الجمعة, شباط 21, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, شباط 21, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

المسألة الدرزية في ضوء السياسات العثمانية في جــبـــل حــوران

دامَ حُكمُ العثمانيّين للعرب أربعة قرون ونَيِّف بين عامي 1516 و1918م، وعلى مدار هذه المدّة الطّويلة تغيّرت الامبراطوريّة، ومن ثم تغيّرت النّظَم. ففي أوّل قرن تلا الغزو لم تطالبهم القواعد التي وضعها العثمانيّون بالكثير، إذ لم يَكُن على العرب سوى الاعتراف بسلطة السّلطان، واحترام الشّريعة الإسلاميّة والسّلطنة، وسمح العثمانيّون للأقلِّيّات غير المُسلمة بتولّي شؤونها الخاصّة تحت إمرة قياداتها المحلِّيَّة وفقًا لقوانينها الدينيّة مقابل دفع جزية للدّولة. وبصفة عامة، بدا أنّ معظم العرب قد نظروا بعين الرّضى لوضعهم في ظل الامبراطوريّة العالميّة التي سادت في ذلك العصر على اعتبار أنّهم مسلمون في إمبراطوريّة إسلاميّة عُظمى. بيد أنّ تلك القواعد شهدت تَغَيُّراً جذريّاً في القرن الثّامنَ عشَر، بعد أن كانت الامبراطوريّة العثمانيّة قد وصلت إلى أوج عَظَمتها في القرن السابعَ عشَر. ففي عام 1699، فقدت لأوّل مرّة أرضاً تابعة لها في – كرواتيا والمجر وأوكرانيا – لصالح منافسيها الأوروبيين، ومن ثمّ بدأت تبيع بالمزاد المناصب الحكوميّة والأراضي الزراعيّة في الولايات التابعة لها كمزارعَ خاضعة للضّرائب حتى تولِّد الدَّخل. إذ كانت تعاني ضائقة مالية، وهذا مكّن ذوي النّفوذ في الولايات البعيدة من جمع الأراضي الشاسعة، مِمّا فتح لهم باب جمع ما يكفي من الثَّروة والسّلطة لتحدّي سلطة الحكومة العثمانيّة. حدث هذا في دول البلقان وشرق الأناضول، وفي أنحاء الولايات العربيّة وفي النّصف الثاني من القرن الثامنَ عشَر، مثّلت مجموعة من هؤلاء القادة المحلّيين تحدِّياً خطيراً للحكم العثماني في مصر وفلسطين ولبنان ودمشق والعراق وشبه الجزيرة العربية.

وبحلول القرن التّاسعَ عشَر بدأ العثمانيون عصر إصلاحات شاملة، بهدف القضاء على التحدّيات التي ظهرت داخل الامبراطوريّة وصدّ تهديدات جيرانهم الأوروبيين. أدّى هذا إلى ظهور مجموعة جديدة من القواعد، عكست أفكاراً جديدة بشأن مفهوم المواطنة، استعارتها من أوروبا. حاولت الإصلاحات العثمانيّة أن تضمن لجميع الرَّعايا العثمانيين – أتراكاً وعرباً على حدٍّ سواء – المساواة في الحقوق والواجبات على مستوى الإدارة والخدمة العسكريّة ودفع الضّرائب، وروّجت لهُوِّيّةٍ جديدة، تسعى إلى السّمو فوق الاختلافات العرقيّة والانقسامات الدينيّة في المجتمع العُثماني وتقوم على الولاء للدولة العثمانيّة، لكنّ تلك الإصلاحات فشلت في حماية العثمانيين من التدخّل الأوروبي، غير أنّها مكّنت الامبراطورية من إحكام قبضتها على الولايات العربيّة(1).
وزادت أهميّة هذا التّغيير، مع تسبّب النّزعة القوميّة في إضعاف وضع العثمانيين في البلقان. غير أنّ الأفكار التي ألهمت الإصلاحات العثمانيّة هي نفسها التي أدّت إلى ظهور أفكار جديدة عن القوميّة والمجتمع جعلت بعض أفراد العالم العربي غير راضين عن وضعهم في الامبراطوريّة العثمانيّة، فأخذوا يواجهون القواعد العثمانية، ويحمّلونها أكثر فأكثر مسؤوليّة التخلّف النّسبيّ؛ الذي بدأت إرهاصاته تظهر وتزداد مع ارتفاع وتيرة التّغلغل الاقتصادي الأوروبي في الأسواق المحليّة، وتحديده أسعار السّلع، لاسيّما الحبوب عالية الجَوْدَة المُنتَجة داخل الامبراطوريّة. وقارن الكثير من العرب عَظَمَة ماضيهم بما يعانونه من خضوع في ظلّ الامبراطوريّة العثمانيّة التي أخذت تتراجع أمام جيرانها الأوروبييِّن الأكثر قوّة، فأخذوا يطالبون بإصلاح مُجتمعاتهم، وطَمحوا إلى نَيْل الاستقلال عن السّلطنة العثمانيّة(2).
لقد حدثت عدّة محاولات لتقسيم لواء حوران إلى عدّة أقضية في عهد الإصلاحات، حيث جرت العادة على إلحاق أقضية جبل الدّروز بمراكز إداريّة تقع خارجه لإضعاف مقاومة الدّروز لهيمنة السّلطة. ولم يبدأ دور وتأثير الدّولة العثمانيّة يظهر في جبل حوران، إلّا بعد صدور التّنظيمات والإصلاحات في منتصف القرن التاسع عشر. وفي إثرها قُسِّم الجبل عام 1864 إلى ثلاثة أقضية تابعة لمُتصرِّفيَّة حوران، حيث كانت خلفيّة كلّ تلك التّقسيمات تنطوي على مُواجهة الاضطرابات والثّورة المستمرّة في الجبل. فاختيرت في أوّل الأمر بلدة المزيريب مركزاً لِلِّواء، ثم نُقِل المركز بعدها إلى بلدة (الشّيخ سعد) نظراً لوجود سكّة حديد فيها، ولسهولة سَوْق العسكر منها لقمع الاضطرابات شبه الدائمة في الجبل، وبالتالي لم تكن الغاية من التّقسيم الإداري الإصلاح كما يتبادر إلى الذّهن لأوّل وهلة. وبذلك التقسيم الجديد، باتت المنطقة خاضعة لولاية سورية. وكان أوّل نظام إداري حكومي دخل الجبل في سنة 1878(3).

بحيرة مزيريب
بحيرة مزيريب

ولكن برغم ذلك بقي النّفوذ العثمانيّ ضعيفاً في الجبل بسبب وعورته وبُعْدِه عن طرق المواصلات الرئيسيّة، ورغبة سكانه في الاستقلال والعيش على نمط اتّسم بالمزج بين اقتصاد الرّعي والزراعة المُعتمدة على زراعة الحبوب. وهذه كانت حال معظم مناطق الأرياف وبخاصة المناطق المجاورة للبادية والواقعة على الحدّ الفاصل بين المعمورة والصّحراء.
وقد أصبح جبل الدّروز بفضل موقعة المُتَميّز وعصبيّة سكانه، وأخلاقهم، مأوى لكل هارب من ظلم السّلطات العثمانيّة(4) ومركزاً حصيناً لمقاومة بطش الجيش العثماني، الذي سِيق في أواخر القرن التاسع عشر ومستهلّ القرن العشرين عبر سلسلة من الحملات لإخضاع الجبل، وسوق شبابه إلى الجندية، وتحصيل الضرائب، وفرض الإتاوات والغرامات المتنوّعة.
وتقبّل حكام الجبل من مشايخ آل الحَمدان السّياسات الإصلاحيّة الجديدة للسّلطنة العثمانيّة في القرنين الثامنَ والتاسعَ عشَر بمرونة عالية مكَّنتهم من إجراء الموازنة بين ضغوطها ومصالح سكّان الجبل الرّاغبين في التحرّر من دفع أيّة ضريبة أو تنزيل عبئها للحدود الدّنيا. وقد نجحوا في ذلك المسعى خلال قرن من الزّمن. الأمر الذي ساعدهم على مدِّ رقعة نفوذهم لتشمل السّهل والجبل معاً وتلبية طموحهم في تحصيل أكبر كمِّيَّة مُمكنة من الضّرائب والإتاوات من الفلّاحين .

وقد حافظ آل الحمدان على حكمهم للجبل حتى عام 1869، حيث خَلَفهم في المشيخة الأولى آل الأطرش، مُستغلِّين الأخطاء التي ارتكبها الشّيخ واكد الحمدان خلال سِنِيِّ حُكْمه(5)
وبالمُقارنة التاريخيّة نَجِد أنّ نظام المَشيخة في جبل الدّروز لا يشبه النّظام الإقطاعيّ الذي كان سائداً في جبل لبنان، حيث الإقطاعيّ هو مُجرّد أداةٍ تنفيذيّة أو شبه موظَّف، وغالباً ما يَسْتخدم العنف لينجو بنفسه من عقاب الوالي(6) أمّا الشيخ في الجبل فكثيراً ما تحالف مع الفلّاحين رافضاً دفع الضّرائب، كما أنّ نظام المشيخة في الجبل لا يشبه النّظام الإقطاعيّ المملوكيّ أو العثمانيّ في عهوده الأولى حيث كانت وظيفة صاحب الإقطاع تقتصر على حقّ جباية الضّرائب أمّا الشّيخ في الجبل فلم تكن جباية الضّرائب إلّا واحدة من صلاحيّاته وحقوقه المُتَعدّدة، فهو مالك ربع القرية ومتصرّفٌ بتوزيع الأرض على الفلّاحين، وهو فوق ذلك القائد الحربيُّ للقرية و يدافع عنها عند الخطر. وكثيراً ما لعب الشّيخ في جبل الدروز دور المُدافع الذي يجمع الفلّاحين وراءه من أجل الوقوف في وجه السّلطة العثمانية الغاشمة دفاعاً عن الأرض والعرض(7).

قوات عثمانية في سوريا
قوات عثمانية في سوريا

الانتفاضات الفلّاحية في جبل حوران
وكثيراً ما كان الشّيخ في جبل حورن يقف على رأس الانتفاضات الفلّاحيّة التي اندلعت في الجبل خلال القرن التاسعَ عشَرَ ومطلع القرن العشرين، ضدّ الاستغلال الإقطاعيّ العثمانيّ الذي كان يسعى جاهداً لفرض الضّرائب الباهظة وما يرافقها من غرامات وإتاوات مُتَخلّياً بالمقابل عن التزامه بحماية الإنتاج الزّراعي لفلّاحيّ الجبل بتسهيل أمور تسويق ونقل الحبوب المُنْتَجة داخل اللِّواء في السّوق العالميّة بسعرٍ مُجْزٍ. وكان ذلك الأمر غير مُتاحٍ بسبب ارتفاع أجور النّقل التقليديّة والتي لا يحلُّها عمليّاً سوى ربط المِنطَقة بأقرب منفذٍ بحريٍّ للتّصدير بواسطة سكّة القطار الحديديّة، وهذا هو جوهر المقاومة الفلّاحيّة في الجبل للّدولة العثمانية والتي تعود بالإضافة لِظُلمها وفسادها إلى كونها سلطنة مُتخلّفة وبطيئة الإصلاحات. أمّا الخلاف على حيازة الأرض ومُلْكيتها بين أهالي سهل حوران وجبله، وهو الخلاف الذي اتّخذته الدولة العثمانية ذريعة لتأديب العُصاة وجباية الضّرائب التي كانت تُنْفق على دوائر السّلطنة العثمانيّة فهو خلاف بين مِنطقتين مُتجاورتين نجد له شبيهاً في سائر مناطق بلاد الشام .
إنّ الانتفاضات الفلّاحيّة (1887 – 1890) التي حدثت في الجبل بعد تطبيق السّلطنة العثمانيّة سياساتها الإصلاحيّة تميّزت بوضوح الصّراع الطّبقي في حركتها حيث هناك طبقة فلّاحيّة تثور ضد سلطة طبقة المشايخ، أمّا الانتفاضات الفلّاحيّة قبل تلك الفترة وما بعدها والتي سنُعَدّد بعضها الآن، فقد اتّسمت بنضال الفلّاحين فقيرهم وميسورهم بمن فيهم المشايخ، ضدّ طبقة إقطاعيّة مُمَثّلة في أجهزة الدّولة العثمانيّة.

1- انتفاضة عام 1852
في ذلك العام سَيَّر والي دمشق حملة عسكريّة ضدّ الجبل (جبل الدروز) عُرِفت بحملة (صاري عسكر) في محاولة من جانب الدّولة لتجنيد شبّان الجبل ولجباية الخراج منهم بالقوة؛ فكان ردّ الفلّاحين عليها برفض دفع الضّريبة والذّهاب إلى الجنديّة أو الاشتراك في معارك لا تخدم إلّا الدّولة العثمانيّة وطبقتها الإقطاعيّة.وبالمحصّلة فشلت تلك الحملة في إجبار الثّائرين على الخضوع، وذلك بعد أن تمكّن الثائرون من دحرها وإبادتها في قرية إزرع الواقعة على هامش المشارف الشماليّة الغربيّة من الجبل وغنيمة كميَّة كبيرة من الأسلحة والذّخائر، مِمّا أجبر السّلطة العثمانيّة على التّراجع والقبول بالمفاوضة مع الثّائرين وبالتالي القبول بشروطهم(8).

مدينة شهبا في جبل العرب
مدينة شهبا في جبل العرب

الرُّؤية العُثمانيّة لإصلاح لواء حوران
قبل مجيء عهد الإصلاحات كانت الرّؤية العثمانيّة تنظر إلى الانتفاضات الفلّاحيّة في الجبل على أنَّها عصيان أقلِّيّات مُتَمرّدة على سلطة الدَّولة تسعى لتوسيع مُلْكيّتها للأرض عن طريق الاستيلاء على أرض الدّولة الأميريّة. وبحلول العِقْد السّادس من القرن التّاسعَ عَشَر؛ أدركت السّلطنة عُقْمَ إخضاع التّمرّدات الفلّاحيّة في لواء حوران عن طريق تسيير الحملات العسكريّة ذات الطابع التّأديبي وبدأت تُقِرُّ بمُلكيّة العائلات الدُّرزيّة للأرض وتفرض عليها مقابل ذلك الضّريبة الأميريّة وقرّرت اتّباع سياسة جديدة أكثر موضوعيّة وحِكمة من السّابق تقوم على رؤية إصلاحيّة مُتكاملة حيث أدركت أنَّ السّبب العميق لتلك التّمرّدات الدّرزيّة هو الصّراع بين مجتمعٍ زراعيّ يحاول أن يطوّر أساليب حياته بحماية استقراره من تهديدات قبائل البدو القادمة من صحارى نجد والحجاز أي من جهات جنوب الجبل وقد حدّد الكتاب الهمايوني المُوَجَّه إلى ولاية سورية بتاريخ 18 آب لعام 1880 طبيعة هذه السّياسات الجديدة، وقد ظهر فيه لأوّل مرّة اعتراف رسميّ بتسمية جبل حوران بـ (جبل الدّروز) وكان هذا الاعتراف في الحقيقة ناتجاً عن التّغيير الدِّيموغرافي العميق في بنية الجبل السُّكّانيّة بسبب قيام الدّروز بنقل مساكنهم الموجودة في جبل لبنان ومن قراهم في جبل الشّيخ وأقاموا في جبل حوران حيث بقي مُصِرّاً على وصف ذلك التَّغيير بالاستيلاء. وهو التَّغيير الذي سعت السّلطنة لمنعه بالقوّة إمّا عن طريق الضّغط على رجال الإقطاع في لبنان لمنعه أو عن طريق تسيير قوّات تقطع طرق التّواصل بين تلك المناطق، ولكنها فشلت في كلّ التدابير المُتَّخذة من قِبَلها لوقفه .
وقد اعترفت السّلطنة أنه بسبب ذلك الانتقال ظهرت هناك مشكلة بدأت تواجه الدَّولة وسُكّان الجبل كمُجتمعٍ فلّاحيٍّ ناشئٍ يميل للتّحضُّر والتّمدُّن فتمنعهما معاً من استثمار أراضٍ شاسعة خِصبة لم يتمّ الاستفادة منها الاستفادة المطلوبة. والسبب في ذلك هو أنّ قبائل البادية الذين كانوا آنذاك يترحّلون في صحارى الحجاز ونجد يدخلون إلى المناطق المعمورة في بلاد الشام في موسم أواخر الرّبيع وأوان الصّيف وأنَّ الصِّراع كان ينشب بين الطّرفين عند مُحاولة الفلّاحين منع البدو من الدّخول بهدف حماية مزروعاتهم وليس لأيِّة أسباب أخرى، وقد وجدت السّلطنة الحلَّ باشتراط منع دخول هذه المناطق سوى بأذونات، وأن تقوم الدَّولة بواجبها في حماية الفلّاحين وبإجراءات رادعة ضد أولئك البدو.(9)
ولكن تلك الرّؤية بقيت قاصرةً عن معالجة جوهر المشكلة المتعلّق باستبداد وفساد جهازها الإداري واستغلاله المُفرط للفلّاحين ومحاولة الدّولة تحميل وِزْر الضغوطات الخارجية وتراجعها وهزائمها العسكريّة التي تتعرّض لها أمام تقدّم زحف القوى الأوروبيّة الطّامعة بالامبراطوريّة إلى السّكان المحلِّييّن سواءً عن طريق فرض المزيد من الضّرائب عليهم أو بِسَوق أبنائهم إلى الجنديّة وفرضها عليهم خوض حروب كانوا يرون أنّه لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
و منذ ذلك التاريخ؛ بات يُطرَح في الوثائق العُثمانيّة ما يُعَدُّ مُشكلة مُستعصية على الحلّ حملت اسم: (المسألة الدّرزيّة). ولكنّ تواصل الثّورات والانتفاضات الفلّاحيّة في الجبل أوصل الدّولة العثمانيّة في عهديّ السّلطان عبد الحميد والاتِّحادييِّن إلى القناعة بفشل سياسات احتوائها عن طريق تجذير الإقطاع الشّرقي العثماني وإيقاع الفتنة بين الفلّاحين والمشايخ، فبدأت تتحيّن بهم الفُرص وتستعدُّ بالتوجّه مُجدّداً نحو حسم الخلاف مع فلّاحيّ الجبل ومشايخهم بتسيير الحملات العسكريّة ضدّهم.

المقاتلون الدروز في الثورات السورية
المقاتلون الدروز في الثورات السورية

ب- انتفاضة 1895
في هذا العام بدأت تصل إلى الباب العالي تقارير عدّة عن حدوث تعدّيات من قِبَل أهالي الجبل على العساكر السّلطانيّة المُرابطين في ثُكنة السّويداء على أثر قيام أحد خيول جنودهم بدهس طفل بتاريخ 29 تموز من عام 1895 فحدث بسبب ذلك نزاع وضرب بين الطّرفين، كما تحدّثت عن مُهاجمة خمسين مُسَلّحاً من الدّروز بَغته على العساكر السّلطانيّة والتي أُرسلت بتاريخ 26 آب للمحافظة على قرية براق، وبرقية ثالثة في 1 تشرين أول من العام نفسه تطالب قيادة الجيش بسحب طابور العسكر من ثُكنة السّويداء نحو بصرى الحرير أو الشّيخ مسكين أو تعزيز الثّكنة بطوابير جديدة خوفاً من حصار (عُصاة) الدّروز له واستغلال انشغال الدّروز بخلافهم مع الحوارنة.
وقد استغلّت السّلطات العثمانيّة فِعلاً النّزاع العشائري بين فلّاحي الجبل وجيرانهم من فلّاحي السّهل في مُحاولة مُتَعمَّدة من جانبها لإثارة فتنة طائفيّة بين الجانبين، حيث تمّ على أثرها تجهيز حملة عسكريّة عام 1895 بقيادة أدهم باشا لتأديب فلّاحي الجبل، ونزع سلاحهم وسوقهم إلى الجندية (10)، فاحتلّت الحملة السّويداء بعد معارك عدّة في قرّاصة ونجران والسّجن وأمّ العلق، ثمّ قامت السّلطات العثمانية بتثبيت أقدامها عن طريق تعداد الغَنم والبدء بتطويب الأرض لأخذ الضّرائب وشرعت بتجنيد الشّباب ولكنّها لم تتمكّن من سحق المقاومة الفلّاحيّة بالكامل، حيث قام العثمانيون بنفي عدد كبير من الزّعماء بينهم شبلي الأطرش شيخ مشايخ الدروز.

ج- انتفاضة عُرْمان 1896
سَيَّرت الدّولة في هذا العام حملتين على الجبل: الأُولى بقيادة أدهم باشا، والثانية بقيادة ممدوح باشا من أجل إخضاع الجبل بالقوّة لِسُلطة الوالي العثماني، وكان ذلك تحوُّلاً واضحاً وخطيراً في السِّياسات الإصلاحيّة العثمانيّة بالإقلاع عن التوجُّهات السَّلميّة المُهادنة لسلطة الأمر الواقع في الجبل القابلة باستقلاله النِّسبي عن سُلطة والي دمشق، خصوصاً بعد وصول معلومات لقائد الحملة ممدوح باشا عن وجود مباحثات سِرِّيَّة في الجبل واجتماعات تُعْقد في عُرمان في منزل (محمود أبو خير) تناقش فكرة الثّورة للتخلُّص من إرهاب ممدوح باشا، فبادر الأخير بإرسال مَفْرَزة مُكوّنة من ثلاثين جنديّاً يرأسها ضابط لاعتقاله، وعلى أثرها تمّ قتل محمود أبو خير من قِبَل جنود المَفرزة، فكان مقتله سبباً مباشراً في انطلاق شرارة الثّورة في الجبل ضدّ السّلطة العثمانيّة حيث جاء ردُّ الدّروز على الجريمة بقتل كامل جنود المفرزة بمن فيهم الضابط الكبير الذي يقودهم. وردّاً على انتفاضة عرمان أرسل القائد العثماني ممدوح باشا من جديد في أيار 1896 حملة من الجُنْد المرابطين في السّويداء للقضاء على انتفاضة عرمان، فأبادها الثّائرون في معركة خراب عُرمان، ثم زحفوا باتّجاه السّويداء، وحاصروا قَلعتها مدّة 28 يوماً. (11)
بعدها حَشدت السّلطات العُثمانية في عام 1897 حملة كبيرة تقدمت باتّجاه السّويداء تمكنت بداية من الانتصار على الثّائرين في معركة تلّ الحديد. وظنَّ قائد الحملة طاهر باشا أنّه حقّق الانتصار الحاسم على الثائرين، فدخل السّويداء، وشرع بالتّقدُّم باتّجاه بلدة قنوات، وهناك باغته الثُّوّار فأبادوا مُعظمَ جنوده، وخوفاً من الانتقام العثماني انسحبوا إلى اللَّجاة ومنها عملوا مناوشات مع العُثمانييِّن في شهبا، وكان من رجالهم أبو طلال وهبة عامر وسعيد نصر، وهما من المشايخ الذين دعموا العامِّيَّة.(12)
وفي عام 1898 تمكّن عدد من زعماء الجبل المنفييِّن في الأناضول من الهرب والعودة إلى الجبل، وسرعان ما نظَّموا المقاومة بقيادة وهبة عامر، وقد تحالف ثوّار الجبل مع البدو وفلّاحي حوران بعد اجتماع كبير مُشْتَرك في اللَّجاة سنة 1900، طالبوا فيه بإطلاق سراح المنفيين ورفع التَّجنيد الإجباري، وعدم الاستمرار في بناء القلاع والاعتراف بالقانون العشائري في الجبل.
فما كان من السّلطان عبد الحميد الذي كان يشعر بوطأة المُعارضة السرِّية لحكمه سوى قبول الوساطات بإطلاق سراح المَنفيين، وسمح لِشبلي الأطرش وعدد من المَنفيين بالعودة للجبل.
– وعلق محمّد كُرْد علي صاحب كتاب خطط الشّام وهو الذي كان يمالىء العثمانيين حينها؛ على ذلك الحدث بالقول: (لقد نَفَتهم من الشام ثم أرجعتهم مُكَرّمين من الآستانة. فابتاعوا بالدّراهم التي نالوها من إحسان الدّولة سلاحاً في طريقهم ليقاتلوا عُمَّالها(13)

السلطان عبد الحميد الثاني
السلطان عبد الحميد الثاني

ثَّورة الجبل عام 1910
– جاءت الأحداث المُمَهِّدة للثّورة على خلفيّة الخلاف الذي نشب في عام 1910 بين أهالي قرية ( بَكّا) وأهالي بُصرى المُجاورة لها وأدّى ذلك إلى قتل بعض الأفراد من الجانبين، ثم تبعها قتل أهل بصرى ثلاثة أشخاص من أهالي قرية الثَّعلة أثناء مرورهم فيها. هاجم الدّروز قرية بُصرى على أثرها ودخلوها بعد معركة عنيفة مع سكانها(14) وهذا الأمر يحدث عادة في أي مكان، ولكنّ الدّولة العثمانيّة اتَّخذت من هذا النّزاع وغيره ذريعة لإخضاع الجبل وجمع سلاحه. في تلك الأثناء كان حزب جمعيّة الاتَّحاد والتّرقَّي المُتَعصِّب للقوميّة الطورانيّة (التّركية) والمنتصر حديثاً على السّلطان عبد الحميد في ثورته سنة 1908 مايزال يحوز على ثقة معظم الأهالي الرّاغبين بالحُرّيَّة والتّقدم وبدعم الحركة القوميّة العربيّة النّاشئة التي خُدعت بتوجّهاته الإصلاحيّة من حيث ظاهر الأمر. لهذا لَقيت الحملة العثمانيَّة لإخضاع الجبل التَّرحيب من جانب مُختلف القوى السُّوريّة. ومعنى هذا أن ثوّار الجبل دخلوا معركة 1910 دون دعم أو مُسانده من محيطهم الاجتماعي العربي. وقد لاقى تجهيز الحملة تأييداً واسعاً في مُختلف المناطق، فعلى سبيل المثال: جريدة المُقْتَبَس الدِّمَشقية لصاحبها محمّد كُرْد علي؛ كتبت مقالاً ضد ثائري الجبل جاء فيه: “إنَّ هدفهم إيذاء من يخالفهم … اعتداؤهم على أبناء السبيل … يتعبّدون بإهلاك العباد والعبث بالفساد في البلاد”.(15)
ونتيجة هزيمة الثّورة في الجبل سنة 1910 تمّ شنق عدد من زعماء الدّروز وسوق الرّجال إلى التّجنيد، وكذلك تمّ إخضاع الدّروز للسّياسات المركزيّة التي سعى العثمانيُّون إلى تطبيقها على الجبل منذ منتصف القرن التّاسعَ عشَرَ وكانوا قبلها قد فشلوا في محاولاتهم المُتَكرِّرة تلك …
لقد كانت الحرب العالميّة الأولى بمثابة اختبار لنوايا الدّولة العثمانيّة ولِجبل حوران إذ إنّ المجاعة ومُتَطلّبات الحرب التّموينيّة جعلت لِقمح المنطقة قيمة عالية؛ توقّف العثمانيّون خلالها عن جمع الضّرائب، وتَخَلَّوْا عن التَّجنيد الإلزاميِّ في مِنطقة جبل حوران من أجل ضمان تعاون الدّروز، الأمر الذي شَكّل حافزاً إضافيّاً لأولئك الذين يعيشون في المناطق المجاورة للانتقال إلى المنطقة بحثاً عن الحماية من بطش الدّولة، وقد لفت وضع الجبل هذا اهتمام القوى الوطنيّة الشابّة في مدينة دمشق والمُتَطلِّعة إلى التّحرُّر من النَّيْر العثماني، والباحثة عن حلفاء لها في الرِّيف. لذلك كان من الطّبيعيّ قيام قيادة الثَّورة العربيَّة مُمَثَّلة بالأمير فيصل بن الحسين بالاتّصال بسلطان باشا الأطرش عن طريق الزّعيم الدِّمشقي نسيب البكري، حيث تمّ الاتِّفاق معه على إعلان الثِّورة في الجبل والمُشاركة في القوّة العربيّة التي حرَّرت دمشق من الحكم العثماني في خريف 1918.

سلطان باشا الأطرش أيام المنفى في وادي القرى /صحراء نجد
سلطان باشا الأطرش أيام المنفى في وادي القرى /صحراء نجد

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي