سألتَ اللبنانييّن اليوم أن يُبيٍّنوا مدى معرفتهم بالفينيقييّن، ثمة احتمالٌ بأن يُردِّدوا الحقائق الثلاث الأكثر شهرةً عن هؤلاء القوم: كانوا روّاد التجارة البحريّة، واشتُهِروا بالصِّباغ الأُرجوانيّ المستخرَج من أصداف “الموريكس”، وعرّفوا العالمَ القديم على الأبجديّة الأولى ــ وهم على الأرجح، بحسب ميولهم السياسية، إمّا يُصرّون على فكرة أنّ ثمة تاريخاً مُشترَكاً مع هؤلاء القُدامى المغامرين في البحار وهم يواصلون إرثهم حتى اليوم، وإمّا يرفضون ذلك رفضاً تامّاً. وبعدما أصبحت هذه المسألة في صميم الخلافات السياسية فقد حُرِمَ لبنانيّو هذا العصر من فَهمٍ حقيقيّ ومحايد للفينيقييّن وهم لا شكّ في ذلك أسلاف اللّبنانييّن ليس بالمعنى العِرقي بالضّرورة لكن بمعنى مشاركتنا كمجتمع وكاقتصاد للحتميّات الجغرافيّة والطبيعيّة التي كان على الفينيقييّن التعامل معها وبناء نمط اقتصادهم وتجارتهم ودبلوماسيّتهم الخارجيّة بالاستناد إليها، إنّ المعلومات والدّراسات الأخيرة بما في ذلك الأبحاث الآثاريّة والجينيّة باتت تؤكّد الأهميّة الكبرى لحضارة الفينيقييّن التي قامت على السّاحل الشرقيّ والشمالي للبحر الأبيض المتوسّط لنحو من 1470 عام (من 1550 ق.م وحتى 79 ق.م). كما تؤكّد تلك الأبحاث نواحي التميّز الأساسيّة التي فرّقت إمبراطورية البحر الفينيقيّة عن بقية الإمبراطوريّات والممالك التي تعاقبت في العهد القديم. لقد كانت الممالك الفينيقيّة مثلاً نموذَجا فريداً لمجتمع تجاريّ بحريّ لا يمتلك جيشاً ويحترم الممالك المجاورة ويهادنها ويساعدها في ترويج تجارتها وفي بناء سفنها، كما كان مجتمعاً يحترم ديانات الشّعوب التي تعايش معها ولا يركّز على إظهار شعائره ومعتقداته فلم يبنِ لذلك المعابد بل اكتفى بوضع نُصُبٍ صغيرَة تدلُّ على أمكنة العبادة كما شجّع الزّائرين من مختلف الأصول والمعتقدات على ممارسة شعائرهم في معابد صغيرة تضمّنت عموماً رموزاً وشعاراتٍ تمثّل تلك الدّيانات.
فمن هم الفينيقيّون فعلاً وما هي درجة انتساب اللّبنانييّن المعاصرين للعرق السّاميّ الفينيقي؟ وما هو سرّ التفوّق الذي حقّقه الفينيقيّون وهم شعبٌ صغيرٌ يسكن بضعة مدن على الساحل الشرقيّ للبحرِ المتوسّط في نطاق العالم القديم، كيف تمكنوا وهم شعب لم يكوِّن جيوشاً ولم يؤمن بفائدة شنّ الحروب من الحفاظ على أنفسهم وممالكهم ومصالحهم التّجاريّة والاقتصاديّة طيلة ما يقارب الاثني عشرَ قرناً؟ كيف تعاملوا مع الحضارات المختلفة في المنطقة وما هي الإسهامات الكبرى الأساسيّة التي يمكن أن تُنسَب لهم ولا زالت آثارها قائمة إلى اليوم؟.


أحدثت دراسة نشرتها مجلّة ناشونال جيوغرافيك الشّهيرة في العام 2008 ضجّة في أوساط اللبنانييّن بسبب ما توصلت إليه من أنّ واحداً من كلّ ثلاثة لبنانيين (سواء أكانوا مسلمين أم مسيحييّن) هم من أصول فينيقيّة1
استندت المجلّة العلميّة في استنتاجها إلى أبحاث الدكتور بيار زلّوعة المختصّ في دراسة الحمض النّووي والذي قام بدراسته كجزء من مشروع الجينوم الذي ترعاه مؤسّسة ناشيونال جيوغرافيك ويهدف إلى وضع بيانات مفصّلة بالبصمات الجينيّة للشّعوب المختلفة ومحاولة فَهم حركات هجرة الشّعوب القديمة وإقامتها، وعلاقة الشّعوب المعاصرة بأولئك الأسلاف.
ورغم أن دراسة الدكتور زلّوعة تمكّنت من إقامة رابط بين جينات الفينيقييّن وبين نسبة لا بأس بها من اللّبنانيين المعاصرين وسكان مناطق مختلف على سواحل البحر الأبيض المتوسط، أي مناطق الانتشار الفينيقي، إلّا أنّها لم تحسم الجدل حول أصل الفينيقييّن أنفسِهم والمناطق التي جاؤوا منها قبل أربعة أو خمسة آلاف عام من ظهورهم على السواحل الشرقية للمتوسط.
وبصورة عامّة فإنّ أكثرَ الدراساتِ التّاريخيّة تَعتبر أنّ الفينيقييّن هم كنعانيّون ساميّون من صُلب سام بن نوح، بينما تُرْجِع أكثر تلك الدراسات نَسبهم أو مصادرهم التّاريخيّة إلى جنوب الجزيرة العربيّة، فالمؤرّخ الروماني سترابون الذي عاش بين العام 64 ق.م والعام 19الميلادي أشار إلى أنّ المقابر الموجودة في جزر البحرين تشابه مقابر الفينيقييّن، وأنّ أسماء جُزُرِهم ومدنهم هي أسماء فينيقيّة مثل صور على ساحل عُمان، و جُبَيْل وجزيرة أرواد (وهي الاسم القديم لجزيرة المحرّق في البحرين) وجزيرة تاروت بالقطيف التي تقارب اسم مدينة بيروت بلبنان وقد عُثِر بتاروت والقطيف على اثار فينيقية كثيرة، كما عُثِر في جميع هذه المدن على هياكل تشبه الهياكل الفينيقية.
ويرى فرنسيس لزمان مؤلف “تاريخ الشّرق القديم” أنّ الفينيقييّن “سلكوا طريق القوافل من القطيف نحو بلاد الشّام الخصبة”. وقال هنري راولينسون إنّ أصلَ الفنيقييّن (الكنعانييّن) من سكّان البحرين والقطيف في الخليج العربي. ظعنوا من هناك إلى سواحل الشّام منذ نحو خمسة آلاف عام. وأنّهم عرب بأصولهم وأنّ هناك في الجزرة العربية مدناً أسماؤها فينيقيّة مثل صور وجبيل وأرواد.
وإذا أخذنا بمجموع النّتائج التي توصّل إليها البحث الجينيّ للدّكتور زلّوعة وآراء المؤرّخين الثّقات من أيّام سترابون الرّوماني فإنّ من الممكن الخروج برأي يوافق اللّبنانييّن جميعهم، أي أنّ اللبنانييّن يحملون أصولاً فينيقيّة بالتّأكيد (وقد أثبت علم الجينات الحديثة ذلك) لكنّ الفينيقيين أنفسهم لم يهبطوا من المرّيخ بل جاءوا ضمن الهجرات التي انطلقت من الجزيرة العربيّة التي شهدت قبل 12 ألف عامٍ ثمّ في مراحل تالية فترات قَحط وتَصَحُّر أو كوارث مثل انهيار سدّ مأرب دفعت بتلك الشّعوب النّشِطة التي قادت التوسّع الإسلاميّ في العالم في ما بعد إلى الهجرة نحو بلاد الشّام الخصبة وهي كانت أصلاً تَعرف عن تلك البلاد وتتاجر معها منذ أقدم الأزمان.
“دراسة ناشونال جيوغرافيك للبصمات الجينيّة للشـــّـعوب أكّدت: كلّ واحد من ثلاثة لبنانييّن (مسيحيّاً أو مسلماً) من أصل فينيقيّ”
نموذجٌ لحضارة التّجارة والسَّلم
يعتقد المؤرّخون أنّ الفينيقييّن تمكّنوا من الحفاظ لأكثرَ من 12 قرناً على إمبراطوريّة مزدهرة وسط الصّراعات وتعاقُب الممالك القويّة بفضل إحجامهم عن بناء قوّة عسكريّة مُكلفة اقتصاديًّا واللجوء بدلاً من ذلك إلى الاستخدام الفعّال لسلاح المصالح والتّجارة والدبلوماسيّة وقبل كلّ شيء عبر تقديم أنفسهم كمجتمع مسالم يتخصّص في التّجارة مع الحضارات التي تجاوره بدلاً من تهديدها. بذلك تآخى الفينيقيّون مع المصرييّن ومع غيرهم واستطاعوا عموماً حماية تجارتهم وسط العواصف والأمواج المتقلّبة للممالك وتعايشوا وإن بصعوبة أحياناً وبأثمان ماليّة مرهِقة مع الحِثِّييِّن ثم مع الهكسوس ثم مع الإغريق والفرس الرّومان.. وتحتوي الرّوايات القديمة على شهادات عديدة في مهارة الفينيقييّن أبرزها وصف هوميروس لهم في الأوديسّة بالقول “هؤلاء البحّارة المَهَرةُ والتّجار الماكرون” وقد أضاف هوميروس إلى ذلك وصفهم بالـ “القراصنة” في شهادة تعكس في نظر بعض المؤرخين شعور الغَيْرَةِ والحسد الإغريقيّ من هذه الامبراطورية البحريّة المقدامة لكنّها تعكس في الوقت نفسه حجم الهيمنة التي كان الفينيقيون قد حقّقوها على تجارة العالم القديم وسيطرتهم على البحار. وقد كان الإغريق في نمط حياة أقرب إلى عصر ظلمات ولم تكن لهم لغة مكتوبة عندما كان الفينيقيّون يجوبون البحار وصولا إلى شواطئ كورنوال البريطانية الجنوبيّة الغربية وأيرلندة وسيقوم هؤلاء الإغريق في وقت متأخّر (نحو 400 ق.م.) بتطوير لغتهم المكتوبة لأوّل مرّة بالاستناد إلى الألفباء الفينيقيّة.
لا يعني ذلك أنّ الفينيقييّن تمكّنوا دوماً من التّفاهم مع الدّول الغازية فقد أدّت الغزوات المتوالية التي قامت بها شعوب المنطقة إلى دمار عدد من المدن الفينيقيّة بصورة متكرّرة لكنّ الفينيقييّن أعادوا بناء مدنهم في وقت قصير وتمكّنوا عادة من توفير صيغة للتّعايش أو للمشاركة بينهم وبين القوّة المهيمنة الجديدة.
كيف أصبحت اللغة الفينيقية
لغة العالم وأمّ اللغات القديمة
يعتبر اختراع وتطوير الألفباء الحديثة أحد أعظم مساهمات الفينيقيين في الحضارة الإنسانية، لكن الفينيقيين لم يكونوا أول من استخدم اللغة وكتبوا بها، فقد وجدت قبلهم لغات عدة مثل المسمارية المستخدمة في ممالك بلاد ما بين النهرين والهيروغليفية المصرية لكن أهمية الإنجاز الفينيقي – وما جعل اللغة الفينيقية قفزة كبيرة في الحضارة البشرية- هي أنها -مثل اللغة الحديثة- كانت أول لغة لا يحتاج المرء للكتابة والتحدث بها لأكثر من عدد محدود من الرموز، وحيث كل رمز في حد ذاته يمثل صوتا محددا. وكانت هذه البساطة قفزة كبيرة بالمقارنة مع لغات قديمة، مثل المسمارية أو الهيروغليفية اللتين استخدمتا رموزا كثيرة ومعقدة.
لقد كان لدى الفينيقيين حافز مهم لتطوير لغة “عالمية” يمكن (بسبب سهولتها) استخدامها من كافة الشعوب (وهو دور يشبه الدور الذي باتت تلعبه الإنكليزية في العالم المعاصر) وهذه اللغة ستؤمن للفينيقيين وسيلة فعالة للتواصل ليس فقط مع الملوك والكهنة والقادة المهمين بل مع كثير من الناس والأجناس التي كانت تدخل معهم في تجارتهم المنتشرة في كل مكان. وقد سمحت بساطة اللغة الفينيقية بتعلمها والكتابة بها ليس فقط من نخبة المجتمع بل من الناس العاديين، وهي كانت بالتالي عاملا مهما في تطوّر العلاقات الاجتماعية بل وفي بروز مفهوم معين من “الديمقراطية” سيتطور لاحقا في الممالك الهيلينية والرومانية.
ويعود اختراع الألفباء الفينيقية إلى نحو العام 1050 قبل الميلاد وهي الفترة التي عاشت فيها المدن الفينيقية عصرها الذهبي من توسع في التجارة البحرية مع مختلف شعوب العالم القديم. وتعتبر هذه الألفباء الأقدم على وجه الأرض، وهي تتألف من 22 حرفا وأصبحت يومها الأكثر انتشارا واستخداما في الكتابة حول العالم. وتعتبر العبرية القديمة والآرامية واللغة اليونانية القديمة ثم اللاتينية والقبطية كلها متفرعة عن اللغة الفينيقية، وكانت الفينيقية تكتب في العادة من اليمين إلى اليسار، وفي العام 2005 قامت المنظمة العالمية للثقافة والعلوم (الأونسكو) بإعلان اللغة الفينيقية جزءا من ذاكرة البشرية ومن تراث لبنان.


تجّار عابرون للقارات
لقد حجبت شهرة الفينيقييّن كتجّار بحار الشّهرة التي حققّوها أيضا كتجّار قوافل غطَّوْا بنشاطهم رقعة واسعة من آسيا وأفريقيا وهم اعتمدوا في تجارتهم البرّيّة طريقين رئيسين، أوّلهما يتفرّع عن الطّريق السّاحليّ الشّماليّ. فيذهب من أوغاريت نحو حماه وحلب والرُّها وكركميش ونِصّيبين في القفار السّورية الشماليّة وكان هذا الطّريق يتّصل بوادي الفُرات حتّى ما بين النّهرين، أو يذهب من حَرَّان إلى نَينوى. أما الطّريق الثّاني فكان يعبر جبال لبنان إلى الزّبداني فدمشق فتدمر فبلاد ما بين النّهرين وشرق سوريا. وهذا هو الطّريق الأقصر، لكنّه الأصعب. وكانت الجزيرة العربيّة وبلاد ما بين النّهرين الصّلة الجغرافية بين فينيقيا والشّرق الأقصى خصوصاً الهند.
وفي طرقهم البريّة هذه، وبسبب الحجم والقيمة الكبيرين للبضائع التي كانوا ينقلونها في رحلاتهم وبسبب طول مدّة إقامتهم (وكانت بعض الرّحلات تستغرق 3 سنوات) كان الفينيقيّون يقيمون علاقات الودِّ مع شعوب البلدان والمناطق التي يعبرونها أو يقيمون فيها لمدة مؤقتة فيعزّزون أواصر المودّة مع القبائل، ويستعينون ببعضها كوسطاء أو كمرشدين، الأمر الذي حفظ قوافلهم من مخاطر اللّصوص وقطاع الطّرق الذين كانون يتربّصون المناطق النّائية أو الممرّات الجبليّة المنعزلة. وسهَّل ذلك للفينيقييّن إقامة المحطّات التّجاريّة على طول طرقهم التّجاريّة، كما أنّهم بنَوْا أحياءهم الخاصّة بهم في بعض المدن التي أقاموا فيها.
“أنشأوا نظاماً ديمقراطيّاً تشاركيّاً لإدارة مصالح المجتمع واحترموا المرأة واختاروا ملكـــــاً منهم فقط لحاجتهم إلى «مفاوض» لملوك الشّعوب الأُخرى !”
إعادة التّصدير
عندما اشتُهر لبنان في القرن الماضي بتجارة إعادة التّصدير وبكونه طريق التّجارة العابرة من ساحل المتوسّط فهو كان بذلك وللأسباب الجغرافيّة والاقتصاديّة نفسها يستعيد تقليداً فينيقيّاً أصيلاً كبلد خدمات وتجارة لا يمتلك الموادّ الأوّليّة ومقوّمات الاقتصاد الزّراعيّ لبلاد النيل أو بلاد ما بين النّهرين. رغم تطوّرها الاقتصاديّ فإنّ فينيقيا لم تكن تملك ما يكفي لتلبية احتياجات أسواقها الواسعة باستثناء أخشاب الأرز (وتقليد قطع الغابات وتعرية الجبال في بلادنا ليس جديداً !) وكميّات محدودة من الزّيوت والأصباغ والخمور والأنسجة وبعض المصنوعات البرونزيّة والفضّيّة أو مصنوعات العاج. لذلك اتّكل الفينيقيّون على إنتاج غيرهم يشترونه بأسعارٍ رخيصة ثمّ يبيعونه بربح جيّد، وهم استوردوا الصّوف والجلود واللّحوم من وسط سوريا، والعسل والحبوب من فِلِسْطين، والتّوابل من الشّرق الأقصى، والنّحاس من قبرص واليونان والقفقاس، والفضة من إسبانيا، والحجارة الكريمة والذّهب والكَتّان والقُطن من مصر ، والعطور من بلاد الرّافدين، والأبَنُوس والعاج من السّودان، والخيول من أرمينيا. وحقّق الفينيقيّون فتحاً تجاريّاً مهمّاً عندما وصلوا عبر مضيق جبل طارق إلى جنوب الجزر البريطانيّة حيث توجد مناجم وفيرة من القصدير وبسبب ذلك، ولاكتشافهم طريقة صهر القصدير مع النّحاس لإنتاج معدن البرونز فقد حقّق الفينيقيّون لمدّة طويلة شهرة في الصّناعات المعدِنيّة وتفوّقاً على جميع معاصريهم في هذا المجال. وقد كتب ديودورس الصّقلِّي، المؤرّخ اليونانيّ، حول هذا الموضوع قائلاً: “إنّ بلاد الأيبيرييّن (إسبانبا) تحتوي على أغنى مناجم الفضّة التي نعرفها ولم يكن لدى السكّان المحلييّن خبرة في طرق معالجة هذا المعدِن النّفيس واستخدامه، لكنّ الفينيقييّن كانوا يبادلون كميّات كبيرة من الفضّة الخام مقابل كميّة صغيرة من البضائع، ثم يقومون ببيعها في أسواق اليونان وآسيا وشعوب أخرى بأرباح ضخمة وهم اكتسبوا من ذلك ثروات كبيرة”.
وكانت رحلة التّجّار الفينيقيّين تستغرق بضع سنواتٍ أحيانًا. إذ كانوا تجارا متجوّلين، أو “مغتربين” بصورة مؤقتة، وهم كانوا يأخذون وقتهم في التعرف على أسواقهم وبناء العلاقات مع مجتمعاتها، الأمر الذي عزز موقفهم وسهل مبادلاتهم وساهم في تحقيقهم لثروات كبيرة، حتى أنهم كانوا أثناء فترة المتاجرة يزرعون المحاصيل في بعض الأماكن وينتظرون وقت حصادهم فيستفيدون أيضا بصورة مضاعفة من إقامتهم.
“بسبب عدم وجود جيـــــــش يمكن أن يدعم الدّكتاتوريـــّـــة لم يحصل في تاريخ الفينيقييّن نزاع عنيف على المُلْــــــــك ولم يُسمَع عن قيام ثورةٍ اجتماعيّة بسبب الظّلم الاجتماعيّ”


سرّ الهيمنة الفينيقيّة
تؤكّد المعطيات التّاريخيّة التي بلغتنا عن الفينيقييّن أنّ السرّ الأهمّ لتفوّقهم التّجاريّ والبحريّ يكمن في التفوّق الحاسم وغير المنازَع الذي حقّقوه في تقنيّات بناء السّفن التجاريّة والحربيّة وهو تفوّق مكّنهم مع الوقت من إحراز تفوّق آخر في فنّ الملاحة في البحار العميقة جعل منهم أسياد البحار. وفي زمن كان الإبحار في البحر يُعتَبر مخاطرة كبيرة وأكثر الشعوب تخشى الابتعاد عن السّواحل بزوارق النّقل الصّغيرة التي كانت تمتلكها، كان الفينيقيّون يمخرون عباب البحار بسفن كبيرة (يزيد طولها على 25 مترا وعرضها على 7 أمتار) تستخدم الشّراع المربّع وتتمتّع بمتانة كبيرة وانقياد سهل لبحّارتها. ونتيجة لِحُبّهم المغامرة وإبحارهم الدّائم فقد توفّر لأمراء البّحر الفينيقييّن معلومات سرّيّة عن الممرّات البحريّة الخَطرة وخبرات فريدة في المناورة البحريّة لاجتياز كافّة العقبات وهذا التفوّق البحريّ كان ولا شكّ العامل الأهمّ وراء سيطرتهم على الملاحة في حوض البحر الأبيض المتوسّط ولجوء الحضارات الأخرى إلى خدماتهم البحرية والتجاريّة، وتمكُّنهم من بناء عدد كبير من المدن والمواقع التّجاريّة والمحطّات البحريّة والمخازن السّاحليّة وغيرها من مكوّنات الإمبراطوريّة البحريّة التي تمكّنوا من توسيع نطاقها حتى جنوب الجزر البريطانيّة وأيرلندة. وبسبب الحاجة لتعزيز الشّبكات الملاحيّة فقد جهد التّجار الفينيقيّون لربط قواعدهم البحريّة بتجارتهم البريّة، وأسّسوا مراكز تجاريّة عديدة وتقع على مسافات صغيرة من بعضها البعض لتسهيل عمليّات التوقّف بين الرّحلات والتّموين وشحن اللّوازم والإمدادات
مجتمعٌ مدَنيّ متقدّم
أدّى اختيار الفينيقييّن للتّجارة والبحر والعلاقات السَّلميّة مع شعوب زمانهم إلى نتائج عميقة على صعيد نظامهم السّياسيّ وثقافتهم وحتى عقائدهم الدّينيّة. فغَلبَة المصالح التجاريّة ونشاط البحر والقوافل جعل التّجّار هم القوّة الرّئيسة المقرِّرة في المجتمع وغياب الجيوش والقوّاد أبعد خطر الاستبداد وبروز الأباطرة على النّسق الإسبارطيّ أو الإغريقيّ أو الرّومانيّ. كان المجتمع الفينيقيّ بمثابة شركة مساهمة كبرى لكلٍّ من أفراد المجتمع فيها دور ونصيب من الثّمار المحقّقة وقد ظهر تقدّم المجتمع المدنيّ الفينيقيّ في عدد من الأمور أهمّها تنظيم الرّحلات البحريّة ونظام الحكم والعبادات ودور المرأة.
سرّ الهيمنة الفينيقيّة
تؤكّد المعطيات التّاريخيّة التي بلغتنا عن الفينيقييّن أنّ السرّ الأهمّ لتفوّقهم التّجاريّ والبحريّ يكمن في التفوّق الحاسم وغير المنازَع الذي حقّقوه في تقنيّات بناء السّفن التجاريّة والحربيّة وهو تفوّق مكّنهم مع الوقت من إحراز تفوّق آخر في فنّ الملاحة في البحار العميقة جعل منهم أسياد البحار. وفي زمن كان الإبحار في البحر يُعتَبر مخاطرة كبيرة وأكثر الشعوب تخشى الابتعاد عن السّواحل بزوارق النّقل الصّغيرة التي كانت تمتلكها، كان الفينيقيّون يمخرون عباب البحار بسفن كبيرة (يزيد طولها على 25 مترا وعرضها على 7 أمتار) تستخدم الشّراع المربّع وتتمتّع بمتانة كبيرة وانقياد سهل لبحّارتها. ونتيجة لِحُبّهم المغامرة وإبحارهم الدّائم فقد توفّر لأمراء البّحر الفينيقييّن معلومات سرّيّة عن الممرّات البحريّة الخَطرة وخبرات فريدة في المناورة البحريّة لاجتياز كافّة العقبات وهذا التفوّق البحريّ كان ولا شكّ العامل الأهمّ وراء سيطرتهم على الملاحة في حوض البحر الأبيض المتوسّط ولجوء الحضارات الأخرى إلى خدماتهم البحرية والتجاريّة، وتمكُّنهم من بناء عدد كبير من المدن والمواقع التّجاريّة والمحطّات البحريّة والمخازن السّاحليّة وغيرها من مكوّنات الإمبراطوريّة البحريّة التي تمكّنوا من توسيع نطاقها حتى جنوب الجزر البريطانيّة وأيرلندة. وبسبب الحاجة لتعزيز الشّبكات الملاحيّة فقد جهد التّجار الفينيقيّون لربط قواعدهم البحريّة بتجارتهم البريّة، وأسّسوا مراكز تجاريّة عديدة وتقع على مسافات صغيرة من بعضها البعض لتسهيل عمليّات التوقّف بين الرّحلات والتّموين وشحن اللّوازم والإمدادات
مجتمعٌ مدَنيّ متقدّم
أدّى اختيار الفينيقييّن للتّجارة والبحر والعلاقات السَّلميّة مع شعوب زمانهم إلى نتائج عميقة على صعيد نظامهم السّياسيّ وثقافتهم وحتى عقائدهم الدّينيّة. فغَلبَة المصالح التجاريّة ونشاط البحر والقوافل جعل التّجّار هم القوّة الرّئيسة المقرِّرة في المجتمع وغياب الجيوش والقوّاد أبعد خطر الاستبداد وبروز الأباطرة على النّسق الإسبارطيّ أو الإغريقيّ أو الرّومانيّ. كان المجتمع الفينيقيّ بمثابة شركة مساهمة كبرى لكلٍّ من أفراد المجتمع فيها دور ونصيب من الثّمار المحقّقة وقد ظهر تقدّم المجتمع المدنيّ الفينيقيّ في عدد من الأمور أهمّها تنظيم الرّحلات البحريّة ونظام الحكم والعبادات ودور المرأة.
إدارة الأعمال وفق النّمط الفينيقيّ
بسبب الاعتماد الكبير للفينيقييّن على التّجارة وعلى الرّحلات البحريّة كانت الحاجة ملحّة لإيجاد إدارةٍ ذكيّة وماهرة للمغامرات البحريّة وكافّة العمليّات التّجاريّة واللّوجستية التي تفرّعت عنها فالاستثمار في أيّة رحلة كبير، والمخاطر أكبر، والمطلوب في مثل هذه الحالات استنباط ترتيباتٍ دقيقة وتبنّي نظام فعال لتخصيص المسؤوليّات والمخاطر والمشاركة في المغانم. لقد كان على جميع المستثمرين في الرّحلة (بُناة السّفينة، وربّانها، وطاقَمها ومزوّديها بالبضائع ومموّليها) أن يعملوا كشركة بالمعنى الحديث للكلمة أي أن يلتقوا ويتخذوا معا القرارات المهمّة التي ستؤثّر على مسار الرّحلة ونتائجها. ولم يكن مسموحاً بتفرّد أحد مهما كانت خبرته بالرّأي وإلّا فإنّ الأعضاء المتململين كانوا سينسحبون من المغامرة ويمتنعون عن المشاركة فيها. فضلاً عن ذلك، وبعد الاتفاق على التّفاصيل كلّها كان على هؤلاء الشّركاء أن يختاروا واحداً من بينهم ليكون الشّريك الأكبر، وهو ما يوازي في لغة العصر موقع العضو المنتدب أو المدير التّنفيذي، وكان دور هذا الشخص يتركّز في مراقبة تقدُّم الاستعداد للرّحلة وتنظيمها وإطلاقها وإدارة شؤونها ومعالجة الأمور التي تطرأ وذلك حتّى نهاية البعثة التّجارية وعودة السّفينة – أو السفن- إلى قواعدها.
لكن مع تنامي أعداد السكّان في المدينة على مرّ السنين، غدا استدعاء الجميع لمثل هذه اللّقاءات خطوةً غير عملية. ونتيجةً لذلك نشأت في ذلك الوقت أولى مجالس الممّثلين عن الشّعب. وكان يُعقد اجتماع عموميّ لجميع الشّعب، وربّما على أساس سنَويّ، واختيار أعضاء المجلس والتّعبير بقوّة عن امتنان أو عدم رضى الشّعب تجاه ما تمّ تحقيقه منذ الاجتماع العموميّ الأخير. ومن ثمّ يجتمع أعضاء المجلس عند اقتضاء الضّرورة ويعمل بأداءٍ أشبه بمجلس إدارة يُدير جميع المستثمرين، ومن ثم اتّخاذ القرارات المهمّة. وكان المجلس يمنح أحد أعضائه أيضاً الحقّ باتّخاذ قرارات يوميّة إزاء المغامرات التّجاريّة وتحمُّل مسؤوليته ليبدو في الظّاهر كقائدٍ للمدينة واستدعاء أعضاء المجلس عند الحاجة إلى اتّخاذ قرارات كبيرة.
“تعاملوا بحزم وحكمة مع أعتى القوى التي سادت زمانهم لكنّهم لم يتباهَوْا يوماً بإلهِ حرب، ولم يتغنّوْا كغيرهم بسحق الأُمم، وتدمير المــــدن وإحراقـــها ونهبها وقتــــل سُكّانها”
ملِك فينيقيّ ولكن..
على الرّغم من أنّ الفينيقييّن اتّبعوا نظام الحُكم التّشاوريّ الخاصّ بهم، فإنّهم احتاجوا إلى التّعامل مع مجتمعاتٍ وكياناتٍ أخرى كان يحكمها ملوك. وبالرّغم من أن نظامهم لم يكن مصمّماً لقيام ملك مطلق الصّلاحية فإنّهم رأوا أنّ من الأفضل، ولو لأجل المظاهر البروتوكوليّة، أن يكون لهم ملِكٌ هم أيضاً. لذا أعلنَ فينيقيّو جُبيل قائدَهم “مَلِكاً”، وشكّل ذلك سابقةً في التّاريخ القديم لأنّ الملك جاء هنا باختيار الشّعب بينما كان الملوك يصلون إلى السّلطة عبر الغزوات وسفك الدّماء ويحمون حكمهم المطلق بالقوة العسكريّة العنيفة.
لقد اختار الفينيقيّون أن يجدوا لأنفسهم “مَلِكاً” ليس لأنّ تنظيمهم الاجتماعيّ والسياسيّ كان في حاجة إلى هذا الابتكار بل لأنّهم يحتاجونه من أجل اكتساب الشّرعيّة والاحترام الدّوليّ لمجتمعهم كما أنهم يحتاجونه في التّعامل مع الشّعوب الأخرى التي كان لها ملوك وكان لا بدّ لهم من أن يقيموا علاقاتهم مع الجيران من خلال ملك لهم يمكنه التّعامل والتّفاوض مع ملوك الأقوام الأخرى.
وكان من السّهل على الفينيقييّن المحافظة على منصب الملِك، لأنّ الأخيرَ عبر اختيار المجلس له بمصادقةٍ من المدينة وسُكّانها، كان ينحدِرُ غالباً من العائلات العريقة فيها. لكن هل كان الحكم الملكيّ الفينيقيّ وراثيّاً؟ كان في حقيقته تسوية توفّق بين استمراريّة الملك وبين ضمان اختيار الأفضل. فعند الحاجة لاختيار خليفة للملِك فإنّ الخيار الأول كان يتّجه لاختيار أحد أولاد الملِك السّابق، لكن دون التزام بأن يكون الابن الأكبر للملِك هو الخيار الوحيد. إذ كان ممكناً اختيار ولد آخر معروف بالكفاءة أو ربّما عضو من أُسرة نبيلة أخرى. وكان معيار الاختيار هو جدارة الملك المعيّن لقيادة الأعمال التجاريّة للمدينة وعلاقاتها الدبلوماسيّة. وعندما كان الملِك يُقصِّر في أداء مهمّته، كان من السّهل القيام بالتغييّر إذ إنّ ذلك كان لا يتطلّب أكثر من قرار تتّخذه جمعيّة الممثّلين المنتَخبين لتمثيل المدينة. والملفت أنّه لم يسجَّل في تاريخ العهد الفينيقيّ أنْ نشأ نزاعٍ عنيف على السلطة أو محاولة أيّ فينيقيٍّ للاستئثار بالمُلك خلافاً وكانت هذه شهادة بليغة على المستوى الحضاريّ الذي ساد علاقات المجتمع الفينيقيّ ونظامه السياسيّ.
كان الفينيقيّون يدركون في الوقت نفسه أنّ ثمّة مخاطر دائمة (بسبب طبيعة النّفس الإنسانيّة) من أن يصبح القائد الجديد مُفتَتناً بالقوة، وأن يسعى إلى تنصيب نفسه ملِكاً حقيقيّاً، أي حاكماً مستبدّاً على المدينة، لكن هذا الاحتمال قلّل كثيراً منه عدم استناد الدّولة الفينيقيّة إلى جيش أو قوّة مسلّحة يمكن أن يستخدمها الطّاغية لفرض سلطانه. وأكثر ما قام به الفينيقيّون كان تشكيل حاميات قليلة العدد داخل كلّ مدينة بغرض السّهر على الأمن وحفظ النّظام العام، لكن من دون أن يكون لأيٍّ من تلك الحاميات قوّة كافية للسّير خارج المدينة بهدف خوض معارك داخليّة أو خارجيّة.
وحيث إنّ الملِك لدى الفينيقييّن كان يحكم من دون جيشٍ يفرض إرادته، لم يكن ثمّة خطرٌ يُحيق بالمجلس المُنتَخَب والشّعب. وممّا زاد هذا الشّعور بالأمان هو وجوب أن تعود جميع القرارات الرّئيسة إلى المجلس المذكور. فلم يكن بوسع الملِك أن يبرمَ اتفاقيّات تُضفي مزيداً من السّلطة على حُكمه لأنّ المجلس ما إن يشعر بتحرُّكٍ مماثل حتى يُعيِّن ملِكاً جديداً. وهكذا بدأ تقليد جُبَيل بتنصيب مَلِكٍ، ذلك التّقليد الذي استمرّ لعهدٍ طويل. ويُعتقَد أنّ الملِك كان يقطن في القسم السّكَنيّ من دار التّجارة الرّئيسيّ في المدينة، قريباً من جميع العمليّات اليوميّة التي كان مسؤولاً عنها. وهذا الملِك الذي يُشبه إلى حدٍّ كبير مديراً إداريّاً أو مديراً تنفيذيّاً لشركة حديثة، كان في تصرُّفه فريقٌ كبير من الأشخاص لتنفيذ العمل الفِعلي تحت إشرافه. وهو كان بدوره يعود بالنّتائج إلى مجلس مدراء، أي المجلس المنوَّه عنه أعلاه.
لقد عاد مبدأ المشاركة بالغُنْمِ والغُرْم بالنّفع الكبير على الفينيقييّن وأصبح قوّة دافعة وراء كلّ ما أنجزوه على مر القرون. ذلك ما جعلهم متّحدين في مجتمعٍ متكاملٍ، بدلَ أن يكونوا مجموعة من الأتباع يُهيمن عليهم قائدٌ قوي، كشأن الشّعوب الأخرى. وكونهم يتّصفون بمجتمعٍ كهذا هو الذي أمدّهم بالقوة والتّميُّز وهو الذي مكّنهم من أن يمدّوا في عمر حكمهم النّاجح والمُزدهر قروناً طويلة من الزّمن.


المساواة والمشاركة في الثروة
أحد المبادئ الأساسيّة للمجتمع الفينيقيّ كان المساواة والمشاركة في الثّروة. ولم يُقْصَدْ بذلك أنّ كلّ عضو في المجتمع يجب أن يكون مساويا كلّيّاً في كلّ نواحي الحياة للآخرين، فبعض العائلات كانت نشطة على وجهٍ خاصٍّ في التّجارة، وهي غامرت واستثمرت وحقّقت بعض الثّروات الإضافيّة لنفسها. لذلك، فإنّ المبدأ الفينيقيّ في المساواة كان يعني أنّ الضّعفاء وأشدّ النّاس عوزاً كانت تُحسب لهم حصة في الأرباح المُكْتَسبة من قِبَل المجتمع بأكمله، وعلى الرّغم من أنّ التّجارة الدّوْليّة، وبناء السّفن، وإنتاج السّلع على غرار الملابس الشّهيرة المصبوغة بالصِّباغ الأُرجوانيّ المَلَكيّ، قد جعلت الفينيقييّن من أغنى المجتمعات في العالم القديم على الإطلاق، فإنّ الهوّة بين الغنيّ والفقير في ما بينهم كانت أصغر بكثير ممّا كانت عليه لدى معظم المجتمعات الأخرى في تلك الأيّام.
فالمناطق الأخرى غالباً ما كان يحكمها ملِكٌ قوي ومجموعة صغيرة من العائلات الفائقة التّرف تطغى على طبقة “نبيلة” تابعة لكنّها محدودة الحجم، بينما يبقى على القسم الأكبر من السُّكّان كسب قوتهم يوماً بيوم. وكان شائعاً بين الفينيقييّن، وحتى الفقراء منهم، العيش في منازل تتألّف من غرفٍ عديدة، في وقتٍ كانت المنازل ذات الغرفة الوحيدة هي السّائدة في المجتمعات المجاورة. وعبر اختيارهم لأعضاء مجالسهم وملوكهم، والقدرة على استبدالهم، حرص الفينيقيّون على ألَّا تستأثر أُسرة واحدة بثروة المجتمع. واللّافت أنّ المدن الفينيقيّة لم تُقلِّد أبداً ظاهرة بناء القصور الفرديّة الباذخة كما في مصر وبلاد ما بين النّهرين وفارس ومناطق تاريخيّة أخرى.
وفي المجتمع الفينيقيّ، كان لكلّ شخصٍ صوتٌ في شؤون الجماعة، وحِصّةٌ في نجاحها. وكان من شأن مبدأ المساواة هذا أنْ أحدثَ تأثيراتٍ مهمّة. أوّلاً، لم يُسمَع طيلة تاريخ الفينيقييّن الطّويل عن قيام ثورةٍ اجتماعيّة أو فتنة أو تمرّد. فالهوّة الصّغيرة نسبيّاً بين الطّبقات العليا والدّنيا من المجتمع لم تُشكِّل عامل احتقان يمكن أن يؤدّي إلى حصول مثل تلك القلاقل، فضلاً عن أنّ شعور الفينيقييّن الدّائم بوجود تهديد كامن أو علنّي لمصالحهم فرض عليهم واجب التّضامن من أجل حماية طريقة عيشهم وازدهارهم.
احترام المرأة
كان الشّعب الفينيقي يحترُم المرأة ويُوقِّرها، وهذا ما مكّنه من الإفادة على نحو أكمل من قدرات المرأة في تنفيذ استثماراته الواسعة الانتشار وتنظيم شؤونه المدنيّة. ومع ازدهار الأعمال الفنيّة في أوساط الفينيقييّن، أخذت المرأة تُشارِك بالكامل في نشاطات المدينة، وعزا بعض الباحثين ذلك إلى أنّ الفينيقييّن كانوا يعبدون “سيّدة جُبيل”، التي كانت يُسبَغ عليها صفات “الأرض” و”الطّبيعة الأمّ”، و”حامية النّساء والأطفال”، التي تجلب خيرات الأرض للنّاس، وذلك في مقابل الإله “بعلشميم”، “إله السماء” الذي لم يجعلوه على الأرض بل في السّماء، سيّد العواصف، وهو ما كان نابعاً من هواجس الفينيقييّن بشأن البحر وصعوبة التّنبّؤ بسلوكه في وقت كان اعتمادهم تامّاً تقريباً في أكثر رزقهم على مزاجه وأحواله.


فنّ التّعايش مع الأقوياء
في المراحل التّالية من تاريخ “أمراء البحار” الفينيقييّن، حينما انبثقت التّجارة البحريّة، كحِرفةٍ وفنٍّ ومصدرٍ للعيش الكريم، لم يستحدث الفينيقيّون آلهةً لكلِّ غَرضٍ في الحياة كغيرهم من الشّعوب والحضارات الأخرى في تلك العصور. وبدلاً من ذلك، اتّبعوا وجهةً فريدة عكست نمط حياتهم، ومجتمعهم وتميُّزهم.
بسبب اختلاطهم بعد كبير من الشّعوب والمجتمعات المتنوّعة كان لكلٌّ منها لغته وعاداته ومعتقداته الخاصّة، وكان المصريّون القُدامى، على سبيل المثال، يبدون للآخرين بمظهر الافتخار والتّعالي على مَنْ حولهم وظهر ذلك بحِرصِهم على بناء التّماثيل الهائلة المُهيبة، والمصنوعات الذّهبيّة اللمّاعة، ونظام الحكم المُطلق، والجيوش الجرّارة الجاهزة للتحرُّك في أيّ وقت.
في المقابل، حافظ الفينيقيّون على ثقافتهم الخاصّة، لكنّهم سعَوْا في آنٍ إلى الاختلاط بالشّعوب الأخرى التي كانوا يُصادفونها في رحلاتهم التّجارية. وقد كان من خصائصهم وعاداتهم المتميّزة، أنّهم ما إن يصلوا إلى أرضٍ جديدة حتى يُظهرِوا إعجاباً كبيراً بالثّقافة المحلّيّة فيها، بما في ذلك الطقوس والمراسم. وثمّة أدلّة كافية على أنّ الفينيقييّن أظهروا عاطفةً شديدة في مدح المصرييّن وحضارتهم وفراعنتهم. وفي المقابل فقد عاملهم المصريّون كما لو كانوا “أبناء عمومة” يقطنون ناحية الشّرق من بلادهم، وكانت أشجارُ أرز لبنان وأخشابُ غاباته وصِمغه في غاية الأهمّية لعادات المصرييّن في تحنيط موتاههم، وبناء المعابد والهياكل، وتأثيث القصور، بل إنّ سلوكهم الرّاقي في الاختلاط أيضاً جعلَ وجودَهم مقبولاً بالفعل في هذه المنطقة الشّديدة الحساسيّة.
وغدت هذه العلاقة عميقة ومتجذّرة لدرجة أنّها أثّرت في تقاليد المصرييّن وأساطيرهم الدّينيّة، لا سيّما في أسطورة “إيزيس وأوزوريس”، وبسبب نزوعهم إلى المسالمة وحبّهم للتّواصل مع الشّعوب الأخرى، وإرساء الشّراكات والمبادلات التّجارية فإنّهم مالوا بطبيعتهم إلى احترام أديان ومعتقدات وعادات وتقاليد الشّعوب الأخرى، ورأَوْا في ذلك عاملاً إضافيّاً في حماية مجتمعاتهم وإنشاء روابط المودّة مع الشّعوب المحيطة بهم. وكما يقول أحد الباحثين المختصّين، فإنّ الفينيقييّن بكونهم مطّلعين على مختلف المجتمعات، ربّما “وصلوا إلى نتيجةٍ مفادها أنّ كلّ تلك المجتمعات كانت تعبدُ ربّاً واحداً لكن بأسماءَ وتصوُّراتٍ مختلفة”. وفيما كانوا يتّبعون هذا السّلوك السبّاق في احترام أديان الآخرين وتقاليدهم، فإنّهم في الوقت ذاته لم يجعلوا لأنفسهم نُصُباً يتعبّدونها، كتلك التي استخدمتها الشّعوب الأخرى، كأصنامٍ حجرية تُصوِّر آلهة بأجسامٍ بشريّة أو رؤوسٍ حيوانية، أو ثيرانٍ من ذهب كما فعلَ أبناء عمومتهم الكنعانيّون. فما اعتمدوه هو مجرّد “مصطبة” حجرية تدلُّ المهتمين على أنّ المكان هو مكان لتقديم القرابين والعبادة.


مهارة دبلوماسيّة
برع الفينيقيّون في مملكة جُبيل وشقيقاتها في استخدام التّفاوض ودبلوماسيّة المصالحة والسَّلم لفضّ النّزاعات وتجنُّب المواجهات. لذلك لم يذكر التّاريخ أنّهم تباهَوْا يوماً بإلهِ حربٍ، ولم يتغنّوا كالشّعوب الأخرى بسحق الأُمم، وتدمير المدن وإحراقها وقتل سُكّانها وسلب غنائمها. ومع ذلك، لم يكونوا ضعفاء بأي شكلٍ من الأشكال، فهم بشجاعتهم هيمنوا على التّجارة عبر العالم وتعاملوا مع أعتى القوى السّائدة في زمانهم، لكنّ الحربَ لم تكن خيارهم على الإطلاق، إنّما تمسّكوا بمفاهيم السَّلم والتّواصُل واحترام الآخر. بل يذكر التّاريخ إنّهم تحالفوا مع “شعوب البحر” العنيفة التي اجتاحت المنطقة ودمّرت حضاراتها في العام 1200 قبل الميلاد ولم يصطدموا بهم خلال اجتياحهم لشواطئ شرق البحر المتوسط.
إنّ هذه المهارة في احتواء الأزَمات واجتناب الصّدامات ليست فقط في أساس النّجاح الفينيقيّ في مَدّ عمر الامبراطوريّة لقرون طويلة بل كان أحد أهم أسباب الازدهار الاقتصاديّ للمدن الفينيقيّة التي تمكّنت من توفير الأموال الهائلة التي كانت تُنْفق على الجيوش والحملات العسكريّة لاستثمارها في تحقيق مستوى معيشة كان الأعلى في المنطقة وفي تعزيز القوّة البحريّة للممالك الفينيقيّة وهيمنتها على تجارة العالم القديم.
قرطاجة


إسبارطة الفينيقييّن التي ذهبت بمجدهم
في العام 820 قبل الميلاد، حدَثَ نزاعٌ في مدينة صُور الفينيقيّة، بعد وفاة ملِكها ماتان الأول الذي أوصى بالحُكم من بعده لِوَلَدَيْه، ابنته الكبرى أليسار وشقيقها الصّغير بيغماليون. وانقسم المجلسُ الفينيقيّ بين هذَين الخَيارَين، لكنّ التجّارَ الأثرياء الكبار والكهنة، وعلى رأسهم زيكار بعل، كبير كهنة معبد ملقارت وصاحب الثّروات الضخمة، وقفوا إلى جانب أليسار الابنة الكبرى الذّكية والطموحة. وقد تزوّجت أليسار من زيكاربعل. لكنّ شقيقها الصّغير السّنِّ ومَنْ حوله أحسّوا بالخطر، وتآمروا على قتل زوجها داخل المعبد. وداهمَ الخطرُ أليسار ومَنْ ناصرها، فأقنعت شقيقها أنّها ستنطلق في رحلةٍ تجاريّة عبر البحر كشأن الفينيقييّن، وأخذت كنوزَ زوجها وفعلَ مثلها الأثرياء الكبار الذين هربوا بثرواتهم إلى السّفن، وانطلقوا بعيداً نحو الغرب.
القصة تقول إنّ سفن أليسار رست في شاطئ شمال أفريقيا بالقرب من مدينة يوتيقا (“عتيقة” في تونس اليوم)، تلك المستعمرة الفينيقيّة منذ أمدٍ والتي لعبت دوراً كبيراً في التّجارة. لكنّ المُرتحلين أرادوا أن ينطلقوا من بقعةٍ جديدة تقع على بُعد أميال من عتيقة. وتقول الأسطورة: إنّ أليسار تفاوضت مع مَلِك السُكّان البربر للمنطقة على منحها قطعة أرض صغيرة بحجم جلد ثور. وأمرت أليسار جماعتها بقطع خيوطٍ من هذا الجلد ووصلها ببعضها بعضاً ورسم نصف دائرةٍ حول تلّة عالية (كانت تُدعَى بيرسا) في تلك المنطقة القريبة من الشاطئ. وبذلك اختار الفينيقيّون المرتحلون تلّةً عالية يمكنهم من خلالها الإشراف على المناطق المحيطة بها والدّفاع عن مدينتهم العتيدة. وذُهِلَ ملكُ البربر لذكائها الخارق، وأوفى بعهده. وأخذت أليسار تبني معابد ومساكن فيها، وأُطلِقَ على هذه المدينة الناشئة اسم “قرت حدشيت”، وتعني حرفياً “المدينة الجديدة”، هذا الاسم الذي تحوّل لاحقاً إلى “قرطاجة”، تلك التي وفَدَ إليها أثرياءُ صور فُرادى وزرافات في موجاتٍ متتالية من المهاجرين.
وكان من الطبيعيّ أن تُنسَج الأساطير حول تأسيس قرطاجة والإمبراطورة القويّة التي قادتها في ذلك الزمن الغابر. ودارت تلك الأساطير حول شخصيّة أليسار (أو ديدون، أي المترحِّلة بالفينيقيّة) ورحلتها من صور تيهاً في البحر نحو شمال أفريقيا. ويعود أوّل نصٍّ يتحدّث عن مغامراتها إلى تيماوس الصّقلّي (Timaeus of Sicily) بين عامَي 256 و 200 قبل الميلاد. هذا النصُّ فُقِد، لكن بقي منه بعضُ الاقتباسات في نصوصٍ أخرى. وهو الذي حدّد تاريخ تأسيس قرطاجة حوالى العام 814 قبل الميلاد، وهو تاريخٌ مقبول من النّاحية التاريخيّة حيث إنّ ملِك صور “بيغماليون” قد حكم بين عامَي 820 و 772 قبل الميلاد.
وقد أوردَ قصّةَ أليسار وتأسيسها لقرطاجة الشّاعرُ الرّوماني الشّهير فيرجيل (Virgil) في ملحمته الرائعة “الإنيادة” (Aeneid). وتتحدّث الملحمة في بدايتها عن قدوم البطل الإغريقيّ “أنياس” إلى شواطئ شمال أفريقيا حيث أخبرته “أفروديت” قصّة أليسار، لتنشأ بعد ذلك قصّة رومانسيّة تجمعه مع المَلِكة الفينيقيّة.
ربّما من المؤسف أنّ الفينيقيين لم يحتفظوا بكتابات عن أمجادهم وحُكّامهم، وكلّ ما انتقل إلينا هو قِصَصٌ كتبها خصومهم، ولا سيّما الرّومان الذين خاضوا مع القرطاجييّن ما عرف بـ “الحروب البونيّة”، والذين كتبوا عن أليسار والفينيقييّن وقرطاجة بينما أصوات فِيَلَةِ هنيبعل لا زالت تزعق في آذانهم وجيوش الغازي الفينيقيّ الجرّارة تُحاصر روما.
لأسباب تاريخيّة وجغرافية اختلفت فلسفة قرطاجة عن مَنْشَئِها الفينيقيّ على السّواحل اللّبنانيّة ربّما لأنّ الممالكَ الأُمَّ في ظلّ الملك بغماليون هي التي ورثت امبراطوريّة الفينيقييّن البحريّة ومصالحهم التّجاريّة وفلسفتهم السلمية. بينما نزعت قرطاجة لمحاولة بناء إمبراطورية على النّمط التقليديّ أي مملكة تقوم على الجيوش العظيمة (التي تستخدم المرتزقة) والفتوحات وإخضاع الأمم الأخرى.
ولا بدّ من القول: إنّ خلاف أليسار وبغماليون وما رافقه من مكائدَ كان نذير شؤم على الإمبراطورية التي لم تكن قد شهدت حتى ذلك التّاريخ نزاعات بهذه الحدّة على المُلْك، كما أنّ قيام قرطاجة على ضرب وحدة المجتمع الفينيقيّ والطّموحات الجامحة التي غذّتها، وتبني فينيقيّو تلك المستعمرة النّائية لِعَقليّة توسّعية مناقضة تماماً لفلسفة الفينيقييّن المسالمة، كان أيضا نذير تحوّلات مشؤومة ستؤدّي قبل وقت طويل إلى انهيار قرطاجة وذهاب مجدها القصير، لكنّ النتائج الكارثيّة لن تقف عند ذلك الحدّ لأنّ التوتّر الشّديد وروح العداء الذي أثارته حملة هَنيبعل على روما ذهبت بالاحترام التّقليديّ الذي كانت تتمتّع به ممالك الفينيقييّن على ساحل المتوسّط وخلقت ما يكفي من المبررات لارتداد الرّومان على الممالك الفينيقيّة وإنهاء ملكها وإزالة آثاره إلى الأبد.