الاقطاع رقٌ مقنّعٌ يستعبد الناس، فيثورون ضده، فتتحقق لهم انتصارات، يتغنون بها، ويتباهون بها، من جيل إلى جيل، فتدخل إلى مدارس أطفالهم كمجد أورثه الأجداد للأبناء والأحفاد، وعبرة لهم أيضاً كي يثوروا ويكونوا أحراراً.
هذه هي الصورة التي أورثنا إياها عصر العلم والثورة التكنولوجية والرفاهية والترف والكماليات التي لا تعرف حداً عن معنى الثورة على الإقطاع الحرية.
ولكن هل حققت الثورات تلك الحرية للإنسان حقاً؟
هل الإنسان المعاصر اللاهث طوال حياته، مقطّع الأنفاس، حرّ فعلاً؟
وهل هو حرّ الآن ذلك الذي كسر في الماضي قيد الإقطاع؟
بل، هل زال حقاً ذلك الإقطاع المقيت الذي هزمه أباؤنا وأجدادنا؟
وهل نحن، أخيراً، أحرار اليوم أكثر مما كان أباؤنا وأجدادنا؟
باختصار، إن الاقطاع الذي حاربه الانسان في الماضي لا يزال مستمراً، وكلما خسر معركة غيّر من أساليبه، وزاد من قوته، وقسوته، ودهائه، فأعاد استعباد الإنسان الذي ثار عليه من قبل، وسخّره من جديد جندياً يحارب في معسكره ومن دون أن يدري.
الاقطاع القديم الذي كان بسيطاً، محلياً، في القرى والمناطق، يملك الأراضي ويعمل لديه الناس، تحوّا إلى إقطاع عالمي، راسخ، منظّم، بحماية القانون، يأخذ شكل شركات عابرة للقارات واستثمارات مالية كبرى ومصالح دولية وبنوك تفوق ميزانياتها عدة دول فقيرة مجتمعة، وشركات تصنّع السيّارات والطائرات والكومبيوترات والأفلام، فتعلن عن أرباحها الفصلية بالمليارات، فيصفّق الناس لها، وهم الذين يتغنون بمحاربة الاقطاع، ويدافعون عنها، حتى عن حروبها، أولئك الذين يزعمون أنهم أحرار وأنهم ثاروا يوماً على الإقطاع وتخلصوا منه.
هل الناس أحرار حقاً اليوم كما يزعمون، حتى في أرقى البلدان؟
لو ذهبنا إلى ما يسمّى (المول) ونظرنا إلى ما يعرضه من أصناف وأطياف لوجدنا أن ما يتجاوز تسعين بالمئة من المعروضات هي كماليات لا حاجة للناس بها، بينما هم يلهثون للحصول عليها، فيستدينون من البنوك، ويدفعون الفوائد العالية، وكأن الحرية والسعادة والجنة في هذه القشور، التي يمكن الاستغناء عنها بكل بساطة.
أصبح طبيعياً أن نشتري ثياباً جديدة دون أن نحتاج لها، ونبدّل سيارتنا لأجل الحصول على أخرى بها ميزات أكثر أو موديل آخر، وكذلك نبدّل الهاتف والتلفاز وألعاب الأطفال حتى أصبحنا نبدّل شريك حياتنا لأجل التغيير وكسر الملل، ونبدّل وجهنا ومعالمنا التي خلقها الله جلّ وعلا بعمليات جراحية تكلّف الملايينوسخّرنا لها الطب الذي وُجد أساساً لمعالجة المريض، فبتت الشهرة والمال لأطباء التجميل.
وندّعي مع ذلك الحرية والفهم والتطور ونندفع أكثر في ما نحن فيه ونخدم هذا الغول الذي يستهلكنا أكثر فأكثر.
ندّعي أننا نحافظ على البيئة وهذه الكماليات ومصانعها ووسائل نقلها وترويجها تتسبب بتلوث كبير وجهد لا معنى له إلا جمع المال. وهذا الذي أسموه إقتصاداً عالمياً وبورصة واعتمادات بنكية لا هدف أخير لها إلا خدمة شركات عملاقة وبنوك عالمية غدت هي الإقطاع الجديد تسخرنا جنوداً لها وتصوّر لنا عير الضجيج الإعلامي وغسل الأدمغة أن السعادة كلها في منتجاتها، فتسيطر عل عقولنا، وتجعلنا نسير كالقطيع في الاتجاه الذي يريده لنا هذا الاقطاع الجديد نجترّ فيه جهلنا ونتلذذ بطعمه.
وهاكم البنك الدولي، الإقطاعي الأكبر في عالم اليوم، يستعبد ويسترق دزلاً وشعوباً بأكملها تحت إسم المساعدة وحل مشكلاتها، فإذا المساعدات وتبقى المشكلات فتزداد وتتفاقم.
هذا الاقطاع الجديد خاطب غرائزنا وغذّاها، وحطّم عقولنا وأعماها، فسرنا معه على غير هدى، أرقّاء أذلاّء مستعبدين مخدوعين، نظنّ أننا أحرار ونحن عبيد شهواتنا ونزواتنا وغرائزنا ونسينا أننا نفس إنسانية خالدة من نور الله ، وأن هذا الجسد بما فيه من غريزة هو آلة هذه النفس، وجوادها الذي تستخدمه للوصول إلى كمالها، فجمحت بنا هذه الآلة وهذه الغرائز، وأوصلتنا إلى ما نحن فيهمتناسين قول المسيح عليه السلام: من لم تكن نفسه آمرة لجسده فجسده قبرٌ لها.
أما الإقطاع الحقيقي الذي يتحكم بنا والذي مكّن منا الإقطاع الدولي والعالمي فهو ضعفنا تجاه هذه الغرائز المادية وشهواتها التي لا تنتهي لأننا نغذّيها يومياً بالمزيد فيما وعينا نطمسه في كل حين بالإهمال والقطيعة عن الله. ذلك هو ما مكّن هذا الوحش الكبير الذي يسمى المال وهو الإقطاع الإكبر الذي كلما أكثرنا من جمعه كلما أكثر من استعبادنا. فإذا كنّا ثواراً بحق فلتكن الثورة في نفوسنا وعقولنا، فلا تغرننا هذه الحضارة المزيفة ولنبحث لا عن الكماليات التافهة بل عمّا يحرر عقولنا من جهلها، فنستنير بالهداية الحقيقية التي هي خلاصنا.
كميل بوغانم- أبو ظبي