السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

المجاهد يوسف صفا

مجاهد زاهدٌ فُروسيُّ الخِصال

يوسف صفا قَنِع من الدّنيا بِشَظَف العَيش ومشقّات النّضال
عرف السّت نظيرة وشارك المعلّم مسيرات العزّة والثّورات

ضَرَبتُ الشّاويش بجرْزة الدّبق فعلقت بشاربيه فاضطُرّ لحلقهما
وأرسلتني السّت نظيرة بعدها للخِدمة في الجيش الفَرنسيّ

أوصل شمعون البلاد إلى الثّورة فذهبتُ إلى الشّام
ولبستُ الكوفيّة والعِقال وبدأتُ توزيعَ السّلاح

ينتمي المجاهد يوسف صفا إلى صنفٍ من الرّجال الذين ولدهم جبل لبنان في مرحلة ما بعد الاستقلال في النصف الثاني من القرن الماضي وهي كانت مرحلة زاخرة بالتّحدّيات والأحداث التي غيرت مسار البلد. وقد كان هذا المجاهد البسيط والمندفع من أصحاب العزيمة الذين يستشعرون أمواج السّياسة وعواصفها بالفِطرة فيهبّون إلى العمل ويفتتحون المعارك وحدهم دونما حساب للمخاطر ولما قد ينالهم من تَبِعات.
يوسف صفا المناضل البسيط المخلص أنفق حياته في الجهاد وأهمل أسباب معيشته حتى أنّه لم يهتمّ بأمر الزّواج إلا متأخّراً. وهو عاش حياته فقيراً فعلاً ولم يَفُزْ من هذه الدنيا إلّا بوظيفة سائق في بلديّة بيروت مع سكن شعبٍّي في بلدة “المعروفيّة” أمّن له سقفاً يحتمي به، قبل أن يعود إلى بلدته عين قَني ليمضي في بيته البسيط القسط الأخير من حياته الحافلة.

فماذا يحمل هذا الرّجل التّسعيني من ذكريات عمره الحافل بالتّحدّيات والوقفات الشّجاعة، وما الذي بقي في ذاكرته البعيدة عن ملامح تلك الفترة الغنيّة وأبرز محطّاتها؟
“الضّحى” زارت المناضل صفا في منزله المتواضع فكانت الحصيلة هذا اللقاء:

> يوسف صفا ، من أنت؟
أنا ابن بلدة عين قني الشوفية ولدتُ في العام 1923 لأبوين فقيرين اشتُهِرا بالوَرَع والاستقامة، وأنا أترَحّم عليهما كلّ وقت لأنّهما زوّداني بالتّربية الصّالحة وبقِيَم الإخلاص والوفاء

> كيف كانت بداية علاقتك بدارة المختارة؟
كنت طفلاً حين عرفت أنّ السّت نظيرة جنبلاط والدة المعلّم كمال جنبلاط هي إبنة بلدتي “عين قني” وغالباً ما كانت والدتي تصطحبني لزيارتها باستمرار إلى قصرها في المختارة سيراً على الأقدام، وقد كنت معجباً بها، وبحسن أدائها، وبتعاطيها الذّكي واللّبِق مع النّاس كزعيمة للجبل. وهي كانت تقدر عاطفتي وحماستي وغالباً ما كنت أسمعها تقول لوالدتي “ولدك يوسف سيكون له شأن في المستقبل”. في تلك الأثناء لم أكن قد تعرّفت إلى نجلها كمال بك، بسبب متابعته لدروسه في عينطورة ثمّ في فرنسا، وكانت الزّعامة السّياسيّة آنذاك منوطة بصهره حكمت بك زوج شقيقته “ليندا”.

مواجهة مع الدّرك
عُرفت بسرعة التّصرّف وبدأت مشاكلك مع السّلطة في وقت مبكّر من شبابك، أخبرنا عن أوّل مواجهاتك مع رجال الأمن
في أحد الأيّام استوقفني مشهد أحد عناصر الدّرك ويدعى ملحم بوماضي وهو ينهال بالضّرب على أحد أولاد البلدة بعد ما كسّر له درّاجته الهوائيّة، فلم أتمالك أعصابي ورحتُ أرشق الدّورية بالحجارة حتى عادوا أدراجهم، وهم يتوعّدون بالاقتصاص منّي بعدما تعرّفوا إلى اسمي. وفي اليوم التّالي كمنوا لي قرب نبع الشّالوف بينما كنت مع رفاق لي نصطاد طيور السُّمّن بواسطة “الدّبق” ولما أقبلنا على الدّورية حاول بوماضي اعتقالي فضربتُه بجرْزة الدّبق فعلقت بشاربيه ما اضطرّه لحَلْقِهما، فكانت صدمة كبيرة له. ولمّا رأته السّتّ نظيرة سألته عن شاربيه أجابها: “يا ستّنا اسألي زلمتك”. بعد أيام على تلك الحادثة دعتنا السّتّ لنستقبل معها أحد الجنرالات الفرنسييّن ويُدعى ألكسندر، وعندما شاهدتني قالت لي :”هيّا أخبرني عمّا فعلتَه بـ ملحم بوماضي”، ولما أخبرتها بما حصل، ضحكت وقالت لي :”ما بقى بدّي مشاكل”. ولم تمضِ سوى أيّام قليلة حتى أرسلت بطلبي كي أنقل رسالة من قِبَلِها إلى الجنرال ألكسندر في مكان إقامته في بعبدا، ونقدتني يومها مبلغ 5 ليرات أجرة الطّريق، وشدّدَت عليّ بضرورة تسليمه الرّسالة باليد. وهكذا حصل. ولمّا سلّمته الرّسالة قرأها وأمر أحد الضّبّاط بإلحاقي بالمعسكر الفَرنسي بعد تسليمي بدلة عسكريّة. وقد استمرّيت مع الجيش الفَرنسي مدّة ثلاث سنوات براتب قدره 17 ليرة كلّ شهر.

المجاهد يوسف صفا في شبابه a
المجاهد يوسف صفا في شبابه a

“وضعت لوح الصبّار على مقــعد سيّارة ضـــابط الدرك فجلس وعلا صراخه من الشوك الذي علق بقفـــــــــاه”

متى تعرفت على المعلِّم كمال جنبلاط؟
تعرفت عليه بعد انتخابه نائباً عن الشّوف خلفاً لـ حكمت بك، ومن ثمّ تعيينُه وزيراً للزّراعة في حكومة رياض الصّلح. إلّا أنّ علاقته مع الرّئيس بشارة الخوري ساءت بسبب الفساد ومحاولته التجديد لولاية ثانية. في تلك الفترة كانت المعارضة تتصاعد ضد الرئيس بشارة الخوري، وقد شاركت في كلّ المهرجانات التي أفضت في النّهاية إلى استقالته من الحكم في العام 1952.

كانت تلك الفترة حافلة بالمواجهات ولا شكّ أنّك كنت شاهداً عليها؟
نعم شاركت في كافة التّحرّكات والتّظاهرات التي قامت آنذاك وكان أوّلها مهرجان شعبي أقيم في بلدة “بتخنيه” في المتن الأعلى وانتهى بسلام. أما الثاني فأقيم في الباروك لكنّ السّلطة التي هالها النّجاح الكبير لمهرجان “بتخنيه” خشيت أن تتّسع دائرة الاحتجاج الشّعبي فقرّرت أن تحاول كسر المدّ الشّعبي، واتّخذت قراراً بقمع المجتمعين في الباروك بقوّة السّلاح. وبالفعل قامت القوى الأمنيّة بإطلاق الرّصاص باتّجاه المشاركين في الاحتفال، وأوقعت عدداً من القتلى والجرحى أذكر منهم المرحوم فايز فليحان. وفي منزل لآل أبو علوان رأيت محمّد أبو خزام ونجله داوود وقد أصيبا وكانا بحالة حرجة، فسارعت أنا ومنير جنبلاط والرّفاق لإسعافهما، فيما كان كمال بك لا يزال يخطب في الجماهير المحتشدة متحدّيا القمع ومصرّاً على أن يستمرّ المهرجان ولا ينفضّ قبل إلقاء الكلمات.
المهرجان الثّالث جرى في صَوفر، وكانت مهمّتي تأمين الطّريق عند نفق المديرج، حيث ترجّلت من الحافلة أنا وحمد عبد الخالق لاستكشاف النّفق، لكنّنا لم نعثر على شيء. وفي صوفر عمل الدّرك على تطويق مكان المهرجان من دون الاحتكاك بالنّاس، فيما كان المعلّم يخطب بالحشود كعادته غير آبه بشيء. بعد ذلك أقيم مهرجان كبير للغاية في محلّة الحمّام العسكري كان نجما الخطابة فيه المعلّم والشّيخ عبد الله العلايلي. وتلا ذلك مهرجان ضخم أقيم في دير القمر ضمّ كلّ الأحزاب والشّخصيّات المعارضة لحكم الرّئيس بشارة الخوري. وفي هذا المهرجان تشكّلت الجبهة الاشتراكية، ولقد رأيت بنفسي الرّئيس كميل شمعون مُمْسِكاً بشمسيّة كان يضعها فوق رأس كمال بك.

يوسف-صفا-اليوم---صفحات-جهاد-وحياة-كفاح-وصبر
يوسف-صفا-اليوم—صفحات-جهاد-وحياة-كفاح-وصبر

قَطيعة مع الرّئيس المُنْتَخَب

> لكنّ كميل شمعون انقلب على كمال بك بعد قليل من انتخابه!؟

بقيت العلاقة طبيعيّة لكن حذرة لبعض الوقت، ثم بدأ كميل شمعون يتنكّر للبرنامج الذي انتُخب على أساسه وتعاهدت المعارضة عليه في دير القمر. فبعد الانتخابات النّيابية وفوز الجبهة الاشتراكية، ذهبنا لتهنئة النواب الفائزين فاستقبلنا بالتّرحاب في منزل النائب نسيم مجدلاني في بيروت وفي منزل المرحوم العميد ريمون إدّه، هناك قالوا لنا التّهنئة يجب أن تكون لكمال بك وليس لنا. أما شمعون فكان استقباله لنا فاتراً. وكانت أسباب القطيعة تتزايد كل يوم.

انتخابات العام 1957 كانت من أسباب الثّورة في العام التالي أليس كذلك؟
في العام 1957 وبسبب تصاعد الخلاف بين المعارضة وشمعون قام الأخير بحلّ مجلس النّواب والدّعوة إلى انتخابات نيابيّة جديدة مَهّد لها بتعديل قانون الانتخاب وحدود الدَّوائر الانتخابية بما يضمن فوزه بأكثرية تؤيد التجديد له لولاية ثانية عبر تعديل الدستور الذي لا يسمح للرئيس بذلك. وقد وظّف شمعون كل ثقل السلطة وأجهزتها من أجل التأثير على الناخبين، وحصلت أعمال تزوير واسع، فكانت النّتيجة توجيه ضربة قاسية للمعارضة وإسقاط مُعظم رموزها، وفي مقدّمهم كمال بك. وأذكر كيف كان كمال بك يهزّ برأسه استهجاناً كلّما وصلته النّتائج من القرى والبلدات الشّوفية، ما دفعه للانتقال إلى بيت الدّين ليكون على مقربة من عملية فرز الأصوات، وبقيت في انتظاره طوال الليل لكنّه لم يعد. بعد ذلك وصل سماحة شيخ العقل الشيخ محمّد أبو شقرا الذي أبلغ الشّباب الذين التقاهم بأنّ الـبيك أصبح في بيروت، وقد يسافر إلى الهند، ولدى سماعي هذا الخبر صُعِقْت وتوجّهت من فوري من المختارة إلى الجديدة وأقمت حاجزا على تقاطع الطّريق المؤدّي إلى المختارة وإلى المزرعة وقطعت الطريق بالحجارة.

ماذا كان قصدك من ذلك، ومَن كلّفك بتلك المهمّة؟
هذه كانت قناعتي ولم يكلِّفني أحد، لأنّ خسارة المعلّم للانتخابات، وسفره إلى الهند كان سيبدو بمثابة نكسة كبيرة لأنصاره ولكل أهل الجبل.
أصداء هذا التحرّك وصلت إلى شباب المزرعة، فتوجّهت مجموعة منهم إلى المختارة وهم :عزّ الذين أبو كرّوم وناصيف البعيني ويوسف حسن البعيني. وفيما كنّا نتداول ببعض الخطوات التّصعيديّة، حضرت دوريّة من الدّرك على رأسها الضّابط السّيّىء الذّكر سامي الحشيمي، فأوقف الجيب قرب دكّانة بطرس سركيس وتوجّه إلى المخفر فاستغلّيت فترة مكوثه في المخفر وأحضرت لوحاً من الصّبّيْر مليئاً بالأشواك ووضعته حيث يجلس من حيث لايدري، ولما عاد وصعد عل عجل وجلس في مقعده سُمع صُراخُه إلى آخر السّوق من شدّة الألم ونحن نقهقه من الضّحك، فاستنجد بـالصّيدلي صَرّوف لإزالة الأشواك التي علقت بقفاه. ولمّا عرف بأنّي وراء هذا العمل، صرخ بأعلى صوته قائلاً :”سيكون حسابك عسيراً جداً يا يوسف صفا”.

> لماذا هذا العداء بينك وبين الضّابط الحَشيمي؟
كلّ ضابط في الدّرك مهمّته حفظ الأمن، لكنّ الحشيمي كان متحمّسا جدّاً لخدمة عهد شمعون بحيث جعل من نفسه خصماً لكلّ الوطنيين، وكان هذا الضّابط رمزاً للأسلوب الذي أصبحت فيه الدّولة مطيّة للرّئيس شمعون وجماعته، كثيرون مثله من المنتفعين بدأوا يعملون لشمعون طمعاً في المنافع والنّفوذ وهو تمادى كثيراً عندما بدأ يتطاول على المعلّم وعلى قصر المختارة. وكان الحشيمي يلاحقني لأنّني كنت متحمّسا للمعلّم وللمختارة وكان يريد أن يجعل منّي عبرة بحيث إذا كسرني فإنّ كثيرين سيخافون أن يصيبهم ما أصابني.
وبسبب مقلب لَوْح الصّبّير حقد عليَّ وحضر في اليوم التّالي فجأة إلى عين قَني محاولاً اعتقالي لكنّه لم يجدني لأنّني كنت أتّخذ احتياطاتي
وفي اليوم التالي ذهبت إلى البلدة لوداع ابن عمّي قبل سفره إلى الخارج وإذا بزوجته تصيح بي :”يا يوسف انتبه الدّرك طوقوا البيت”، لم أجد بُدّاً عندها من إطلاق بعض الأعيرة النّارية باتّجاههم لكي أؤمّن طريق فراري، وقفزت من النّافذة برفقة صديق لي يدعى حسن الحدّاد، باتّجاه أحد بيوت آل جنبلاط القريبة، ومن هناك تحصَّنت بإحدى الأشجار وأخذت أطلق النّار باتّجاههم. ولمّا علم المختار عبّاس فارس بالأمر أرسل قريبي فوزي صفا كي يقنعني بوقف إطلاق النّار ثمّ لحق بي عارف جنبلاط وطلب منّي مغادرة البلدة منعاً للمشاكل، فأجبته طالما هذا الـرّجل (الحشيمي) موجود هنا لا أحدَ يستطيع أن يرغمني على شيء.

> ماذا عن خطة الحشيمي لاقتحام قصر المختارة ؟
بدأت الأمور عندما لمحت نوراً ينبعث من فانوس في بيت أحد مواطنيّ البلدة فتسلّلت باتّجاه المكبس لأستوضح الأمر، وتمكّنت من رؤية ومعرفة شخصين من المختارة وستّة دركيِّين بالإضافة إلى الضّابط الحشيمي، ولما رآني الضّابط فوجئ وسألني ماذا تفعل هنا :”أجبته أنا سهران في أملاك كمال جنبلاط”، قال لي :”عليك إذن البقاء داخل القصر. لقد ارتبت بأهداف هذا الاجتماع الليلي وشعرت بقوّة أنّ ثمّة شيء ما يُدَبّر من قبل السّلطات لاقتحام القصر؟ بعد قليل التقيت بَغتةً في السّوق بأحد الذين اجتمعوا بالحَشيمي فوبّخته لمشاركته في الاجتماع وهدّدْته فأنكر

أنّ له علاقة بالأمر لكنّه أقرّ بأنّ هناك خطّة وزاد على ذلك بأن كشف لي أيضاً بأنّ الدّرك سلّموا رجلاً بارودتين لاستخدامهما في عمليّة الهجوم على القصر وأنّ رجلاً من أنصار الرّئيس شمعون النّافذين هو خليل سركيس سيكون طليعة المُهاجمين بالإضافة إلى الضّابط الحشيمي يرافقهم القائمّقام ربما لإعطاء “شرعيّة قانونيّة” للعملية.
في اليوم التّالي ذهبت برفقة سليمان نمّور للقاء ملحم معروف للتّشاور بالأمر وما يمكننا فعله، وهناك أبلغنا عارف جميل بأنّ غريمنا سركيس المكلّف بتصدّر الهجوم موجود في السّوق فصمّم سليمان نمّور على تأديبه فلحقت به وفي الطّريق التقيت بأبو عفيف الفطايري فحذّرني من الرّجل، في تلك الأثناء وصل شقيق الرّجل وكان يدعى بطرس مستنكراً أفعال أخيه وقال لي :”يا يوسف أخي مش آدمي، وجاحد وناكر للجميل لكن لا تؤذوه أرجوكم. لكنّ الجو كان متوتّراً وكنّا خائفين فعلاً ممّا يُدَبّر في الظّلام ضد قصر المختارة والمعلّم. وصلنا أنا وسليمان إلى أمام دكّان خليل سركيس فراح يهدّد ويتوعّد ويكيل لنا بالشّتائم وقال لنا ما معناه :”سنخلص منكم قريباً” وكان في كلامه تهديد وإهانة لكمال بك ولأهلنا بني معروف، فثار غضبي وحصل عراك انتهى بمقتل الرّجل.

> ماذا نتج عن تلك الحادثة؟
في الظّاهر كانت الحادثة شخصيّة تأسّفنا لها علماً أنها كلفتني سنوات من عمري لكن في الحقيقة كانت المواجهة عنواناً لبلوغ التّحدّي مع جماعة شمعون ذروته، وقد أشعرنا ذلك بالخطر لأنّ شمعون لم يقف عند حدّ، وكان الفساد أصبح عامّاً في الحكومة وعلى عينك يا تاجر. لهذه الأسباب تحوّلت حادثة المختارة إلى شرارة ما عُرِف بعدها بثورة 1958.

> كيف بدأت أحداث الثّورة
كانت مقدمات الثورة قد تجمّعت في أكثر من مكان لأنّ شمعون استعدى الزّعماء الأقوياء كلّهم مثل المرحوم صائب سلام والزّعيم أحمد الأسعد عبر إسقاطهم في الانتخابات، وكانت المظاهرات والمواجهات مع السّلطة تعمّ البلد. لكنّ شرارة الأعمال المسلّحة ضدّ حكم الرّئيس شمعون انطلقت من الشّوف وكنت طرفاً فيها.
فبعد مقتل خليل سركيس انتقلت من القصر إلى عين قَني لأخبر والدي بما حصل، فقال لي (كون قد حالك). تلك اللّيلة أمضيتها برفقة سليمان نمّور في بيت نسيب الشّمعة، وفي الصّباح انتقلنا إلى مرج بسري ومنه إلى المزرعة حيث نزلنا بضيافة يوسف البعيني، وهناك التقينا الشّباب: ناصيف البعيني وشاهين أبو كرّوم. وقد أبلغني ناصيف بأنّ الشّيخ عارف أبو حمزة يريد التّحدّث إليّ، فالتقيته في اليوم التّالي في أوّل عين قَني، فقال لي :”عليك بالذّهاب إلى دير العشاير مع عارف جميل”. من هناك انتقلنا إلى الورهانيّة بضيافة صديق لي يُدعى فريد غانم، ثم انتقلنا إلى عين دارة وكان المعلّم سبقنا إليها، أمضينا تلك اللَّيلة بضيافة الشَّيخ أبو حافظ عطا لله، ومن عين دارة ذهبنا إلى قرية بْتَخْنَيْهْ بضيافة سليمان أبو الحسن، حيث أمضينا ثلاثة أيام، انتقلنا بعدها إلى عنجر، ومنها إلى الزّبداني، وهناك اتّصلنا بسلمان أبو حمزة فحضر من فوره، وانتقلنا برفقته إلى الشّام.
في الشّام أمدّونا بالأسلحة وكانت آنذاك دولة الوحدة برئاسة الرّئيس جمال عبد النّاصر المعادية لسياسات شمعون الذي كان يقود الجهود للدخول في “حلف بغداد” ومشروع أيزنهاور وبالتّالي سلخ لبنان عن محيطه السّوري والعربي. وأذكر أنّ دمشق كانت تغصّ بالمجاهدين المعارضين لحكم الرّئيس شمعون هناك وكان الجو حماسيّاً وأيّامها اعتمرت الكوفيّة والعقال وبدأت بتوزيع السلاح.

عهد-شمعون-تميز-بالفساد-وبالسعي-لإلغاء-المعارضين-فقامت-الثورة
عهد-شمعون-تميز-بالفساد-وبالسعي-لإلغاء-المعارضين-فقامت-الثورة

> كيف بدأت الأحداث المسلّحة؟
بدأنا العمل فوراً وكان أوّل عمل قمنا به ونحن في طريق العودة من دمشق وبناء على تعليمات الشّيخ سليمان أبو حمزة أن توجّهت إلى نقطة الحدود السّورية اللّبنانية في المصنع برفقة سليم غريزي، وكانت المهمّة استعادة السّلاح الذي تمّت مصادرته ويخصّ خزاعي العريان، وهناك قمنا بتطويق المكان واعتقلنا ستّة عشَرَ عنصراً من الجمارك من بينهم شخص من جماعة معروف سعد نقلتُه معي إلى المصنع السّوري وتركته بحال سبيله، بعدما سلّمته إلى فوزي القنطار. وبعدها تسارعت الأحداث واتّسع نطاق المواجهات وتدفَّقَ المجاهدون بالمئات من المحافظات اللّبنانيّة من بني معروف ومن غيرهم، وقدم مجاهدون من جبل العرب من سوريا إذ كانت المعركة في مواجهة شمعون ذات طبيعة وطنيّة عروبيّة لا طائفيّة واستمرّت الثّورة حتى نهاية عهد الرئيس شمعون الذي أفشلت المعارضة مساعيه لتجديد رئاسته ست سنوات أخرى.

> تم بعد ذلك اعتقالك وصدر حكم بحقك فما الذي حدث بالتّحديد؟
في طريق العَودة إلى الشّوف من سوريا نصحني بديع الأعور أن أحاذر المرور ببلدة عين زبدة وسلوك طريق دير عين الجوزة وفيما كنّا نسير عبر طريق متعرّج مليء بالصّخور فاجأنا كمين للدّرك كان مرابطا في ذلك المكان وأمرنا برمي سلاحنا أرضاً وقاموا بإطلاق النّار باتّجاهنا فقُتِل الشّابّ عارف مكارم وأُصبت في بطّة ساقي فربطت الجرح خوفاً من النّزيف، وكان على رأس الدّوريّة ضابط من آل العماد أمرني بتسليم نفسي فأعطيته المسدّس وعرفته باسمي “حسيب” صفا أيْ إنني اخترت اسما مستعارا لأن اسم يوسف صفا كان ذائعا ورمزاً للتمرّد ومشاكسة الحكم، فما كان منه إلّا أن حملني على ظهره إلى ساحة البلدة، ولما كَشف الطبيب على مكان الإصابة قال لي حظك حلو الرّصاصة لم تخترق العظم، فانتزَعَها وقطّب الجرح. وبعد قليل رآني شخص من آل عزّام وقال: سلامتك يا يوسف صفا. قلت بنفسي انكشفت اللّعبة!! في تلك اللّيلة لم أشعر بالخوف ولكنّني كنت قلقاً، وفي صباح اليوم التّالي قبضوا عليّ وتمّ نقلي إلى المحكمة العسكريّة في بيروت، وأدخلوني النّظارة وباشروا التّحقيق معي وحُكِم علي بالإعدام. وتولى القاضي رياض طليع تلاوة الحكم. بعد ذلك نُقِلتُ في إحدى المصفّحات إلى سجن الرّمل، حيث تعرّفت إلى عجاج بومغلبيه ورقيب في الدّرك يدعى خدّاج خدّاج الذي نقلني إلى الانفراد. وبعدها التقيت بـ ماجد حماده فأخبرني بأنّ جماعتي بدأوا بالتّظاهر في المبنى الثّالث ويريدون انضمامي إليهم. في تلك الأثناء حضر إلى السّجن المحامي ونقدني مبلغ 50 ليرة وأخبرني بأنّهم استبدلوا وصف الجريمة من القتل إلى الاتجار بالمخدّرات فخُفّضَ الحُكم من الإعدام الى المؤبّد بناء على توصية بي من قبل الأمير مجيد أرسلان مع كميل شمعون، ونُقلت من سجن الرّمل الى سجن القلعة. وبعد الاستئناف صدر حكم برّأَني من القتل العمد وخرجت من السّجن وعدت إلى عين قني.

يوسف-صفا--إلى-يمين-الصورة-بالعدة-الكاملة
يوسف-صفا–إلى-يمين-الصورة-بالعدة-الكاملة

“كان شمعون مصمّماً على كسر شـــــوكة كمال جنبلاط فخرج بالفكرة الجنونيّة لاقتحام واحتلال قصر المختارة”

> كيف تصف علاقتك بوليد بك ؟
ممتازة، وبعد وفاة المرحوم سليمان رشيد أرسل بطلبي ليوظّفني مكانه في القصر فاعتذرت منه وتمنّيت أن تكون الوظيفة من نصيب قريبي أبو سليم حسيب صفا لأنّه أفضل منّي. ولمّا ذهبت إليه برفقة أبو سليم نادى على نجليه تيمور وأصلان وقال لهما إنّ يوسف صفا حمى قصر المختارة سنة 1958. ومنذ نصف سنة تقريباً قلّدني ميدالية المعلّم كمال جنبلاط.

> بعد خروجك من السجن كيف كنت تتدبّر أحوالك المعيشيّة؟
في البداية تعاطيت بعض الأعمال التّجاريّة، ومن ثمّ انتقلت للسّكنى في المعروفيّة، ولمّا علم المعلّم بذلك أوفد إلّي فؤاد صعب ليطمئنّ عن أحوالي، فقلت له مستورة والحمد لله. وقد أمّنَ لي قريبي زين صفا وظيفة سائق في بلديّة بيروت.

> في أية سنة إقترنت بشريكة العمر ورفيقة الدرب؟
في العام 1969 ولم نرزق بالأولاد لكنّ وجودها إلى جانبي يساوي كنوز الدّنيا وما فيها. أدعو لها بطول العمر ولولاها لا نفع للحياة.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي