الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

المقاربة الرّوحيّة لمفهوم الأخلاق في نهج الأمير السيّد (ق)

سيـرةٌ أثـيلَة

عاشَ الأميرُ السيِّد جمال الدّين عبد الله التنوخي قَدَّس الله سرّه منذ بداية العقد الثالث إلى ما قبل منتصف العقد التاسع، في القرن التاسع للهجرة (820 – 884 ه) / (1417 – 1479 م) وفقاً لما ورد في مصادر سيرته التي كتبها بعد وفاته من عرفهُ ووعاه واستنار بلطائف فوائده الروحيَّة والتزم نهجه في التدبير الحكيم لأمور المسلك والتعليم والتهذيب الأخلاقي الذي هو قاعدة أساسيَّة من قواعد أصول العبادات والمعاملات في الدّين.

وَتَتطابقُ رواية الفصول الأساسيَّة في سيرته التي كتبها، كلّ وفق أسلوبه، ثلاثة من معاصريه، منهم اثنان من خواص تلاميذه وإخوانه هما الشيخ أبو علي مرعي، والشيخ أبو يوسف علم الدِّين سليمان بن حسيْن، والثالث هو حمزة ابن أحد التلاميذ المعلّمين الذي كان يُقرئ غالبية التلاميذ القرآن الشّريف (أي يعلِّمُهُم قواعدَ قراءته) كما جاء في كتاب “صِدق الأخبار”، وهو الفقيه شهاب الدّين أحمد بن صالح الشهير بابن سباط. وكان حمزة، ابنه، في رَيعان الشباب عند وفاة الأمير السيِّد.

وأمَّا ملامح تلك الفصول فهي التزام الأمير جمال الدّين المسلك وفق الأعراف الأثيلة، وظهور مآثره الاستثنائيَّة خلال شهر واحد أدرك فيه سنّ البلوغ، ومن ثمَّ طوافه في البلاد طلباً للفائدة والمذاكرة مع “الأجواد”، ثمَّ تَشَكُّل كوكبة من المريدين النابهين المتيقظين حوله حملوا معهُ أمانة النهوض بالوعي الرُّوحيّ من التباسات “عصر الانحطاط” (يُسمّيه د. أسد رستم في أحد بحوثه: العصور المظلمة، ويتحدَّث عن الدور التنويري الذي قام به الأميرُ السيّد في تلك الحقبة)، إلى منافذ الإنابة والاستبصار والسَّعي الحثيث علماً وعملًا نحو “القبول والترقّي والعروج إلى حدِّ الإنسانيَّة” حيث تكون ثمرة أفعال المرء “العقل والحِلم والسُّكون والرَّزانة والرُّجحان، والعفاف والصِّيانة والنَّظافة والطَّاعة والطَّهارة ومكارم الأخلاق” إلى ما ماثلها من فضائل راقية سامية.

وتتعرَّض مصادر السيرة إلى ما واجهه من “مضادَدة” من العديد الذي “لم يفهم مبناه”، الأمر الذي أدَّى في ظروف معيَّنة إلى مغادرته “منطقة الغرب” إلى دمشق، حيث مكث فيها ما يناهزُ اثني عشر عاماً حتَّى تبدَّت للخَلق كراماته برزانة العقل وثاقب البصيرة وتوقّد القريحة وسموّ المسلك واتّساع فسحة المعرفة إلى آفاق لا تفي “بشرح معانيها الطّروس”. ومن ثمَّ عودته إلى بلدته، وانصرافه، بعد وفاة ولده الذي بلغ درجة العالِم في مستهلّ شبابه، إلى توضيح دقائق المعاني ولطائف مكنوناتها ممَّا يُحيي القلوب ويهذّب النفوس ويهيِّـــئُها إلى امتثال “مراسم الحقّ” كما هو لائق بكلِّ عاقِل.

والمرجَّح أنَّ السببَ المباشَر لعودته من دمشق إلى جبل لبنان بعد غيابٍ مديد هو وقعُ الرِّسالة الخطيرة التي كتبها “إلى جماعة البلدان وهو قاطن بمدينة الشام” (الاقتباسات من مجموع “مكاتبات الأمير السيِّد”)، ونبَّه فيها إلى عدم جواز بقائها في أيديهم، وقصْده من ذلك أن يُصار إلى قراءتها “في جميع البلدان”، كما أنَّه أنذر الكلّ بانَّه لم يبقَ عنده “مراجعة ولا كتاب، وهذه الصَّحيفة آخر القول والخطاب، ونهاية اللوْم والعتاب، إلَّا أن يكونَ الجوابُ حُسنَ المآب، والرّجوع إلى الحقِّ والصَّواب”. .

الكسلُ هو الفتور والتهاون والتقاعس، عن بذل الهمَّة سعياً إلى تهذيب النَّفس، وتعليمها ما يُفيدُ نباهتَها وحسنَ إدراكها

تضمَّن الكتابُ “تعتُّب وتعنيف وحثّ لجميع الإخوان”، وتبدَّى في ثنايا سطوره الكثيرُ من الإشارات الواضحة الدالَّة على التقصير والتأخير “عن عنوان منازل السَّابقين”، وعلى القعود كلالًا (أي تعباً وضعفاً) وتخلُّفاً “عمَّا انتهَت إليه عزائمُ المجتهدين اللاحقين”، وذلك يُردُّ لأسبابٍ منها النزوع إلى “طلب الجاه، وحبّ الرئاسة وكثرة الأعوان، والمبالغة في إقامة الحُرمة والناموس إلى أبعد غاية وأقصى مكان” (مصطلح “الناموس” في المأثور الرُّوحيّ الذي نهل منهُ الأميرُ السيِّد بات يعني الانكباب على عمل الظاهر والاطمئنان إليه من دون اكتراث بتعلّق القلب وأهواء النفس المتلاطمة بزخاريف العالم الدنيويّ). تلك المنازع هي كلّها “مصارع” لأهل الزمان، مؤدية إلى سلبهم الدّين والدّنيا، وهدم المنزلة، وخسارة السّعي. ومن استبصر “ما هو كائن من أحوال المعاملات” لوجد في ذاته القناعة والغنى لوقوفه في مقام الاعتبار واستشعار النَّصيحة.
قاعدةُ السَّعادة

أراد الأميرُ السيِّدُ أن يكونَ في رسالته فصل الخطاب مع كلّ الّذين لم يستشعروا في مساره الروحي، ومقاربته الإصلاحيَّة البالغة العُمق، سوى مقابلتها كعادتهم “بشخص السماع”، ومعاملة لطائف المعاني بما في مادّتهم “من كثيف الطّباع”، وجعلها “سنْحاً لا على سبيل الانتفاع، وصفحاً عن العقول بخلاف الاعتراف والخضوع والارتجاع”. أراد، بما أضاء به جَنانَه من نور المعرفة، وبما حقـقه في نفسه العاقلة من ثمار التحقّق، “بذلَ النَّصيحة وإنهاج طرُق الرَّشاد” لئلَّا يقولوا “ما جاءنا مُنبِّهٌ ولا واعظٌ، ولا رأينا في الزمان مشمِّراً ولا ناهضاً”، بل هي “حُجَّة لله” عليهم.

هكذا، تبلْوَرَ في كتابه هذا، وأيضاً في كتابه إلى الشيخ أبي عبد القادر زين الدِّين ريَّان “الّذي فرَّغ قلبَهُ لتحصيل ما يوجب الفوز العظيم(1)”، الكثير من “اللُّـمَع” الروحيَّة البليغة الواردة في مقام النُّصْح والتعليم، والتي من شأنها إيضاح المقاربة الرُّوحيَّة لمفهوم الأخلاق من حيث هو، من كلِّ وجوهه المعرفيَّة والمسلكيَّة، شرطٌ أساسيّ وضروريّ لصحَّة “الدّيانة” ولتحقق “حدّ الإنسانيَّة” الآنف الذِّكر.

تشتدُّ لهجةُ الأمير السيِّد حين يعدِّد بعضَ الآفات التي من شأنها أن تُـقْعِد “عن سلوك الطريق الواضح” وهي: “موتُ القرائح، والكسل الفاضح، وعدم القبول من الناصح، والتعامي عن الذّنوب، والرّخصة في اتّباع الحقّ المطلوب”. فأمَّا القريحةُ، عدا عن كونها مَلَكَة تُمكِّنُ من استنباطِ العِلم، فإنَّها تدلّ أيضاً على “ما خرجَ من طبيعة الإنسان من غير تكلُّف”، وعليه، يكونُ موتُها سبباً لغلبة التكلُّف والتصنُّع والبلادة وركود الذّهن على حركة التصرُّفات والأعمال.

والكسلُ هو الفتور والتهاون والتقاعس، في هذا السياق، عن بذل الهمَّة سعياً إلى تهذيب النَّفس، وتعليمها ما يُفيدُ نباهتَها وحسنَ إدراكها لحقائق الأمور، وإلَّا صارت “عَرَضاً لأسباب البلاء… متورِّطة في مهاوي الحَيْرة والعمَى… كلَّما أيقظها المُنذرون تناعست… وكلَّما شافهتها الأنوار أظلمت…”

إنَّ العجزَ عن “درْك العبارة والتكييف” هو بلْوى تُصيبُ النّفس فتأبى “أنْ تَـتَّحِدَ بالعنصر الكريم الشَّريف”، و”درْك العِبارة” هو إدراك معناها بالعقل وفهمه، ومن ثمَّ “تكييف” السلوك على ما تقتضيه مقاصد المعنى، أي مواءمة النَّفس مع تلك المقاصد بإحداث التغيير في الأعمال ظاهراً وباطناً فيما يؤدِّي إلى حالة الانسجام مع غاياتها الشَّريفة، ويؤكِّدُ الأميرُ السيِّد بأنَّ العجزَ عن بلوغ ذلك، وإهمال مكابدته سعياً إلى تحقيقه، يولِّدُ في النَّفس حتماً نوازع النفور والامتعاض والامتناع بل والعجز عن الاتّحاد “بالعنصر الكريم الشَّريف”، وهو معنى قوله: “أبَتْ نفوسُكُم”.

إنَّ “تـنقية النّفس وتصفيتها بعون الله سبحانه” هي الشَّرط الحتميّ لـ “اتّصالها بباريها واتّحادها بأنوار عظمته، وكمال التذاذها بجماله وجلاله… وهذا هو الدِّين الصَّحيح”(2) ويُسمِّي الأمير السيِّد هذا “الاتِّحاد” بصريح العبارةِ: “عَوْدُها إلى مشاهدة باريها” مؤكِّداً أنَّ “قاعدة السعادة في الدّنيا والدِّين أنَّ العبدَ يستشعرَ وجود حضور خالقه في سرِّه وطَوِيَّته… ولا ينطبع في جوهر العبْد مشاهدة الخلَّاق إلَّا بعد تهذيب الأخلاق…”

مقام الإحسان

ولا بُدَّ من توضيح مفهومَي “الاتِّحاد” و “المشاهدة” على قاعدة السَّنَد الشَّرعيّ السليم للحؤول دون الانزلاق في متاهة التباسات المعنى.
وردَ الحديثُ الشَّريف المشهُور المتعلِّق بمراتب الإسلام والإيمان والإحسان في كتُب السّـنَّة عن جماعة من أصحاب رسول الله (ص)، وأخرجهُ أئمَّة الحديث، واعتُبر في غاية الأهميَّة حيث ينتهي بتوضيح الرَّسول (ص) لهويَّة السائل عن تلك المراتب، وكان رجلًا “شديد بياض الثياب شديد سواد الشَّعر لا يُرى عليه أثرُ السَّفَر ولا يعرفُه منَّا أحد” قال: “فإنَّه جبريلُ أتاكُم يعلِّمكُم دينكم”(3) .

ما يهمّ هنا على وجه الخصُوص، الجزءُ من الحديث في سؤال السائل لرسول الله (ص): “فأخبرني عن الإحسان. قال: أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّهُ يراك”(4)
ويشرح الشيخ الحَكمي في “معارج القبول…” ما سمَّاهُ “مرتبة الإحسان، مستهلَّا الفصل بهذين البيتيْن:
وثالـــثٌ مــرتبــــــة ُ الإحســــــــــانِ وتلكَ أعلاها لدى الرَّحمنِ
وهي رسوخُ القلبِ في العرفانِ حتَّى يكون الغيبُ كالعِيانِ

ويقولُ موضحاً: ” وهي أعلى مراتب الدِّين، وأعظمها خطراً، وأهلها هُم المستكملُون لها، السابقون بالخيْرات، المقرَّبُون في علوّ الدرَجات… والإحسانُ هو تحسينُ الظاهر والباطن… ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(5).
ويلزمُ المرءُ أن يحقِّقَ “مقام الإخلاص” في تهذيب النفس، واتّباع مكارم الأخلاق، وبذل الهمَّة في السَّعي علماً وعملًا بصفاء نيَّة ونقاء قلب كي يصلَ إلى المقام الأعلى في الإحسان أي “المشاهدة”(6). “وهو أن يعملَ العبدُ على مقتضى مشاهدته اللهَ عزَّ وجلَّ بقلبِه، وهو أن يتــنوَّر القلبُ بالإيمان، وتنفذ البصيرةُ في العِرفان حتَّى يصيرَ الغيْبُ كالعِيان”(7)، وهذا كلّه لا يخرج عن معاني الحديث الشّريف: “… وما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافِل حتى أحِبَّهُ، فإذا أحببْتُه كنتُ سمْعَهُ الذي يسمعُ بِه، وبصرَهُ الذي يبصر به… وإن سألني لأعطينَّه، ولئن عاذ بي لأعيذنَّه…”(8) وقد جاء في القرآن الكريم ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾(9).

يقومُ العملُ على «تطهير القلب من الخبث والخيانة» مقام النَّسغ الحيّ لشجرة الأخلاق الطيِّبة في الكيان الإنسانيّ

تهذيبُ الأخلاق

تبيَّن أنَّ المدخلَ الحتميّ لتحقيق “قاعدة السَّعادة في الدّنيا والدِّين” هو “تهذيبُ الأخلاق”، والسَّعادة هنا متعلّقة بكمال “الجوهر الأنسيّ”، لا بالوهْم الَّذي يولِّدُه الانهماكُ في طلبِ اللذَّة الآنيَّة العابرة.
والتَّهذيبُ هو التنقية والإخلاص والإصلاح، ذلك أنَّ ما يشوبُ النَّــفس من عُيوب ونزوع إلى الهوى وإباحة الأشياء، هو من الأمور المؤذية، بل المُميتة، في المدى البعيد، لفطرتِها المولودة بالخيْر، وقد وُصِفت في القرآن الكريم بأنَّها “أمَّارة بالسُّوء”(10)، وتتضمَّن سورة الشَّمس فيه قسَماً يتلوهُ بيانٌ في قوله عزَّ وجلّ ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا 9 وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾، “فبيَّنَ لها طريقَ الشَّرّ وطريقَ الخيْرِ، قد فاز مَن طهَّرها ونمَّاها بالخيْر، وقد خسر مَن أخفى نفسَه في المعاصي”.

إنَّ الرّسالتيْن المميَّزتيْن للأميرِ السيِّد المذكورتيْن آنفاً، فائضتان بالتَّعبير عن نهجِ روحيّ ذي مستوى راق في المعرفة، حيث أنَّ مسألة “التهذيب” تشكِّل مُرتكزه ولبَّ مُحاجَّته وصولًا إلى الغاية الشَّريفة التي توخَّاها من كلِّ ما قام به في سيرتِه المعروفة، وتكثر “المدارج” المُفعَمة بالدلالات داخل نصَّيْهما والتي من شأنها الإضاءة بقوَّة على ما يتوجَّب التنبُّه إليه في أغوار النّـفس ودواخلها من دقائق الأسرار ولطائفها، ومن تناقُض الطّباع وانفعالاتها والتباسات نوازعها في الكثير من الأحوال. ومن هذه المدارج، فضْلًا عمَّا جرى اقتباسه أعلاه، ذِكْرُ ما قيل إنَّ “المفتاح كلمة التوحيد”(11)، ولا يُفتَح به إلَّا بعد “تطهير القلب من الخُبث والخيانة، وتطهير اللسانِ منَ الكذب والنَّميمة، وتطهير البطن من الحرام والشّبهة، وتطهير العمَل من الرِّياء والبدعة”(12).

فالقلب “خزانة كلّ جوهر نفيس”، وهو موضع نظر ربّ العالمين كما جاء في الحديث الشريف: “وإنَّما ينظر إلى قلوبكم”، وفيه لطائف أثر العقل والبصيرة والنيَّة ومدارك العلوم والحِكَم(13)، ولكن ثمَّة آثار ملوِّثة فيه تُسبِّبها الآفات الظاهرة والباطنة التي من شأنها أن تحجبَ عن مرآته إمكان استجلاء الحقيقة واستبصار السُّبُل إليها بالمعرفة والتحقق، لهذا سُمِّيت في المأثور المعتمَد “آفـات مُهلِكة”، وهي بالنتيجة “أخباث” مُضادَّة لـ “الطيِّـبات” وفقاً لِما ورد في القرآن الكريم ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾(14)، وظاهرُ الخبيث الأفعال المذمومة، والموبقات الشائنة، وباطنُه الطّباع المفترِسة لأثر العقل، والعقائد الفاسدة وكلّ ما يُضادِدُ الخيْر، ﴿قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ۚ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(15). بطبيعة الحال، فإنَّ استسلامَ “القلب” لطغيان الخبائث هو “خيانة” للفطرة الإنسانيَّة في أصل التكوين، ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾(16)، بذلك، يقومُ العملُ على “تطهير القلب من الخبث والخيانة” مقام النَّسغ الحيّ لشجرة الأخلاق الطيِّبة في الكيان الإنسانيّ، وهو عملٌ لا يغفل الباتّة عن حركةِ الدَّاخِل مهما كان الالتزام بادياً في حركة الظاهر، لأنَّ ما يعوَّلُ عليْه هو نقاء القلب كما جزمت به الآية الكريمة ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.(17)

وفي نقده الحادّ لواقع الحال الرُّوحي لكثيرين من أهل عصره الَّذين التبست في دواخلهم معايير القيَم ولم ينسلخوا “مِن حُلَّة الكثائف”، يصفُ الأميرُ السيِّد قلوبَهُم بأنَّها “حواصلُ المذق والرّيا والنّفاق”، أي إنَّ ما بقي فيها وثبت وذهَب ما سواه هو “المِذْق” أي المزج والخلط وعدم الإخلاص في الودّ، وأمَّا الرِّياء فأصلُه “طلب المنزلة في قلوب النَّاس يُرائيهم خصال الخيْر”(18)، وفي الحديث الشريف: “إنَّ أخْوف ما أخافُ عليْكُم الرِّياء والشَّهوة الخفيَّة”، فكأنَّهُ يرائي الناس بتركه المعاصي، والشَّهوة لها في قلبه مُخفاة(19). وأمَّا النّفاق فقد أتى تحديد معناه في “شرح الخصال”: “هو مخالفة الظاهر للباطن بالقوْل أو الفعْل، وكلُّ من طلبَ المنزلةَ في قلوب النَّاس فيضطرّ إلى النِّفاق معهُم، والتظاهر بخصال حميدة هو خالٍ عنها، وذلك عينُ النفاق”.

هكذا، وبالوتيرة ذاتها، يُمكن متابعة ما تقتضيه الأمور في تطهير اللسان، الذي هو “أشدّ الأعضاء جماحاً وطغيانا، وأكثرها فساداً وعدواناً…”، من آفة الكذب المدمِّرة لأساس الأخلاق، ومن آفة النّميمة التي هي “معصية… توغر الصدور وتفتح الشرور وتوصل إلى عظائم الأمور(20)”, وتطهير البطن من الحرام المؤدّي إلى عصيان الجوارح، وتطهير العمل من كافَّة أشكال الزّينة الباطنة، والنزوع في أهواء الرأي والقياس إلى ما ينأى عن الصِّحَّة في الأقوال والأفعال ومكنون الضمائر.

ينبوعُ الأخلاق

وفق هذا النَّهج، أي البحث عن ينبوع المفاهيم الأخلاقيَّة داخل الحقل المتحرِّك أبداً في أغوار النَّفس البشريَّة، والمُـعَرَّض بالقوَّة (أي بالإمكان) إلى عواصف المضاددة والأهـواء، يمضي الأميرُ السيِّدُ في مُحاجَّته لذوي الالتباس والشّبهات(21)، مُوضِحاً، على غايةٍ من العُمق والإبلاج والبيان، سُبُل المسالك الناجعة في “تهذيب الأخلاق” من حيث هي السَّمْتُ القويم لتحقيق الغاية التي بها يلاقي الإنسان حقيقة معناه.

مزار الشيخ الفاضل (ر)
مزار الشيخ الفاضل (ر)

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading