الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

المُجاهد علي حسين (أبورافع) الملحم

اختلف علي الملحم مع عارف النّكدي محافظ السويداء عام 1948 الذي سعى بادئ أمره لإقفال مضافات الجبل بإيحاء من حكومة دمشق أواخر الأربعينيات، لكنّ النّكدي اقتنع أخيرًا بصواب رأي علي الملحم وأنصاره الذين دافعوا عن قيم المضافة بوصفها مدرسة للرجال!!.
– كان علي الملحم عضواً في الجمعية العربيّة الفتاة في مواجهة مظالم العثمانيين، وواحداً من أركان الثورة السوريّة الكبرى 1925ـ 1927 في الجهاد ضد الفرنسيين وحتى عودة الثوار من المنفى الصحراوي عام 1937(1).
– قطعت حكومة دمشق راتبه عام 1947 وكان مدير ناحية ملح لأنّه رفض مبلغاً مالياً كبيراً (في حينه) كرشوة مقابل الانخراط في صفوف الحركة الشعبية التي جعلت هدفها الهجوم على بلدة القريّا وإذلال سلطان باشا الأطرش…
– رفض إمداد الفرنسييِّن بالقمح عام 1941 عندما كان مديراً لناحية بلدته ملح.
– فجّر الفرنسيون داره ومضافته في ملح عام 1926 لأنه رفض الاستسلام ورافق سلطان باشا والثوار السوريين عام 1927 في المنفى إلى أن اضطُرَّت فرنسا للاعتراف باستقلال سورية ولبنان في معاهدة عام 1936…

أصل العائلة

كُنْية (الملحم) هي كُنية مُسْتَحدَثة لحقت بأبناء ملحم سليمان أبو رافع القادم من لبنان إلى جبل الدروز ـ كما كان يُدعى وقتذاك ـ وبهذا فإنّ أصل الأسرة يعود إلى آل «أبورافع» في الهلاليّة وبعلشميّه من منطقة عاليه(2)، وقد ضاعت في ضباب التاريخ الأسباب التي حَدَت بالرجل ليرحل من لبنان إلى قلعة جندل في جبل الشيخ ويحطّ رحاله في قرية عرى، والراجح أنّ ذلك حدث في النّصف الأوّل من القرن التاسع عشر أيام زعامة آل الحمدان لمجتمع جبل حوران، ولم تزل قطعة من الأرض التي كان يملكها سليمان أبو رافع في أراضي بلدة عرى تحمل اسم «جورة الملحم» إلى يومنا هذا….
فيما بعد وبُعَيد منتصف القرن التاسع عشر ارتحل آل الملحم ونزلوا في خربة «ملح» التابعة لمنطقة صلخد وكانوا من بين روّاد القرية الأوائل نحو عام 1866، وكسائر عائلات الجبل لم يلبثوا أن انخرطوا في خِضَم معارك بني معروف في مواجهة العثمانيين، وكانوا بالأصل من حَمَلة بيرق ملح في العهد العثماني، وقد استشهد عدد من رجالهم تحته في تلك الفترة قبل أن يؤول البيرق لآل غزالة فيما بعد؛ وكان حسين والد علي الملحم واحداً من شهداء الدروز في مواجهة ممدوح باشا، عام 1896على أثر معركة تلّ الحديد غرب السويداء….

ميلاده ونشأته:

 

وُلِدَ علي الملحم عام 1890 في ملح وعَرَف اليُتْم منذ السادسة من عمره بعد استشهاد والده. وفي عام 1910 شارك في معركة الكفر الأولى في مواجهة حملة سامي باشا الفاروقي العثمانية على الجبل. ودخل مُعترك السياسة شابّاً إذ كان واحداً من بين بعض زعماء الجبل الذين نشطوا في (الجمعية العربية الفتاة) في العهد العثماني للمطالبة بحقوق العرب…
وفي عام 1917 وبسبب من تَعنُّت العثمانيين وسياستهم المعادية لحقوق العرب فقد انضمّ علي إلى الثورة العربية التي قادها الشريف حسين من الحجاز وكان واحداً من فرسان الموحدين الدروز الذين توجّهوا إلى العقبة جنوب الأردن وانخرطوا في صفوف الثوار، وكان من بين فرسان الجبل الذين سبقوا إلى دخول دمشق بقيادة سلطان باشا الأطرش ورفعوا العلم العربي فيها في الثلاثين من أيلول عام 1918 قبل دخول الجيش البريطاني بقيادة الجنرال اللَّنْبي وقبل دخول جيش العشائر الفيصلي إليها..(4).

وفي عام 1923 في فترة التحضير للثورة السورية ضد الفرنسيين أقسم يمين الإخلاص للثورة مع رفاق له في اجتماع سرّي مع سلطان باشا، وقبيل الثّورة عام 1925 تمّ بمسعى من سلطان باشا وفريقه تشكيل خمس لجان هدفها تصفية الخلافات بين العائلات في الجبل من أجل توحيد موقف المجتمع ضد الفرنسيين. ويقول حنّا أبو راشد مؤرخ تلك الفترة أنّ «اللّجنة الرابعة تالّفت برئاسة علي بك طرودي الأطرش وعضويّة علي أفندي الملحم وقاسم بك أبو خير وسليمان بك الاطرش ومركزها (قرية) قَيْصَما»، وكان من الطبيعي أن يلفت نشاط علي الملحم المعروف بجراءته ووطنيّته نظر السلطة الفرنسية وجواسيسها فاعتقلوه وأحضروه مع يوسف العيسمي وأوقفوهما بتهمة العمل ضد الفرنسيين»(5).

السرجان في الجيش الفرنسي ابراهيم علم الدين الحاصباني يستضيف علي الملحم في بيته

 

أوقف الفرنسيّون علي الملحم في السويداء قُبَيل الثورة للتحقيق معه بتهمة التعاون مع سلطان باشا والتأليب ضد الاحتلال (كان سلطان باشا يؤسّس للثورة بالتعاون مع زعماء الجبل الوطنيين). وأثناء التحقيق مع الملحم أُعجب الحاصباني (المتعاطف سرّاً مع فكرة الثورة) أُعجب بجرأته وحِنْكته، وكان الفرنسيّون يعاملون المُتَّهمين الذين يحققون معهم معاملة سيّئة فيزجّون بهم ليلاً في مخزن الفحم أو يعذبونهم بأساليب لم يعتدها رجال بني معروف…
طلب الحاصباني من المُحَقّق الفرنسي أن يُعفى علي الملحم من المبيت في السجن، فرفض المحقّق ذلك. عندها هدّد الحاصباني بخلع رتبته وزيّه العسكري أو يسمحوا له باستضافة الملحم ليبيت عنده في بيته على أن يحضر في اليوم التالي على موعد التحقيق مقابل تعهّد خطّي!!…
ولمّا كانت الإدارة الفرنسيّة في الجبل تخشى من انشقاق الحاصباني وتعاونه مع الحركة المناهضة لهم التي يقودها في السويداء علي عبيد وحسين مرشد رضوان وغيرهم فقد تساهلوا بتلبية طلبه…
وفي استطلاعه لآراء كبار زعماء الجبل ورؤيتهم السياسية للأوضاع وموقفهم من فرنسا قُبيل الثورة عام 1925، سجّل لنا حنَّا أبو راشد رأي علي الملحم الذي قال ما يلي: «يوجد أيّها الأخ في الجبل ما ينوف عن العشرين شخصاً؛ منهم توفيق بك الأطرش وغيره وكلّهم يقدّسون فرنسا الحرَّة لا فرنسا المُستبِدَّة لأنّ أحرار فرنسا الماسون إذا كانوا ماسون حقيقة؛ يجب أن ينظروا إلى إخوانهم الماسون في بلاد مشمولة بانتدابهم وتَنْصُرهم من هذا الظلم اللّاحق بهم من استبداد رجل فرد كَكَربيه»(6).

سلطان باشا ينطلق بالثّورة من القريا

سلطان باشا الاطرش

 

في تلك الأيام من بُعَيد منتصف تموز من عام 1925 وفي السابع عشر منه أعلن سلطان باشا الثورة وانطلق من قريته القريّا جنوباً إلى قرية بكّا يرافقه بضعة عشر فارساً من القريا وقد انضم إليهم من بكّا صياح الأطرش وبهاء الدين ورشراش مراد وجدعان المعاز، ثمّ انتقلوا إلى أمّ الرّمان فباتوا ليلتهم في بيت حمد البربور أحد أبرز أعوان سلطان باشا، حيث وافاهم صبيحة اليوم التالي عدد من فرسان قرية حوط وهم فرحان العبدالله وحسن وحسين وحمّود العبدالله ورافقهم من أمّ الرمان يومها نصّار ومحمّد ومحمود وحامد وحمود البربور وحمد النبواني…(7) ومنها إلى قرية عنز فالمشقوق التي تبعد عن صلخد بضعة كيلو مترات «حيث حلّ سلطان باشا ضيفاً في بيت اسماعيل الحجلي …»(8) فيما توزّع الثوّار في مضافات القرية ومن هناك راسل صلخد التي كانت تحت رقابة من قوّة فرنسية فيها لكونها مركز القضاء؛ غير أن صالح عزيز اتّصل بسلطان سرّاً وأبلغه بلسان أهل صلخد أنهم سينضمّون إلى الثوار في الوقت المُناسب، وفي اليوم التالي انطلق سلطان ومن معه من الثوار القلائل إلى امتان التي تردّد شيخها اليافع آنذاك (علي بن مصطفى الأطرش) الذي لم يكن قد تجاوز السابعة عشرة من العمر فقال له سلطان بحدّة: «اسمع يا بني يا علي! إنّ والدك كان قائد الثوار وعقيد المُحاربين.. ويجب عليك أن تسلك مسلكه وتعطي المثل الأعلى في تصرفاتك لبقية المواطنين». فلم يلبث علي أن شارك هو ويوسف العيسمي في إثارة نخوة أهل القرية فاندفعوا وراء بيرقهم وقاموا بعراضات حماسية في الساحة العامة واتفقوا على اللقاء في اليوم التالي في قرية عرمان، ولا يستطيع المرء أن يتصوّر مدى قلق سلطان حينها على فشل خطواته الأولى في الثورة التي يرتجيها، ويعقد عليها آماله بعد مغادرته امتان حيث لم يصل عدد مرافقيه في تحرّكه ذاك منذ انطلاقه من القريّا وحتى امتان وإلى ملح سوى اثنين وثلاثين فارساً(9).

مَلَح علي الملحم وخليل الباسط: التّصعيد على طريق الثورة

 

مدخل القرية (أي مَلَح) علي الملحم وخليل الباسط وأبلغانا أنّ سَرِية من الحرس السيّار تعدادها نحو مائة خيال موجودة في القرية، ولكي نُرهب هذه القوة ونستثير النَّخوة في نفوس الأهالي، فقد عقدنا في ميدان القرية حَلَبَة سباق وراح بعض فرساننا يتصايحون أثناء الطّراد ويطلقون الرصاص في الفضاء.. فلم تمْضِ دقائق معدودة حتى خرج رجال القرية ونساؤها لاستقبالنا والبيرق (بيرق ملح) يخفق بألوانه الزاهية فوق حامله البطل شهاب غزالة…»(10).
نعم كانت ملح نقطة تحوّل هامّة على طريق الثورة المرجوّة، حيث وصل عدد الثّوار في ملح إلى 250 خيّالاً وفي تلك الليلة بات سلطان مع بعض رفاقه في مضافة خليل الباسط، وفي تلك المضافة يقول سلطان «كتبنا رسائل عديدة لأعيان قرى المقرن الشرقي والشّمالي… وهنالك قرى كثيرة في المقرنين الشمالي والغربي لم يكن اتصالنا بها قد حان، ومع ذلك انضمّ إلينا من أهاليها بعض المحاربين.

عرمان: اندفاع الثورة!

 

كانت ملح قد شدّت أزرَ سلطان باشا بفرسانها ورجالها الذين انتقلوا معه ومع رفاقه الأوائل إلى عرمان وقد وثّق وقائع تلك الأيام بقوله: « في صبيحة يوم 20 تموز وجدنا الأهالي مُحتشدين في الساحة العامة وأصواتهم تهدر بالأهازيج الحربية وفجأة ظهرت طائرتان حربيّتان وأخذتا تحومان فوقنا…»، أسقط الثوار واحدة منها وأُسر طياراها… ومن ثم انطلق الثوار إلى صلخد فحرروها من القوات الفرنسية.

وفي يوم 21 تموز من عام 1925 كان سلطان قد توجّه من صلخد إلى موقع نبع العيّن شمال غرب المدينة ببضعة كيلومترات وكان من نيَّته التخييم هناك ولكن وصول ثوار ملح ببيرقهم، وكان علي الملحم في طليعتهم قد أحدث تغيّيرًا مفاجئًا في الخطة المقررة حيث «أثار موجة عارمة من الحماسة للحرب وملاقاة العدو في الكفر دون إبطاء…» وقد صاح شهاب غزالة من على ظهر جواده بصوته الجهوَري يخاطب سلطان باختصار شديد قائلًا: «يا باشا ما هي بطرق المكاتيب؛ فعلاً تِشُوْفَهْ» واندفع شهاب ببيرق ملح وتبعه سائر الثوار نحو الكفر التي تبعد عن العَيِّن بضعة كيلو مترات… ودارت هناك جوار قرية الكفر معركة خاطفة لم تتجاوز مدتها الأربعين دقيقة تمّ فيها سحق معظم أفراد الحملة الفرنسية. يصف سلطان باشا كيف جرت المعركة فيقول: «رأيت شيوخاً وفتياناً يقتحمون المراكز الدفاعية الحصينة صعوداً إليها من بعض الجهات المنخفضة أو يخترقونها هبوطاً من بعض الجهات المرتفعة لا يحملون بأيديهم سوى عِصِيِّ السِّنديان الثّخينة أو الأسلحة البيضاء المتنوعة التي كان يشاهَدُ لبعضها بريق خاطف عندما تنعكس عليه أشعة الشمس الوهَّاجة وسمعت بأذني نَخْوات مقاتلينا وصيحاتهم المرعبة بعد أن توسَّطوا المعسكر الفرنسيِّ ثم لم أسمع بعد قليل سوى صرخات ألم متأتِّية تنبعث من أولئك الجنود التعساء الذين مالت على رقابهم السيوف الباترة وهوت على رؤوسهم وأجسادهم الفؤوس القاطعة، ولم يكن ضبّاط الحملة وجهاز القيادة فيها أسعد حظاً وإنَّما لقَوْا المصير نفسه، وكُتبت النجاة لأفراد قلائل تمكنوا من الوصول إلى قلعة السويداء بكلّ صعوبة.
وكانت الخسائر بالأرواح أربعةً وخمسين شهيداً ومن بينهم خليل الباسط وشهاب غزالة حامل بيرق ملح…

علي الملحم في موقع أحد أركان الثّورة السورية الكبرى

 

وعندما صُعِق الفرنسيون بعد هزيمتين متتابعتين في معركتي الكفر والمزرعة عمدوا إلى تعيين قائد لحملة فرنسية جديدة هو الجنرال «غاملان» وبعثوا بالفرق العسكرية التي استقدموها من فرنسا والمغرب العربي والسنغال ومدغشقر والهند الصينية إلى محطّتي أزرع ودرعا بقصد التجمّع في سهل حوران لغزو الجبل(11). وفي تلك الفترة من تصاعد الحماس الوطني لتحرير سورية ولبنان من الاحتلال الفرنسي يقول سلطان باشا: «أمّا إخواننا في جبل لبنان ووادي التيم وإقليم البلّان والغوطة فقد شاركت أكثريتهم الساحقة بالثورة وجدير بالذكر أنّ الطائرات الفرنسية كانت تواصل غاراتها المدمّرة على القرى التي كان الثوار يتوافدون إليها لعقد الاجتماعات فيها بالإضافة إلى غاراتها اليوميّة على مدينة السويداء ومواقع المرابطين حول قلعتها المحاصرة…».

وردّا على التعبئة الفرنسيّة تلك فقد انعقد مؤتمر ريمة الفخور الذي حضره ممثلو الحركة الوطنية السورية في دمشق ومن كان يصحبهم من المجاهدين وعدد كبير من أعيان الجبل وقادة الرّأي فيه، وجمهور غفير من المواطنين…
في ذلك المؤتمر أُعلِنَ عن تشكيل أركان قيادة الثورة وكان المجاهد علي الملحم واحداً منهم وهم حمد عامر وفضل الله هنيدي ومحمّد عز الدين وعقلة القطامي وسليمان نصار وحسين مرشد رضوان ويوسف العيسمي وعلي الملحم».
وفي معركة المسيفرة كان علي الملحم في طليعة الثوار الذي اقتحموا الأسلاك الشائكة التي نصبها الفرنسيون حول معسكرهم هناك، حيث استُشهد إلى جانبه أخوه ابراهيم واثنان من أبناء عمه هما مهَنَّا وهايل الملحم كما شارك بعدها في حملة الإقليم الأولى التي ذهبت إلى لبنان تحت قيادة زيد الأطرش شقيق سلطان حيث قاتل الفرنسيين في معارك أهمها معركة قلعة راشيّا وحاصبيّا ومرجعيون وكوكبا وسواها.

وعندما قَدِمت حملة الجنرال غاملان الأولى أواخر أيلول من عام 1925 لِفَكّ الحصار عن القوة الفرنسيّة المحاصَرة في قلعة السويداء كان علي الملحم في طليعة المشاركين في قتالها وكذلك كان الحال في أوائل تشرين الأوّل إذ كان الرجل بين المجاهدين في معارك القتال التي استمرت سبعة أيام في عدّة مواقع منها عرى والمجيمر وتلّ غسان ورساس؛ حيث دارت معركة رهيبة لثلاثة أيام مُتتالية لم يذق الفرنسيون خلالها طعماً للنوم أو للراحة ممَّا اضطرهم إلى التقهقر باتجاه كناكر غرباً مُتَخَلِّين عن خطتهم بالزحف شمالاً نحو السويداء ودخول قلعتها الحصينة. وفي كناكر تمكن «خيّالتنا من ردّ الحملة على أعقابها وكبدوها خسائر فادحة بالأرواح وغنموا خيول قتلاها التي شردت في السهول المجاورة. وفي تل الحديد والمزرعة وفي الثّعلة جنوب غرب المزرعة تكبّد الفرنسيون خسائر كبيرة وعاد غاملان في النهاية دون أن يحقِّق المُهمّة المُكلّف بها وهي احتلال مدينة السويداء والثّبات فيها.
ويشير سلامة عبيد أنَّ علي الملحم وقّع على منشور ينص على تقوية الثورة وتنشيط عمليات الثوَّار وتحميل المسؤولية لِمَن يُقصّر عن المساهمة في ذلك، وكان المندوبون يمثّلون قرى عرمان وملح ومتان والهويَّا وأبوزريق وتلّ اللَّوز والحريسة وقيصما (12).
وفي ربيع عام 1926 اتَّخذ الثوار قراراً بأن ينقسموا إلى قوّتين: الأولى في المنطقة الجنوبية بقيادة سلطان باشا الأطرش، والثانية في منطقة اللَّجاة بقيادة الأمير عادل أرسلان، وكان علي الملحم ضمن المجموعة الأولى (13).جابر.

الثورة السورية الكبرى.. يوم الخلاص من المُستعمِر الفرنسي‎

علي الملحم عضواً في اللجنة العليا للإشراف العام على الثورة

ولما انعقد مؤتمر خازمة في الثاني من تشرين الأول عام 1926 تقرّر تأليف لجنة للثورة برئاسة القائد العام سلطان باشا الأطرش، تُدعى اللجنة العليا للإشراف العام على الثورة والقيام بمهام شؤونها السياسية والمالية والإدارية ومتابعة شؤونها العامة، وأعضاؤها «عبد الغفار باشا الأطرش عبد الرحمن بك شهبندر ونسيب بك البكري والأمير عادل أرسلان واسماعيل بك الحريري وصياح بك الحمود (الأطرش) ومتعب بك الأطرش وسعيد بك حيدر ومصطفى بك وصفي ومحمّد بك عز الدين وسليمان بك نصار وعلي بك الملحم سكرتيرها نزيه بك المؤيّد ومعاونه علي بك عبيد. على أن يبقى الحق للغوطة وسائر المناطق الثائرة أن تضيف مِنْ قِبَلِها بحسب نسبة الأعضاء الموجودين عن الجبل (14)..

وفي الحملة التي قادها أندريا على المقرن القبلي شارك علي الملحم في معركة تل الحبس جنوب شرق صلخد في 4 حزيران 1926 كما اشترك في معارك المقرن الشرقي. وممّا يجدر ذكره أنّ القادة في الثورة السورية الكبرى كانوا يقاتلون في طليعة صفوف المقاتلين…
وفي معركة قيصما شارك مع أبناء عمّه حسن وسليم وخزاعي الذي استشهد في تلك الموقعة وبحكم كونه من قرية ملح المحاذية لبادية الأردن حيث مواطن العشائر الأردنية التي كانت لها علاقات متبادلة مع بني معروف، وهو أحد وجهائهم البارزين فقد كان يقوم بمهمات التواصل مع تلك العشائر لمسائل تخص حماية ظهر الثورة وتأمين سند لها، ومنطقة آمنة للثوار الذين كانت تصلهم إمدادات السلاح والذخيرة والمساعدات عبر فلسطين…(15).

وعندما توافق الإنكليز مع الفرنسيين على محاصرة الثورة وقمعها انتقل علي الملحم مع سلطان باشا ورفاقه إلى موقع الأزرق وهي أرض من ممتلكات جبل الدروز قديماً وهناك واجه الثوار المضايقات من جانب البريطانيين الذين تشدّدوا في مساعيهم لإجبار الثوار على الاستسلام لفرنسا، وفي تلك المنطقة الصحراوية انتشر مرض الملاريا بين الثوّار وأُسَرهم ومات الكثير من الأطفال (16).

علي الملحم إلى جانب سلطان باشا في المنفى الصّحراوي

 

ومع انتقال القائد العام سلطان باشا إلى المنفى الصحراوي في شمال غرب نجد من الأراضي السعودية كان علي واحداً من وجهاء الثوّار الذين أصرّوا مع قائدهم على قبول المنفى ومتابعة النضال السياسي حتى تنال البلاد استقلالها، وهناك في وادي السرحان عانى المجاهدون شظف العيش وقسوة مناخ الصحراء، يقول سلطان باشا: «كان علينا أن نتآلف مع المناخ الصحراوي في حياتنا اليومية، وأن نعيش متاعب البادية وشقاءها… وأكثر ما كنّا نعاني في الفصول الانتقالية (الربيع والخريف) رياح السّموم الهوجاء التي تهبُّ عادة من الشرق والجنوب الشرقي فتبدّل من معالم الأرض وتغدو الرؤية خلالها صعبة وكذلك التنفس بفعل الأتربة والرمال المتطايرة في الفضاء والتي تكتسح خيامنا وتسدُّ منافذ بيوتنا في بعض الأحيان…

ويصف سلطان باشا موقع المخيَّم في النبك بوادي السرحان فيقول: «في أواخر تموز من عام 1927 وجدنا الأرض صحراوية مقفرة ما خلا نبع ماء عذب يسمّى «جوخة» وبضعاً من أشجار النخيل تضفي على المنطقة جمالاً طبيعياً، فكان نزولي في الجهة الشرقية من المكان حيث جاورني أقاربي وفريق من المجاهدين ونزل في الجهة الغربية منه رفاقنا الآخرون، بينهم:
الأمير عادل أرسلان ومحمّد عز الدين الحلبي وعلي عبيد وقاسم أبو خير وعلي الملحم.. والمسافة الفاصلة بين الحيين لا تزيد عن ثلاثمائة متر ولقد آوينا أنفسنا في الخيام القليلة التي كانت بحوزتنا ثم اضطُرَّ الكثيرون منَّا إلى استخدام قطع «اللِّبِن» الذي صنعوه من التراب لبناء مساكنهم البدائية الصغيرة وجعلوا سقوفها من أشجار الحَور والقصب» (17).

ولكن الثوار في منفاهم لم ينقطعوا عن التواصل بالحركة السياسية في الوطن وكانت تصلهم الصحف التي تنقل أحداث الوطن بين حين وأخر، ويزورهم صحفيون أجانب وعرب وكبار السياسيين السوريين للتشاور في المستقبل السوري مع القائد العام للثورة سلطان باشا الأطرش وأركانه، وفي تلك الأثناء نشأت صداقة شخصية بين علي الملحم والمجاهد شكري القوتلي الذي سيصبح رئيساً للجمهورية فيما بعد…
وبسبب المضايقات في الفترة اللاحقة لنزولهم في الأراضي السعودية فقد سمحت السلطات الأردنية بلجوء الثوار إلى أراضيها كلاجئين سياسيين في داخل إمارة شرق الأردن، كما كانت تُدعى آنذاك، وبعيداً عن الأراضي السورية. وقد نزل علي الملحم في مدينة السّلط إلى جانب عدد من المجاهدين منهم: حسن وعبد الكريم عامر وحسين مرشد رضوان وقاسم أبو خير ومحمّد النبواني ويوسف العيسمي وغيرهم..

وفي عام 1934 كُلَّف علي الملحم وعبد الكريم عامر بتحرير جواب مشترك إلى إبراهيم صافي من قرية ملح وسلمان البَكفاني من قرية عرمان المغتربَيْن في بيونس أيرس في المهاجر الأمريكية حيث بعثا بمبلغ من المال لمساعدة الثوار المنكوبين وكان الجواب مشفوعاً بوصل استلام مبلغ 10 ليرات إنكليزية من إجمالي المبلغ الذي هو 50 ليرة إنكليزية…
وبتكليف من سلطان باشا بتاريخ 28 نيسان عام 1937 وبعد توقيع معاهدة عام 1936 التي تنصّ على اعتراف فرنسا باستقلال سورية ولبنان وبنتيجة صدور قرار العفو عن الثوّار كان علي الملحم واحداً من أعضاء اللّجنة المكوّنة من عُقْلة القطامي وعلي عبيد وعبد الكريم عامر وقاسم أبو خير وسلمان وزيد طربيه بمهمة استقبال الوفد الشامي في مدينة عمان والمؤلّف من: صبري العسلي وفايق المؤيد العظم وغيرهم ثم اصطحبوهم إلى مقرّ سلطان باشا في مدينة الكرك الأردنيّة حيث سلّموه أوراق مرور المجاهدين للعَوْدة إلى سورية….

إبراهيم الحاصباني يزوّج علي الملحم إحدى بناته

 

في عام 1937 فُجِعَ المجاهد علي الملحم بوفاة زوجته أم أولاده ورفيقة جهاده السيّدة شمخة بنت هلال محمّد الملحم التي توفيت في المنفى ودُفنت في عمّان، ولما عاد علي مُتَرَمِّلاً بعد عودة الثوار وقائدهم إلى سورية فقد طَلب إليه إبراهيم الحاصباني أن يزوره في بيته في السويداء، وعند استقباله عزّاه بزوجته المتوفّاة وقال له: عندي ثلاث بنات، والدتهنّ مهيبة الريّس من عاليه، اخترْ واحدةً منهنّ لتكون زوجة لك…
قال علي العائد من المنفى خالي الوفاض من المال والمَتاع وكان الفرنسيون دمَّروا داره في ملح:
والمَهر ياعم؟
قال الحاصباني: مسدّسك هذا، وأشار إلى المسدس الذي يحتزم به.
ناوله علي المسدس، واستدعى الحاصباني عدداً من المشايخ قاموا بعقد قران علي على «غازية» ابنة الحاصباني على سنّة الله ورسوله…
أركب علي عروسه الفتاة غازية على جواده وانطلق بها إلى ملح ليقيم عرسه هناك!!..

علي الملحم شاعر شعبي وفارس وصاحب مواقف ظريفة

في مِحنة المنفى لم ينسَ الثوّار همومهم الحياتية والثقافية والسياسية بل ظل القائد العام والثوّار على صِلة بالحركة الوطنية في الداخل وكان وجودهم في المنفى يشكّل عامل ضغط على الفرنسيين ليعترفوا أخيرًا بحق البلاد في استقلالها…

ومن طرائف تلك الأيّام أنّه في 12 تشرين الثاني من عام 1930 وبينما كان المجاهد علي عبيد يقوم بمهمة في عمّان، وصله نبأ مُفاده أنّ كلبَه المسمّى (حَمَر) قد حدث له أن أُصيب برصاصة أطلقها عليه أحد الثوار ليلاً في المخيّم ظنّاً منه أنّه وحش، فبعث برسالة مُداعَبَة مُسَجّعة مشفوعة بقصيدة إلى علي الملحم في مخيّمهم في الصحراء يتمنّى فيها السّلامة لكلبه المدعو (طربوش) راجياً ألّا يُصيبه ما أصاب المسكين حَمَر، منها: «… هذا وإن قُدِّر لنا الظَّفَر ورجعنا قبل شهر صفر فالأمل أن تديروا بالكم (أي تهتمُّوا) على الغَفَر لأنّي سمعت أنّه فقد إحدى رجليه فالأمل ألّا تكمّلوا عليه لأنّني أميل إليه، كونه خادم أمين وليس من المشاغبين ولا من الطامعين وكل ما أعلمه عنه أنّه ودوعٌ قنوعٌ وتابعٌ غير متبوع فما ذنب هذا الفقير، هل نهب «شي» بعير أم تعدّى على الغير ولكنه مأمول أنّه أكل نصيبه وهو مكتوب عليه وعلينا معاً أن لا يبقى عندنا شيء صحيح سوى الرّيح والشيح (نبات صحراوي مُعمر طبِّي طعمه مُرٌّ ولا يؤكل) هذا عسى طربوش ألّا يصيبه ما أصاب زميله حَمَر..».

فأجابه علي الملحم بقصيدة منها:
يا علي قلبي على مثل الجَمر
ما منعرف كيف تالي ها العمر
بعد ما كان الزمن معنا ملِيح
ما بقي يا غير طربوش وحَمَر
ومن شعره هذه القصيدة المؤثّرة من فن «الشّروقي ـ نوع من الشعر البدوي» ويدعونه في جزيرة العرب بـ (المسحوب)، بعث بها إلى صديقه الشاعر سليم الدّبيسي من قرية عرمان يشكو فيها ما يعانيه من متاعب ويفصح عن حنينه للديار في الوطن وكان كلاهما يقيمان في المنفى في الصّحراء، يقول:
أمس الضّحى خاص الخَواوِير شدِّيت
حُـــرٍّ وَلَــدْ حُـــرٍّ طـويــل السنامِ(18)
الكور عندي خاص مالي أنا اشريت
والميركي جتني هَدو من ابن لامِ(19)
خُــــرج العقيلي مكلّفَهْ بالتصـــاميـت
شــــاريْـهْ من بَغداد مَنْوة مرامي(20)
ورْكابها مِـــن مَعْـــدنٍ خاص خَزّيت
قوم اعتلي عَ الفور ودِّي كلامي
يا هلال ما مِنْ بُعْد يا قُرْب ما ابـديت
طارف عَرَبْنا ما تعوز الطّعامي
يإنْحَرْ عميمَك يا ولد نِعْم مــا اطــريت
وِلْد الدّبيسي صِجّْ ما بو اتّــهامي(21)
يا عَـم لـولا ضيقة الصّدر مـــا جيـت
والـ غيركم ما ظنّ يشفي مرامي
سَليم من حَــرّ الهَجر اَنا عايف البيت
……الحُر خــاب ويرتعون الــرّخامي(22)
ومن الزَّعل روس العوالي أنا اشفيت
…..وانْحَرّ كبـدي واوجس الـدم عامي(23)

بين ماء المَعِيّ وبين ماء القَصر الجمهوري!!

في أيام الثّورة على الاحتلال الفرنسي عامي 1925 ـ 1927 وأثناء تنقّلات الثوار في مواقع القتال من مكان لآخر كانوا يضطرون للشّرب من مياه الجَمع في البرك والغدران ذات المياه الآسنة، ومنها ماء غدير «المَعيّ» الواقع شرق قرية «اسعنا» التي تقع على الحافة الشرقية للجبل وعلى مسافة نحو عشرة كيلو مترات منها في داخل بادية «الصفاة» الشديدة الوعورة. وحدث مرّة أنَّ الثوار قد مرّوا بذلك الغدير أواخر الربيع وكان ماؤه الآسن مُغَطّى بالجراد المَيْت وكانوا في عطش شديد فامتنعوا عن الشرب، فما كان من سلطان باشا إلّا أن تقدَّمهم وشرب من ذلك الماء، فتبعه في ذلك الثوار وَشربوا على مضض…!

وبُعيد الاستقلال عندما تشكلت أوّل حكومة وطنية عام 1946 في عهد الرئيس شكري القُوَّتْلي ذهب وفد من زعماء الجبل برئاسة سلطان باشا الأطرش إلى دمشق لتقديم التهاني. عند اللقاء في مكتب الرئاسة قدَّموا لهم شراباً من عصير الليمون المُشعشَع بالثلج فما كان من علي الملحم إلّا أنْ رفع كأسه بين الحاضرين وقال: «وين ماء المعيّ من ها المَيّ» فقال القوَّتلي:
ــ إي والله!..، عندها قال سلطان باشا:
ــ لو لم تشربوا من ذاك الماء، لما شربتم من هذا الماء.

علي الملحم يزور رئيس الجمهوريّة ويثير غَيْرَة وجهاء دمشق

الرئيس شكري القوّتلي

في مناسبة اقتضت زيارة تهنئة للرئيس شكري القوّتلي استدعى المجاهد علي الملحم رفاقه في الجهاد من بلدة ملح، واستأجروا حافلة وصلت بهم إلى القصر الجمهوري في دمشق، وعلى مدخل القصر استوقفهم الحرس فقال علي لرئيسهم: أبلغ الرئيس أن علي الملحم ووفداً من مجاهدي ملح يقصدون زيارتكم، وأَبلِغه أن هؤلاء الذين جاؤوا من أقصى الجبل يستحقون أن ينزل الرئيس كم درجة ليلاقيهم…
استكبر رئيس الحرس التوصية الثانية وقال لعلي:
هذه لا أستطيع أن أبلغه إياها.
قال علي: أبلغه إياها، وقل له أنّها من علي الملحم.
وبالفعل أوصل رئيس الحرس التوصية للقوّتلي الذي لاقى الوفد خارج قاعة الاستقبال مرحّباً بهم، وهنا استغرب العديد من وجهاء دمشق الذين كانوا في القاعة تصرف الرئيس الذي لم يستقبلهم بالحفاوة التي استقبل بها وفد ملح، وتجرّأَ أحدهم وصارح الرئيس بذلك أمام الحضور ابتسم القوّتلي والتفت إلى صديقه صديقه علي الملحم وقال له:
«أبو نايف هؤلاء وجهاء دمشق، حدّثهم عندما كنّا نجوع في الصحراء وهم يأكلون البامي في الشام ويولمون الولائم للضباط الفرنسيين، قل لهم قصيدة «البامي» عندما زرناكم وأخذنا لكم علب الراحة بالفستق شو قلت لنا وقتها. فوقف علي وحدثهم بمعاناة الثوار في المنفى وأنشدهم قصيدته التي سبق أن أسمعها للقوّتلي في الصحراء… وفيها يقول:
شو هـــا العيشي الرّدِيِّي
صبـح وظـــهـر وعشـــــيِّي
الصـبحـيـي عَ الكثايـات
…….ومن غير عشا عـــم نْبــات
لا السّمنات ولا الدُّهنات
…….بالنّـبــــك تـــلاقـي أوْقـــيي
أنْجَـــقْ بـــلاقي الدّامي
وشــــوف السمن بمنـــامي
واللي عَ بيــــاكل بامي
شــــو همّــو مـــن القضيّي
تركتونا بـــها الحالــي
ومــــا حـــدا فيـــنا مْبــالي
وفـقــدتونـــا بالتــــالـــي
بعلبـــة راحـــة مـحشــيِّي

عندها استحيا الوجيه الدمشقي المحتج وقال: إي أخي، لا تؤاخذونا، معكم حق.

علي الملحم يرفض الرَّشاوى والفساد، فيزدري الوظيفة الحكوميَّة

في عام 1940 عُين علي الملحم مديراً لناحية ملح
– وفي عام 1941 جاءه ليوتنان فرنسي وطلب منه الموافقة على بيعه كميّة من القمح لتصديرها إلى فرنسا فاستمهله ليستشير وجهاء الناحية الذين امتنعوا عن ذلك، وكان علي بوطنيته يدرك ما سيكون عليه موقف الوجهاء، وبهذا تمّ رفض تقديم الكمية المطلوبة للفرنسيين. استاء الليوتنان وقال «إنِّي أسمع صراخ الأطفال الجوعى في باريس يستغيثون طالبين الخبز…

فأجابه علي من فوره: إنِّي أسمع صراخ أطفالنا الجوعى هنا، جوار بيتي، فخرج الليوتنان غاضباً واتّجه إلى سيارته يتبعه مرافقوه وقد نسي حقيبة نقوده؛ فما كان من علي إلّا أن أمر ابنه واسمه «عبدو» قائلاً له: يا إبني يا عبدو، خذ ها الممحوقة ـ وأشار الى الحقيبة المتروكة محل جلوس الليوتنان ـ وناوله إياها. وبقي في مضافته ولم ينهض لوداع الليوتنان وفريقه من العسكر الفرنسي…
– في عام 1947 قبيل انتفاضة الحركة الشعبية في جبل الدروز؛ كما كان يُدعى آنذاك؛ جاءه أحد قادة تلك الحركة التي قامت ضد الأطارشة (وكان لها بعض المبررات الواقعية)، لكن تحريض حكومة دمشق حرفها عن أهدافها الاجتماعية؛ ممّا حوّلها إلى سفك الدماء، وإلى حالة من حرب أهلية لا مبرر لها داخل مجتمع الجيل.

– رفض علي الملحم مبلغ خمسمئة ليرة سورية كرشوة له مُرسلة من جميل مردم ــــ وزير الداخلية؟ــــ من دمشق آنذاك كثمن لانضمامه إلى تلك الحركة، فكان عقابه قطع راتبه لمدة خمسة أشهر، ممّا أثار غضبه ودفع به إلى ترك الوظيفة.عِفَّةً منه.
وعندما تحرك الشعبيون للهجوم على القريا وقف علي وأهالي بلدة ملح ضدهم، وكان قد رفض تسَلُّم رشوة مالية من أحد كبار الشعبيين في الجبل للانضمام إليهم، وقيما بعد فقد ابنه هلال الذي قضى نحبه في وقعة بكّا الدامية تلك الوقعة الفاصلة التي هُزم فيها الشعبيون وبذلك خابت آمال حكومة دمشق التي كانت تهدف لإذلال سلطان باشا كقائد عام للثورة السورية الكبرى عام، 1925 تلك الثورة التي أسست لتحرير سورية من الاحتلال الفرنسي، وعندما وصلت جنازة ابنه هلال وجنازة الشاب حمّود الحلح بعد الوقعة أكبّ علي على إحدى الجنازتين متأثراً لفقد ولده الشاب، قالت له إحدى الباكيات «هذه ليست جنازة ابنك ياعم» فقال لها مستدركاً: «كلهم أولادي»….

جميل مردم وزير الداخلية

– أمّا عندما أقدم الدكتاتور أديب الشيشكلي على إرسال الجيش السوري إلى الجبل في هجمة عسكرية ظالمة؛ وضع فيها الجيش ضد شعبه الذي طالبه بالديموقراطية، لكن الشيشكلي كان يهدف إلى الحفاظ على كرسي الحكم؛ وهنا وقف علي الملحم وِقفةً شجاعة وقاوم تلك الخطوة غير العاقلة التي أدت إلى سقوط نظام حكم الشيشكلي نفسه في النهاية.
توفي المجاهد علي الملحم في كانون الثاني 1974 في طقس مُثلج عاصف قُطِعت فيه الطُّرقات وكان له مأتم متواضع حضره أهالي بلدته ملح فقط، وصادف في تلك الفترة إلغاء الأسبوعات المُكْلِفَة تطبيقًا لمنشور سلطان باشا ومشايخ العقل، حيث كان يجتمع المعزّون ثانية بعد أسبوع من حصول الوفاة (وفيها كانت تُنحَر الذبائح وتُقام الولائم ويضطر ذوو المتوفّى إلى الاستدانة أحيانا في الإنفاق على المناسبة..)

وبعد أشهر توفّي المجاهد يوسف العيسمي رفيق علي الملحم في جهاده، حضر سلطان مأتمه في بلدة امتان وانتقل ليعزّي آل الملحم في ملح، خاطب سلطان باشا الشيخ أبو حمد محسن الملحم معاتباً «لمَ لم تقيموا مأتما يليق بالفقيد؟» قال الشيخ:
«يوم الوفاة كانت الطرق مقطوعة، وبعدها التزمنا بتحريم الدعوة إلى الأسبوع».
عندها قال سلطان شهادة صريحة في الفقيد «إنَّ علي الملحم لم يكن من رجال الثورة فحسب، بل من المخططين لها»…
رحم الله المجاهد علي الملحم فقد كان واحداً من قادة المجاهدين في الثورة السورية الكبرى، أولئك الرجال الأفذاذ الذين حرروا البلاد من المحتل دون أن يطمعوا بكسب منصب ولا بتحصيل ثروة…وفي ذلك الجهاد الحقُّ..


المراجع:

1ـ جابر، محمّد،أركان الثورة السورية الكبرى، مكتبة نهى، ص 263.
2ـ مقابلة مع فيصل الملحم، (نجله) في 13 /9 /2019.
3ـ البعيني، حسن أمين، سلطان باشا الأطرش، مسيرة قائد..، ص 46.
4ـ جابر، محمّد، م. س، ص 264.
5ـ ذكريات المجاهد علي عبيد، مخطوطة، ص 8.
6ـ أبو راشد، حنَّا، جبل الدروز: حوران الدامية، ط2، 1961، ص 239.
7ـ مذكرات سلطان باشا الأطرش، ص 94.
8ـ أحداث الثورة السورية الكبرى كما رواها قائدها العام..، ص 100
9ـ مقابلة مع العقيد سلامة الملحم، شريط مسجل بصوت سلطان باشا الأطرش.
10ـ أحداث الثورة..، م س، ص 130.
11ـ أحداث الثورة..، م س، ص 101.
12ـ سلامة عبيد 379
13ـ جابر، محمّد، م س، ص 268.
14ـ بعيني مسيرة قائد، ص 325.
15ـ ذكريات المجاهد علي عبيد، مخطوطة، ص 30.
16ـ مذكرات المجاهد صياح الأطرش، ص 111.
17ـ أحداث الثورة السورية الكبرى…، م س، ص 333.
18ـ الخواوير: نوع من الإبل السريعة المنتقاة لقطع مفازات الصحراء وتسمّى بـ “الذّلول الحرّ”
19ـ الكور: الرحل يوضع على ظهر الجمل بمثابة السرج للجواد. الميركي: قطعة من وبر الإبل أو الصوف من أدوات الرحل، هَدو: إهداء، ابن لام: كناية عن قبيلة بني لام وهم قوم من العرب في جنوب العراق.
20ـ خُرج العقيلي: العقيلات: قبيلة عربية موطنها الأصل في الموصل واشتُهِر رجالها بالسفر والاتجار وصنع الأخراج، والخرج: قماش منسوج من الصوف أو وبر الإبل يوضع على ظهر الراحلة ويُسْدَل من عن يمين وعن شمال له فتحة من كل جانب على شكل محفظة مفتوحة يضع فيها المسافر حاجياته من طعام وغيره.
21ـ الرّكاب: قطتان من المعدن من عن يمين وشمال الراحلة معلقتان بالشداد يضع الراكب قدمه فيها عندما يهم باعتلاء ظهر راحلته. خزّيت: اخترت.
22ـ انْحَر عميمك: اذهب إلى عمك ويقصد به صديقه الشاعر المجاهد سليم الدبيسي من بلدة عرمان. صجّ: كلمة بدويّة بمعنى صدق.
23ـ مَرامي: مُرادي وغايتي.
24ـ الرّخامي: طيور الرخم، وهي طيور ركيكة تستدفها الصقور.
25ـ العوالي: التلال. انْحَرّ كَبدي: تملّكني الغيظ. أوجس الدم عامي: اغتلى دمي غيظاً وغضباً ممّا يجري من أحداث…

 

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي