الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

بقعاتا

من ربع ليرة الى 800 دولار للمتر المربع من الأرض

بقعاتا.الجدَيْدِة

مركــــــز الشــــوف التجــــاري والسكنــــي.
سلــة مشاكــل ومدينــة مكتومــة القيــد

بقعاتا الشوف أو بقعاتا الجدَيْدِة في تعريفها الرسمي نموذج فريد على الطريقة التي بدلت فيها حضارة الاستهلاك وجه الجبل وبالتحديد منطقة الشوف، لم تولد بقعاتا نتيجة قرار أو مشروع أو مخطط عمراني محدّد، ولم تنشَأْ حول صناعات معينة أو جامعات أو حرف إنتاجية أو قطاعات خدمات استوجبت خلق مدينة بالحجم الذي باتت عليه؛ بل أن المدينة التي بات يسكنها الآن نحو 20,000 نسمة نشأت وتطورت مثل استنساخ صيغة الدكّان كبيراً كان أم صغيراً وفكرة السوق أو البازار، وذلك قبل أن يتم استكمالها مثل أي تكوين حضري بالمؤسسات الخدماتية المختلفة من مؤسسات صحية أو تعليمية أو صناعية.
نمت بقعاتا بالدرجة الأولى في موازاة التحوّلات الكبرى التي شهدها المجتمع اللبناني ومجتمع الجبل بصورة خاصة خلال العقود الخمسة الماضية، وهي تحوّلات انعكست في مناطق عديدة من لبنان بنمو مدن تجارية لم تكن في السابق ربما موجودة أو كانت مجرد مواقع منسية على طرق المواصلات، لكن حاجة الناس إلى أسواق قريبة بعثتها من رقادها وحوّلتها إلى حواضر كبيرة مزدحمة بالسكان وحركة الأعمال. وقد ساهمت تطورات، مثل اتساع قطاع الوظائف الحكومية والخاصة وحركة التعليم وموجات الهجرة إلى الخليج وأفريقيا وغيرها من المغتربات، في نمو تلك الحواضر في أكثر من منطقة في لبنان غالباً على حساب القرى المجاورة وسكانها.
وجاء قيام أسواق تجارية في المناطق أيضاً نتيجة التنميط المتزايد لقطاع الاستهلاك والتوجّه التدريجي لنوع من «اللامركزية التجارية» في الكثير من السلع الأساسية غير المتخصصة، والتي بات المستهلكون يفضلون الحصول عليها من أسواق قريبة بدلاً من تحمّل عناء وتكلفة الحصول عليها من بيروت أو غيرها من المدن الساحلية.
لا يختلف النمو الانفجاري لمدينة بقعاتا عن ظاهرة نمو الضواحي الجديدة في لبنان في أكثر من منطقة، وذلك باعتباره تلبية لحاجات طرأت واستجدت، ووجد مع الوقت من التجار وأصحاب الأعمال من هبّ لمحاولة تلبيتها وبناء تجارة عليها. لكن كما في العديد من الضواحي المماثلة، فإن النمو العفوي للمدينة الجديدة غالباً ما يتم من دون مراعاة لمخططات حضرية وغالباً ما يترافق بمشكلات عديدة تخطيطية وبلدية واقتصادية واجتماعية بحيث سرعان ما يظهر الوجه الآخر للتطور السريع قسطاً أكبر من المشاكل والمعاناة للسكان.
ما هي قصة بقعاتا؟ كيف تطورت -في نحو خمسين عاماً- من حقول زرع وبرية إلى إحدى أكبر مدن جبل لبنان؟

هنا محاولة للتعريف بالظاهرة وتفهمها وتقديمها في ضوء جديد لقرّاء «الضحى».

لم يكن الشيخ أبو زياد يوسف محاسن يتصور أن تلك البقعة الهادئة التي انتقل للسكن فيها سنة 1961 عندما كانت «برّية» ليس فيها سوى بعض المنازل، ستتحول الى أكبر مركز تجاري وسكني في منطقة الشوف، وأن تزدحم لدرجة أن يصعّب العيش فيها. الشيخ أبو زياد الذي كان من أوائل الناس الذين سكنوا في بقعاتا، ومن الذين سجّلوا نفوسهم فيها، يشرح كيف بدأت بقعاتا سنة 1958، حيث أنشأت الدولة في ما يُعرف حالياً بالسوق، غرفاً للمهندسين ومستودعاً للترابة والحديد يوزع على القرى الشوفية التي تدمرت منازلها إثر زلزال سنة 1956. وفي السنة نفسها فتحت المياه لبقعاتا من الأقنية التي كانت تمر عبرها الى المزرعة، وأوصلوا إليها الكهرباء، مما فتح عيون الناس على البناء فيها. الأراضي في ذلك الحين كانت ملكاً لأبناء بلدة الجديدة، وأخذ الناس يشترون منهم. وابتدأ متر الأرض بربع ليرة، وكان الشيخ أبو حسيب علي منصور حيدر يبيع الأراضي «شلفة» ويقسّط المبلغ 10 ليرات و25 ليرة، وهكذا تملّك الناس في بقعاتا.
ويروي الشيخ أبو زياد أن الشيخ أبو حسن نعيم الفطايري كان أول القادمين الى بقعاتا سنة 1959 حيث أخذ مستودع الحديد والترابة الذي افتتحته الدولة، وكان هو من أوائل الذين سكنوا في بقعاتا صيفاً شتاء. كان الشيخ أبو حسن يملك محلاً تجارياً ويبيع بأسعار زهيدة جداً، وكانت بقعاتا الطريق المؤدية الى كل المنطقة وكل الناس يمرون فيها، فأصبح الناس يترددون الى محله الذي شهد اقبالاً كثيفاً، وأصبحت بقعاتا تتوسع رويداً رويداً الى أن حصلت أحداث 1975، وشكّلت مقصداً لأهالي المتن وعاليه الذين وجدوا فيها منطقة أكثر أمناً من مناطقهم.
موقع بقعاتا الاستراتيجي، كان ولا يزال يميّزها عن باقي القرى، فهي تشكّل محور الشوف ونقطة وسط، وكانت معظم البواسط التي تتنقل بين بيروت والقرى الشوفية تمرّ فيها، وكان الناس ينتظرون تلك البواسط على الطريق العام التي كانت الوحيدة المشقوقة، فيما كانت باقي الطرقات طرقات رِجل. ولكن الفارق عن الماضي أنه لم يكن كل شيء متوفراً في بقعاتا كما هي الحال اليوم، وكانت دير القمر هي المقصد المفضّل لشراء الحوائج من جهاز العروس والأثاث وغيرها، بينما كانت بعقلين تلعب دوراً أقل أهمية كسوق لعدد من القرى القريبة والمجاورة.
سكانيا،ً بدأت بقعاتا بعدد من العائلات كان صغيراً، ومن الذين بنوا منازل في نطاقها وسجلوا نفوسهم فيها عائلات الفطايري وحيدر ومحاسن وحرب ونصرالله والغضبان وفياض وسليم وخضير وغيث والغصيني.

مدينة مكتومة القيد
شهدت بقعاتا في نحو خمسة عقود نمواً غير مسبوق جعل منها إحدى أسرع المدن نمواً في لبنان. وقد أدى نمو المدينة إلى «استهلاك» معظم مساحة الجديدة، مثلاً إذ باتت مساحة بقعاتا نحو مليوني متر مربع من أصل مليونين وثمانمائة وخمسين ألف متر مربع هي المساحة الإجمالية لبلدة جديدة الشوف. ويعيش في بقعاتا نحو 20 ألف نسمة وهو ما يوازي عشرين ضعف أبناء بلدة الجديدة. لكن على الرغم من تطورها الهائل كمدينة تجارية لها كيانها وخصوصياتها وحاجاتها، فإن بقعاتا ما زالت تعدّ من الناحية القانونية حياً من أحياء الجديدة.
يستمر ذلك رغم صدور قانون في 31 أيار سنة 1966 قضى بفصلها عن الجديدة، إلا أنه صدر بعد ذلك قانون آخر في 13 أيار 1993 قضى بإلغاء القانون السابق وباعتبار بقعاتا حياً من أحياء الجديدة لعدم توافر الشروط اللازمة فيها لإنشاء بلدية واعتبارها بالتالي بلدة مستقلة. لكن الحقيقة خلف هذا الجدل القانوني هي أن بقعاتا ما زالت ضحية خلافات متأصلة بين العائلات الرئيسية لبلدة الجديدة، وقد أبقتها تلك الخلافات مكتومة القيد الرسمي، ولم يشفع لها النمو الهائل في عدد سكانها الذين أتوا إليها «من كل فج عميق» ولا العدد المتزايد من المؤسسات والأعمال التي تعمل في إطارها، ومعظم السكان والعاملين والتجّار فيها يشعرون بنوع من اليتم البلدي لأنهم على ضخامة التحديات والمشاكل يشعرون بالإهمال وبتجاهل مصالحهم كمواطنين، كل ذلك بسبب غياب المرجعية الواضحة وقدرة السكان على التأثير في الطريقة التي تساس بها الأمور الحيوية للبلدة.

من-دكاكين-صغيرة-قبل-نصف-قرن-إلى-أكبر-مدن-الشوف
من-دكاكين-صغيرة-قبل-نصف-قرن-إلى-أكبر-مدن-الشوف

 

فورة عقارية

نتيجة للتهافت على العقارات ذات الاستخدام التجاري شهدت أسعار العقارات قفزات متتالية وصلت بسعر الأرض إلى نحو 800 دولار للمتر المربع في العقارات المحاذية للطرق العامة الرئيسية، علماً أنه في المجمل لا يقل السعر عن 160 دولاراً للمتر المربع.
وبالنسبة للشقق والتي تبدأ مساحتها عادة من 150 متراً مربعاً، فأسعارها تتراوح ما بين 100 و150 ألف دولار.
أما في ما يخص الايجارات فيتراوح ايجار الشقق السكنية ما بين 250 و400 دولار والمكاتب ما بين 250 و350 دولاراً، أما المحال التجارية فيرتفع ايجارها في بعض المواقع الحساسة الى ما بين 600 و900 دولار لـ “الباب” الواحد.

نزاعات عائلية
يلقي رئيس بلدية الجديدة السيد بهيج الفطايري ضوءاً إضافياً على خلفيات النزاع البلدي حول بقعاتا فيقول إنه عندما استحدثت البلديات في الشوف وأصبحت هناك بلدية في الجديدة، حدث اشكال أثناء الانتخابات البلدية جعل كل أعضاء البلدية يأتون من آل الفطايري، وهو ما أثار حفيظة العائلات الأخرى في الجديدة فتقدم بعض الأشخاص من آل نصر الله وهم (حسين نصرالله، سعيد نصرالله، ونبيه نصرالله) بطلب فصل بقعاتا عن الجديدة وكانوا هم من أوائل السكان الذين تسجلوا في بقعاتا، إضافة الى علي منصور حيدر وأبو حسن نعيم الفطايري. وبالنظر إلى الشعبية التي كانت لبعض تلك الشخصيات وما كانت تتمتع به من نفوذ سياسي فقد صدر قانون يقضي بفصل بقعاتا عن الجديدة واضافتها الى عداد قرى الشوف، لكن القانون اشترط أن تتوافر في البلدة شروط حد أدنى مثل أن يكون فيها خراج و300 شخص مسجلين في نفوسها في القيود الرسمية، وقد فُتح لبلدة بقعاتا بالفعل سجل خاص بها في دائرة الأحوال الشخصية. لكن القانون بقيّ معلقاً من سنة 1964 حتى 1992، حيث قُدّم طلب بإلغاء قانون الفصل لعدم تحقق الشروط إذ أن الذين سجلوا نفوسهم في البلدة لم يتجاوز عددهم الـ 180 نسمة. وعليه فشلت بقعاتا في تعبئة المزيد من السكان المسجلين، وأخفقت بالتالي في الفوز بفرصة الاستقلال وتأكيد حضورها الرسمي كقرية إلى جانب بقية القرى اللبنانية. وتسير هذه الظاهرة إلى مفارقة غريبة مفادها أن الغالبية من سكان بقعاتا ما زالوا متعلقين بالقرى التي جاؤوا منها ولا يعتبرونها نفسياً بلدتهم، وهم على استعداد للعيش فيها لكنهم لن يتخلوا عن انتمائهم للقرية التي جاؤوا منها، أي أن الانتماء إلى بقعاتا ما زال في نظر الغالبية الساحقة انتماءً «مدنياً» لا سياسياً مثل الانتماء إلى مدينة بيروت التي يسكنها الآلاف من أبناء الجبل، لكن قلما يفكّر أحدهم بنقل نفوسه إليها، وبالتالي شطب إسمه وإسم أسرته من سجلات القرية وعائلاتها.

مشكلة انتماء .. وخدمات
وبالطبع، فإن العديد من السكان الذين نقلوا نفوسهم إلى بقعاتا يعتبرون استمرار إلحاقها بالجديدة وضعاً غير طبيعي، إذ كيف يتم إلحاق مدينة يقارب عدد سكانها الـ 20 ألفاً بقرية صغيرة لا يزيد عدد سكانها على ألف نسمة؟ وهل يمكن في هذه الحال لبلدة بقعاتا أن تجد الاهتمام الكافي من مجلس بلدي يعلم جيداً أن سكانها لا يشاركون في الانتخابات البلدية ولا يمكنهم بالتالي أن يحاسبوا المجلس البلدي على أي تقصير مفترض في خدمتهم. وبغض النظر عن مستوى الخدمات التي يقدمها لبقعاتا، لا يؤثر سكانها على حجمهم في نتائج الانتخابات البلدية.
رئيس بلدية الجديدة بهيج الفطايري يختلف مع هذا الرأي ويجيب بلهجة حازمة عندما تسأله عن بقعاتا: «ما في شي إسمو بقعاتا» فهي مجرد «حي من أحياء جديدة الشوف، ويمكنك أن تقول أكبر حي من أحيائها». ويستعجل نفي الظن الشائع بأن بلدية الجديدة تحصّل مداخيل كبيرة من بقعاتا دون أن يقابل ذلك تقديم خدمات كافية. يقول: «بقعاتا لا تجلب أية مداخيل لأنها ليست في عداد القرى، ولكن مع وصول المساحة الى بقعاتا أصبحت البلدية تحصّل بعض الرسوم». لكن أحد المستثمرين النشطين في بقعاتا يؤكد أن بلدية الجديدة تحصل على مداخيل كبيرة من رخص البناء والاستثمارات، لافتاً الى أن «كل ما يتعلق ببقعاتا تُدفع عنه رسوم، ورسومها أعلى من غيرها». وينتقد البلدية التي «لا تقوم بدورها البلدي اذ لا تقوم بأية تحسينات على الطرقات التي يمكن وصفها بالسيئة، هذا عدا مشكلة المجاري والصرف الصحي التي تتفاقم أكثر فأكثر مع ازدياد العمران»، ويقول «لو كانت البلدية حاضرة بقوة لكانت فرضت معالجة مشكلة الجور الصحية بالقوة أو أمنت بديلاً». على ذلك يردّ رئيس البلدية بالقول إن هذه المسائل بسيطة، ويربط حلّها بسكان بقعاتا ومدى تجاوبهم مع توصيل شبكات صرفهم الصحي بالشبكة الرئيسية التي أصبحت جاهزة، لافتاً الى أن هذه المسألة أصبحت منتهية تقريباً: «خلقنا أمراً واقعاً، أوصلنا شبكات الصرف الصحي، ومحطات التكرير في الجديدة أصبحت جاهزة». ويشير الى أن الزفت للطرقات جاهز، ولكن وزارة الاشغال العامة والنقل لن تقبل بتعبيد الطرقات الا بعد انتهاء توصيل شبكة الصرف الصحي.

مركز-البلدية
مركز-البلدية

نقطة وسط لأبناء القرى البعيدة

شهدت بقعاتا وتشهد حركة نزوح كثيفة من القرى الشوفية ومن أقضية حاصبيا وراشيا والمتن وعاليه، اذ باتت تشكّل نقطة مركزية خدماتية تسهّل حياتهم. وفي هذا الصدد، تشرح نادين زيدان، مهندسة معمارية تخرجت من الجامعة اللبنانية في دير القمر، الأسباب التي دفعت والدها الى شراء شقة في بقعاتا والانتقال للعيش فيها منذ أربع سنوات. تقول زيدان: «إن باص الجامعة لم يكن يصل الى بلدتها مرستي اذ أن آخر محطة له كانت نيحا، وكان عليها ملاقاته يومياً الى نيحا، فبدأت عملية البحث عن مكان أقرب الى الجامعة». وتتابع: «غرّتنا المدينة، وصارت بقعاتا اقامتنا الدائمة، وحتى عندما نزور قريتنا صيفاً نشعر أننا نريد العودة الى بقعاتا فهي قريبة من كل شيء وتوفّر الكثير الذي نحتاجه». تقول مازحة: «أتعلّم الموسيقى حالياً في مركز في بقعاتا، وقد كان ذلك غير ممكن طبعاً في مرستي». وتلفت زيدان الى أن الكثير من أبناء قريتها نزحوا الى بقعاتا وهم مع بداية شهر أيلول من كل سنة يبدأون بتوضيب أغراضهم للانتقال إليها..وهناك آخرون اختاروا الانتقال الى بقعاتا منهم صاحب البناية التي يسكنون فيها وهو من آل كوكاش من العزونية.
ريبال أبو سعيد انتقل أيضاً للعيش في بقعاتا بحثاً عن المكان الأقرب الى جامعته، فابن العشرين ربيعاً ترك بلدته شويت وقصد بقعاتا لأن كل شيء فيها متوفر مما يسهّل حياته كطالب جامعي، على عكس بلدته. أبو سعيد طالب هندسة مدنية في جامعة CNAM في بعقلين، واختارها لأنها أرخص من الجامعات في بيروت، وهو يعيش في شقة مع ثلاثة شبان من بعلشميه وقبيع وكفرقوق قصدوا بقعاتا للأسباب نفسها.

يفيد الفطايري أن البلدية بدأت العمل فعلياً سنة 1998، معتبراً أن المشكلة الجوهرية في بقعاتا هي أن فيها الكثير من البناء العشوائي والمخالفات، وهناك مخالفات بناء على المجاري. وعند سؤاله عن صلاحيات البلدية في قمع هذه المخالفات يجيب: «المشاكل التي على مستوى الدولة لسنا قادرين عليها، لدينا شرطيان بلديان فقط وليس بإمكانهما ملاحقة كل الأمور»، مع أن الشرطي البلدي مثل رجل الأمن وله صلاحية. ويضيف القول: «حدودنا الملكيات الخاصة، والناس لا تتجاوب مع البلدية ولا يدفعون الضرائب برضاهم، فلا أحد تعني له البلدة أو يشعر بالانتماء اليها، وفي المطلق سكان بقعاتا لا يتفاعلون».

«مزراب ذهب» أم أوهام
أحد أسباب النجاح الكبير لبلدة بقعاتا هو الشهرة التي اكتسبتها في السنين الأخيرة باعتبارها منطقة استثمار واعدة وأنها أشبه بـ «مزراب ذهب» لكل من يملك فيها عقاراً أو تجارة. وساعدت هذه الصورة بالطبع على زيادة الطلب على عقارات بقعاتا والسمقانية خصوصاً المحاذية للطرق الرئيسية،كما أن استمرار النزوح الكبير إلى بقعاتا من مختلف مناطق الجبل وبعض المناطق الأخرى ساعد في استمرار الطلب على العقار على وتائر مرتفعة، وأدى بالتالي إلى ارتفاعات متتالية في الأسعار.
لكن الصورة الحقيقية قد تكون مغايرة لما هو شائع، إذ أن القطاع التجاري في بقعاتا بدأ يشهد حالة من التشبّع أو الفائض في عرض المحلات، كما أن التكاثر الهائل للمحلات أدى إلى تخمة في الكثير من القطاعات وإلى منافسة، وظهر ذلك في النسبة المتزايدة للمحلات التي تفتح وتدفع مبالغ طائلة على الديكور قبل أن تقفل أبوابها. عن هذه الظاهرة يقول الفطايري إن الناس تُغّش ببعض الأمور، ولأن بقعاتا مزدهرة تجارياً يلجأون للاستثمار فيها، فالذي يسمع عن بقعاتا من بعيد يعتقد أن الاستثمار فيها سيرفعه الى فوق الريح من دون أن يأخذ قدرتها الاستيعابية في الاعتبار، ويسأل: «هل يعقل أن يكون في سوق بقعاتا 20 فرن مناقيش مثلاً، وقس على ذلك ما يحصل في بقية القطاعات»؟.

مخططات .. من دون تنفيذ
إحدى المشكلات التي تواجهها بقعاتا هي موجات البناء العشوائي التي سعت لاستغلال الطلب الكبير على العقارات المختلفة في البلدة. فما هو الإطار القانوني للاستثمار العقاري في بقعاتا، وكيف يتم تنظيمه في الوقت الحاضر من قبل السلطات المعنية؟
تقول المهندسة ريما أبو فخر (وهي مهندسة منطقة تعمل في التنظيم المدني في بيت الدين) إن بقعاتا مصنّفة منذ سنة 1994، وأنها لم تكن منظّمة قبل هذا التاريخ. وتلفت الى أن البلدة تقع ضمن منطقتين عقاريتين، الجديدة والسمقانية، فحتى ساحة الشهداء وما هو بمحاذاتها، العقارات تابعة لـ الجديدة، ومن ساحة الشهداء باتجاه السمقانية تتبع العقارات لـ «السمقانية».
وتمتد بقعاتا جغرافياً الى ما قبل مستشفى عين وزين بنحو 30 متراً، أما حدودها مع الكحلونية فتنتهي عند المدافن على طريق المزرعة القديمة.
في ما يخص المساحة، تقول أبو فخر إنه يتم العمل على مسح بقعاتا، لافتة الى أن الجزء الموجود في السمقانية ممسوح، ويتم العمل حالياً على مسح الجزء الموجود في الجديدة. كما تغيّر التصنيف في الجديدة بعد صدور التخطيط الجديد وفقاً للقرار 2012/38، والذي شمل بعض التعديلات ومنها مسألة لافتة، وهي فرض انشاء موقف سيارات اضافي للشقة في بعض المواقع المفروض فيها انشاء موقف للسيارات، والتي تقع ضمن التصنيفات A, C & D. وتشير أبو فخر الى أن التصنيف في «عين وزين» و«بتلون» رفع أسعار العقارات في بقعاتا.
لكن ارتفاع الأسعار لا يعني لزاماً الجودة بسبب بعض المقاولين والمطورين العقاريين الذين يستهدفون البناء للبيع وتحصيل الربح السريع ولا يهمهم المشاكل التي قد تظهر في البناء في ما بعد. وفي هذا الصدد، يقول المهندس المعمار هيثم أبو كروم الذي يعمل على مشاريع هندسية عدة في بقعاتا: «هناك نسبة لا يستهان بها لا تلتزم بأدنى الشروط والمواصفات، وذلك في سعيها الى الربح بأي وسيلة واستهتارها بالزبون.
ولا ينتقد أبو كروم القطاع الخاص فحسب، بل يتعداه الى البلدية التي تنفذ بعض المشاريع بطريقة غير مهنية، معتبراً أن المشكلة ليست مادية بل غياب التخطيط. ومن هذه المشاريع على سبيل المثال الأرصفة المائلة التي أنشأتها البلدية لـ «تسهيل وقوف السيارات» منذ بضع سنوات، والتي «لم تكن مدروسة واضطرت البلدية إلى تكسيرها بعد فترة قصيرة».
بين الأمس واليوم
كانوا في الماضي يقولون: «نيال يلي الو مرقد عنزة ببقعاتا»، ولكن هذا الحال تغيّر اليوم، ومن كان يشعر بنعمة العيش فيها بات يتحسر على تحوّل هذه النعمة الى نقمة، ومنهم الشيخ أبو زياد الذي عندما تسأله اذا ما أحس في مرة من المرات لو أنه لا يسكن في بقعاتا، يهز رأسه ويقول: «نعم هذه الفترة، في الماضي كنت أتمنى أن أجلس أمام باب منزلي، كانت بقعاتا هادئة، أما اليوم أصبح السكن صعباً فيها وعلى كل الصعد من الضجيج والازدحام، حتى ضعف العلاقات الاجتماعية وغياب الانسانية وصولاً الى الفساد المستشري». ويقارن بين الماضي والحاضر قائلاً: «في الماضي بيعت أرض في جديدة 12 مرة بالكلام من دون أي حجج، وكان اذا تخلف أحد عن وعد ما يظل 10 أيام لا يمرّ أمامه خجلاً منه، أما اليوم فانقلبت المعادلة وكل شيء تغيّر في هذه المدينة الضخمة».

قصّة عمرها في بقعاتا

عندما تسأل أم نزار حسن عن عمرها تجيبك بضحكة: «ربك أخبر، الأرجح أنني من مواليد 1924 أو 1925». أصل أم نزار وعائلتها من بتلون ولكنهم انتقلوا للعيش في بقعاتا منذ أكثر من ثلاثين عاماً، حيث استأجروا منزلاً قبل أن يبنوا منزلهم الخاص في بقعاتا أيضاً التي سجلوا نفوسهم فيها، والتي تشعر بالانتماء اليها أكثر من بلدتها الأم. وفي هذا الصدد تقول: «بلدك المنيح مطرح ما انت مستريح».
عندما تسألها عن الحياة التي عاشتها في بقعاتا، تخبرك أم نزار بحماس ومحبة أنها انتقلت وعائلتها اليها على أيام ما كان كيلو اللحمة بـ 4 ليرات وكيلو السكر بـ 40 قرشاً، ولم يكن في ذلك الوقت غير محل واحد فيه خضار ولحوم، وكانت هناك محطة بنزين واحدة. وقتها كانت بقعاتا عبارة عن سهول زراعية يعتمد فيها على زراعة القمح وكروم العنب، ولم يكن فيها سوى بضعة منازل.
كان البيت هاجس أم نزار «لم يكن يهمني أن أسكن في الايجار ولكن كان كل همي أن يكون لنا بيت.. البيت الحقيقي». والبيت الحقيقي بالنسبة لأم نزار ليس المنزل الذي تسكنه في حياتها، بل تقصد فيه المدفن الذي اطمأنت الى تأمينه لها ولعائلتها في مدافن بقعاتا. وعندما تسألها عن البناء وشراء الأراضي في الماضي وعن قصة المنزل الذي بنوه، تعدل جلستها، تشرب رشفة من فنجان القهوة، تسرد قليلاً وتقول: «كان زوجي يعمل على المرفأ في بيروت، وأول قطعة أرض اشتريناها كان المتر فيها بليرتين ونصف وبعناه بـ 5 ليرات، ثم اشترينا أرضاً المتر فيها بليرة واحدة وبعناه بـ 30 ليرة، أما هذه الأرض فاشتريناها سنة 1975 بـ 15 ألف ليرة».
وتسترسل أم نزار في الحديث عن ذكرياتها في بقعاتا والأيام التي قضتها فيها، فعن علاقتها بجيرانها تقول: «من زمان كانت الحياة محبة، فمع أن كل منا آتٍ من بلد ولكن كنت أشعر أنهم أكثر من أهل لي. كنّا مرتاحين جداً ونشعر بالسعادة، وعندما انتقلت من جيرتهم بكينا على الفراق، علماً أننا ما زلنا على تواصل. أما اليوم فتغيّرت النفسيات، لم تعد المحبة موجودة كالسابق، وكثر الغلاء والفحش والفساد».

بقعاتا-كما-تبدو-من-الأقمار-الصناعية-وهي-تتوسط-منطقة-الشوف
بقعاتا-كما-تبدو-من-الأقمار-الصناعية-وهي-تتوسط-منطقة-الشوف

آثار رومانية ..مهملة

من الأشياء التي تميّز بقعاتا أيضاً، وقلة يعرفون عنها، احتضانها آثاراً رومانية عبارة عن نواويس وبركة مياه، وهي موجودة في بقعة يطلق عليها اسم المصنع، وتقع على الطريق الى عين وزين. ويفيد رئيس البلدية أن هناك عدداً من النواويس المكتشفة في أكثر من موقع، ولكن هذه الآثار مهملة ولم يسجّل أي تحرك رسمي في اتجاه حمايتها.

نواويس-عدة-متجاورة-تشير-ربما-إلى-أن-المكان-استخدم-مدفنا-وأن-بقعاتا-كانت-موقعا-معمورا-في-الماضي
نواويس-عدة-متجاورة-تشير-ربما-إلى-أن-المكان-استخدم-مدفنا-وأن-بقعاتا-كانت-موقعا-معمورا-في-الماضي

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading