الخميس, نيسان 25, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, نيسان 25, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

هنانو

بعد محنة قاسية عاش فيها شريداً ومطارداً

إبراهيم هنانو
في جبل العرب

عرض سلطان باشا على الزعيم المطارد البقاء في الجبل لكنه آثر السفر إلى الأردن وفلسطين لمقابلة الأمير عبد الله

أظهر هنانو صلابة في متابعة النضال ضد الفرنسيين لكنه اصطدم بالواقع الدولي الذي فرض على المنطقة

رشيد طليع والي حلب في سوريا الاستقلال وإبراهيم هنانو يقودان مقاومة الشمال السوري لطلائع الاحتلال الفرنسي الذي استهدف إسقاط عهد فيصل الأول

أحد الفصول المطوية في تاريخ النضال الوطني السوري هو ذاك الذي سطّره مناضل عنيد وصلب هو الزعيم السوري الكردي الأصل إبراهيم هنانو، وهو فصل حافل بأعمال المقاومة العسكرية للقوات الفرنسية التي كانت قد دخلت سوريا على أنقاض العهد الفيصلي الذي لم يترك له أن يعمّر طويلاً. فعلى الرغم من كل ذلك، إختار هنانو معاكسة التيار والثبات في ميدان معركة غير متكافئة على الرغم من علمه بصعوبة الموقف وإحساسه المتزايد بأن المصالح الدولية التي نشأت على أنقاض الخلافة العثمانية لم تعد في صالح الاستقلال السوري. ومن أبرز التطورات التي ساعدت في إجهاض المقاومة الوطنية السورية كان التوافق التركي -الفرنسي الذي تمّ بعد ضم لواء الإسكندرون إلى تركيا وانقلاب كمال أتاتورك على الحركة الوطنية السورية نتيجة لذلك. أما في الأردن، فقد تبيّن لأولاد الشريف حسين فيصل الأول وعبد الله أن المنطقة قد قسمت فعلاً بموجب اتفاق دولي يفوق طاقة الحركة العربية الناشئة، وقد ارتأى الزعيمان على سبيل الواقعية السياسية التكيّف مع الوضع الجديد ونالا نتيجة لذلك عرشي العراق ومملكة شرق الأردن. وقد صدم هنانو بالطبع لتبدل المواقف ولعدم حماس الأمير عبد الله بن الحسين، وهو السياسي المحنك، مدّ ثواره بالمساعدات، وقد كان الأمير الهاشمي ملماً جيداً بالمتغيّرات التي نجمت عن انهيار الدولة العثمانية وسيطرة الدول الأوروبية على معظم ممتلكات الخلافة وتقاسمها في ما بينها.
وما زاد في الصدمة السياسية لإبراهيم هنانو، المحنة الشخصية التي عاشها بعد انهيار مقاومة الفرنسيين في الشمال السوري وتشتيت الثوار ونكوص العديد منهم أمام ضغط الفرنسيين وقوتهم الساحقة، وقد ضاق الخناق على الزعيم هنانو نفسه عندما وجد نفسه مطارداً ولم يعد له من خيار سوى السعي إلى مغادرة سوريا باتجاه الأردن. في هذا المقال نعرض للظروف القاسية والمخاطر الكبيرة التي عاشها الزعيم إبراهيم هنانو في طريقه من منطقة حلب إلى المنفى الأردني، وقد ذاق المناضل الصلب الأهوال في تلك المسيرة التي قادته أولاً إلى جبل العرب، حيث أمكنه أن يلتقط أنفاسه ويطمئن إلى سلامته في حياض العشيرة المعروفية وقائدها سلطان باشا والعديد من أبطالها الذين أكرموا وفادته، وبذلوا كل ما في وسعهم لحمايته ثم لتأمين وصوله إلى شرق الأردن.
فكيف بلغ إبراهيم هنانو نقطة التسليم بحتمية مغادرة سوريا، وكيف جاز البوادي وعايش الأخطار في سبيل بلوغ منفاه، وما هي تفاصيل إقامته في جبل العرب ومقابلته مع سلطان باشا؟

وُلِدَ إبراهيم هنانو سنة 1869، في قرية كان يسكنها خليط من العرب السنّة والدروز، ومن الأكراد السنّة…، تلك هي قرية كفر تخاريم، من قرى ديار حلب آنذاك ــ تتبع محافظة إدلب حالياً ــ وهو يتحدّر من أصل كردي، ويتبع لعشيرة البرازيّة. كان جد الأسرة قد قَدِمَ من ديار ماردين التي تقع ضمن الأراضي التركية حالياً، واستوطن كفر تخاريم التابعة لقضاء حارم، غربي مدينة حلب، منذ نحو ثلاثة قرون.
أنهى التلميذ إبراهيم مرحلة الدراسة الابتدائية في بلدة حارم، وفي مدينة حلب نال الشهادة الثانوية، ثم سافر إلى الآستانة ليتابع تعليمه الجامعي في عاصمة الامبراطورية العثمانية آنذاك، وبعد تخرّجه، شَغَلَ منصب القائمّقام في أحد الأقضية من بلاد ديار بكر في جنوب الأناضول إبّان الفترة الأخيرة من الحكم العثماني، وهذا منحه خبرة عملية في الناس والإدارة، إذ جمع بين الوعي السياسي العميق، وفهم الأدب، والمعرفة بشؤون الزراعة…
كان إبراهيم هنانو واحداً من أولئك الثوار الوطنيين الذين دخلوا التاريخ، بإخلاصهم للقضية الوطنية التي من أجلها يناضلون، فعندما أُعْلِن استقلال البلاد بإسم” سوريا”، بحدودها الطبيعية، اختاره أبناء مدينة حلب ليكون ممثلاً لهم في المؤتمر السوري الأوّل الذي اجتمع في دمشق، كان ذلك في شهر آب من سنة 1919. وقد شارك الرّجل، حامل الإجازة في الحقوق، بنشاط في أعمال دورتي المؤتمر المذكور عامي 1919 و 1920.
كان تقسيم بلاد الشام بحسب اتفاقية سايكس ــ بيكو، يأخذ سبيله إلى التنفيذ، وكان ذلك الوضع المُريب يرتّب على حكومة الملك فيصل بن الحسين في دمشق أن تتحرّك بسرعة لمواجهة احتلال فرنسي وشيك الحدوث، لذا فقد عُيّن المناضل العروبي، والضابط السابق في الجيش العثماني، رشيد باشا طليع ــ وهو من جديدة الشوف في جبل لبنان ــ والياً على حلب، وعُيّن إبراهيم هنانو مديراً لمكتبه، وتعاون الرجلان في مهمة الإعداد لمقاومة الاحتلال الفرنسي الوشيك وعمل هنانو بتشجيع من رشيد طليع على تشكيل زُمَر صغيرة من الثوار، لتكون سهلة الحركة وسريعة التنقّل، بهدف عرقلة حركة قوّات الزحف الفرنسي.

ثورة شمال سوريا على الفرنسيين
ولم يلبث أن وقع الاحتلال بعد معركة ميسلون في تمّوز 1920، وقامت جماعات هنانو من الثوّار بدورها المرجوّ منها، الأمر الذي فرض على المحتلّين حشد المزيد من قواتهم بقيادة الجنرال” دي لاموت” لاحتلال حلب في الثالث والعشرين من تموز 1920. على أثر ذلك غادر هنانو حلب إلى بلدته كفر تخاريم، ومن ثمّ اتّخذ من جبال الزاوية معقلاً لثوّاره، ثمّ سافر إلى تركيا بهدف تأمين إمدادها الثوار بالسلاح، ونجح سعيُه حينها، فقد كان الأتراك آنذاك في حالة حرب مع الإنكليز والفرنسيين ضد اتفاقية سايكس ــ بيكو، التي هدفت إلى تجزئة بلادهم أيضاً، وقام بتوزيع السلاح على جماعات المجاهدين الذين يعملون بقيادته، كما عمل على إعادة تنظيمهم بحيث توزّعوا على شكل فرق تقاتل ضمن مناطق تواجدها.
وحدثت مع الفرنسيين “معارك طاحنة” أشهرها معركة مخفر الحمام لكن الأتراك ما لبثوا أن تخلوا عن مساعدة ثوار شمال سوريا بعد أن عقدوا صفقة مع فرنسا تمكنوا بموجبها من اقتطاع جزء كبير من الشمال السوري.
وبتأثير من السياسة الأتاتوركيّة، انسحب الأتراك السوريون، أنصار تركيا من القتال، لكن مقاومة المحتل لم تتوقّف رغم الصّلح التركي مع فرنسا، واستمرّ الزّعيم هنانو ومن معه من الثوّار يقاتلون القوات الفرنسية، حيث اشتبكوا معها في مواقع عدة أهمها موقعة مزرعة السيجري وموقعة كفر تخاريم في كانون الأوّل 1920، وتمكّن الثوار من تكبيد القوات الفرنسية خسائر كبيرة في الرجال والعتاد.، وأظهرت تلك النجاحات القتالية صوابيّة رأي كل من رشيد طليع ــ الذي سيلمع نجمه في ما بعد في الثورة السورية الكبرى ــ ورفيقه في الجهاد إبراهيم هنانو في اختيارهما لقوات من الثوّار قليلة العدد، وسريعة الحركة، وتتمتع بمعنوية عالية في مواجهة جيش حديث مجهّز بمعدّات ثقيلة.
عرض الفرنسيون على هنانو تسليمه منصب رئاسة حكومة حلب، لكنّ الرجل رفض القبول بتقسيم البلاد، وقد ردّ الفرنسيون بتشديد الضغط على هنانو ومجموعاته خصوصاً بعد القضاء على ثورة الشيخ صالح العلي في جبال العلويين، وتمكّن الفرنسيون من تشتيت شمل الثوار وأضعفوا بذلك موقف إبراهيم هنانو، الذي اضطرّ إلى اللجوء ذات مرّة إلى بيت المجاهد عمر عز الدين، وهو من الموحدين الدروز ومن قرية كفتين.

في الطريق إلى جبل الدروز
ترافق تشتت صفوف الثوار مع نقاش تناول الخطوة التالية بعد تلاشي قوة المتمردين. إذ اتجه فريق منهم نحو الأراضي التركية، بينما فضل قسم آخر، كان هنانو منهم، التوجه نحو الأردن. لكن خيار هنانو ورفاقه كان محفوفاً بمخاطر أكبر لأن اللجوء إلى تركيا كان سهلاً في منطقة الشمال السوري، بينما كان الوصول إلى الأردن مهمة شاقة محفوفة بمخاطر بسبب بُعْد الطريق عبر البادية السورية، وعدم وجود مواقع طبيعية تؤمّن الحماية للثوّار في تحرُّكهم عبر أرض مكشوفة، وفوق هذا وذاك عدم الاطمئنان لولاء العشائر التي تسكن البادية. وكان كل ذلك من العوامل التي تسهّل على الفرنسيين مطاردة الثوار والقضاء عليهم.
افترق هنانو عن إخوانه أصحاب خيار اللجوء إلى تركيا وانحدر بجماعته إلى المناطق الوعرة في قضاء معرّة النّعمان، واتّجهوا شرقاً في السهول، يكمنون في النهار، ويسيرون في الليل، وهكذا حتى أصبحوا شرق السّلميّة، وكانوا نحو ثمانين مسلّحاً أكثرهم من المشاة وكان دليلهم المجاهد هزّاع أيّوب، الخبير بطرق البادية، يقطعها ماشياً على قدميه. لم يطل الأمر قبل أن يدرك الجمع من يبلغهم أنهم مطوقون من قبل القوات الفرنسية وبقوات دعم من البادية عند قرية “عنز”، إحدى قرى السلمية، فقد وفدت إليهم سيّارة تقلّ الشيخ سلطان الطيّار من زعماء العشائر في البادية السورية، يحمل رسالة لهنانو من الكابتن فوزي القاوقجي، الضابط في الجيش الفرنسي حينذاك، يبلغه فيها أنّه وَمَنْ معه، مطوّقون بالقوّات الفرنسية، وبقوّات دعم من قبائل البادية التي تتبع لتلك القوّات، وأن لا نجاة له ولرفاقه الثوار منها، ويعرض عليه الدخول في مفاوضات على الاستسلام، مقابل التعهّد بضمان حياته وحياة من معه من المجاهدين، واعتبارهم كأسرى، إلى أن يصدر العفو عنهم من المندوب السامي الفرنسي. لكن هنانو كعادته فضّل أخذ الطريق الصعب، فرفض العرض وحثّ مع جماعته السير في البادية محاولاً الابتعاد ما أمكن عن مطاردة الفرنسيين. إلا أن هؤلاء أدركوا الثوار بعد يوم واضطر هنانو للانسحاب مع فرسه في مجاهل القفر السوري الوعرة والجافة. وقد أيقن المناضل العنيد بعد أن أنهكه التنقل ومطاردة السلطة الفرنسية استحالة عبور الصحراء السوريّة باتّجاه الأردن، خصوصاً بعد أن فقد الاتصال بدليله، المجاهد هزّاع أيّوب الذي لم يعد يُعرف له مصير.
وبسبب معاناته وحصانه الأصيل من إرهاق السفر والعطش والجوع، قرر هنانو أن يعرج على مضارب بعض البدو لعله يجد لديهم ملاذاً، لكنه سرعان ما سيشعر بالندم إذ ساورته الشكوك في نوايا زعيم عشيرة الخالدية وطريقة تعامله معه، وقد اضطر هنانو بعد ذلك لأن يدفع إلى الأخير بمعظم الليرات الذهبية التي كان يحملها تحت كمره لكي يخلي سبيله بعد أن بات أشبه بمعتقل في مضاربه في انتظار صفقة كان ربما يدبرها مكراً به وغدراً.
بعد تلك المغامرة ترك هنانو مضارب العشيرة واتجه بجواده غرباً، ووصل إلى مدينة حمص التي دخلها متنكراً من جهة الشرق وتوغّل في حي الخالدية، وهو حيّ يغلب الفقر على ساكنيه، وعزم على أن يطرق باباً من أبواب ذلك الحي، كان يريد إيداع حصانه مقابل أجر، ثمّ يمضي إلى المسجد يقضي فيه نهاره مُصَلّياً ومن ثمّ ينام في إحدى زوايا باحته، إلى أن يجنّ الليل، فينسلّ إلى دار صديقه، وزميله، عضو المؤتمر السوري إبّان العهد الفيصلي، عمر الأتاسي، ليتدبّر معه مسألة وصوله سرّاً إلى الأردنّ.
تفرّسَ في الأبواب التي كان يمرّ أمامها، اختار باباً ذا خصائص، يُعَبّرُ عن بساطة أهل تلك الدار التي يتصدّرها، طَرَقَهُ في حمأة ذلك اليوم القائظ، فتح له شابٌّ في مقتبل العمر، وسأله:
أيمكن أن تتفضّل بربط هذا الحصان في ظِلٍّ عندكم لقاء أجر، ريثما أذهب إلى المدينة أقضي فيها حاجتي وأعود؟.
قال الشاب: أهلاً وسهلاً بالعم، إنّ في استطاعتك أنت وجوادك أن تجد لدينا مكاناً للراحة والمبيت، فهلّا دخلت أوّلاً، واسترحت من عناء السفر، فالوقت الآن وقت قيلولة، ونحن في هاجرة النهار…، تفضّل يا عم وادخل، فأنت في دارك وبين أهلك”!، تشجّع هنانو من كلام الشاب، فترجّل. ناول الشاب عنان الحصان، فقاده بدوره إلى مربط في صحن الدار، ثمّ عاد سريعاً حيث أدخله غرفة فقيرة الأثاث، لكنّها نظيفة ظليلة، فرش له حصيراً، ووسائد، ولكنه انتبه إلى ما به من وسخ، فبادره:
ــ مارأيك يا عم بحمّام بارد في عتبة هذه الغرفة لتنظّف جسمك؟، وسآتيك بثياب تلقي بها عنك هذه الأثواب الوسخة، قال هذا، ومضى دون أن يترك له مجالاً للاعتراض، ونقل له إلى العتبة صفائح من الماء البارد، كانت امرأة قد انتشلتها من بئر في باحة من الدار، عرف في ما بعد أنّها امرأة أخي الشاب.
إغتسل، ولبس ثياباً نظيفة منذ زمن خاله دهراً، وجلس آمناً، ثمّ طلب من الشاب أن يذهب بدينار ممّا كان معه، ليأتي له ببعضه غداء من السوق، وعليقاً للجواد، فلبّى الطلب مخلصاً. نام بعدها نوماً عميقاً …
عند الأصيل فُتِح َ باب الدّار، ودخل رجل يرتدي قنبازاً وكفّيّة وعقالاً، أدرك هنانو أنّه صاحب البيت، ويبدو أنّ امرأته لوّحت له من المطبخ المقابل لباب الدّار، اتّجه صوبها، ولم يلبث أن عاد ووقف إلى جانب الجواد، وتفرّس به، ثمّ نقله إلى مكان ظليل من الدّار، بناء على رغبة هنانو بحجّة حمايته من حرّ ذلك اليوم القائظ، وحقيقة الأمر أنّه ــ أي هنانو ــ أراد إبعاده عن العيون كي لا يُرى من خارج الدار كلّما فُتِح بابها، لكنّ الرجل رجع إلى زوجته ودار بينهما همس استمرّ دقائق، ثم أقبل إلى الغرفة حيث يجلس هنانو، حيّاه وجلس، وبادره بالسؤال:” ضيفنا من أي ديرة؟”، قال هنانو:”من ديرة المعرّة، سُرقت لي أغنام، فركبت في أثرها، لعلّي أجدها، ولكن خاب أملي وسلبني قُطّاع الطرق ملابسي، وها قد رماني القدر في داركم”!.
ــ ولكن جوادك أيّها الصّديق هو جواد الزعيم إبراهيم هنانو، عليه تنطبق كل الأوصاف التي رآها البدو، والجنود الذين طاردوا عصابته وطاردوه شخصيّاً في البادية، فهلّا صدقتني القول وطمأنتني عن سلامة الزعيم؟
كان الصدق والتلهّف واضحين في لهجة الرجل وفي عينيه، ولكنه شعر أنّ عليه أن يستوثق من الرجل بحقيقة موقفه منه، فسأله:
ــ ومن أين عرفت أنّ الجواد حصان هنانو؟
قال: أنا جنباز ــ أي سمسار ــ خيل، وإسمي أنيس أحمد الدّقس، قضّيت عمري كلّه في هذه المهنة، والناس كلّهم يلهجون اليوم بقصّة الزعيم هنانو، وجواده الأصيل الذي أنقذه من كل خيول البادية التي طاردته فرسانها، طمعاً بالجائزة التي وَعدت بها فرنسا شيوخ العشائر، أو أيّ اًمن يقبض عليه، والألسن تلهج بالدّعاء للّه أن يحفظ الزعيم، فلا يهلك جوعاً وعطشاً في الصحراء القاحلة، وألّا يقع بيد الفرنسيين، أعدائه وأعداء البلاد كلّها، فهلّا أخبرتني إن كان هذا حصانه، وهلّا طمأنتني عنه؟.
ــ طِب نفساً، وقرّ عيناً، فهذا حقّاً هو حصان هنانو، وأنا رفيقه الذي نجوت معه في الطراد، وهو في مكان أمين، وحرز حريز، لا خوف عليه إن شاء الله، وقد أوفدني إلى حمص بمهمّة، أنا في سبيل إنجازها له، فهل أنت مستعد لمساعدتي؟
ــ قال المضيف: إنّ روحي فداء الزعيم هنانو، وبيتي وزوجتي وأخي وكلّ أسرتي، فهلّا حدّثتني عن مهمّتك؟، أنا رهن إشارتك.
إغرورقت عينا هنانو بالدموع لتأثّره بصدق لهجة الرجل، ولإحساسه بعميق إخلاصه، وأدرك أنّ في وطنه شعباً طيّباً، وأنّ مضيفه مثال حي على أصالته، لقد شفت أقوال هذا الرجل النبيل ما لَقِيَهُ من شيخ بني خالد، الذي كان سلوكه معه أبعد ما يكون عن شِيَم العرب.
لم يجد هنانو بُدّاً، بعد ما لقيه من إكرام الرجل الحمصيّ له، وصدقه، وتعبيره عن الحرص على سلامته، من أن يبوح بحقيقته لمضيفه، فاعترف له بأنّه إبراهيم هنانو، فهمّ الرجل بتقبيل قدميه من شدّة الفرح، وهنانو يبعده عن ذلك، وطلب منه بعد ذلك أن يُسهّل اتّصاله بعُمَر الأتاسي، ليؤمّن له وصوله إلى شرق الأردن، عن طريق جبل الدروز.
ــ ما لنا وهؤلاء الأفنديّة الذّوات، قال الدقس كمن يعرف واقع الحال في مدينته، مضيفاً: أنا الفقير، جنباز الخيل، مستعدٌّ أن أبذل روحي في سبيل وصولك إلى المكان الأمين الذي يكفل سلامتك، ولست أريد أن يعلم أحد غيري بوجودك هنا، وسأقوم من هذه الساعة بإعداد العدّة لسفرك إلى شرق الأردن عبر الطريق الأمينة، وسيكون سفرنا من هنا إلى دمشق، وعبر الطريق العامّة، ولكن عليّ أن أغيّر لك ملامح الحصان، وأن أجد لك الزيّ المناسب الذي لا يلفت النّظر، ولا يثير الشكوك، فإذا وصلنا دمشق، ضمنت لك وصولك إلى جبل الدروز، فهل أنت ضامن في الجبل من يساعدك على الوصول إلى شرق الأردن؟
قال هنانو: نعم، لي فيه من أثق بوطنيّته وإخلاصه وقدرته على العمل.
قال الدّقس: حسناً، سأعدّ العدّة، وليس أمامي غير تغيير أوصاف جوادك الذي أصبح أشهر من داحس والغبراء، والأبجر والخضراء في قصص العرب، ولكنّني أنا الجنباز سأغيّر معالمه وأبدّل أوصافه، وأجعل منه جواداً آخر، لا يمكن لأعظم خبير في الخيل أن يعرفه.
في اليوم التالي، جاء الجنباز بأصباغ، وبمقص للشعر، وأخذ يتلاعب بمظهر الحصان، قصّ بعضاً من شعر لبدته، وقصّ شعر ذيله، وصبغ الغرّة بين ناصيته، والبياض في أرجله، وقصّ وصبغ حتّى لتظنّه إذا ما رأيته حصاناً غيره، ثم ّذهب إلى السوق ببعض نقود من هنانو، وأتاه بلباس كامل لزِي آغوات عكّار، وأبلغه أنّه استأجر رهوانة لعشرة أيّام، وأنهما سينطلقان معاً في الأصيل إلى دمشق، بحيث يكون مسيرهما في الليل، ومن ثمّ يستريحان في النهار تحت ستار الحرّ في شهر تمّوز، إلى أن يصلا غايتهما، دمشق.
قطعا أوّل مرحلة من الطريق، حيث بلغا بلدة ” حسياء”، وفيها قضيا النهار ثم تابعا طريقهما، فبلغا قبيل الصباح قرية “جوبر” ومكثا فيها حتى الأصيل، وكان اليوم يوم أحد، عَبَرا حيّ القصّاع، كان يومها مكتظاً بالناس، عَبَراه دون أن يثيرا شبهة، ووصلا حي الخراب، حيث نزلا فيه ــ هو حارة الجزماتيّة اليوم، إحدى حارات حي الميدان ــ وكان أهل الميدان من أشد المتعاطفين والمتواصلين مع الثورة السورية الكبرى، التي كانت بؤرتها في جبل الدروز آنذاك. وقد كانت خطّة الدقس أن يصل بصاحبه إلى خان ترتاده قوافل جبل الدروز. وفي ذلك الخان التقى هنانو صدفة برفيق جهاده هزاّع أيوب، الذي كان على علاقة وطيدة بمجاهدي الدروز، عندها أمّن الدقس على ضيفه، ودّعه وقفل عائداً إلى حمص، أمّا هنانو فتابع طريقه إلى جبل الدروز مبتعداً عن الطرق المألوفة التي يراقبها الفرنسيون، فعبر قرى غوطة دمشق الظليلة متجنّباً الطّرق الرّئيسية باتجاه الجنوب الشرقي، إلى قرية الهيجانة، وحلّ ضيفاً على الوجيه حسين إيبش الذي رحّب به، لكنه ــ أي إيبش ــ اعتذر عن توفير الحماية له بسبب دوريات الجيش الفرنسي التي تتجوّل في المنطقة بشكل متواصل، فأوضح هنانو له بأنّه يريد الوصول إلى جبل الدروز، وإلى قرية الخالدية بالتحديد، قاصداً شيخها المجاهد حسين عز الدين، فما كان من الإيبش إلّا أنْ أرسل معه فارساً من رجاله رافقه إلى الخالدية، وأرشده إلى مضافة حسين عز الدين حيث يريد، ثم عاد إلى حيث أتى.

حلّ هنانو ضيفاً على شيخ قرية الثعلة المجاهد نجم عزّ الدّين الحلبي وبقي في داره محروساً إلى أن قرّر التوجّه لزيارة سلطان باشا في «القرَيّا»

الجنرال غورو يستعرض الجيش الفرنسي بعد احتلال دمشق
الجنرال غورو يستعرض الجيش الفرنسي بعد احتلال دمشق

هنانو نوّه بدعم الموحدين الدروز في الجبل الأعلى لثورته وتضحياتهم الكبيرة بالأرواح والأموال، وعلى الأخص الموقف المشرف لآل قصّاب باشا، وآل النجار، وآل عز الدين، وغيرهم من الأسر المجاهدة في الجبل الأعلى..

الجماهير تحيط بالمجاهد إبراهيم هنانو بعد تبرئته من قبل المجلس العرفي الفرنسي
الجماهير تحيط بالمجاهد إبراهيم هنانو بعد تبرئته من قبل المجلس العرفي الفرنسي

 

هنانو في جبل الدروز
يذكر المجاهد علي سيف الدين القنطار في مخطوطة له تتناول تلك الحادثة، فيقول:”وصل هنانو إلى الخالدية متخفّياً بُعّيد منتصف الليل، ومن عادة بني معروف آنذاك أن يبتنوا المضافة في ركن جانبي من الملك الخاص – بحيث يكون بابها مفتوحاً إلى الطريق العام- لتسهيل دخول الضيوف. وبينما كان المجاهد أبو يوسف حسين عز الدين نائماً في مضافته، أحسّ بوقع أقدام تقترب، فَلَقّمَ بندقيّته، ومدّها إلى جانبه، وتظاهر بالنوم، وقال لنفسه:”إذا كان القادم حرامياً بيكون قَدَرو ساقو لَموتو، وإذا كان ضيفاً أهلاً وسهلاً به…”.
كان باب المضافة مغلقاً غير مقفل ــ فليس من اللائق إقفال باب المضافة عند الدروز، حتى ولو كان صاحب البيت غائباً، وعندها تُتْرك ضلفة من الباب مفتوحة، والأخرى مغلقة لاستقبال أي ضيف، حتى في غياب المُضيف ــ، طَرق هنانو الباب بهدوء، وعندما لم يُفتح له، فتحه بنفسه على حذر، ودخل، أغلق الباب خلفه على مهل ثمّ أسند له ظهره وتنفّس آمناً، لحظتئذٍ أدرك أبو يوسف أنّ الرجل طالب استجارة يبحث عن مأمن، ولابدّ أنّه قد وصل غايته.
تقدّم طارق الليل من قنديل الكاز في ركن المضافة، وقوّى الضوء الخافت في رأس ذبالته فأضاء المكان، ثم تقدم باتجاه أباريق القهوة وتلمّس الغلّاية، وجد في قهوتها بقيّة دفء، سكب لنفسه ثلاثة فناجين منها، وأشعل سيجارة، وجلس.
نحّى حسين عز الدين بارودته جانباً تحت اللحاف، ونهض من فراشه، قائلاً للطارق:” أهلاً وسهلاً بك يا ضيف، اطمئن عِدّك ببيتك، أنا رايح للبيت أجيب لك عشاء.”.
قاطعه الضيف:”كثّر الله خيرك، أنا تعبان ونعسان، ومالي نفس على الأكل، أريد أن أنام إذا تكرّمت، والصبح إن شاء الله نأكل اللي فيه النصيب”.
نزل أبو يوسف حسين عند رغبة ضيفه، فمدّ له فراشاً ولحافاً ووسائد في المضافة،ــ كانت المضافات في جبل الدروز بمثابة فنادق ومطاعم مجّانية، إذ لم يكن من فنادق في الجبل آنذاك، وكانوا يعتبرون الضيافة المأجورة عاراً ــ .
مع الفجر نهض الشيخ حسين كعادته مبكراً، صرّف أمور رزقه، وأشرف على إطلاق مواشيه مع رعاتها، وأعدّ القهوة المرّة لزائريه المنتظَرين، فتقديم القهوة المرّة للزائرين والضِّيفين أوّل واجبات المضيف، ــ كان هذا نمط حياة المشايخ والوجهاء آنذاك.
مع شروق الشمس كان الضيف قد نهض من نومه مطمئنّاً بعد عناء يومه السابق، حيّاه مضيفه، وأرشده إلى غرفة صغيرة مُعدّة للضيوف القادمين من دروب بعيدة فاغتسل، ولم يلبث أن عاد منتعشاً ، فتناول قهوة الصباح من يد المضيف، ولم يطل الوقت حتى جيء بالفطور، أكلا معاً، ولم يسأله عن نفسه أي سؤال، أمّا هو فلم يبُح بسرّه.
أَوعزَ صاحب البيت بتحضير وليمة واجب للضيف، والتقليد يقضي بدعوة وجهاء الضيعة لمشاركة الضيف في تناول الطعام، وذلك هو شكل من أشكال تكريم الضيوف بغض النظر عن كونهم معروفين أم لا.
في ذلك الحين، صدف وجود ضيف آخر في الخالدية قادماً من جبل السمّاق، من ديار حلب، وهو ضيف على أخيه حسين الحلبي، المقيم في القرية ــ ممّا يجدر ذكره أنّ أعداداً كبيرة من العائلات التي تنتمي للموحدين الدروز، ومنهم آل عز الدين، قد تمّ تهجيرهم من ديار حلب سنة 1811م إثر فتنة طائفية ” وحملة إبادة همجية شنّها عليهم (طوبال التركي) أحد الولاة العثمانيين المتطرّفين، فنزح منهم نحو ستمائة عائلة إلى لبنان ثم إلى جبل حوران”، يذكر هذا نايف جربوع في كتابه”دراسات في العامّية”، وكانت تلك الحملة الهمجية ضد الموحّدين الدروز في الديار الحلبية متأثّرة بالحركة الوهّابية التي هاجم أتباعها بلاد الشام والعراق في العهد العثماني في ذلك الوقت، ومعظم تلك الأسر لم يزل يحمل كنية “الحلبي” إلى يومنا هذا، ولم تزل الصّلات مستمرّة إلى الآن بين المُهَجَّرين، وبين من تبقّى من أقاربهم في تلك الدّيار ــ كان الضيف وإسمه” علي” مدعُوّاً مع أخيه حسين إلى الوليمة، وحالما دخل المضافة، فقد عرف الضيف. خاطبه باحترام جَمّ” كيفك يا زعيم، ألف الحمد لله على سلامتك” لَفَتَ هذا الخطاب الحارّ انتباه الحاضرين، وخصوصاً المُضيف، وما أن أخذ الضيف “علي” مكانه بين الحضور، حتّى أشار إليه أبو يوسف حسين إشارة خفيّة ثمّ خرج وإيّاه خارج المضافة، وسأله همساً:” مين هو يالزعيم اللي سلّمت عليه بها الحرارة يا علي؟”.
ــ سؤالك يدلّ على إنّك مش عارف ضيفك ياعمّي!.
ــ بالحقيقة أنا ما سألتو، وهو ما عرّف عن نفسو.
ــ ياعمّي أبو يوسف، ضيفك هو الزعيم إبراهيم هنانو، زعيم ثورة الشمال، والفرنساويي عم يلاحقوه.!
أدرك أبو يوسف عِظَمَ مسؤوليته تجاه ضيفه غير العادي، وقال لعلي:” الحمد للّه أَللي كرّمناه كَرَم ضيافة، لاكرم وجاهة، ومن دون أن نعرفه”.
بعد الغداء انصرف المدعوّون، ولم يبقَ في المضافة إلّا الضيف مع مضيفه، عندها باح هنانو بحقيقته، وأنّ الفرنسيين يطاردونه فطمأنه أبو يوسف:” أنت عندنا يا زعيم أمنع من عقاب الجو، فلا تحسب أيّ حساب، أنت بين أهلك وعشيرتك، ونحن أصلنا من عندكم، من جبل السمّاق”.
إطمأنّ هنانو إلى حسين عز الدين، وشعر أنّه في مأمن بعد الذي عاناه من متاعب، وطلب منه أن يسهّل له الوصول إلى السويداء، إلى بيت المجاهد علي عبيد، ومن هناك سيمضي إلى الأردنّ.
لم يكن أمام المضيف إلّا أن يلبّي مطلب ضيفه، فكلّف جادو الحلبي، وهو أحد أفضل من يثق بهم من رجال قريته، الخالديّة، أوصاه بمرافقته في الطريق، باتا ليلة قبل وصولهما السويداء في قرية بريكة، في بيت المجاهد وهبي الحلبي، وفي مساء اليوم التالي، وصلا بيت المجاهد علي عبيد في السويداء، يصف هنانو وصوله إلى بيت علي عبيد فيقول” قصدته واثقاً من إخلاصه رغم عدم معرفتي به من قبل، وهو شخصيّة وطنيّة في الجبل، لمّا بلغت داره استقبلني ولده نايف، ورحّب بي ترحيباً حارّاً كضيف، وأنزلني في غرفة الضّيافة، ثمّ ذهب يدعو أباه من مضافة أحد أصدقائه..”، عندما جاء علي عبيد من زيارته، رحّب به أكثر، فقد عرف ضيفه، وفاجأه بسؤاله:” ألست في حضرة القائد المجاهد إبراهيم هنانو؟” قال هنانو نعم يا أبا نايف، ولكن كيف عرفتني؟” قال:” كان هزّاع أيّوب ضيفي هنا منذ بضعة أيّام، وقد ضاع منكم صبيحة يوم هوجمتم في البادية، إذْ رحلتم وخلّفتموه مستغرقاً في النوم، ولم يستطع اللحاق بكم، بسبب تعرّضكم للهجوم، وجَدَّ وَحْدَهُ يقطع البادية، حتّى جاءني هنا، وحدّثني عنكم، وسألته عن أوصافكم، فلمّا وقعت عيناي عليكم الآن، عرفت أنّ ضيفي هو إبراهيم هنانو.
احتفى علي عبيد بضيفه وأكرمه، غير أنّ الحذر من رقابة الفرنسيين المشدّدة على دارته في السويداء، أوجب أن ينتقل هنانو ليلاً إلى قرية الثّعَلَة غرباً بنحو بضعة عشر كيلو متراً. في تلك القرية حلّ هنانو ضيفاً على شيخها المجاهد نجم عزّ الدّين الحلبي، الذي رحّب به غاية الترحيب، وبقي في داره محروساً أيّاماً عدة، قبل أن يتابع طريقه إلى سلطان باشا في “القرَيّا”.

فارس قصاب أحد مجاهدي ثورة هنانوa
فارس قصاب أحد مجاهدي ثورة هنانوa
رشيد بيك طليع
رشيد بيك طليع
الملك عبد الله الأول أدرك الواقع الدولي الجديد فلم يستجب لدعوة هنانو إلى استمرارالثورة على المنتدب الفرنسي
الملك عبد الله الأول أدرك الواقع الدولي الجديد فلم يستجب لدعوة هنانو إلى استمرارالثورة على المنتدب الفرنسي
المجاهد هزاع أيوب لعب دوراً مهما في ثورة الشمال خصوصا على صعيد تأمين الاتصالات بين هنانو وبين المقاتلين على مختلف الجبهات
المجاهد هزاع أيوب لعب دوراً مهما في ثورة الشمال خصوصا على صعيد تأمين الاتصالات بين هنانو وبين المقاتلين على مختلف الجبهات

هنانو في ضيافة سلطان باشا الأطرش
يقول سلطان باشا في “أحداث الثورة السوريّة الكبرى”: “وفي أثناء تلك الفترة التي كنّا نعيش فيها تلك الأوضاع السيّئة ونتلمّس طريق الخلاص منها، قدم إلى الجبل إبراهيم هنانو، كانت فرنسا قد شكّلت ما سُمّي
بـ “حكومة جبل الدروز”، وحُدّد لتلك الدولة علم خاص بها ويوم استقلال في الخامس من نيسان.وقد أعلنّا استنكارنا لهذا الاستقلال المحلّي، وتجزئة بقيّة أرجاء الوطن إلى دويلات…”، ويذكر سلطان بأن فرنسا كانت تعمل لإفشال تلك الحكومة المحلّية بهدف” بسط نفوذها الشامل على الجبل، وإقامة حكم فرنسي مباشر فيه…”.
يصف سلطان لقاءه بهنانو بأنّه كان مفيداً للغاية، وأنه أطلعه خلال تلك الفترة القصيرة التي مكثها عنده في القريّا على وقائع ثورته في الشمال، ووصف له أهمّ معاركها، وكيفية اتصالها بثورة الشيخ صالح العلي التي نشبت في جبل العلويين. كما حدّثه عن الظروف الصعبة التي حالت دون نجاح ثورته واستمرارها في تلك الجهات، وبأنه ــ أي هنانو ــ أشاد ببطولة إخواننا دروز الجبل الأعلى، وبتعاونهم الصادق معه، وتضحياتهم الكبيرة بالأرواح والأموال، ونَوَّهَ بالمواقف النبيلة والمشرّفة لآل قصّاب باشا، وآل النجار، وآل عز الدين، وغيرهم من الأسر المجاهدة المعروفة في الجبل الأعلى.
ويذكر سلطان بأن هنانو أبدى له إعجابه بالموقف الجريء لرشيد طليع، وتقديمه المساعدات القيّمة له ولقادة ثورته، على الرغم من مراقبة الفرنسيين الشديدة له، وتتبّعهم لحركاته بصفته والياً على حلب منذ العهد الفيصلي.
كما يقول سلطان:” تأثّرت بأحاديث هذا الرجل المقدام، وأُعجبت بصراحته، وعظيم تقديره، ووفائه لكل من شارك بثورته من الأفراد والجماعات، فقد أحاطني علماً بأخبار الحركات التي قامت ضد الفرنسيين في أنطاكيا ودير الزور، والجزيرة الفراتية وتلكلخ”.
في هذه الفقرة ممّا يُعتبر مذكّرات سلطان باشا عن الثورة السوريّة الكبرى، وفي الصفحة 65، نستشعر عمق معاناة الرجلين الثائرين، الضيف والمضيف، هنانو وسلطان، وتلك كانت خلاصة لقائهما قبل افتراقهما، يلخّصها سلطان فيقول:” ومع أنه كان متفائلاً بالعودة إلى ميادين الجهاد، مُظهراً رغبته بالتعاون المجدي الفعّال معنا، إذا ما تهيّأت ظروف مناسبة لاستئناف الكفاح، فقد أبدى لي أسفه وردّد مراراً وهو يتأوّه هذا القول:”لن يتحقّق لنا نصر مُؤزّر على المستعمرين مادمنا نقول أكثر مما نفعل، ومادمنا لا نراعي مشاعر جميع المواطنين التي تستوجب من شيوخنا الكبار رفع شعار “الدين للّه والوطن للجميع”.
وفي النهاية، يقول سلطان:”حاولت أن أقنع ضيفنا بالبقاء في ديارنا، مبدياً له استعدادي التام لتحمّل جميع المسؤوليّات المترتّبة على ذلك، ولكنه اعتذر وأصرّ على الرّحيل إلى شرق الأردن، فأرسلت معه عندئذ ثلاثة رجال لمرافقته إلى بيت حمد البربور في أم ّ الرمّان”.
يذكر زيد سلمان النجم في كتابه “أحداث منسيّة وأبطال مجهولون” عن الأستاذ جاد الله عز الدين، أسماء أولئك الفرسان الذين كلّفهم سلطان بمرافقة هنانو إلى أم الرمّان، وهم: جادو الحلبي وسلمان الحلبي وجاد الله شلهوب، ومن هناك، بعد أن أمضى أيّاماً في قرية أم الرمّان معزّزاً مُكرّماً، سار هنانو بحراسة فرسان من أم الرّمّان، لهم خبرة بطرق البادية، فوصلوا به آمناً إلى عمّان.

إبراهيم هنانو في إمارة شرق الأردن
وفي ما يتعلّق بوصول هنانو إلى الأردنّ، يكتب منير الرّيّس عن لسان هنانو الذي يقول: ” واجتمعت هناك بإخواني أحرار الشام اللاجئين، وعرفت منهم أنّ الأمير عبد الله بن الحسين خيّب ظنّهم به وبوالده (الشريف حسين) وأسرته، لذلك ضاعت كلّ الآمال التي بنيناها حول مساعدة سوريا في محنتها”.
لم يكتفِ هنانو بما سمعه من أحرار الشام في عمّان، بل أصرّ على مقابلة الأمير الهاشمي على انفراد، وفي تلك المقابلة شدّد هنانو على أن الفرصة سانحة لتنظيم ثورة في جنوب سوريا تطرق أبواب العاصمة دمشق، وغوطتها، بالاعتماد على مساعدة إمارة شرق الأردن. لكن الأمير عبد الله المعروف بذكائه وإلمامه بالوضع الإقليمي رأى أن مشروع هنانو لم يعد سهلاً بعد أن استتب الأمر للفرنسيين وتشتت شمل جيوش الدولة العربية وتفرقت صفوف الثوار، لذلك فقد اعتذر بلطف عن دعم الفكرة.
قبل ذلك كان سلطان باشا الأطرش ورفاقه قد سعوا لإعلان دعمهم المطلق للملك فيصل الاول على أمل تشجيعه على مقاومة المخطط الفرنسي البريطاني والصمود في وجه الفرنسيين ومشروع الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان. ويذكر سلطان في كتاب “أحداث الثورة السورية الكبرى” (ص 57) بأنّه كان في بلدته القريّا عندما وردت إلى جبل الدروز أخبار زحف الجيش الفرنسي إلى دمشق، فما كان منه إلّا أن دعا إلى اجتماع لبحث الموقف، وقد تقرّر في ذلك الاجتماع الاستعداد للدفاع عن استقلال البلاد، وانطلقت باتجاه دمشق حملة من المشاة والفرسان، تعدادها نحو ثلاثة آلاف مقاتل، وفي قرية المزرعة “السّجن سابقاً” باتوا ليلتهم، هناك، ووصل إليهم نبأ دخول الجيش الفرنسي دمشق وانسحاب الملك فيصل وحاشيته منها، فشكّل سلطان وفداً من حمد البربور، وصيّاح الأطرش وعبد الله العبد الله، كانت مهمته الاتّصال بفيصل ودراسة الموقف معه، ودعوته إلى الجبل من أجل متابعة الكفاح ضد الفرنسيين، وقد تمّ اختيار نحو خمسين فارساً من أشدّ فرسان الجبل، وأصلبهم مجابهة في ميادين القتال، ليكونوا حرساً للملك في حال قبوله الفكرة، واستحسانه الاقتراح، ولكنّه غادر البلاد عن طريق درعا، وتوجّه بالقطار إلى فلسطين، قبل أن يتمكّن الوفد من مقابلته، ومع ذلك فقد لحق به حمد البربور وعبد الله العبد الله وحاولا الاتّصال به في حيفا، فقيل لهما أنّه على متن الباخرة المسافرة إلى أوروبّا، فلحقا به إلى الباخرة، وعرضا عليه دعوتنا، إلّا أنّ جوابه كان بما معناه أنّ الأوان قد فات” (انتهى كلام سلطان باشا).
وهكذا، فإنّ حقيقة هذه الأحداث لا يمكن أن تخفى على هنانو، ولابد أن تكون الأحاديث بينه وبين سلطان عند استضافته له قد تطرّقت إليها.
خرج هنانو من اجتماعه بالأمير عبد الله محبطاً، إذ رأى في موقف الأمير أنه لم يعد هناك أي أمل في إيقاد نار الثورة مجدداً ضد الفرنسيين، لذلك فقد عزم على مغادرة الأردن وطلب من إخوانه السوريين هناك، أن يتدبّروا له جواز سفر أردنياً، يستطيع بواسطته أن يغادر البلاد العربية إلى الغرب للتّداوي، ففعلوا، وذهب إثر ذلك إلى فلسطين في طريقه إلى الغرب، لكن الإنكليز الذين كانوا يرصدونه، ويعتبرون وجوده غير مرغوب فيه في الأراضي الأردنيّة، قبضوا عليه في القدس، وسلّموه إلى أعدائه الفرنسيين، الذين نقلوه إلى السّجن العسكري في حلب. وقد نقل منير الرّيّس هذه الوقائع عن لسان هنانو نفسه.
وهكذا لم يُوَفّق الزعيم الثائر إبراهيم هنانو في مساعيه لاستئناف الثورة على الفرنسيين بعد مغادرته جبل الدروز وعدم قبوله نصيحة سلطان بالبقاء في الجبل، إذ جرت اتّصالات بين السلطات الفرنسيّة والبريطانية لتسليمه لفرنسا، وفقاً لاتفاقية بين الدولتين اللتين اقتسمتا السيطرة على بلاد الشام، وكان الشيخ كامل القصّاب قد حصل على إذن بإسم هنانو لدخوله فلسطين من دون معارضة.
سافر القصّاب وهنانو إلى القدس ــ التي كانت عاصمة لدولة فلسطين تحت السيطرة البريطانية ــ رغم تنبيه الأمير عبد الله له بعدم السفر إليها، وحذّره من غدر الإنكليز. وفي فندق “مُرْقُس” في باب العمود في القدس قَدِمَ إلى هنانو مدير الشرطة الإنكليزي وأخذه إلى سجن المسكوبية، يوم 13 آب، ومن ثمّ قام الإنكليز بتسفيره من القدس، وسلّموه للسلطات الفرنسيّة على الحدود السورية، حيث ساقوه إلى بيروت مُكبّلاً، ثمّ وصلوا به إلى حلب، وزجّوا به في سجن “خان اسطنبول العسكري”.
في حلب قدّم الفرنسيّون الزعيم السجين إلى محكمة عسكرية، أمام مجلس عرفي، وقد وُجّهت إليه تهم السلب وقطع الطرق والقتل، وهنا تطوّع عدد من كبار المحامين للدفاع عنه، منهم فتح الله الصقّال، المحامي المعروف آنذاك، وهو أحد خرّيجي جامعة السوربون في باريس. وفي النهاية، ثبت بالدليل القاطع أن إبراهيم هنانو لم يكن كما وُصِف واتُّهِم من قبل الفرنسيين، قاتلاً وقاطع طرق، بل كان مناضلاً وطنيّاً، دافع عن كرامة شعبه وحقه في الحرّية والاستقلال. وهو لم يظهر في المعارك التي خاضها ضد الفرنسيين أية مخالفة لقواعد الحرب، بل حافظ على هيبة أعدائه وكرامتهم ما استطاع،. مثال على ذلك أن رئيس المحكمة العسكرية، الفرنسي، سأله أثناء المحاكمة عن عدد أفراد عصابته في إحدى معاركه ضد الجيش الفرنسي، وكان النصر فيها للمجاهدين، فأجاب هنانو بعد تَفَكُّر، بأنّهم أكثر من ألف مسلّح، وبعد أن تعدّدت جلسات المحاكمة، وكرّر رئيسها السؤال نفسه في جلسة أُخرى، سكت هنانو، ولمّا أصرّ رئيس المحكمة على سؤاله، أجابه الزّعيم هنانو أنّ عدد المجاهدين كان بضع مئات، فانتفض رئيس المحكمة غضباً، واتّهم هنانو بالكذب، لأنّ جوابه في هذه المرّة يناقض جوابه في المرّة السابقة، فوقف هنانو وصاح برئيس المحكمة: “أنا لا أُتّهم بالكذب! ولكنّك سألتني عن عدد قوّاتي في معركة هُزِمَ فيها الجيش الفرنسي، وهو ألوف مؤلّفة، فأردت أن أحفظ كرامة فرنسا أمام المستمعين، لذلك قلت إنّ عدد قوّاتي أكثر من ألف مُسَلّح…ثمّ أحرجتني اليوم بالسؤال نفسه، فأردت أيضاً أن أبقي لفرنسا كرامة جيشها، فقلت إنّ عدد المجاهدين كان بضع مئات، أمّا وأنت تتّهمني بالكذب، فإنّني أقول صادقاً إنّ عدد المجاهدين الذين هزموا الحملة الفرنسيّة لم يكن أكثر من ستّين مسلّحاً!”، فوجم رئيس المحكمة، وأخفض رأسه، وتابع سير المحاكمة.
استغرقت محاكمة إبراهيم هنانو مدّة طويلة، كان الحكّام العسكريون هم الخصم والحَكَم، وكانت شهادة المجاهدَيْن الدرزيين عمر عز الدين من قرية كفتين، وعلي قصّاب من معرّة الإخوان ــ من قرى الجبل الأعلى ــ إلى جانب شهادة أحمد المدرّس، في صالح هنانو، وقد برّأته المحكمة من التّهم المنسوبة إليه، وخرج الزّعيم من السجن رافع الرأس ، فخوراً بجهاده من أجل حرّية وطنه، ولمّا تقدّم من الضابط الفرنسي، رئيس المحكمة، ليشكره على خلاصة الحكم، قال له الضابط: “لا تشكرني أنا، بل إشكر القانون الفرنسي، ومبادئ الثورة الفرنسية التي برّأتك بعد أن ثبت للمحكمة أنك مجاهد تدافع عن حرّيّة بلدك، ولست شقيّاً خارجاً عن القانون. ولو تُرِك الأمر لي، لأمرت بإعدامك”.
لكن هنانو الذي لم يربح معركة المواجهة المسلّحة ضد المحتل الفرنسي، ربح حبّ شعبه له، فاحترمه السوريون عامّة، ومواطنوه الحلبيّون خاصة، وتولّى زعامة الحركة الوطنية في حلب، وكان نصيراً للثورة السورية الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش، سنة 1925م، ولمّا دعيت البلاد سنة 1928 لانتخاب جمعية تأسيسية، ووضع الدستور السوري، انتُخب هنانو عن حلب، واختير رئيساً لِلَجنة الدستور في الجمعية التأسيسية، فأتمّ وضعه، وكان دستورسنة 1936.
وإلى جانب إبراهيم هنانو، ناضلت شقيقته، زكيّة هنانو، وقد أطلق عليها بحق لقب” المجاهدة” إذْ كرّست حياتها في سبيل وطنها، وفي سبيل المبادئ التي ناضل من أجلها شقيقها إبراهيم، فَضَحّت بكل ما تملكه لدعم الثورة، وشراء السلاح والذخائر للثوّار، كما كانت تجتمع سرّاً مع الشخصيّات الوطنية لتوحيد كلمة الثورة، وقامت بدور همزة الوصل بين شقيقها والزعماء الوطنيين، بالإضافة إلى قيادتها المظاهرات النسائية ضد الاحتلال الفرنسي، حيث كانت تتعرّض لإطلاق النار والتعذيب، كل هذا جعل من زكيّة هنانو مثالاً أعلى للمرأة السورية والعربية عموماً.
وكلمة حق يجب قولها، إنّ المجاهد إبراهيم هنانو ظل وفيّاً لوطنه، مخلصاً لمبادئه إلى آخر يوم في حياته الغنية بالجهاد، وهو عندما أحسّ بدنوّ أجَله صبيحة يوم الخميس الواقع في الثاني من تشرين الثاني من سنة 1935، قال لمن حوله:” قولوا لأُخوتي: الوطن بين أيديهم”.
هكذا توفّي هنانو، تاركاً عبَقاً طيّباً من ذكريات جهاده على صفحات التاريخ، وأحاديث متداولة في ذاكرة الأحفاد من بني معروف، في محافظة السويداء، تخبرك بأن الزعيم المجاهد إبراهيم هنانو مرّ من هنا.

هنري غورو الذي قاتل الثوار في سوريا بعد تعيينه قائداً للقوات الفرنسية في الشرق وممثلاً للسلطة الفرنسية المنتدبة

هنري غورو الذي قاتل الثوار في سوريا بعد تعيينه قائدا للقوات الفرنسية في الشرق وممثلا للسطلة الفرنسية المنتدبة
هنري غورو الذي قاتل الثوار في سوريا بعد تعيينه قائدا للقوات الفرنسية في الشرق وممثلا للسطلة الفرنسية المنتدبة

 

حرمون

حـرمــون جبــل الثلـج والقداســة
متحف الحضارات والعقائد القديمة

كثرة المعابد والمزارات والمعتكفات في قمم وسفوح حرمون
تدلّ على ما كان له من قدسية ومكانة لدى الشعوب القديمة

موقعه الاستراتيجي بين سوريا ولبنان وفلسطين والأردن
وأهميته المائية والسياحية إجتذبتا مطامع العدو الصهيوني

يعتبر جبل حرمون أحد أهم المواقع الاستراتيجية في بلاد الشام، ولهذا فقد كان على الدوام أهم هدف للممالك والقوى التي سعت الى التوسع في المنطقة، وقد استخدم بسبب ارتفاعه واتساع رقعته كحصن أو كعمق عسكري للسيطرة على المنطقة وطرق التجارة فيها. إلا أنه استخدم أيضاً كمورد اقتصادي لأن غناه بالمياه وخصوبة أرضه جعلاه في حدّ ذاته مصدراً مهماً للإنتاج الزراعي ونشاطات الرعي، فضلاً عن أهميته الدينية والتي كانت في حدّ ذاتها مصدراً لنشاط اقتصادي يتمثل بحركة الزوار إلى معابده ومواقعه المقدسة.
فماذا نعرف عن هذا الجبل وعن تاريخه وعن حاضره، وما هي أهم ميزاته وثرواته والتي ضاع قسم منها بسبب سقوط قسم كبير منه في يد الغاصب الإسرائيلي؟

موقعه الاستراتيجي
يحتل جبل حرمون موقعاً استراتيجياً يربط بين سوريا وفلسطين والأردن ولبنان، وهو يشغل مسـاحة واسـعـة تمتـد من بانيـاس وسـهل الحـولة في الجـنوب الغـربي إلى وادي القـرن ومجـاز وادي الحـريـر في الشـمال الشــرقي، وهو بذلـك يشـكل القـسـم الأكبر والأهـم والأعـلى من سـلسـلة جبـال لبــنان الشــرقية المعـروفة بـ Anti-Liban.
يمتد جبل الشيخ طولاً نحو 60 كلم وتحـدّه من الشـرق والجنـوب منـطـقة وادي العـجـم وإقليـم البـلان وهـضـبة الجـولان في ســوريا، ومن الشـمال والغـرب القـســم الجنـوبي من سـهل البقـاع ووادي التَّـيـم في لبــنان، وفيه قمـم عدة أعـلاها قمـة جبـل الـشـيـخ المـعـروفـة بـ «قصر شـبيـب»، وهو أحد ملوك تُبع الذي كان حسب الروايات القديمة يأتي من اليمن ليقضي الصيف في هذا القصر الذي يعلو 2814 متراً عن سـطح البـحـر.
تبدو الأهمية الاستراتيجية للجبل في كونه يطل على أماكن واسـعة جداً من بلاد الشام، فالواقف على ذراه ولا سـيما على قمة قصـر عنترة بإمكانه مشـاهدة مدينة دمشـق وسـهول حوران وبادية الشـام وهضبة الجولان في سـوريا وقسـم من المناطق الشـمالية الاردنية، كما يمكنه مشاهدة هضـاب فلسـطين وجبال الجليل والخليل وسـهل الحولة وبحيرة طبريا في فلسـطين، كما يطل على سـهلي البقاع ومرجعيون وجبل عامـل وجبل الريحـان وتومات نيحـا وهضـاب سـلسـلة جبال لبـنان الغربية وقممها المطلة على البقاع، كما يمكن من على ذراه رؤية البحـر الابيض المتوسـط وجزيرة قبرص.

تسميته
عرف الجبل عبر التاريخ بأسماء عدة أطلقت عليه حسب العصور وحسب الممالك التي سيطرت عليه، ومن تلك الأسماء «جبـل الشـيخ» و«الجبل الشــيخ» و«جبـل الثلج» و«الجبـل المـقـدّس» و«جـبل حـرمــون».. إلا أنه بقي الآن اسـمان فقط همـا «جبل الشـيخ» و «جبل حـرمــون» وهما الاسمان اللذان تعتمدهما كتب وموسـوعات الجغرافيا والتاريخ وسـائر الدراسـات والأبحاث والوثائق التي تتعلق بالمنطقة.
ولا غرابة إن تعددت أسـماء هذا الجبل فهو في قلب منطقة حفلت بالأحداث التاريخية منذ أقدم العصـور حتى اليوم، وتعاقب فوق ثراها الكثير من الشـعوب والعديد من الأمـم وشـهدت حـروباً ومعـارك لا تعد ولا تحصـى، وإذا أتيح للمؤرخين أن يدونوا الكثير منها فلا شـك أن الكثير قد ضـاع وأغفل أيضـاً.
لقد قامت امبراطوريات وممالـك وإمارات ثم زالت، كما ازدهرت حضـارات وانتشـرت عقائد وأديان وكلها تأثرت بشـكل أو بآخر بهذا الجبـل وبموقعـه الذي أحبّـه سـاكنوه وتعـشَّـقوا أرضـه وذادوا عن حياضـه، وقد هـابه جيرانه فقـدّسـوه وعبدوه آلهـة واسـتجار به آخـرون ولجأوا إليه وأقاموا معابـد لهم فوق قممه. إلا أن كل تلك الحقب زالت وزالت معها الأقوام التي تعاقبت على الجبل الشامخ الذي بقيّ وحده بهامتـه الشـاهقة شـاهـداً على ما جـرى، محـتضـناً آثار السابقين في الأودية وعلى سفوحه أو قمـمـه.
عرفه الأموريون الذين سـيطروا في القرن الثالث قبل الميلاد على قممه الاسـتراتيجية في ســوريا الجنوبيـة بإســم «شـنير»، وعبـده بعض الأقدمين ولا سيما الفينيقيون بإسم «بعل حـرمـون»، وورد ذكر حرمـون في العهد القديم في «سـفر التثنية» وفي المزامير.
أما تسـمية «جبل الشـيخ» و«جبل الثلج»، أو «الجبل الشـيخ» فهي أسـماء عربيـة اعتمـدها الرحـالة والجغرافيون العـرب، كما وردت في بعض الشعر العربي، أما فيليـب حِـتِّـي فيرى أن الأسـم الأصـح للجبل هو «الجبـل الشــيخ».

كثرة الفواكه البرية والبقول الصالحة للطعام وغزارة المياه العذبة جعلت من الجبل ملجأ مسـتحباً لرهبان النصـارى ومتصوفة المسـلمين

على سبيل المثال، وصف ابن جبير في رحلته مدينة دمشـق بالقول إن «المدينة تشـرف على سـهل يمتد جنـوباً في غرب نحو قمة مهيبة من قمم لبـنان يسـميها العـرب جبل الشـيخ لأنها مجـللة أبـداً بالثلوج». كما تحدث كتاب المقدسـي «أحـدث التقاسـيم في معرفة الأقاليم» عن جبل الشـيخ أو جبل الثلج الذي «أتاه سـكانه عمومـاً من شـرق سـوريا».
ويصـف أبو الفداء بانيـاس بقوله: إنها في لحف جبل الثلج.
وكثير من مؤرخي الغسـاسـنة عبّروا في أقوال شـعرائهم عن أن حدوداً تبدأ في جبل الشـيخ وتنتهي في خليج العقبة، وقد أنشد شـعر حسـان بن ثابـت ذلك بقوله:
مُلكــــــــاً من جبــلِ الشـيــــــــــخِ الى جانبَــــــــي أيلـــــةَ من عبـــدٍ وحـــــرّ
مناخـه
يتميز بالاعتدال صيفاً والجفاف وطيب الهواء ورطوبة وبرودة قارسـة شـتاءً، حيث تهطل الامطـار غزيرة على الاودية والمنخـفـضـات، وأما الهضـاب والسـفوح والتلال والقمم فتتسـاقط عليها الثلوج، ولا سـيما في أشـهر كانون الأول وكانون الثاني وشــباط وآذار، وربمـا تتســاقط في نيسـان وحـزيران في أوان الحـصـاد.
تبلغ سـماكة الثلج على حرمون أمتـاراً عدة في بعض السـنوات، مما يسـمح للجبل بإختزان كميـات كبيرة من المياه التي تتفجر ينابيع على جوانبه وفي أوديته، منها ينابيع عرنـا وبيت جن وبانياس أحد روافد نهر الاردن في ســوريا، ونبع اللدان في فلسـطين والحاصباني والوزاني، وينابيع شــبعـا في لبــنان، فضـلاً عن ينابيع وعيون كثيرة لا مجال لذكرها.
وبالنظر إلى مناخه الطيب ووفرة مياهه، فقد ازدان الجبل لوقت طويل بغطاء أخضر بديع، إذ كانت الأشجار والغابات تكسـو جوانبه وسـفوحه حتى ارتفاع ما دون الألفي متر عن سـطح البحر، وهو المعروف بـ «خط الأشـجار»، ومن أهم الأشـجار التي نبتت على الجبل السـنديان أو البلوط والملول والقيقب واللبنا والزعرور والبطم والفرعم وغيرها، وهذه الغابات أمدّت المناطق المجاورة والبعيدة بكميات ضخمة من الأخشـاب للصناعة والتدفئة إلا أنه وبسبب القطع الجائر للغابات فقد أصبح الجبل اليوم أجرد على العموم ما عدا بعض البقع الصغيرة. ويقول فيليـب حِتـِّي: «كان عدد من القبائل العربية قد أوغل في هذا الجبل ولا سـيما من الجنوب ومع ذلك فقد بقيت فيه غابات كثيرة وكان المسـافر حتى أواخر القرن الرابع عشـر يصـادف الاسـود والدببة والخنازير البرية والحمير الوحشـية»، ويضيف: «نظراً لكثرة الفواكه البرية والبقول الصالحة للطعام وغزارة المياه العذبة فقد غدا الجبل ملجأ مسـتحباً لرهبان النصـارى ومتصوفة المسـلمين». لقد شـهدت سـفوح هذا الجبل وأوديته والسـهول المحيطة به أحداثاً تاريخية هامة جداً في الأزمنة القديمة والمتوسـطة والحديثة والحالية، فكان لها التأثير الهام على العمران والسـكن وحياة الناس، لقد جرت معارك كبيرة فانتصرت جيوش وتقهقرت أخرى وبنيت قلاع وتهدمت حصون نتيجة المعارك والصراعات والزلازل، كما أقيمت دور عبادة وصوامع للمتعبدين والزهـّاد وأختبأت جماعات كثيرة خوفاً من الغزاة أو الحكام، فهو موئل المضطهدين ومحط رحال الرجال الاحرار أباة الضيم.
وفي فترات السـلم، تطور العمران ونشـطت الزراعة وتعززت التجارة وعبرت القوافل واقيمت الأسـواق وبعض التجمعات التجارية الصغيرة، فضلأً عن الصناعات النشـيطة والحرف البسـيطة.

أحد-المعابد-الأثرية-في-عين-حرشة-في-سفوح-حرمون-اللبنانية--2
أحد-المعابد-الأثرية-في-عين-حرشة-في-سفوح-حرمون-اللبنانية–2

ثروة أثرية
بالنظر الى عدد الأمم التي توالت على جبل حرمون وللنشاطات الاقتصادية والزراعية والدينية التي احتضنها، فمن المؤكد أنه يحتوي على ثروة كبيرة من الأطلال والرسوم والمواقع الأثرية، وقد كان الجبل أهم مركز لعبادات الكنعانيين الأقدمين. كما عبده الفينيقيون وأقاموا، لغلهم «بعل»، هيكلاً إلى جانب الصخرة الكبيرة التي تتوج قمة الجبل ولا تزال آثار المعبد ظاهرة حتى اليوم. ومن الآثار التاريخية بقايا جدار «قصر شبيب» العائد إلى أحد هذه الهياكل وطوله قرابة عشرة أمتار وداخل المعبد ثمة فتحة دائرية ذات مساحة تتراوح ما بين 8 و 9 أمتار مربعة وعمقها نحو المتر كانت تستخدم مكاناً لإيداع النذور من جانب الصاعدين إلى قمة الجبل. وقد وجدت قطعة من حجارة المعبد بطول ستة أمتار وعرض أربعة أمتار وسماكة 1.2 متر، حفرت عليها كتابات يونانية يمكن ترجمتها كالتالي: «بأمر من الإله الأعظم المقدس قدموا النذور في هذا المكان». وهناك مغارة تقع حالياً داخل موقع للقوات الدولية يعتقد أنها كانت معبداً للإله «إيل».
وقد لاقت المعابد في حرمون اهتماماً بالغاً من الرومان، الذين أعادوا تجديدها وتوّجوا أعلى الجدران بتيجان مشابهة لمعبد باخوس ومعبد جوبيتر في بعلبك، وبقيت هذه المعابد تتمتع باحترام كبير، وبحركة حج تكمّل زيارة بعلبك ومعابدها حتى القرن الخامس للميلاد.
وقد تحدث الرحالة الانكليزي طومسون لدى زيارته لبنان سنة 1852 وطوافه حول الجبل عن 20 معبداً لعل أبرزها قلعة بصرى في سوريا ومعابد في قرى كفرحمام وكفرشوبا والهِبّارية ومعابد عين قنيا المنتشرة حتى وادي جنعم في سفوح حرمون ومعبد عين عطا وصولاً الى دير العشاير، ويدل وجود هذه المعابد على ما كان للجبل من قدسية ومكانة لدى الحضارات والشعوب القديمة على مرّ العصور، علماً أن تلك الآثار لا تعود الى حقبة أو عصر معين انما تعود الى حقبات مختلفة عبر التاريخ.

خريف-جبل-حرمون
خريف-جبل-حرمون

دعوة التوحيد أينعت في ربوع جبال الشيـــخ وأثمرت جنى طيباً في خلوات البياضة ومقام الشيخ الفاضل

قـداســة جبـل الـشــيخ
يمكن القول إن الله حبا جبل الشيخ بمكانة عظيمة وأسبغ عليه قداسة خاصة استمدها ربما من كثرة المقامات وخلوات الصالحين وصوامعهم وكثافة نشاطات العبادة فيه على مرّ الأزمان. وقد كان الجبل دوماً مقصـد النسـّـاك والمتصوفين والمتعبدين وملجـأً لهم وحياضاً.
وتشير الأبحاث التاريخية والأثرية إلى أن الجبل كان معبوداً في حد ذاته كجبل لدى بعض الشعوب القديمة ومقدســاً لدى البعض الآخر، بينما استخدمه آخرون نظراً لجلاله وبعده عن المدن وأماكن الصراعات مكاناً للخلوة والاعتكاف والعبادة. يؤكد ذلك انتشــار المزارات وأماكن العبادة ســواء على الذرى ورؤوس التلال أو في الحنايا والأودية والهضاب والكثير منها ما زال قائماً حتى اليوم، ومنها ما تعرّض للتدمير والخراب بسـبب الحروب والزلازل فتهدّم. وبقيت آثار بعضها وزال أثر البعض الآخر.
لقد اعتبرت غالبية الأقوام التي سـكنت في القدم في هذه المنطقة جبل الشــيخ أرضاً مقدسة وأقامت دور عبادة لها على قممه أو سفوحه. وقد أقام الكنعانيون عليه هياكل للعبادة كما اقام الرومان معابد على أعلى قممه المعروفة بـ «قصر شـبيب»، وما زال البعض يســمي ذلك المعبد أو أطلاله «المحرق الروماني».
ونظرت بعض الأقوام إلى جبل حرمون كمصدر عطاء وخير وبركة فكانوا يحجون اليه في نهاية الصيف، أي عند انتهاء جني المواسـم الزراعية وجمعها، وذلك بهدف الشــكر وطلب العون حتى لا يقع جفاف أو نقص في مواسـم السنة التالية.
وتذكر الروايات أن الســيد المســيح عليـه الســلام قدم إلى جبل الشــيخ وأقام في كنفه ضمن رحلة قادته من الجليل إلى ضفاف نهر الأردن إلى لحف جبل الشـيخ، كما ازدهرت الكنائـس والأديرة في هذه البقاع، ولاسـيما في العصر البيزنطي وعهد الغسـاسـنة، وما زالت آثار بعض الاديرة قائمة حتى الآن، فضلاً عن الكنائـس المنتشـرة في غالبية القرى.
اما في العهد الاسـلامي فقد انتشـرت الديانة الاسـلامية في منطقة جبل الشـيخ خلال العصر الأموي وما بعده وأقيمت المســاجد ودور العبادة، وهي قائمة حتى الآن ولعلّ أهمها وأقدسـها المســجد الموجود في المشــهد والمعروف بمقام الخليل ابراهيم والذي سـبق ذكره.
كما تمت الاستجابة لدعوة التوحيد في عهد الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر اللـه في منطقة وادي التيم، وهضاب جبل الشـيخ وأوديته بدليل وجود خلوات البياضة، وهي المركز الديني الأول للموحدين الدروز في حاصبيا على سفوح جبل الشيخ. فضلاً عن ذلك، تضم قرية عين عطا في سفح الجبل مقام الشـيخ العارف الفاضل محمد ابي هلال.
ويذكر الطبري أن الكعبة المقدسة تم بناؤها بحجارة أخذت من خمسة جبال وهي طور سيناء وطور زيتون ولبنان والجودي وهذه الجبال التي بنيت الكعبة من حجارتها هي نفسها الجبال التي وردت في الكتابات التاريخية لدى الساميين القدماء والمقصود بلبنان هنا كان يقصد جبل الشيخ. وبناء الكعبة المقدسة من حجارة جبل الشيخ هو دليل واضح على المكانة الروحية والقدسية الالهية التي كان يتمتع بها جبل الشيخ على مدى العصور الغابرة.

أهميته الطبيعية
يمتاز جبل الشيخ بغطاء عشبي كثيف متنوع نادراً ما يعرف اليبوسة بفعل الوشاح الثلجي الابيض المشلوح طيلة أيام السنة.
من هذه الاعشاب ما هو صالح للأكل كالخبازي والهندباء والرشاد والشومر والزعتر، ومنه ما هو صالح للحيوانات، وآخر يدخل اصناف الاعشاب الطبية الفريدة، حيث يمكن وصف جبل الشيخ بالصيدلية الطبية الغنية بصنوف لا تتوفّر في أي مكان في العالم يقصدها العرب والاجانب من اماكن بعيدة في سياق ما يصح تسميته بالسياحة العلاجية. من هذه الاعشاب النادرة التي احصاها خبير الاعشاب قفطان جمال: «عود الوج، مرجان، لسان العصفور، لسان الحمل، نعناع، شعير هندي، زعفران، حب البلان، صمغ، صعتر بري، صمغ الاذناب، نجيل، عود الصليب، حبوق، اكليل الجبل، اكليل الملك، رعي الحمام، شمار، هيوفارقون، خرز الصخور، حلبلوي، راوند، رجلة، زنجبيل، فيكس، برباريس، جعيدي، القول، بيلسان، عنبر، قرة، جرجير، نفل(للربو)، عناب، قتاء، الحمار، قاتل ابيه، ورق، الفجل البري، كرفس، الزلوع، اضافة الى مجموعة جميلة واسعة من الزهور و الرياحين.

عدد ينابيع جبل الشيخ في الجانب السوري يوازي عدد أيام السنة وهذا ما دفع بعض المؤرخين للقــول إن جبــل الشيخ يدير وجهـــه الى سوريا و ظــــهره الى لبنــان

موقع-جبل-الشيخ-يجعله-مطلا-على-مناطق-شاسعة-من-لبنان-وسوريا-والأردن-وفلسطين
موقع-جبل-الشيخ-يجعله-مطلا-على-مناطق-شاسعة-من-لبنان-وسوريا-والأردن-وفلسطين

أهميته المائية والاقتصادية
وللجبل قيمة جغرافية واقتصادية مهمة بسبب كميات المياه التي يحتجزها، والتي جعلت منه هدفاً لأطماع إسرائيل، ويعتبر طمع إسرائيل في الموارد المائية الكبيرة والأهمية السياحية للجبل أحد أبرز الأسباب وراء التصلب اليهودي في مفاوضات السلام وقرار الدولة العبرية ضم الجولان المحتل بموارده المائية إليها.
تعود أهمية الموارد المائية لجبل الشيخ إلى أنه يتلقى كمية كبيرة من الامطار والثلوج خلال فصل الشتاء، وهذه المياه والثلوج يذهب قسم منها لتغذية الآبار الجوفية التي تعتبر بدورها مورداً هاماً للينابيع في سفوح الجبل، بينما ينساب القسم الآخر في جداول وأنهار منها نهر الحاصباني الذي يمثل أحد روافد نهر الأردن.
وهناك العديد من الينابيع في عدد من القرى المجاورة لجبل الشيخ ولاسيما في بلدة شبعا التي تعتبر من القرى الغنية بالمياه. هذا من الجهة اللبنانية، لكن من الجهة السورية هناك عدد كبير من الينابيع يوازي عددها عدد أيام السنة، وهذا ما دفع بعض المؤرخين للقول إن جبل الشيخ يدير وجهه الى سوريا وظهره الى لبنان.

السياحة البيئية
نظراً للطبيعة الخلابة التي يتمتع بها الجبل فقد اصبح مقصداً للسياح الذين يفدون اليه من مختلف المناطق لمشاهدة منظر شروق الشمس من خلف النقاب السمراء ليودعها الناظر، وهي تغفو على كتف الشفق الازرق، بالاضافة الى المنظر الجميل الذي ينعش هواؤه النقي الروح. هذا ما لفت اليه عدد من المستكشفين الكنديين الذين قالوا إن هذه المنطقة لا تماثلها الا منطقة أخرى في شمال كندا نظراً لخلوّها من التلوث والهدوء الذي لا يعكر صفوه الا حفيف الهواء على مناكب الصخور، بالاضافة الى المياه النقية التي تنساب من بين صخوره وكأنها دواء مجاني من يرتشفه يبرأ من الاسقام والاوجاع ، كما يعتبر الجبل محط انظار محبي التسلق ويقصده ايضاً رواد رياضة المشي في الطبيعة، كما يعتبر مقصداً لمحبي الاستطباب بالاعشاب، حيث يوجد عدد من الاعشاب النادرة التي لا مثيل لها الا في هذه البقعة الساحرة.

مصادر استفاد منها المقال
– منيـف الخطيـب في كتـابه : «شــبعا نـافذة على التاريـخ»
– ويكيبيديا
– «حرمون الجبل الشيخ» لمفيد توفيق سرحال، بيروت

معتكف-قديم-في-أعالي-جبل-الشيخ-يشير-إلى-دوره-كمقصد-للعابدين--من-مختلف-العقائد
معتكف-قديم-في-أعالي-جبل-الشيخ-يشير-إلى-دوره-كمقصد-للعابدين–من-مختلف-العقائد

مقام النبي إبراهيم

إحدى أبرز كرامات جبل حرمون أنه يضم في ربوعه مقام نبي اللـه إبراهيم عليه الســلام، وهو قائم فوق تلة تكســوها غابة جميلة من أشــجار الســنديان، ومعروف لدى ابناء المنطقة بـ “مشـهد الطير” أو “مقام الخليل ابراهيم”، وهو مزار مقدس تقدم له النذور قرب مزرعة رمتا إحدى مزارع شــبعا.
وتكاد هذه تكون الغابة الوحيدة المتبقية من غابات وأشـجار جبل الشـيخ الكثيفة التي عبثت بها فؤوس الحطابين والرعاة وأزالتها. ولكن قداسـة المقام ربما حمت هذه الغابة التي ما زالت محافظة على رونقها وقدسـيتها وجمالها.
وفي هذا المكان المعروف بالمشـهد أو مشـهد الطير تمت، حسب المعتقد الشعبي، معجزة نبي اللـه ابراهيم التي ذكرها القرآن الكريم:}َإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ{ (البقرة: 260)

تاريــــخ عِــــرى

تاريــــخ عِــــرى

دار إمارة الأطارشة في الجبل

بُنيت في عهدي كل من شبلي ووالده يحيى على مساحة 11 ألف متر مربع لتكون مقراً لإمارة الأطارشة وزادها الأمير حسن جناحاً خاصاً لزوجته المطربة أسمهان

زارها مستشرقون سحرتهم أخبار الجبل ونضاله الاستقلالي
وتركوا آثاراً تصف قوة الموحدين الدروز وآدابهم وشهامتهم

لم تكن قرية «عِرى» سوى قرية عادية من بين قرى جبل حوران في القرون الخوالي، ويذكر الدكتور الحوراني خليل المقداد في كتابه «حوران عبر التاريخ»، بأن الخراب قد نال حوران سهلاً وجبلاً بمعظمها في العهد العثماني، وفي القرن التاسع عشر ومع اتساع دور الموحّدين الدروز في ذلك الجبل الذي أصبح اسمه «جبل الدروز» بُعيد منتصف ذلك القرن.
عِرى في عهد آل الحمدان
بقيت عِرى قرية بسيطة تتبع لشيخ السويداء الحمداني، وفي سنة 1810 كانت عِرى حين زارها الرّحالة السويسري بركهاردت عامرة بالدروز والمسيحيين، ويورد الأستاذ سلامة عبيد، مترجم كتاب جون لويس بركهاردت «جبل حوران في القرن التاسع عشر»، مقتطفات من كتاب «رحلات في سوريا» (ص 22) أنّ بركهاردت أعجب بذكاء وكرم الشيخ الدرزي شبلي الحمدان شيخ قرية عِرى حينذاك، إذ يقول: «إنّ عِرى هي مقر زعيم الدروز الثاني في حوران وهو واحد من ألطف الناس الذين صادفتهم في الشرق وأغرب ما في أمره أنّه شديد الشغف في توسيع معارفه واطّلاعه، وفي الأحاديث التي كانت تجري بيني وبينه أثناء زياراتي المتتالية لعِرى كان دائم التلهّف للحصول على معلومات عن عادات الأوروبيين وأنظمتهم، وقد رجاني في أحد الأيام أن أكتب له حروف الألفباء اليونانية والإنكليزية والألمانية وما يقابلها من نطق باللغة العربيّة تحت كل سطر، وفي اليوم الثاني أراني النسخة التي نقلها عنها بنفسه».
وكان شبلي الحمدان، إبن عم شيخ السويداء الذي كان يشغل منصب شيخ مشايخ الدروز آنذاك، وكان على درجة من التميّز ممّا رفع من شأن تلك القرية.
تقع عِرى جنوب غرب مدينة السويداء، مركز المحافظة، وتبعد عنها مسافة ثمانية كيلومترات، وهي على ارتفاع 984 متراً فوق سطح البحر. ويمتد العمران القديم لبلدة عِرى على السفح الغربي لتل بركاني يدعى بـ «تل الحصن»، وعلى الامتداد الشمالي الجنوبي من ذلك السفح المتطاول في الاتّجاه نفسه، وتشكّل أبنية القرية القديمة المبنيّة من الحجر البازالتي المقصوب نواة البلدة الحاليّة التي امتدّت في الجهات الأربع من حولها، وتتصف الأراضي الواقعة إلى الغرب من قرية عِرى بما تتصف به أراضي سهل حوران من سهولة وانبساط نسبي، بينما تكثر في أراضيها الشرقية الحجارة والرجوم، أمّا تربتها فناجمة عن تحلّل الأحجار البركانية، لذا فهي تربة خصبة غنيّة بالمواد المعدنيّة فقيرة إلى حدّ ما بالمواد العضويّة.
لم تكن بلدة عِرى الحاليّة موقعاً حضريّاً ذا أهميّة في العصور السالفة التي شهدت توطّن الإنسان وتحضّره في ما كان يُدعى جبل باشان في الألف الأول قبل الميلاد، ثمّ حمل اسم جبل حوران في عصور الجاهلية قبل الإسلام وفي ما بعد، إلى أن أصبح يدعى جبل الدروز في القرن التاسع عشر الميلادي، وذلك بعد أن أصبح الدروز المهجّرون، والمهاجرون إليه من لبنان وغيره، قوّة مؤثّرة في ذلك الجبل وما حوله. أمّا عِرى فقد كانت منذ القديم قرية بسيطة بالنسبة إلى الحواضر الرئيسية في جبل حوران مثل السويداء وشقّا وشهبا وقنوات وصلخد، تلك المدن التي ازدهرت في العصر النبطي ثم العصر الروماني فالبيزنطي فالإسلامي في ما بعد. لكن عِرى وسائر المواقع الحضريّة في الجبل تعرّضت لخراب العمران بعد سقوط دولة بني أميّة لأسباب أهمها الجفاف، والجراد وغزوات البدو وانعدام الأمن، إلى أن تمكّن الموحّدون الدروز من إعادة إعمار الجبل منذ مطلع القرن الثامن عشر، بعد أن كانت معظم حواضره خراباً وأطلالاً.

تاريخ سكنى الموحّدين الدروز في عِرى
يذكر الدكتور حسن أمين البعيني في كتابه «جبل العرب» (ص 176) أنّ انتقال الحمدانيين(الدروز) إلى عِرى حصل قبل القرن التاسع عشر، أي قبل زيارة بركهاردت لها، ولكن لا سنة محدّدة لذلك، كما أن السيّد أبو محمد فارس زين، وهو من معمري البلدة، يذكر أن آل زين ودرويش وبكري، وهم أبناء عم يعودون بأصولهم إلى بلدة نيحا الشوف، وفدوا إلى عِرى قبل أن يصل إليها آل الحمدان، وقد وجدوا فيها قبلهم المسيحيين الأرثوذكس من آل الفريحات الغساسنة. يؤكد ذلك القاضي نمر الفريحات، الذي يقول بأن الفريحات نزحوا من رميمين في الأردن نحو سنة 1720 وقد طوّفوا في العديد من قرى جبل وسهل حوران من عنز إلى صلخد فأم الرمان فذيبين فحبران، فالكفر فالرحا فبصرى فالمجيمر، فجمرّين فخرَبا فجبيب فالأصلحة فالدارة، إلى أن استقرّ بهم المقام في عِرى أخيراً.
ولم تكن عِرى قرية زراعية قبل قدوم الفريحات إليها في القرن الثامن عشر، بل كانت خربة ومراعي ومشتى تتبع للشيخ سلمان البداح من شيوخ قبيلة الشنابلة البدو. وكان البداح ينتقل بمواشيه في الربيع إلى الجبل حيث يُربِع في برّية خرائب الكَفْر وما حولها، لكن الشنابلة وسائر عشائر بدو الجبل الذين كانوا يتخذون من أراضي جبل حوران مراعي لهم، كانوا مستضعفين من قبل القبائل الأقوى مثل قبائل الرولا ووِلد علي وأهل الشمال والسّرديّة وغيرهم، بحيث كان هؤلاء يقومون بنهبهم، أو إجبارهم على دفع الإتاوات. وظل هذا الواقع قائماً إلى أن قَدِم الدروز إلى البلاد، فرفعوا عنهم الحيف واستزرعوا الأرض الموات. ومع قدوم الفريحات إلى عِرى قدمت بعض الأسر الحورانية كآل الغوثاني وغيرهم. وقد كتب الدكتور الحوراني خليل المقداد في كتابه «حوران عبر التاريخ» (ص 166) ما يلي: «تميّز القرن التاسع عشر بشكل عام بالهجرات واضمحلال عدد من مدن وقرى حوران ( السهل والجبل)، حيث لم يبقَ إلّا 14 قرية مأهولة من أصل 300 قرية، وتحوّل الباقي إلى خرائب، حتى أنّ بصرى العاصمة العريقة عبر التاريخ لم يسكنها سوى 14 عائلة بلغ عدد أفرادها 150 شخصاً فقط».

التأثير المدمر للبدو والقلاقل ..والجراد
أما قدوم آل زين ودرويش وبكري إلى عِرى ، وهم من أُسر بني معروف، فلابدّ أن يكون قد حصل في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ولم يلبث الشيخ الحمداني في السويداء أن مدّ نفوذه إلى عِرى في ما بعد، فقدم إليها الشيخ إبراهيم الحمدان، وفي سنة 1810 كانت عِرى عامرة بالدروز والمسيحيين؛ حسب شهادة الرحّالة السويسري بركهاردت.
أمّا عن التنقل المتواصل والقلق لآل الفريحات وغيرهم من الأسر الحضرية، فإن سببه يكمن في ضعف سلطة الدولة العثمانية آنذاك، بحيث يصعب الاستقرار في كثير من مناطق حوران، وبسبب الجراد الذي كان يهدّد الزراعة مرّة كل أربع سنوات، وانعدام الأمن بسبب الغارات البدوية على الحواضر، وقد كان البدو عنصر تدمير للحضر، وكثيراً ما كانوا يتصدّون حتى لقوافل الحج، ويفرضون الإتاوات عليها أو ينهبونها، مُتَحدّين بذلك هيبة الدولة.

الموحدون الدروز أعادوا إعمار جبل العرب بعد أن كانت معظـــم حواضره أطلالاً وخرابــاً

السهوة_مقام الشيخ ابو حسين محمد الحناوي
السهوة_مقام الشيخ ابو حسين محمد الحناوي

وقد وجد المسيحيون في الموحدين الدروز (في عِرى وغيرها) سنداً ساعدهم على الاستقرار لقيامهم بصد غارات البدو على عِرى وغيرها من حواضر الجبل التي كانت خراباً قبل وفودهم إليها، كما أنّ المنطقة الواقعة إلى الجنوب والغرب والجنوب الشرقي من عِرى كانت غير آمنة، وطرقها مُخوِّفة. يقول بركهاردت:« كنت أرغب في أن أقوم برحلة إلى الجهات الغربية من جبل حوران لزيارة درعا وأم الجمال وأم السرب، والتي تبعد مسيرة يوم عن درعا وقد صار عندي اقتناع بأن هذه الخرائب يجب أن تزار. وقد عرضت على أي شخص أو جماعة من الناس مبلغ ثلاثين قرشاً وهو ثروة ضخمة في هذه الأنحاء مقابل إرشادي إلى أماكنها ولكنني لم أجد أحداً. كانت الطريق بين درعا وأم الجمال مطروقة من قبل عرب السردية ــ قبيلة بدوية مشهورة بشدة البأس ــ وقد قتل أخو زعيمها منذ عهد قريب من قبل جنود الباشا ــ والي الشام ــ وبالإضافة إلى ذلك، فإن جماعات كثيرة من عرب الشراقة ــ قبائل الجلاس والغياث وغيرهم ممن كانوا يجولون بمواشيهم ويمارسون غزواتهم في الخرائب الشرقية من الجبل وإلى الشرق منه وفي جنوب سهل حوران ــ … وهكذا أرغمت على التخلي عن فكرتي».

عرس مسيحي
في ذلك الزمن ــ أي سنة 1810 ــ يصف بركهاردت مشاهدته عرساً مسيحياً في عِرى، يقول: «وقد أتيحت لي فرصة مشاهدة إكليل أحد المسيحيين في عِرى وفي بيت أحد المسيحيين، إذ جيء بالعروس ورفيقاتها من النساء من بلدها وهي تبعد مسيرة يوم من عِرى ومعها جملان مزينان بالشراشيب ( اللواليح) والأجراس إلى آخره. ونزلت ضيفاً على أقربائها في عِرى. ودخل الموكب القرية تتقدمه النساء اللواتي يضربن على الدفوف وشباب القرية وهم يطلقون نيران بنادقهم في الفضاء، وما أن وصلوا حتى انسحب العريس إلى النبع الذي كان يبعد عشر دقائق عن القرية حيث اغتسل ولبس ثياباً جديدة ثم دخل القرية فوق حصان مزيّن يحفّ به الفتيان بينهم اثنان يدقان على الدف والآخرون يطلقون النار. ومن ثم توقف أمام بيت الشيخ ثم حمل مدة ربع ساعة على ذراعي رجلين وسط الأغاني والزغردات وحينئذ صاح الشيخ: «مبارك العريس»! وردد ذلك بصوت واحد جميع الحاضرين، ثم جلس العريس وظل حتى غياب الشمس عرضة لتنكيت رفاقه، وبعد هذا أخذ إلى الكنيسة حيث قام خوري الروم بمراسم الزواج ومن ثم سار العروسان إلى منزلهما وكان والد العريس قد ذبح خرافاً عدة وجدايا استُهلك قسم منها أثناء النهار إلا أن أفضل قطعها حمل في ثلاث صوانٍ كبيرة (مناسف) من البرغل إلى مضافة الشيخ. وكان اثنان منها مختصين بالأهالي أما الثالث فقد خصص للشيخ ولوجوه القرية. وفي المساء بُدئ بجمع البارات (نقود عثمانية) من قبل أحد رفاق العريس الذي كان ينشد أشعار المديح بكل الذين يعرفهم وكلما سمى واحداً كان على هذا الأخير أن يقدّم هدية».
بعد هذا العرض نستنتج أنّ آل الحمدان الذين تمكّنوا من دخول السويداء والتمركز فيها كعاصمة لهم في الجبل، في القرن الثامن عشر، نشروا نفوذهم حول مركزهم الجديد. ويذكر بركهاردت أنّ هناك أكثر من ثماني قرى يرأسها أقرباء الشيخ الحمداني، ولابدّ أن يكون الموقع الانتقالي والمتوسّط لقرية عِرى قد لفت انتباه الحمدانيين؛ لكونه يفصل بين سهل حوران الواقع إلى الغرب منها، وبين قرى الجبل الواقعة شرقها؛ حيث تأخذ الأرض بالتوعّر تدريجيّاً كلّما اتّجهنا شرقاً صوب المرتفعات، كما أنّ وجود النبع الغزير نسبياً في أراضي عِرى عزّز اهتمام الحمدانيين بالتوطّن في تلك القرية التي كان مصير عمرانها مرتبطاً بمصير عمران الجبل.

كان البدو عنصر تدمير للحضر وكانوا يفرضون الإتاوات ويتصدّون حتى لقوافل الحج مُتَحدّين هيبة الدولة قبل أن يكسر الدروز شوكتهم ويبسطوا حمايتهم على السكان

زعامة عِرى تؤول لآل الأطرش
حتّى سنة 1859 كانت عِرى مقرّاً للشيخ هزّاع الحمدان، شقيق الشيخ واكد، شيخ السويداء. ويقرر المؤرّخ البعيني في كتابه «جبل العرب» ( ص 203) «أنّ الزعامة الحمدانيّة شاخت واعتراها الوهن، وغدت عاجزة عن إثبات وجودها وقيادة الدروز، وأن اسماعيل الأطرش تسلّم زمام القيادة الفعليّة للدروز قبل أن يقوّض مشيخة هزّاع الحمدان في عِرى ، الذي غدا مع أخيه واكد (شيخ السويداء وزعيم الجبل الرسمي في نظر العثمانيين) زعيمين فخريين ضعيفي السلطة…».
أما السلطة الفعليّة المستندة إلى مبايعة الدروز فقد استطاع اسماعيل الأطرش أن يملكها بعد أن اكتسب ثقة دروز الجبل وسكانه بفعل كرمه ونجدته واستجابته لمطالب السكان. واستند سليم الأطرش إلى عشيرة واسعة من أبناء العم والأقرباء الفارّين من بطش التحالف الذي تزعّمه الشهابيون ضدّهم في جبل لبنان، وقد كانوا لشدّة ثقتهم بصدق مواقف إسماعيل وحسن قيادته لا يسألونه برهاناً على أمرٍ يقودهم إليه.
من جانب آخر، كانت الزعامة الحمدانية تتوجّس خيفة من اتّساع نفوذ اسماعيل في أوساط الدروز والحوارنة، ولدى عشائر البدو في الجبل وما حوله، إذ كان قد نجح من موقعه في بلدة القريّا حينذاك، وقبل انتقاله إلى عِرى وطرده الحمدانيين منها، في أن يعقد تحالفاً مع آل المقداد الشيوخ في بصرى أسكي شام، القريبة من عِرى (تقع على مسافة بضعة عشر كيلو متراً منها)، وذلك بعد أن قاد رجاله ليلاً إلى بصرى في عملية قتالية جريئة وتمكّن من تحريرهم من ضريبة سنويّة مذلّة كانوا يؤدّونها للبدو من أهل الشمال، وهم بدو شمال الأردن الحاليّة. وكانت تلك الضريبة التي فرضها البدو على قرى وادي الزيدي الواقعة جنوب شرق سهل حوران تشتمل على حصص من المواسم الزراعية والمواشي وخدمات أخرى.
كانت هذه الأحداث بمثابة المقدمات التي أكدت تنامي زعامة الأطارشة وتراجع الزعامة الحمدانية، لكن القشة التي قصمت ظهر البعير تمثّلت في ما أقدم عليه الشيخ واكد الحمدان من إهانة شخصية لاسماعيل الأطرش، وذلك عندما قَدِمَ إليه في دار المشيخة في السويداء بائع أمواس حلاقة ساذج، غريب الديار، فما كان منه إلّا أن قال له «اذهب إلى اسماعيل الأطرش وجماعته في القريّا، هناك تجد من يشتري أمواسك»، وكان الشيخ اسماعيل يتميّز بمنظره المهيب ولحيته الكثّة، وقد أدرك أنّ الشيخ الحمداني بعث إليه ببائع الأمواس ليهزأ به وبجماعته الملتحين.

ردّ صاعق من إسماعيل الأطرش
لم يشأ اسماعيل الأطرش التوجّه إلى السويداء والانتقام من واكد الحمدان، لأن ذلك يضعه في مواجهة العثمانيين الذين يعترفون للشيخ الحمداني بالزعامة الأولى على بني معروف، ثمّ أنّ هذا يتطلّب منه أن يحصل على تأييد قادة عشائر الموحدين الدروز في الجبل لتلك الخطوة. وقد اختار سليم الأطرش بدلاً من ذلك أن يقود رجال عشيرته وعدداً من مناصريه إلى عِرى فقاموا بطرد شيخها هزّاع الحمدان أخ الشيخ واكد. وقد مثّل طرد الحمدانيين من عِرى ضربة معنوية كبيرة لهم وهي ضربة حملت مؤشراً واضحاً على الأفول الوشيك لزعامتهم التاريخية في الجبل. وقد دخلت عِرى في حيازة الأطارشة سنة 1859، وأصبحت منذ ذلك العام مركزاً للزعيم الأطرشي الذي، على حد قول حنا أبو راشد في كتابه: «جبل الدروز، حوران الدامية» (ص149)، أصبح «الزعيم الذي له الأسبقية الأولى في المراكز الاجتماعية» وقد اتخذ مقره في عِرى «ابتداء بعهد الشيخ اسماعيل الأطرش مؤسس الزعامة الأولى في الجبل واستمر هذا التقليد في فترة إبراهيم باشا ثم شبلي بيك إلى يحيى بيك إلى الأمير سليم (ابن محمود بن شبلي) إلى الأمير حمد بن شبلي».

مستشرقون في عِرى
بالإضافة إلى السويسري بركهاردت، الذي زار عِرى سنة 1810، فإن مستشرقين آخرين زاروا البلدة ودوّنوا مشاهداتهم، منهم الإنكليزي وليم رايت (سنة 1874) الذي وصف شاعرية المكان في كتابه الذي ترجمه كمال الشوفاني «مغامرات بين خرائب باشان» (ص 152) بقوله: «سرنا مباشرة من عِرى إلى مزيريب عبر سهل من القمح، على يسارنا، خلفنا وأمامنا، كان بحر القمح يمتدّ إلى التلال البعيدة، وعندما نظرنا إلى الأسفل من قمة تل القليب قبل أيام عدة، كان يبدو لنا وكأنّ بحيرات من الدم تخترق سهول القمح، وقد قدّرنا أن ظاهرة طبيعية ما قد تصدر عن غياب الشمس أو السراب، لكن عندما عبرنا هذه السهول، وجدنا أن الأرض التي لا تحوي قمحاً تكون متلألئة بالخشخاش القرمزي».
أمّا الألماني ماكس فون أوبنهايم الذي زار الجبل في صيف 1893، فيذكر في كتابه «من البحر المتوسّط إلى الخليج، لبنان وسوريا» (ص 217) «وصلنا بعد مسيرة ساعتين من السويداء إلى القرية الشاعرية عِرى، الواقعة على ظهر هضبة صغيرة. وفي عِرى كان يسكن في بناء بارز، إلى مسافة بعيدة، شبلي الأطرش».
وكان مرافقو أوبنهايم من رجال إبراهيم باشا الأطرش شيخ مشايخ الدروز في السويداء قد منعوه من زيارة عِرى بحجة أن شبلي وهو شيخ عِرى الشديد البأس، الذي تصفه المستشرقة الألمانية بريجيت شيبلر بـ «شبلي الأسطوري» سيهاجمهم في ما لو فعلوا ذلك. حقيقة الأمر أن الأخوين كانا على خلاف حول العلاقة مع العثمانيين، وكذلك حول الموقف من ثورة العامية التي وقف إبراهيم منها موقفاً مضادّاً.

الأمير حسن الأطرش أمر بتوسيع دار الإمارة وإنشاء جناح خاص لزوجته أسمهان
الأمير حسن الأطرش أمر بتوسيع دار الإمارة وإنشاء جناح خاص لزوجته أسمهان
الجنرال ديغول في زيارة جبل العرب بعد عودة سلطان الأطرش من المنفى
الجنرال ديغول في زيارة جبل العرب بعد عودة سلطان الأطرش من المنفى

زيارة جيرترود بل
وفي أيار سنة 1900 زارت الرحالة الإنكليزية جيرترود بل عِرى ، وكان إبراهيم قد مات، بينما نُفِي شبلي من قبل السلطة العثمانية إلى جزيرة رودس في البحر المتوسط لفترة امتدت ما بين 1896و1900. لذلك فقد استقبل بل في عِرى شقيق شبلي يحيى. تقول بل في ما ترجمه كمال الشوفاني «مذكرات جيرترود بل إلى جبل الدروز»، «وصلنا عِرى عند الثامنة والنصف صباحاً وكان هناك بعض الأشخاص، بدا لي أنّهم من عليّة القوم يجلسون أمام منازلهم في أسفل التلّة. كان ألطف شخص بينهم يدعى حمد حامد. أخبرتُهم عن قصتي وكيف هربت من الحكومة وجئت إليهم، فكان استقبالهم حارّاً، وأكّدوا لي أنه لا توجد حكومة هنا، وأن في إمكاني الذهاب أنّى شئت. سيكون من الصعب وصف المشهد الرائع ومشاعر الراحة والأمان والثقة التي منحوني إياها. سألوني عن الحرب وكانوا يعرفون أسماء كل الجنرالات والمدن، لقد كانوا أشخاصاً مهذبين متحضرين، بعد أن قدّموا لي القهوة وكانت لذيذة، سألت إن كان بإمكاني زيارة الشيخ.
فهب أحدهم قائلاً: «الشيخ؟! إن يحيى بيك هو زعيم كل الدروز على هذه الأرض، بالطبع يجب أن تزوريه».
سرنا صعوداً إلى قمة الهضبة حيث يتربّع بيت البيك ذو الشرفات المتعددة على جوانبه، أخبرني حمد بأن يحيى بيك سجن لمدة خمس سنوات في دمشق، وقد أفرج عنه قبل ثلاثة أسابيع وطلب مني أن أعامله باحترام كبير. كان يحيى بيك مثالاً للسيد الإقطاعي، وكان رجلاً كهلاً (في الأربعينات أو الخمسينات على ما أظن) أنيقاً ويتمتع بأخلاق رفيعة.
بل تركت زيارة الرحّالة البريطانية أثراً مهماً بسبب اهتمامها الخاص بوصف التقاليد ونمط السلوك واللباس والحياة السائدة في مجتمع الجبل آنذاك، تقول: «توجّهنا مباشرة إلى غرفة الاستقبال حيث كان الشيخ يجلس على سجادة مع ستة أشخاص أو ثمانية يتناولون الطعام، من وعاء كبير. أشار إليّ أن أدخل لأشاركهم الطعام، ففعلت، واستخدمت قطعة رقيقة من الخبز كملعقة.
كان الطعام لبناً وخليطاً من الفاصولياء واللحم. كنت أريد أن آكل المزيد لكن يحيى بيك انتهى من طعامه وخفت أن لا يكون من اللائق أن أستمر.
رُفع الطعام وكُوّمت المساند لي على الأرض كي أجلس، وانتظرت حتى جلس، فهو ملك كما تعلمون، وملك طيّب جدّاً على الرغم من أن مملكته ليست كبيرة. كان عليّ أن أعيد له حكايتي مرة أخرى وكان البيك يغمض عينيه الكبيرتين ويحرّك رأسه بين الحين والآخر هامساً: هذا صحيح. أخبرته بكل ما أريد مشاهدته وأنني لا أريد رؤية السويداء بسبب وجود الأتراك فيها ــ كما يوجد خط برقي أيضاً وهو الأمر الأكثر خطورة. كان متعاطفاً جداً معي، ثم حدثني بالتفصيل عن سجنه، وكيف أن شقيقه شبلي بيك مازال سجيناً في المنفى.
شربنا القهوة ثم توجهنا لمشاهدة البناء الجديد الذي شيّده البيك مكان الخرائب التي تركها الأتراك.
غرف ذات جدران حجرية جميلة وبلاطات حجرية على الطراز الروماني وبوابة منحوتة مزخرفة. أشار علي سليم بأن أصور البيك (وهذا ما كنت أتمناه) طلبت منه الوقوف على الشرفة وبدا أمامي بكامل هيبته فصورته. خرجنا أخيراً من بيت البيك وتوجهنا أنا وحمد حامد ومحمود رضوان إلى المرج القريب حيث كانت دوابي ترعى، ثم غادرنا القرية بصحبة نصر الدين ــ شاب من قرية المجيمر ــ وعلي، الذي لم أكن أعرف وظيفته بالضبط، ولكن بدا لي أنه رفيق سفر مقنع. كان نصر الدين دليلاً ممتازاً عرّفني بأسماء كل القرى والخرائب والأسوار والينابيع والطرق متنقّلاً برشاقة لافتة أثناء سيرنا، بقمبازه المطرّز فوق رداء أبيض.
وفي طريقنا مررنا بجماعة من القرويين بملابس بهيّة يحملون البنادق والسيوف، كانوا ذاهبين لتهنئة يحيى بيك على عودته بالسلامة من السجن العثماني.
توقّفوا لإلقاء التحية ورحّبوا بي ترحيباً حارّاً».
ثم تعلّق بل: «يا له من تغيّر رائع بالمقارنة مع أولئك الذين كان همّهم الوحيد أن يمنعوك من الذهاب إلى أي مكان. صعدنا تدريجياً إلى سلسلة من التلال ودلّني نصر الدين على السهل الذي جرت فيه معركة قبل أربع سنوات، يقال إنه سقط فيها خمسمائة درزي وألف ومائتان من العثمانيين».

إهانة رعناء من واكد الحمدان دفعت بإسماعيل الأطرش إلى حسم النزاع وطرد الحمدانيين من عِرى وتحويلها إلى مقر لزعامة الطرشان

الامير جهاد بن زيد الاطرش
الامير جهاد بن زيد الاطرش

 

البريطانية «جيرترود بل» زارت إمارة عِرى سنة 1900 وتركت وصفاً دقيقاً للتقاليد والعادات ونمط السلوك وآداب المعاملة في الجبل في تلك الحقبة

الحفيد حسن بن يحيى الثاني تحت ضلال الماضي المتباعد
الحفيد حسن بن يحيى الثاني تحت ضلال الماضي المتباعد

معركة ضارية في عِرى
في عِرى جرت إحدى معارك الثورة السورية الكبرى، يقول سلطان باشا في «أحداث الثورة» (ص141) «ولم يلبث العدو أن استأنف هجومه مستخدماً سلاح الطيران بشدة، وعلى نطاق واسع، فدخل بلدة عِرى بعد معركة ضارية استشهد فيها عمّي نسيب»، وهنا يشيد سلطان باشا بالبطولة الخارقة للأمير حسن الأطرش ــ من عِرى- على الرغم من صغر سنّه، وبخاصة في معركة تل الخروف.
وفي ثوّار عِرى يقول الشاعر صالح عمار:
لمّا عِرى عِلق النّخا بِرْكانــهــــا بْوجــه الأعــادي فَجّــــرت بُرْكانهــــا
لو قامت الهيجا وثــار غبارها نِعْمــين مـــــن شيّــابهــــا وشُبّانــهــــا
ولمّا كان لكل قرية من قرى الجبل بيرقها، فإن بيرق عِرى يتوارثه آل بكري، وفي أواخر القرن التاسع عشر، على أيّام شبلي، كان حامل البيرق سلمان بكري يتقدم المحاربين في المعارك، فأعجب الشيخ بشجاعته، وعرض عليه هبة فدّانين من الأرض ــ أي ثلاثمائة دونم ــ فرفضها قائلاً: «لا أريد أن يقول الدروز إنني أحارب قدامهم من أجل مكاسب الدنيا».

مأثرة الأميرة أسمهان الأطرش
في سنة1941 تزوّج الأمير حسن الأطرش بالمطربة أسمهان، وأسمهان هي ابنة فهد الأطرش من دار الأطارشة في السويداء، فهي حفيدة إبراهيم باشا الأطرش قائمّقام جبل الدروز من قبل العثمانيين ــ توفي سنة 1893 ــ وكانت أمّها عالية المنذر اللبنانية قد فرّت إلى مصر هرباً بأطفالها فريد وفؤاد وأسمهان من معارك الثورة السورية الكبرى سنة 1925؛ تلك الحرب التي دارت أهم معاركها في الجبل.
وفي مصر شبّت أسمهان، ولمع نجمها كمطربة بارعة الأداء، وكان الأمير حسن الأطرش، حفيد اسماعيل ووارث الإمارة في دار عِرى ، المسمّاة بـ
(دار الدروز) محافظاً للجبل حينذاك، وكان يجمع بين الحنكة السياسية، والشجاعة التي اشتهر بها في معارك الثورة إلى جانب ابن عمه سلطان، لكن مع استقرار الأمور في الجبل قبيل بزوغ عهد الاستقلال لحق الأمير حسن بابنة العم الفاتنة إلى مصر، وجاء بها بعد لأيٍ إلى دمشق ليتزوّجها.
وفي دار الإمارة في عِرى، تلك الدار العريقة، التي تزيد مساحتها على أحد عشر ألف متر مربّع، وكانت قد بنيت في عهد كل من شبلي ووالده يحيى، أصدر الأمير حسن أوامره ببناء «أربع حجرات تليق بأسمهان» وجيء بالأثاث من دمشق وبيروت، وأطلّت الحجرات على صحن الدار من ناحية، ومن الناحية الأخرى أطلّت على بيوت الحرس من الدروز الأشدّاء الذين يقيمون في بيوت متلاصقة تشكّل سوراً للدار التي تشبه القلاع»، وذلك حسب الكاتب المصري فوميل لبيب الذي وضع كتاباً تناول فيه حياة أسمهان.
كانت أسمهان في دار عِرى أميرة بحق، أميرة صاحبة قرار، وقد رأت معاناة نساء بلدة عِرى وهنّ ينقلن الماء بالجرار على أكتافهن، أو على ظهور الدواب من أماكن بعيدة عن بيوتهن، إذ كان حق الانتفاع بمياه نبع عِرى، الذي تبلغ قوّة تدفّقه نحو خمس إلى ست بوصات في فصل الشتاء وتنخفض إلى ما دون ذلك صيفاً، محصوراً بدار الإمارة، وكان شبلي المتوفّى سنة 1904، وهو عم الأمير حسن ــ قد أمر باستجرار مياه النبع الذي يقع إلى الشرق من القرية بنحو خمسة كيلومترات، عبر قناة فوق قناطر حجريّة بنيت بإشراف مهندس استقدمه شبلي من اسطنبول ــ حسب رواية الدكتور هاني ملاعب من مواطني عِرى الأصلاء ــ وكانت تلك المياه تستخدم لإدارة ما عُرِف بمطاحن عِرى التي كانت ملكية خاصة لدار عِرى وقد آلت ملكيتها إلى آل الأطرش؛ بعد أن كانت لآل الحمدان، وهي أربع مطاحن، وقيل إن عددها خمس أو أكثر من ذلك، وكان الماء الذي تُدار به المطاحن يُستخدم لصالح دار الإمارة في إرواء بستان تربو مساحته على ستمائة دونم، ويروي أحد المعمرين بأن بستان الأمير حسن في زمانه «جنة أرضية» بكل معنى الكلمة.
يقول الأستاذ عمّار الخطيب: «بفضل أسمهان وُزّعت خمس حنفيّات سبيل يتدفّق ماؤها نهاراً وليلاً في حارات عِرى، وهكذا انتشر الاخضرار في جنائن صغيرة حول البيوت في تلك القرية، حيث كانت القرية الوحيدة من بين قرى جبل الدروز التي تتميّز بجنائنها في ذلك الزمن»، ولكن مأثرة الأميرة أسمهان أبقت لدار الإمارة ما يكفيها من الماء الذي توزّع في الخمسينات إلى حصص بحيث يكون الربع للأمير، والنصف لأهل عِرى، وربع لأهل المجيمر القرية المجاورة، والتي تشترك مع عِرى في حوض النبع.’

صحن الدار وصالون يحيى بيك بني نحو عام 1905 والى اليمين المضافة التي بناها الامير حسن الاطرش
صحن الدار وصالون يحيى بيك بني نحو عام 1905 والى اليمين المضافة التي بناها الامير حسن الاطرش

شهـــداء عِرى
في الثورة على الفرنسيين

قدّمت عِرى عدداً من خيرة فرسانها في ثورة الاستقلال، وعددهم أربعة وعشرون شهيداً، وهم، كما ذكرهم الشاعر صالح عمار أبو الحسن:
الأمير حمد بن شبلي الأطرش واسماعيل ملاعب، وفرحان ملاعب، ومسعود ملاعب، وخليل ملاعب، وعلي ملاعب، وتوفيق الشبل، وحمد الشومري، ويوسف حامد، وطراد حامد، وحسن زين، ومحسن قسّام، ومحمد قسّام، وأحمد الجوهري، وظاهر حمزة، وقاسم أبو سعد، وسليم رضوان، وحسن الأشقر، وحسين غزلان، وعلي سيف، وحامد الأعور، وحمد شرف الدين، وحسين بكري، ومحمد قطيش.

الأمير حسن الأطرش يعتقل المندوب الفرنسي في السويداء ويؤيد رفع علم الاستقلال ووحدة الجبل مع سوريا الأم

مدخل-مضافة-شبلي-الاطرش-الاول-في-عرى.
مدخل-مضافة-شبلي-الاطرش-الاول-في-عرى.

قصف فرنسي لدمشق وانتفاضة في السويداء
كان الأمير حسن الأطرش محافظاً لجبل الدروز سنة 1945، وفي تلك الفترة من الأربعينات؛ بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، يذكر سلطان باشا في مذكّراته (ص 361) أن فرنسا أخذت تستجمع قواها لتظهر بمظاهر القوة التي كانت تزهو بها قبل الحرب التي انهزمت فيها هزيمة منكرة أمام الألمان سنة 1940، إذ لم تصمد إلّا أياماً معدودة، تناسى الفرنسيون ذلك، وصاروا يتصرفون وكأنّ شيئاً لم يتغيّر بنظرهم في هذا العالم، فطالبوا حكومتي سوريا ولبنان بقواعد عسكرية برّية وبحرية، ولما قوبلوا برفض مطلبهم من البلدين، ظنوا بأن العنف يعزّز من هيبتهم، فقاموا بقصف مدينة دمشق.
وفي الجبل كان سارازان ممثلاً للانتداب في السويداء، وكانت تعاونه استخبارياً في الظل؛ المعلّمة رئيسة مدرسة الراهبات التبشيريةــ إذ كان الفرنسيون قد جعلوا من معلّمي المدارس عيوناً ومخبرين لهم ــ وكانت المعلمة قد حذّرت سارازان ممّا استشعرته عبر جواسيسها المعلّمين، لكن الأخير قلل من أهمية الأمر وأجابها بالقول: «لقد أنفقت مئة ألف ليرة سورية ــ وكان هذا مبلغاً ضخماً بالنسبة لذلك الزمن ــ لإفشال أي خطة ضد فرنسا.
كان سارازان يتولى قيادة قوات فرنسا في الجبل وكان تعداد تلك القوات نحو ألف وثمانمائة ضابط وجندي، من خيالة وسرية مدرعات ومفارز للنقل واللاسلكي والخدمات، بالإضافة إلى جنود نظاميين معززين بأسلحة ثقيلة يقودهم ضباط فرنسيون. وقد بذل الأمير حسن ومشايخ الموحّدين في الجبل جهوداً للبت في أمر الوحدة الوطنية وحسم الخلافات بين الناس في الشأن الوطني، ولم تفد الفرنسيين «الأموال الطائلة التي أغدقوها على من كان يتقرّب منهم أو يسير في ركابهم»، كما ورد في مذكرات سلطان.
وبتنسيق مع الأمير حسن الأطرش، وباطّلاع من قبل سلطان باشا على الخطة وغايتها، واستناداً إلى اتفاق مسبق بين الأمير وبين أعيان سوريا، أقدم فريق من الضباط وصف الضباط والجنود والشبان الوطنيين، من عصبة العمل القومي وغيرهم، على تنفيذ انتفاضة في السويداء ضد الفرنسيين، واستهدف التحرك تحقيق استقلال البلاد أو بالأحرى التسريع بخروج الفرنسيين من سوريا. وقد قام الثوار برفع علم الاستقلال على المباني الحكومية، بعد اجتماع لهم في منزل النقيب الدكتور توفيق عز الدين أقسموا خلاله على «الخلاص من الأجنبي مهما بلغت التضحيات» يذكر ذلك فارس قاسم الحنّاوي في كتابه «صراع بين الحرية والاستبداد» (ص 44).
كما ذكر عارف حديفة وسيف الدين القنطار في كتابهما «شكيب وهّاب، سيرة كفاح» أن «اشتراك شكيب وهاب قائد الكوكبة الثامنة المتمركزة بالثكنة الكبرى في أي عمل ضد الفرنسيين كان عاملاً حاسماً من عوامل نجاحه، وذلك لأهمية الموقع الذي يحتلّه ولحسن تدبيره، ولشجاعته، ولأنه ظل عبر التجربة الوطنية الطويلة رجل المهمات الصعبة».
ولم يكن صيّاح الأطرش قائمّقام صلخد حينذاك ببعيد عما كان يجري في السويداء، إذ كان ينسق شخصياً مع الأمير حسن عبر رسل أمناء منهم أبو الخير رضوان وحسن رسلان، وكان التنسيق المسبق من قبل الأمير مع قائمّقام شهبا طرودي عامر قد بلغ غايته بطرد المندوب الفرنسي من شهبا.
وهكذا، فإن الفرنسيين فوجئوا بالثورة عليهم، ولم يتوقعوا أن تأتي أول بادرة لطردهم من سوريا من السويداء، وكان أبرز أولئك الذين شاركوا في تلك العملية فايز حديفة وصالح العطّار وهاني قطيني وسلمان الشعراني ويوسف شيّا.
وعندما أخذ شبلي حمد عزام ويوسف قرقوط ومرعي شجاع يطلقون العيارات النارية فوجئ سارازان ونظر إلى الجنود بلهفة واستعطاف قائلاً: أين أبناء فرنسا؟!. فما كان من المجاهدين صالح العطار وفضل الله ابو منصور وعلي جربوع وحسن رسلان إلا أن شدّوه من ذراعيه وقالوا له: «أرجع أحسن ما نهينك أو نقتلك»، فقال: «اقتلوني تحت علم بلادي». فنادى الثائرون رفاقهم: «اسمعوا يا شباب، يريد سارازان أن يموت تحت علم بلاده، فَلِمَ لا نموت نحن كلّنا تحت علم بلادنا؟!
هنا حضر الأمير حسن وسيق جميع الضباط الفرنسيين وجنودهم إلى بيته أسرى لمدة أربعة عشر يوماً، وهناك عوملوا مع عائلاتهم أكرم معاملة ــ بخلاف ما كان يفعله الفرنسيون مع السوريين من عسف وجورــ وتمّ نقلهم إلى دمشق في ما بعد. وبهذا فقد رفض بنو معروف الدروز مشروع الدولة الدرزية الطائفية لصالح الدولة الوطنية الجامعة.

عِرى اليوم
تبلغ مساحة أراضي عِرى نحو مئة وعشرين ألف دونم، ربعها لدار الإمارة، وذلك قبل أن يقتص منها «الإصلاح الزراعي». وتزرع في البلدة الحبوب على أنواعها في أراضٍ زراعية بعلية، ومن أهم المحاصيل فيها القمح، ومتوسّط إنتاجه نحو ثلاثة آلاف طن سنوياً، والشعير والحمّص والعدس وغيرها، كما تزرع الأشجار المثمرة في مساحة نحو ثمانية آلاف دونم، أغلبها تزرع بالزيتون الذي يبلغ متوسّط إنتاجه السنوي في عِرى نحو ستة آلاف تنكة من الزيت، هذا عدا الاستهلاك كبيساً، أمّا العنب فتصدّر القرية منه نحو ستّين طنّاً بينما يذهب الباقي للإستهلاك المحلّي فيباع في أسواقها يُصنّع زبيباً ودبساً.
وإلى جانب تربية الأغنام والماعز، يتم التركيز من قبل الأهالي على تربية الأبقار المحسّنة، ففي القرية نحو 350 رأساً من الأبقار، تنتج البقرة يومياً ما متوسّطه 18 كلغ من الحليب، وذلك حسب الجمعية الفلّاحية في البلدة.
ويبلغ عدد السكان المقيمين في بلدة عِرى نحو اثني عشر ألف نسمة، غالبيتهم من الموحّدين الدروز يتوزّعون على عائلات منها زين ودرويش وبكري وملاعب وحمزة والجرماني، وحامد وصقر والحلبي وعقل والأعور ورحروح والنمط وأبو سعد والخطيب وسريوي والحجار وغزلان والصفدي والزغبي والدعبل ورضوان وأبو سعدى وحرب وأبو حمدان والبحري وعبد الوهّاب ودعيبس ونصر وسيف والشبل والأشقر وأبو عبيد وعلوان وفياض وقطيش والكريدي الجوهري وأمان الدين والبني والسلمان ودقدوق ومجدلاني.
من العائلات المسيحية في عِرى: آل الفريحات والجودة وهم أصلاً أبو جودة من الذين يتصلون بعائلة أبو جودة اللبنانية، وآل الخوري وإسحاق ونويصر والدرويش والفارس والعوّاد والحميدية والحداد والنصار وغيرهم. ويؤثر عن مسيحيي عِرى تمسكهم القاطع بالعيش بين الموحدين الدروز وبقية طوائف عِرى، ورفضهم لمساعي قامت بها دوائر كنسية في لبنان في فترة الخمسينات من القرن الماضي (عهد الرئيس كميل شمعون) لدفعهم إلى الهجرة إلى لبنان، حيث وُعِدوا بالحصول على الجنسية اللبنانية. ويروي بعض كبار السن في عِرى قصة طريفة جاء فيها أن المطران «كْليلا» وهو الذي أوفدته الكنيسة إلى الجبل يومذاك يئس من تجاوب مسيحيي عِرى مع دعوته لهم للهجرة فما كان منه في أحد الأيام إلا أن طفح كَيله وصرخ بمساعده قائلاً: «مخايل! هات المبخرة، بدّي أجنّز هؤلاء المسيحيين أحياء»!
يذكر أن المسيحيين في عِرى كانوا أصلاً على المذهب الأرثوذكسي، ولكن التنافس التبشيري بين الكنائس أوجد بينهم كاثوليك وبروتستانت.
كما تسكن البلدة عائلات من السنة، منهم عائلات حورانية أصلاً، كآل الغوثاني والنقيب والطّه والغول، وهؤلاء من فلسطين، وسواهم، أمّا البدو فهم من قبيلة الشنابلة، كالصالح والسعيفان والزطيم والوهبان وغيرهم، ومن قبيلة الحسن هناك عائلة المطلق وسواها، وجميع هذه العائلات على تنوّعها الطائفي، تعيش حياة اجتماعية يسودها الوئام والتآلف الثقافي والاجتماعي.

مسيحيّو عِرى تمسكوا بالمواطنة والشراكة مع الدروز ورفضوا دعوة بعض الكهنوت لهم للهجرة إلى لبنان تمهيداً لتجنيسهم

مدخل-دار-الامارة-في-عرى-وتبدو-في-الاعلى-احجار-التماثيل-المنقولة-من-خرائب-سيع-وجرش-وام-الجمال---Copy
مدخل-دار-الامارة-في-عرى-وتبدو-في-الاعلى-احجار-التماثيل-المنقولة-من-خرائب-سيع-وجرش-وام-الجمال

لخدمات العامة في بلدة عِرى
كان العثمانيون قد بنوا مخفراً للدرك منذ أواخر القرن التاسع عشر ولايزال هذا المخفر قائماً إلى يومنا هذا حيث يقوم عناصره بمهام الحفاظ على الأمن في البلدة.
وتوجد في عِرى مجموعة من المدارس الرسمية على اختلاف درجاتها: منها ست مدارس ابتدائية، ومدرسة إعدادية وأُخرى ثانوية. كما توجد مدرسة فنون نسوية، وهناك مدرسة صناعية قيد الإنشاء.
وفي البلدة اليوم مركز ثقافي يتضمن قاعة مطالعة ومحاضرات ومكتبة لإعارة الكتب للراغبين، وصالة تجارية تبيع الحاجيات بالتجزئة للمواطنين، ومقسماً للهاتف، ومكتب بريد، ومقراً لاتحاد الشبيبة، وفرقاً أهلية وبلدية لتنظيم أمور خدمات السكان والعمران، إذ تبلغ مساحة المخطط التنظيمي في البلدة ستة آلاف دونم، وأطوال الشوارع المعبّدة نحو أربعمائة كيلومتر.
وتوفّر البلدية خدمات الصرف الصحي لأكثر من 95 في المئة من مساكن البلدة، وتوجد أيضاً وحدة إرشادية زراعية لتقديم الإرشاد والنصح للمزارعين ومساعدتهم وإرشادهم على أصول الزراعة السليمة، ومصنع للسجاد اليدوي لكنه توقّف عن العمل بسبب انعدام الجدوى الاقتصادية، والمنافسة، كما توجد مطحنتان صغيرتان لطحن القمح والبرغل والكشك، وفي عِرى أربع صيدليات، وثلاث عيادات طبيّة، وثلاثة أطباء أسنان وطبيب بيطري واحد، وعلى مسافة أقل من كيلومترين من البلدة يوجد مطار زراعي لمكافحة الآفات التي تهدّد المحاصيل الزراعية. أمّا دور العبادة فهناك مجلس للموحّدين الدروز وثلاثة جوامع للسنة واحد منها للحوارنة واثنان للبدو.
وعموماً، فإن البلدة تعتمد، بالإضافة إلى الزراعة وما يتصل بها، على الوظائف في دوائر الدولة، وعلى الهجرة التي تستأثر بقسم كبير من العناصر الشابة التي يجتذبها الكسب السريع، وإغراءات الحياة المعاصرة والاستهلاك.

بقعاتا

من ربع ليرة الى 800 دولار للمتر المربع من الأرض

بقعاتا.الجدَيْدِة

مركــــــز الشــــوف التجــــاري والسكنــــي.
سلــة مشاكــل ومدينــة مكتومــة القيــد

بقعاتا الشوف أو بقعاتا الجدَيْدِة في تعريفها الرسمي نموذج فريد على الطريقة التي بدلت فيها حضارة الاستهلاك وجه الجبل وبالتحديد منطقة الشوف، لم تولد بقعاتا نتيجة قرار أو مشروع أو مخطط عمراني محدّد، ولم تنشَأْ حول صناعات معينة أو جامعات أو حرف إنتاجية أو قطاعات خدمات استوجبت خلق مدينة بالحجم الذي باتت عليه؛ بل أن المدينة التي بات يسكنها الآن نحو 20,000 نسمة نشأت وتطورت مثل استنساخ صيغة الدكّان كبيراً كان أم صغيراً وفكرة السوق أو البازار، وذلك قبل أن يتم استكمالها مثل أي تكوين حضري بالمؤسسات الخدماتية المختلفة من مؤسسات صحية أو تعليمية أو صناعية.
نمت بقعاتا بالدرجة الأولى في موازاة التحوّلات الكبرى التي شهدها المجتمع اللبناني ومجتمع الجبل بصورة خاصة خلال العقود الخمسة الماضية، وهي تحوّلات انعكست في مناطق عديدة من لبنان بنمو مدن تجارية لم تكن في السابق ربما موجودة أو كانت مجرد مواقع منسية على طرق المواصلات، لكن حاجة الناس إلى أسواق قريبة بعثتها من رقادها وحوّلتها إلى حواضر كبيرة مزدحمة بالسكان وحركة الأعمال. وقد ساهمت تطورات، مثل اتساع قطاع الوظائف الحكومية والخاصة وحركة التعليم وموجات الهجرة إلى الخليج وأفريقيا وغيرها من المغتربات، في نمو تلك الحواضر في أكثر من منطقة في لبنان غالباً على حساب القرى المجاورة وسكانها.
وجاء قيام أسواق تجارية في المناطق أيضاً نتيجة التنميط المتزايد لقطاع الاستهلاك والتوجّه التدريجي لنوع من «اللامركزية التجارية» في الكثير من السلع الأساسية غير المتخصصة، والتي بات المستهلكون يفضلون الحصول عليها من أسواق قريبة بدلاً من تحمّل عناء وتكلفة الحصول عليها من بيروت أو غيرها من المدن الساحلية.
لا يختلف النمو الانفجاري لمدينة بقعاتا عن ظاهرة نمو الضواحي الجديدة في لبنان في أكثر من منطقة، وذلك باعتباره تلبية لحاجات طرأت واستجدت، ووجد مع الوقت من التجار وأصحاب الأعمال من هبّ لمحاولة تلبيتها وبناء تجارة عليها. لكن كما في العديد من الضواحي المماثلة، فإن النمو العفوي للمدينة الجديدة غالباً ما يتم من دون مراعاة لمخططات حضرية وغالباً ما يترافق بمشكلات عديدة تخطيطية وبلدية واقتصادية واجتماعية بحيث سرعان ما يظهر الوجه الآخر للتطور السريع قسطاً أكبر من المشاكل والمعاناة للسكان.
ما هي قصة بقعاتا؟ كيف تطورت -في نحو خمسين عاماً- من حقول زرع وبرية إلى إحدى أكبر مدن جبل لبنان؟

هنا محاولة للتعريف بالظاهرة وتفهمها وتقديمها في ضوء جديد لقرّاء «الضحى».

لم يكن الشيخ أبو زياد يوسف محاسن يتصور أن تلك البقعة الهادئة التي انتقل للسكن فيها سنة 1961 عندما كانت «برّية» ليس فيها سوى بعض المنازل، ستتحول الى أكبر مركز تجاري وسكني في منطقة الشوف، وأن تزدحم لدرجة أن يصعّب العيش فيها. الشيخ أبو زياد الذي كان من أوائل الناس الذين سكنوا في بقعاتا، ومن الذين سجّلوا نفوسهم فيها، يشرح كيف بدأت بقعاتا سنة 1958، حيث أنشأت الدولة في ما يُعرف حالياً بالسوق، غرفاً للمهندسين ومستودعاً للترابة والحديد يوزع على القرى الشوفية التي تدمرت منازلها إثر زلزال سنة 1956. وفي السنة نفسها فتحت المياه لبقعاتا من الأقنية التي كانت تمر عبرها الى المزرعة، وأوصلوا إليها الكهرباء، مما فتح عيون الناس على البناء فيها. الأراضي في ذلك الحين كانت ملكاً لأبناء بلدة الجديدة، وأخذ الناس يشترون منهم. وابتدأ متر الأرض بربع ليرة، وكان الشيخ أبو حسيب علي منصور حيدر يبيع الأراضي «شلفة» ويقسّط المبلغ 10 ليرات و25 ليرة، وهكذا تملّك الناس في بقعاتا.
ويروي الشيخ أبو زياد أن الشيخ أبو حسن نعيم الفطايري كان أول القادمين الى بقعاتا سنة 1959 حيث أخذ مستودع الحديد والترابة الذي افتتحته الدولة، وكان هو من أوائل الذين سكنوا في بقعاتا صيفاً شتاء. كان الشيخ أبو حسن يملك محلاً تجارياً ويبيع بأسعار زهيدة جداً، وكانت بقعاتا الطريق المؤدية الى كل المنطقة وكل الناس يمرون فيها، فأصبح الناس يترددون الى محله الذي شهد اقبالاً كثيفاً، وأصبحت بقعاتا تتوسع رويداً رويداً الى أن حصلت أحداث 1975، وشكّلت مقصداً لأهالي المتن وعاليه الذين وجدوا فيها منطقة أكثر أمناً من مناطقهم.
موقع بقعاتا الاستراتيجي، كان ولا يزال يميّزها عن باقي القرى، فهي تشكّل محور الشوف ونقطة وسط، وكانت معظم البواسط التي تتنقل بين بيروت والقرى الشوفية تمرّ فيها، وكان الناس ينتظرون تلك البواسط على الطريق العام التي كانت الوحيدة المشقوقة، فيما كانت باقي الطرقات طرقات رِجل. ولكن الفارق عن الماضي أنه لم يكن كل شيء متوفراً في بقعاتا كما هي الحال اليوم، وكانت دير القمر هي المقصد المفضّل لشراء الحوائج من جهاز العروس والأثاث وغيرها، بينما كانت بعقلين تلعب دوراً أقل أهمية كسوق لعدد من القرى القريبة والمجاورة.
سكانيا،ً بدأت بقعاتا بعدد من العائلات كان صغيراً، ومن الذين بنوا منازل في نطاقها وسجلوا نفوسهم فيها عائلات الفطايري وحيدر ومحاسن وحرب ونصرالله والغضبان وفياض وسليم وخضير وغيث والغصيني.

مدينة مكتومة القيد
شهدت بقعاتا في نحو خمسة عقود نمواً غير مسبوق جعل منها إحدى أسرع المدن نمواً في لبنان. وقد أدى نمو المدينة إلى «استهلاك» معظم مساحة الجديدة، مثلاً إذ باتت مساحة بقعاتا نحو مليوني متر مربع من أصل مليونين وثمانمائة وخمسين ألف متر مربع هي المساحة الإجمالية لبلدة جديدة الشوف. ويعيش في بقعاتا نحو 20 ألف نسمة وهو ما يوازي عشرين ضعف أبناء بلدة الجديدة. لكن على الرغم من تطورها الهائل كمدينة تجارية لها كيانها وخصوصياتها وحاجاتها، فإن بقعاتا ما زالت تعدّ من الناحية القانونية حياً من أحياء الجديدة.
يستمر ذلك رغم صدور قانون في 31 أيار سنة 1966 قضى بفصلها عن الجديدة، إلا أنه صدر بعد ذلك قانون آخر في 13 أيار 1993 قضى بإلغاء القانون السابق وباعتبار بقعاتا حياً من أحياء الجديدة لعدم توافر الشروط اللازمة فيها لإنشاء بلدية واعتبارها بالتالي بلدة مستقلة. لكن الحقيقة خلف هذا الجدل القانوني هي أن بقعاتا ما زالت ضحية خلافات متأصلة بين العائلات الرئيسية لبلدة الجديدة، وقد أبقتها تلك الخلافات مكتومة القيد الرسمي، ولم يشفع لها النمو الهائل في عدد سكانها الذين أتوا إليها «من كل فج عميق» ولا العدد المتزايد من المؤسسات والأعمال التي تعمل في إطارها، ومعظم السكان والعاملين والتجّار فيها يشعرون بنوع من اليتم البلدي لأنهم على ضخامة التحديات والمشاكل يشعرون بالإهمال وبتجاهل مصالحهم كمواطنين، كل ذلك بسبب غياب المرجعية الواضحة وقدرة السكان على التأثير في الطريقة التي تساس بها الأمور الحيوية للبلدة.

من-دكاكين-صغيرة-قبل-نصف-قرن-إلى-أكبر-مدن-الشوف
من-دكاكين-صغيرة-قبل-نصف-قرن-إلى-أكبر-مدن-الشوف

 

فورة عقارية

نتيجة للتهافت على العقارات ذات الاستخدام التجاري شهدت أسعار العقارات قفزات متتالية وصلت بسعر الأرض إلى نحو 800 دولار للمتر المربع في العقارات المحاذية للطرق العامة الرئيسية، علماً أنه في المجمل لا يقل السعر عن 160 دولاراً للمتر المربع.
وبالنسبة للشقق والتي تبدأ مساحتها عادة من 150 متراً مربعاً، فأسعارها تتراوح ما بين 100 و150 ألف دولار.
أما في ما يخص الايجارات فيتراوح ايجار الشقق السكنية ما بين 250 و400 دولار والمكاتب ما بين 250 و350 دولاراً، أما المحال التجارية فيرتفع ايجارها في بعض المواقع الحساسة الى ما بين 600 و900 دولار لـ “الباب” الواحد.

نزاعات عائلية
يلقي رئيس بلدية الجديدة السيد بهيج الفطايري ضوءاً إضافياً على خلفيات النزاع البلدي حول بقعاتا فيقول إنه عندما استحدثت البلديات في الشوف وأصبحت هناك بلدية في الجديدة، حدث اشكال أثناء الانتخابات البلدية جعل كل أعضاء البلدية يأتون من آل الفطايري، وهو ما أثار حفيظة العائلات الأخرى في الجديدة فتقدم بعض الأشخاص من آل نصر الله وهم (حسين نصرالله، سعيد نصرالله، ونبيه نصرالله) بطلب فصل بقعاتا عن الجديدة وكانوا هم من أوائل السكان الذين تسجلوا في بقعاتا، إضافة الى علي منصور حيدر وأبو حسن نعيم الفطايري. وبالنظر إلى الشعبية التي كانت لبعض تلك الشخصيات وما كانت تتمتع به من نفوذ سياسي فقد صدر قانون يقضي بفصل بقعاتا عن الجديدة واضافتها الى عداد قرى الشوف، لكن القانون اشترط أن تتوافر في البلدة شروط حد أدنى مثل أن يكون فيها خراج و300 شخص مسجلين في نفوسها في القيود الرسمية، وقد فُتح لبلدة بقعاتا بالفعل سجل خاص بها في دائرة الأحوال الشخصية. لكن القانون بقيّ معلقاً من سنة 1964 حتى 1992، حيث قُدّم طلب بإلغاء قانون الفصل لعدم تحقق الشروط إذ أن الذين سجلوا نفوسهم في البلدة لم يتجاوز عددهم الـ 180 نسمة. وعليه فشلت بقعاتا في تعبئة المزيد من السكان المسجلين، وأخفقت بالتالي في الفوز بفرصة الاستقلال وتأكيد حضورها الرسمي كقرية إلى جانب بقية القرى اللبنانية. وتسير هذه الظاهرة إلى مفارقة غريبة مفادها أن الغالبية من سكان بقعاتا ما زالوا متعلقين بالقرى التي جاؤوا منها ولا يعتبرونها نفسياً بلدتهم، وهم على استعداد للعيش فيها لكنهم لن يتخلوا عن انتمائهم للقرية التي جاؤوا منها، أي أن الانتماء إلى بقعاتا ما زال في نظر الغالبية الساحقة انتماءً «مدنياً» لا سياسياً مثل الانتماء إلى مدينة بيروت التي يسكنها الآلاف من أبناء الجبل، لكن قلما يفكّر أحدهم بنقل نفوسه إليها، وبالتالي شطب إسمه وإسم أسرته من سجلات القرية وعائلاتها.

مشكلة انتماء .. وخدمات
وبالطبع، فإن العديد من السكان الذين نقلوا نفوسهم إلى بقعاتا يعتبرون استمرار إلحاقها بالجديدة وضعاً غير طبيعي، إذ كيف يتم إلحاق مدينة يقارب عدد سكانها الـ 20 ألفاً بقرية صغيرة لا يزيد عدد سكانها على ألف نسمة؟ وهل يمكن في هذه الحال لبلدة بقعاتا أن تجد الاهتمام الكافي من مجلس بلدي يعلم جيداً أن سكانها لا يشاركون في الانتخابات البلدية ولا يمكنهم بالتالي أن يحاسبوا المجلس البلدي على أي تقصير مفترض في خدمتهم. وبغض النظر عن مستوى الخدمات التي يقدمها لبقعاتا، لا يؤثر سكانها على حجمهم في نتائج الانتخابات البلدية.
رئيس بلدية الجديدة بهيج الفطايري يختلف مع هذا الرأي ويجيب بلهجة حازمة عندما تسأله عن بقعاتا: «ما في شي إسمو بقعاتا» فهي مجرد «حي من أحياء جديدة الشوف، ويمكنك أن تقول أكبر حي من أحيائها». ويستعجل نفي الظن الشائع بأن بلدية الجديدة تحصّل مداخيل كبيرة من بقعاتا دون أن يقابل ذلك تقديم خدمات كافية. يقول: «بقعاتا لا تجلب أية مداخيل لأنها ليست في عداد القرى، ولكن مع وصول المساحة الى بقعاتا أصبحت البلدية تحصّل بعض الرسوم». لكن أحد المستثمرين النشطين في بقعاتا يؤكد أن بلدية الجديدة تحصل على مداخيل كبيرة من رخص البناء والاستثمارات، لافتاً الى أن «كل ما يتعلق ببقعاتا تُدفع عنه رسوم، ورسومها أعلى من غيرها». وينتقد البلدية التي «لا تقوم بدورها البلدي اذ لا تقوم بأية تحسينات على الطرقات التي يمكن وصفها بالسيئة، هذا عدا مشكلة المجاري والصرف الصحي التي تتفاقم أكثر فأكثر مع ازدياد العمران»، ويقول «لو كانت البلدية حاضرة بقوة لكانت فرضت معالجة مشكلة الجور الصحية بالقوة أو أمنت بديلاً». على ذلك يردّ رئيس البلدية بالقول إن هذه المسائل بسيطة، ويربط حلّها بسكان بقعاتا ومدى تجاوبهم مع توصيل شبكات صرفهم الصحي بالشبكة الرئيسية التي أصبحت جاهزة، لافتاً الى أن هذه المسألة أصبحت منتهية تقريباً: «خلقنا أمراً واقعاً، أوصلنا شبكات الصرف الصحي، ومحطات التكرير في الجديدة أصبحت جاهزة». ويشير الى أن الزفت للطرقات جاهز، ولكن وزارة الاشغال العامة والنقل لن تقبل بتعبيد الطرقات الا بعد انتهاء توصيل شبكة الصرف الصحي.

مركز-البلدية
مركز-البلدية

نقطة وسط لأبناء القرى البعيدة

شهدت بقعاتا وتشهد حركة نزوح كثيفة من القرى الشوفية ومن أقضية حاصبيا وراشيا والمتن وعاليه، اذ باتت تشكّل نقطة مركزية خدماتية تسهّل حياتهم. وفي هذا الصدد، تشرح نادين زيدان، مهندسة معمارية تخرجت من الجامعة اللبنانية في دير القمر، الأسباب التي دفعت والدها الى شراء شقة في بقعاتا والانتقال للعيش فيها منذ أربع سنوات. تقول زيدان: «إن باص الجامعة لم يكن يصل الى بلدتها مرستي اذ أن آخر محطة له كانت نيحا، وكان عليها ملاقاته يومياً الى نيحا، فبدأت عملية البحث عن مكان أقرب الى الجامعة». وتتابع: «غرّتنا المدينة، وصارت بقعاتا اقامتنا الدائمة، وحتى عندما نزور قريتنا صيفاً نشعر أننا نريد العودة الى بقعاتا فهي قريبة من كل شيء وتوفّر الكثير الذي نحتاجه». تقول مازحة: «أتعلّم الموسيقى حالياً في مركز في بقعاتا، وقد كان ذلك غير ممكن طبعاً في مرستي». وتلفت زيدان الى أن الكثير من أبناء قريتها نزحوا الى بقعاتا وهم مع بداية شهر أيلول من كل سنة يبدأون بتوضيب أغراضهم للانتقال إليها..وهناك آخرون اختاروا الانتقال الى بقعاتا منهم صاحب البناية التي يسكنون فيها وهو من آل كوكاش من العزونية.
ريبال أبو سعيد انتقل أيضاً للعيش في بقعاتا بحثاً عن المكان الأقرب الى جامعته، فابن العشرين ربيعاً ترك بلدته شويت وقصد بقعاتا لأن كل شيء فيها متوفر مما يسهّل حياته كطالب جامعي، على عكس بلدته. أبو سعيد طالب هندسة مدنية في جامعة CNAM في بعقلين، واختارها لأنها أرخص من الجامعات في بيروت، وهو يعيش في شقة مع ثلاثة شبان من بعلشميه وقبيع وكفرقوق قصدوا بقعاتا للأسباب نفسها.

يفيد الفطايري أن البلدية بدأت العمل فعلياً سنة 1998، معتبراً أن المشكلة الجوهرية في بقعاتا هي أن فيها الكثير من البناء العشوائي والمخالفات، وهناك مخالفات بناء على المجاري. وعند سؤاله عن صلاحيات البلدية في قمع هذه المخالفات يجيب: «المشاكل التي على مستوى الدولة لسنا قادرين عليها، لدينا شرطيان بلديان فقط وليس بإمكانهما ملاحقة كل الأمور»، مع أن الشرطي البلدي مثل رجل الأمن وله صلاحية. ويضيف القول: «حدودنا الملكيات الخاصة، والناس لا تتجاوب مع البلدية ولا يدفعون الضرائب برضاهم، فلا أحد تعني له البلدة أو يشعر بالانتماء اليها، وفي المطلق سكان بقعاتا لا يتفاعلون».

«مزراب ذهب» أم أوهام
أحد أسباب النجاح الكبير لبلدة بقعاتا هو الشهرة التي اكتسبتها في السنين الأخيرة باعتبارها منطقة استثمار واعدة وأنها أشبه بـ «مزراب ذهب» لكل من يملك فيها عقاراً أو تجارة. وساعدت هذه الصورة بالطبع على زيادة الطلب على عقارات بقعاتا والسمقانية خصوصاً المحاذية للطرق الرئيسية،كما أن استمرار النزوح الكبير إلى بقعاتا من مختلف مناطق الجبل وبعض المناطق الأخرى ساعد في استمرار الطلب على العقار على وتائر مرتفعة، وأدى بالتالي إلى ارتفاعات متتالية في الأسعار.
لكن الصورة الحقيقية قد تكون مغايرة لما هو شائع، إذ أن القطاع التجاري في بقعاتا بدأ يشهد حالة من التشبّع أو الفائض في عرض المحلات، كما أن التكاثر الهائل للمحلات أدى إلى تخمة في الكثير من القطاعات وإلى منافسة، وظهر ذلك في النسبة المتزايدة للمحلات التي تفتح وتدفع مبالغ طائلة على الديكور قبل أن تقفل أبوابها. عن هذه الظاهرة يقول الفطايري إن الناس تُغّش ببعض الأمور، ولأن بقعاتا مزدهرة تجارياً يلجأون للاستثمار فيها، فالذي يسمع عن بقعاتا من بعيد يعتقد أن الاستثمار فيها سيرفعه الى فوق الريح من دون أن يأخذ قدرتها الاستيعابية في الاعتبار، ويسأل: «هل يعقل أن يكون في سوق بقعاتا 20 فرن مناقيش مثلاً، وقس على ذلك ما يحصل في بقية القطاعات»؟.

مخططات .. من دون تنفيذ
إحدى المشكلات التي تواجهها بقعاتا هي موجات البناء العشوائي التي سعت لاستغلال الطلب الكبير على العقارات المختلفة في البلدة. فما هو الإطار القانوني للاستثمار العقاري في بقعاتا، وكيف يتم تنظيمه في الوقت الحاضر من قبل السلطات المعنية؟
تقول المهندسة ريما أبو فخر (وهي مهندسة منطقة تعمل في التنظيم المدني في بيت الدين) إن بقعاتا مصنّفة منذ سنة 1994، وأنها لم تكن منظّمة قبل هذا التاريخ. وتلفت الى أن البلدة تقع ضمن منطقتين عقاريتين، الجديدة والسمقانية، فحتى ساحة الشهداء وما هو بمحاذاتها، العقارات تابعة لـ الجديدة، ومن ساحة الشهداء باتجاه السمقانية تتبع العقارات لـ «السمقانية».
وتمتد بقعاتا جغرافياً الى ما قبل مستشفى عين وزين بنحو 30 متراً، أما حدودها مع الكحلونية فتنتهي عند المدافن على طريق المزرعة القديمة.
في ما يخص المساحة، تقول أبو فخر إنه يتم العمل على مسح بقعاتا، لافتة الى أن الجزء الموجود في السمقانية ممسوح، ويتم العمل حالياً على مسح الجزء الموجود في الجديدة. كما تغيّر التصنيف في الجديدة بعد صدور التخطيط الجديد وفقاً للقرار 2012/38، والذي شمل بعض التعديلات ومنها مسألة لافتة، وهي فرض انشاء موقف سيارات اضافي للشقة في بعض المواقع المفروض فيها انشاء موقف للسيارات، والتي تقع ضمن التصنيفات A, C & D. وتشير أبو فخر الى أن التصنيف في «عين وزين» و«بتلون» رفع أسعار العقارات في بقعاتا.
لكن ارتفاع الأسعار لا يعني لزاماً الجودة بسبب بعض المقاولين والمطورين العقاريين الذين يستهدفون البناء للبيع وتحصيل الربح السريع ولا يهمهم المشاكل التي قد تظهر في البناء في ما بعد. وفي هذا الصدد، يقول المهندس المعمار هيثم أبو كروم الذي يعمل على مشاريع هندسية عدة في بقعاتا: «هناك نسبة لا يستهان بها لا تلتزم بأدنى الشروط والمواصفات، وذلك في سعيها الى الربح بأي وسيلة واستهتارها بالزبون.
ولا ينتقد أبو كروم القطاع الخاص فحسب، بل يتعداه الى البلدية التي تنفذ بعض المشاريع بطريقة غير مهنية، معتبراً أن المشكلة ليست مادية بل غياب التخطيط. ومن هذه المشاريع على سبيل المثال الأرصفة المائلة التي أنشأتها البلدية لـ «تسهيل وقوف السيارات» منذ بضع سنوات، والتي «لم تكن مدروسة واضطرت البلدية إلى تكسيرها بعد فترة قصيرة».
بين الأمس واليوم
كانوا في الماضي يقولون: «نيال يلي الو مرقد عنزة ببقعاتا»، ولكن هذا الحال تغيّر اليوم، ومن كان يشعر بنعمة العيش فيها بات يتحسر على تحوّل هذه النعمة الى نقمة، ومنهم الشيخ أبو زياد الذي عندما تسأله اذا ما أحس في مرة من المرات لو أنه لا يسكن في بقعاتا، يهز رأسه ويقول: «نعم هذه الفترة، في الماضي كنت أتمنى أن أجلس أمام باب منزلي، كانت بقعاتا هادئة، أما اليوم أصبح السكن صعباً فيها وعلى كل الصعد من الضجيج والازدحام، حتى ضعف العلاقات الاجتماعية وغياب الانسانية وصولاً الى الفساد المستشري». ويقارن بين الماضي والحاضر قائلاً: «في الماضي بيعت أرض في جديدة 12 مرة بالكلام من دون أي حجج، وكان اذا تخلف أحد عن وعد ما يظل 10 أيام لا يمرّ أمامه خجلاً منه، أما اليوم فانقلبت المعادلة وكل شيء تغيّر في هذه المدينة الضخمة».

قصّة عمرها في بقعاتا

عندما تسأل أم نزار حسن عن عمرها تجيبك بضحكة: «ربك أخبر، الأرجح أنني من مواليد 1924 أو 1925». أصل أم نزار وعائلتها من بتلون ولكنهم انتقلوا للعيش في بقعاتا منذ أكثر من ثلاثين عاماً، حيث استأجروا منزلاً قبل أن يبنوا منزلهم الخاص في بقعاتا أيضاً التي سجلوا نفوسهم فيها، والتي تشعر بالانتماء اليها أكثر من بلدتها الأم. وفي هذا الصدد تقول: «بلدك المنيح مطرح ما انت مستريح».
عندما تسألها عن الحياة التي عاشتها في بقعاتا، تخبرك أم نزار بحماس ومحبة أنها انتقلت وعائلتها اليها على أيام ما كان كيلو اللحمة بـ 4 ليرات وكيلو السكر بـ 40 قرشاً، ولم يكن في ذلك الوقت غير محل واحد فيه خضار ولحوم، وكانت هناك محطة بنزين واحدة. وقتها كانت بقعاتا عبارة عن سهول زراعية يعتمد فيها على زراعة القمح وكروم العنب، ولم يكن فيها سوى بضعة منازل.
كان البيت هاجس أم نزار «لم يكن يهمني أن أسكن في الايجار ولكن كان كل همي أن يكون لنا بيت.. البيت الحقيقي». والبيت الحقيقي بالنسبة لأم نزار ليس المنزل الذي تسكنه في حياتها، بل تقصد فيه المدفن الذي اطمأنت الى تأمينه لها ولعائلتها في مدافن بقعاتا. وعندما تسألها عن البناء وشراء الأراضي في الماضي وعن قصة المنزل الذي بنوه، تعدل جلستها، تشرب رشفة من فنجان القهوة، تسرد قليلاً وتقول: «كان زوجي يعمل على المرفأ في بيروت، وأول قطعة أرض اشتريناها كان المتر فيها بليرتين ونصف وبعناه بـ 5 ليرات، ثم اشترينا أرضاً المتر فيها بليرة واحدة وبعناه بـ 30 ليرة، أما هذه الأرض فاشتريناها سنة 1975 بـ 15 ألف ليرة».
وتسترسل أم نزار في الحديث عن ذكرياتها في بقعاتا والأيام التي قضتها فيها، فعن علاقتها بجيرانها تقول: «من زمان كانت الحياة محبة، فمع أن كل منا آتٍ من بلد ولكن كنت أشعر أنهم أكثر من أهل لي. كنّا مرتاحين جداً ونشعر بالسعادة، وعندما انتقلت من جيرتهم بكينا على الفراق، علماً أننا ما زلنا على تواصل. أما اليوم فتغيّرت النفسيات، لم تعد المحبة موجودة كالسابق، وكثر الغلاء والفحش والفساد».

بقعاتا-كما-تبدو-من-الأقمار-الصناعية-وهي-تتوسط-منطقة-الشوف
بقعاتا-كما-تبدو-من-الأقمار-الصناعية-وهي-تتوسط-منطقة-الشوف

آثار رومانية ..مهملة

من الأشياء التي تميّز بقعاتا أيضاً، وقلة يعرفون عنها، احتضانها آثاراً رومانية عبارة عن نواويس وبركة مياه، وهي موجودة في بقعة يطلق عليها اسم المصنع، وتقع على الطريق الى عين وزين. ويفيد رئيس البلدية أن هناك عدداً من النواويس المكتشفة في أكثر من موقع، ولكن هذه الآثار مهملة ولم يسجّل أي تحرك رسمي في اتجاه حمايتها.

نواويس-عدة-متجاورة-تشير-ربما-إلى-أن-المكان-استخدم-مدفنا-وأن-بقعاتا-كانت-موقعا-معمورا-في-الماضي
نواويس-عدة-متجاورة-تشير-ربما-إلى-أن-المكان-استخدم-مدفنا-وأن-بقعاتا-كانت-موقعا-معمورا-في-الماضي

المجلس المذهبي

انتخابات المجلس المذهبي الجديد لطائفة المحدين الدروز

مشاركــة واسعــة في التصويـت و40 في المئة فازوا للمرة الأولى

في التاسع من أيلول الماضي وبناء على أحكام قانون تنظيم أحوال طائفة الموحدين الدروز الصادر سنة 2006 جرت في مختلف مناطق لبنان انتخابات الولاية الثانية للمجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز وأشرفت على الانتخابات لجنة مكلّفة بضمان حسن سير العملية الانتخابية، وجرى الاقتراع في جو لافت من الروح الديمقراطية والمنافسة الإيجابية مع العلم أن عدداً كبيراً من المرشحين فازوا بالتزكية نتيجة التوافق العام على مؤهلاتهم وخبرتهم في الحقل العام.
في ما يلي عرض مفّصل لنتائج انتخابات المجلس في هيئته العامة وكذلك لنتائج انتخاب مجلس الإدارة الذي يرأسه حكماً سماحة شيخ العقل الشيخ نعيم حسن وكذلك انتخابات لجان العمل لرؤسائها ومقرريها وأعضائها.
وكان رئيس اللجنة القاضي سجيع الأعور أعلن النتائج في مؤتمر صحفي عقد في دار طائفة الموحدين الدروز في بيروت موضحاً في الوقت نفسه أن “المشاركة في الانتخابات بلغت قرابة السبعين في المئة في المناطق، على عكس ما ذكرته بعض وسائل الإعلام، إذ أن عدد الناخبين في المناطق كان 1232، انتخب منهم 870 ناخباً، وهذا يدلّ على أن نسبة الاقتراع فاقت الـ 70 في المئة. وبالتالي فقد جاءت النتائج لتعكس سلامة العملية الانتخابية وطابعها التمثيلي ولم يحصل فيها أي إشكال”.
كما جرت انتخابات تكميلية لبيروت وباقي المناطق بعد مراجعة قانونية أمام محكمة الاستئناف.

المجلــــس المذهبــــي الجديــــد

الهيئة الدينية
عاليه: فاز المشايخ بالتزكية (4 مشايخ)، هم: سامي أبي المنى، هادي العريضي، نزيه صعب، وجدي الجردي.
الشوف: فاز المشايخ (4): حاتم بو درغم (أكبر الأعضاء سناً)، سلمان عودة، شوقي كمال الدين، ومحمد ابو شقرا.
حاصبيا: فاز المشايخ (2): علي أبو ترابي وفايز حديفة.
راشيا: فاز المشايخ (2) بالتزكية، وهما: أسعد سرحال ويوسف أبو براهيم.
بيروت: فاز الشيخ حسن علاء الدين بالتزكية.
المتن – بعبدا: فاز الشيخان روزبا ابو فخر الدين وهاني غزال.
بقية المناطق: فاز الشيخ سلطان القنطار بالتزكية.

ممثلو المناطق
بيروت وبقية المناطق: علي العود وابتسام حاطوم.
راشيا: أكرم عربي، محمود خضر، ابراهيم نصر، الدكتور فارس زيتوني، ومعين حمدان.
الشوف: بهيج أبو حمزة، باسل أبو زكي، منير بركات، وجدي عبد الصمد، حمادة حمادة، عماد الغصيني، غادة جنبلاط ووهيب فياض.
حاصبيا: غازي الخطيب، غازي قيس، العميد المتقاعد اسماعيل حمدان، العقيد المتقاعد محمد الدمشقي وعامر صياغة.
المتن- بعبدا: كميل سري الدين، القاضي عباس الحلبي، فاروق الأعور ،الدكتور مروان قائدبيه، وحسان صالحة.
عاليه: طلال جابر، سهيل مطر، فاروق الجردي، عصمت صعب، رامي الريس، أنور يحيى، ربيع غريزي، وتوفيق البنا.

رئيــــس وأعضــــاء مجلــــس الإدارة للمجلــــس
المذهبــي المنتخــب

رئيس المجلس (بحكم موقعه) سماحة شيخ طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن
أمين السر: الاستاذ نزار البراضعي
أمين الصندوق: الاستاذ فاروق الجردي
رئيس اللجنة الإدارية: الاستاذ رامي الريس
رئيس اللجنة المالية: الدكتور عماد الغصيني
رئيس اللجنة الثقافية: الشيخ سامي ابي المنى
رئيس لجنة الأوقاف: الاستاذ عباس الحلبي
رئيس اللجنة الاجتماعية: الاستاذة غادة جنبلاط
رئيس اللجنة القانونية: الاستاذ نشأت هلال
رئيس اللجنة الدينية: الشيخ هادي العريضي
رئيس لجنة شؤون الاغتراب: الاستاذ كميل سري الدين

لجـــــان عمــــل المجلــــس المذهبــــي الجديــــد

اللجنة الإدارية

الرئيس الاستاذ رامي الريس
مقرر اللجنة الاستاذ عامر صياغة
أعضاء الاستاذ خالد الأعور
الاستاذة دنيا أبو خزام
الدكتور سهيل مطر

اللجنة المالية

الرئيس الدكتور عماد الغصيني
مقرر اللجنة الاستاذ ناجي صعب
أعضاء الاستاذ حسان صالحة
الاستاذ محمود خضر
الاستاذ نزار غنام

اللجنة الثقافية

الرئيس الشيخ سامي أبي المنى
مقرر اللجنة الدكتور نهاد أمان الدين
أعضاء الدكتورة سارة أبو شقرا
الشيخ فايز حذيفة
الاستاذ وجدي عبد الصمد

لجنة الأوقاف

الرئيس الاستاذ عباس الحلبي
مقرر اللجنة الاستاذ حمادة حمادة
أعضاء الشيخ أمين سرحال
الاستاذ بشير أبي عكر
الشيخ حسن علاء الدين
الشيخ روزبا أبو فخر الدين
الدكتور زهير نصر
العميد مصطفى الدمشقي
الشيخ نزيه صعب
اللجنة الاجتماعية

الرئيس الاستاذة غادة جنبلاط
مقرر اللجنة الاستاذ أكرم عربي
أعضاء الاستاذ اسماعيل خداج
الدكتور ربيع غريزي
الاستاذة سهير أبو زكي
الاستاذ غازي الخطيب
الشيخ محمد أبو شقرا
الشيخ هاني غزال
الدكتور وجيه مفرج

اللجنة القانونية

الرئيس الاستاذ نشأت هلال
مقرر اللجنة الاستاذة ندى تلحوق
أعضاء الاستاذ حمادة حمادة

اللجنة الدينية

الرئيس الشيخ هادي العريضي
مقرر اللجنة الشيخ سلطان القنطار
أعضاء الشيخ حاتم أبو ضرغم
الشيخ سلمان عودة
الشيخ يوسف أبو براهيم

لجنة شؤون الاغتراب

الرئيس الاستاذ كميل سري الدين
مقرر اللجنة الاستاذ سامر أبو مجاهد
أعضاء الاستاذة دانا شديد
الدكتور رمزي أمين الجردي
الدكتور فارس زيتون

القهوة

القهـــوة المُـــرّة

في تراث الجزيرة وبلاد الشام

محــــور الحيــــاة اليوميــــة للجماعــة
وجلســة لهــا وظائفهــا وفنونهــا وآدابهــا

جلسة القهوة هي ملتقى الضيوف وساحة التعارف والتوادد، واشتراك الجميع بالهمّ العام والخاص والتعاون على إيجاد الحلول للمشكلات العامة والخاصّة، وإبداء الــرأي في تصرفات الافــــراد وتقييمها ونقــدها

من الأمثال الشعبية بشأنها: السادة للسادات والحلوة للستات، والقهوة يمين ولو كان أبو زيد (الهلالي) يسار

تــــدار على الرجـــال بكميـــة قليلة في قعر الفنجان لتشاؤم العرب من ملء الفنجان، وإذا قدّمت للنساء -وهو نادر- ملأوا الفنجان لاعتقادهم بعدم قناعة المرأة بالقليل !!

البعض يسميها القهوة المرّة والبعض الآخر القهوة العربية، وهي أيضاً القهوة البدوية أو بكل بساطة هي “القهوة”، التي مثلت لعقود طويلة وربما قرون المادّة الأبرز للإجتماع العربي وللثقافة والسياسة والشعر والغناء. فالقهوة كما اكتشف العرب هي لغة تواصل وهي ربما ركن الثالوث الاجتماعي العربي: السيف والضيف والكيف.
السيف وهو إرث الرجولة والبطولة في الذود عن الحمى وعن الشرف.
الضيف وهو ركن القيم الرفيعة لمجتمع الكرم والنخوة والسخاء.
أما الكيف فهو جلسة الراحة والتباسط في مجلس العشيرة أو البلدة، والتي كانت المدرسة الحقيقية التي يتم عبرها تناقل التراث والقيم من جيل إلى جيل، وبالتالي تأمين بقاء الجماعة في الزمن ودوام ازدهارها.
في هذا الثالوث الاجتماعي لعبت القهوة العربية على الدوام دوراً أساسياً، ولم يكن صدفة أن يكون تراجع تقليد القهوة العربية قد ترافق مع تغييرات اجتماعية عميقة، كان أبرزها تراجع القيم العربية الأصيلة وتقليد المجلس أو المضافة ودوره، وكذلك تراجع موقع الزعامات المحلية وتأثيرها، فضلاً عن الغزو الاستهلاكي الغربي الذي حلّ محل القهوة العربية ودورها الاجتماعي، مما أسس لمقهى الرصيف وتقاليد القهوة الغربية بأسمائها وعلاماتها الكثيرة.
في هذا المقال، محاولة لتسليط ضوء كاشف على تاريخ القهوة العربية والدور الخطير الذي لعبته جلسات القهوة في الاجتماع العربي لقرون. وسيكتشف القارئ أن القهوة العربية جزء أساسي من التاريخ العريق والغني لبلاد الشام والجزيرة، وأنها تراث وآداب وفن، وأنها عالم كامل قائم بذاته له مكوناته وأدواته وصناعاته وأوقاته وفنونه. وبطبيعة الحال، فإن هدف المقال لا ينفصل عن الهدف الذي سعت إليه “االضحى” على الدوام وهو العمل لصون تراثنا العربي الإسلامي وحمايته ومحاولة إحيائه قدر الإمكان والحؤول دون طمسه تحت سيل النفايات الثقافية والاستهلاكية التي ترد علينا من كل صوب في هذا الزمن الصعب.
فما هي القهوة العربية، وما هي قصتها، وما هي قصة المجتمع العربي والمشرقي معها؟
يتفق أكثر المؤرخين على أن أصل القهوة من الحبشة، وأنها انتشرت بواسطة القوافل عن طريق اليمن في البلاد العربية، ومنها إلى جاوا في أندونيسيا وسيلان (سريلانكا حالياً)، ولم تعرف القهوة في أوروبا حتى أواخر القرن الثامن عشر وهي انتقلت عبر المهاجرين الأوروبيين، بعد ذلك إلى جمايكا وجزر الهند الغربية لتحط رحالها في البرازيل، حيث ينبت في الوقت الحاضر أكثر حاصلات البن في العالم.

أول مقهى في الشرق فتح في إسطنبول في مطلع القــرن السادس عشر وفي إنكلترا سنة 1652

القهوة في التاريخ
وقد ذكرت القهوة في العالم الإسلامي للمرة الاولى في القرن الخامس عشر للميلاد، وجاء في تاريخ ابن العماد ( شذرات الذهب في أخبار من ذهب ) أن أبا بكر بن عبد الله الشاذلي ابتكر صنعها من البن المجلوب من اليمن، فرأى أنها تجلب السهر، وتنشط على العبادة فأرشد أتباعه إلى استعمالها فانتشرت في البلاد العربية في مطلع القرن العاشر الهجري، فحرّمها بعض المشايخ مثل شهاب الدين العيناوي الشافعي، وأحمد بن عبد الحق السنباطي، لكن عارضهم في ذلك أعلام كبار مثل النجم القرني الذي قال بتحليلها، والشيخ أبو الحسن البكري المصري الشافعي من آل أبي بكر الصديق رضي الله وهو ممن اتفق على ولايته وبلوغه رتبة الاجتهاد، وقد سئل عن شرب القهوة وذكر له أن المغاربة يحرّمونها فقال: كيف تدعى بالحرام وأنا أشرب منها.
وفتح أول محل لشرب القهوة في اسطنبول في مطلع القرن السادس عشر، وفي إنكلترا فتح أول مكان لتقديم القهوة سنة 1652، وأخذت كلمة القهوة في اللاتينية والإنكليزية وغيرهما من اللغات من أصلها العربي. أما في العربية فقال بعض القدماء إنها سميت بذلك لأنها تقهي شاربها عن الطعام أي تذهب بشهوته.
اعتبرت القهوة عند العرب رمزاً من رموز الكرم والتباهي وعنوان الضيافة، بل أحد أرفع أوجه التكريم للضيف، وحظيت لذلك بالاحترام عند معدّيها وشاربيها على حدٍّ سواء، ونتجت عن ذلك ثقافة متكاملة تشمل عملية وأساليب تقديم القهوة في مختلف المناسبات الاجتماعية من استقبال وأفراح وأتراح.

تقاليد وآداب القهوة
بسبب دورها الأساسي في العلاقات، أصبحت لتقديم القهوة وتناولها تقاليد وآداب تراعى بدقة، ومنها مثلاً أن صاحب البيت هو أول من يشربها للتأكد من أنها جيدة الصنع قبل تقديمها للضيوف، ومن التقاليد العربية المتّبعة في طلب يد الابنة للزواج أن يعرض أهل العريس عن شرب القهوة، ويضعون الفناجين على الأرض بانتظار الجواب، وعندما يتوافقون، تدار فناجين القهوة، ويبدو أن مراسم الزواج عند الأردنيين (السلط) وفي الجزيرة السورية، تقضي أن يمتنع أهل الخطيب عن شرب القهوة إلى أن يقول لهم والد العريس: اشربوا قهوتكم… (إلي جيتوا فيه أبشروا بيه)
وتقدّم القهوة المرّة في مناسبات العزاء وينبغي عند الانتهاء من ارتشافها: الترحّم على المتوفى، ويتحاشون كلمة (دايم) تطيراً من استمرار الموت فيهم، والعرب، عموماً يفاخرون بشربها وتقديمها للضيوف عند قدومهم للترحيب بهم وعند وداعهم، كما تعدّ جزءاً مهماً من حياة الرجولة وعامل ربط بين أبناء الجماعة الذين يعقدون لها المجالس التي تسمى بالشبة، القهوة، الديوانية، الديوان، والربعة والمضافة، وقالوا شعراً بديعاً هذا منه:
الكـــيف ما هو كيـــف شـــربَ السجـــــــارة
يــــــا شاربيــــــن التتــــــن ما انتم على خيــــــر
الكـــيف فنجـــان قهـــوة وهمّك تـــــــــوارى
من دلّــــــــــــةٍ منصـــوبـــــــــة للخطــــاطيــــــــــــر

جرش-القهوة-بواسطة-المهاج-مرحلة-أساسية
جرش-القهوة-بواسطة-المهاج-مرحلة-أساسية

لغة اجتماعية
كما من آدابها أن تقدم وقوفاً، لكن الجلوس أمام الضيف ومناولته الفنجان يعتبران من أكبر درجات الإكرام والتبجيل، واعتاد القائم على خدمة القهوة الجلوس أمام الضيف ذي الشأن وتكسير الفناجين أمامه للدلالة على أن لا أحد يستحق الشرب فيها بعده، وقد يناوله عطاءً سخياً لقاء هذا الصنيع ولا سيما إذا كان في حضرة أقرانه، لكن لا يجوز العطاء لصاحب المضافة بل ويعدّ العطاء هنا إهانة له، وعلى من يقدّم القهوة أن يمسك بالدلة في اليد اليسرى ويقدم الفنجان باليد اليمنى، ولا يجلس ابداً حتى ينتهي الجميع.
جرت العادة أيضاً أن يقدّم الماء قبل القهوة لأنه لا يجوز طلب الماء بعد شربها مباشرة، وإن طلب الضيف الماء فهذا يعني أن القهوة غير جيدة. ومن تقاليد تقديم القهوة العربية أن الأولوية في تقديمها في مجلس قبلي هي للكريم الجواد، إذ لا يمكن لأحد أن يتقدم عليه، ويليه في حق تقديم القهوة الفارس الشجاع وأصحاب الوقفات والصولات المشهودة.
لكن يلاحظ وجود مفارقة واختلاف في ارتباط القهوة وتناولها بعادة التدخين. ففي حين يكثر تعاطي التبغ وملازمته للقهوة، في بلاد الشام والمغرب والنيل نجده ينحسر إلى أدنى مستوياته في الخليج العربي، إذ يحل محله هنا التمر الفاخر الذي يقدم مع القهوة ويعتبر مكملاً لها.
ويهتمون كثيراً بجودة القهوة فتثور ثائرة المضيف إذا أخبره أحد أن قهوته فيها خلل أو تغيّر في مذاقها، ويعبّرون عن ذلك بقولهم: (قهوتك صايدة) ولكن بمودّة ودون أن يشعر بالكلام، أحد، لأن القهوة لا تعاب علينا مهما كانت، وإن أعابها أحد فإن عليه إثبات ذلك، ولا بدّ في هذه الحالة أن يغيّر المضيف قهوته حالاً ويستبدلها بأخرى.
ويستحسن إضافة فنجان آخر للضيف في حال انتهائه من الشرب، خوفاً من أن يكون قد خجل من طلب المزيد، وهذا غاية في الكرم عند أهالي البادية، عند سكب القهوة وتقديمها للضيوف يجب أن تبدأ من اليمين، أو تبدأ بالضيف مباشرة. والمتعارف عليه أنك تصبّ القهوة حتى يقول الضيف (كفى) ويعبر عن ذلك بقوله: (بس) أو (كافي) أو (اكرم) أو دايم، أو بهز فنجان القهوة. ومن مهارة صبّ القهوة أن تحدث صوتاً خفيفاً نتيجة ملامسة الفنجان للدلة. وكان يقصد بهذه الحركة تنبيه الضيف إذا كان سارحاً، أو متكئاً لأنه لا يجوز تناول القهوة أثناء الإضجاع ويمكن تجاوز من لا يعتدل في جلوسه عند قدوم القهوة، ومن لا يجلس باعتدال لتناول القهوة فإنه لا يرغب بالشرب إلا إن كان شيخاً مسناً أو مريضاً، ولا يلحّون على غير الراغب بالشرب بإيماءة بسيطة برأسه أو يده. ومن مهارة شرب القهوة أن يهز الشارب الفنجان يميناً وشمالاً حتى تبرد القهوة ويتم ارتشافها بسرعة. وقد بلغ من احترام البدو والعرب في السابق للقهوة أنه إذا كان لأحدهم طلب عند المضيف، كأن يضع فنجانه وهو مليء بالقهوة على الأرض ولا يشربه، فيلاحظ المضيف ذلك، فيبادره بالسؤال: (ما حاجتك)؟ فإذا قضاها له، أمره بشرب قهوته اعتزازاً بنفسه. وإذا امتنع الضيف عن شرب القهوة وتجاهله المضيف ولم يسأله ما طلبه، فإن ذلك يعدّ عيباً كبيراً في حقه، وينتشر أمر هذا الخبر في القبيلة. وأصحاب الحقوق عادة يحترمون هذه العادات فلا يبالغون في المطالب، ولا يطلبون ما يشق تحقيقه، كما لا يجوز وضع الفنجان على الأرض بعد الشرب لأن ذلك تترتب عليه مسؤوليات منها أنه يهم بالعطاء للقهوجي، فيقولون(من رمى الفنجان يملاه ) ويعدّ احتواء القهوة رمزاً للكرم، والكرماء، والمفاخرة.
وليست القهوة للسلم فقط بل تستخدم للحروب. فكافة القبائل في السابق، إذا حدث بينها شجار أو معارك طاحنة وأعجز إحدى القبائل بطل معين، كان شيخ العشيرة يجتمع بأفرادها ويقول: (من يشرب فنجان فلان، ويشير بذلك للبطل الآنف الذكر)؟ (أي: من يتكفل به أثناء المعركة، ويقتله)؟ فيقول أشجع أفراد القبيلة: (أنا أشرب فنجانه)، وبذلك يقطع على نفسه عهداً أمام الجميع بأن يقتل ذلك البطل أو يُقتل هو في المعركة، وأي عار يجلبه هذا الرجل على قبيلته إذا لم ينفذ وعده!، هكذا تحوّلت القهوة من رمز للألفة والسلام إلى نذير حرب ودمار.

جلسة-قهوة-عربية
جلسة-قهوة-عربية

دورها الاجتماعي والسياسي
ما هو سرّ استمرار القهوة ولا سيما المرّة منها في حياة الناس بهذه الصورة؟
الجواب بسيط وهو يتركّز في حالة الاجتماع التي تحققها جلسة القهوة ( قهوة الصبح، وقهوة العصر) في الربعة ( المضافة )، إذ أنه حول جلسة القهوة تعقد جلسات التقاضي أمام العارفة (القاضي) وفيها ينشد الشعراء أشعارهم، ويروي الناس قصصهم أو ينقلون أخبار القبائل والمراعي والكلأ. وفي الربعة تعقد صفقات البيع والشراء، وهي ملتقى الضيوف وساحة التعارف والتوادد، واشتراك الجميع بالهمّ العام والخاص والتعاون على إيجاد الحلول للمشكلات العامة والخاصّة، وإبداء الرأي في تصرفات الفرد وتقييمها ونقدها، وتعبّر الأبيات التالية عن تجسيد الأدب الشعبي لمثل هذه المجالس ودورها في صوغ نمط الاجتماع القبلي.
يا بو (علي) طيرَ الهوى خبَّث َالبال الطير نكري والحباري جليلـــــة
ودّك مع حومـــــة الطيـر فنجــــــال مع مجلس ٍما بُه نفوس ٍ ثجـيلة
مع هذا وِلِـْـد عم ٍ وهذا وِلـْـد خـــال مع خـــــويّ ما تبـــــدَّل بغيـــره
لعبت القهوة دوراً محورياً في ترسيخ الحياة الاجتماعية العربية ونبذ الفردية وتوطيد أواصر الجماعة، فضلاً عن ترسيخ الوعي الاجتماعي لدى الاجيال الطالعة التي ترتاد مجالسها، بإعتبار أن المجالس مدارس كما يقال، كما أسهمت القهوة في بلورة مكونات السلوك القويم في البيئة العربية التقليدية، وقد يكون فنجان القهوة الذي قد لا يزيد على بضع نُقط من شراب مرّ المذاق سبباً في صفح، أو صلح، وفي أجوائه الطيبة يمكن تجاوز الخصومات وفض المنازعات، ومن أجله قد تنشب حروب أو تنتهي، وهكذا خطبة النساء، والتجاوز عن الثأر، والتنازل عن الحقوق، وإذا كنّا قد أسهبنا في طقوس القهوة وسننها فإن شعوراً عارماً ينتابنا بأننا نعيش عصراً تتعرض فيه ثقافتنا العربية وتقاليدنا الأصيلة إلى غزو ثقافي كاسح يستهدف تدمير خصوصيتنا وتبديل نمط حياتنا ونظرتنا إلى تاريخنا وتراثنا ومعارفنا بما يسهل استيعابنا في منظومة القيم المادية والاستهلاكية الغربية. ومن أولى نتائج هذا الغزو ما نراه من تآكل علاقة أجيالنا الطالعة، الأمر الذي يجعل منها هدفاً لحملات التغريب والتبشير بالقيم الغربية الفاسدة.
لهذا السبب، فإننا نعتقد بأهمية توثيق تراثنا الشعبي وحفظه بإعتباره المكوّن الأهم لثقافتنا ومستودعاً للإختبارات والمعارف التي كونت ثقافتنا وشخصيتنا. ومن واجب كل أبناء المجتمع لذلك أن يعتبروا مختلف أوجه حياتهم اليومية، صغرت أم كبرت، من القيمة بمكان، لأن التمسك بثقافتنا وإرثنا الفريد هو السبيل الوحيد للحفاظ على هويتنا ووجودنا وكرامتنا بين الأمم.

صنع-القهوة-العربية-نشاط-أساسي-في-حياة-عرب-البادية
صنع-القهوة-العربية-نشاط-أساسي-في-حياة-عرب-البادية

 

الأولوية في تقديمها في مجلس القبيلة هي للكريم الجواد ويليه في حق القهوة الفارس الشجاع وأصحاب الوقفات والصولات لا يجوز

تناول القهوة أثناء الإضجاع ويمكن تجاوز من لا يعتدل في جلوسه لأن معناه هو أنه لا يرغب بالشرب

يمسك الساقي دلة القهوة باليسار ويقدم الفنجان لضيوفه باليمين
يمسك الساقي دلة القهوة باليسار ويقدم الفنجان لضيوفه باليمين

الأمثال الشعبية في القهوة
فوِّت رحلة مصر ولا تفوِّت قهوة العصر. اعتاد الناس في القرى ارتياد الديوان (المضافة) يومياً عند الصباح، وتسمى قهوة الصبح، وعند العصر وتسمى قهوة العصر.
قهوتكم مشروبة، وهي عبارة شكر تقال في معرض رفض مهذب لفنجان قهوة يعرض داخل المنزل.
قهوتكم مشروبة ووجوهكم مقلوبة. تقال في سياق معاتبة من يستقبل ضيفه بطريقة غير لائقة بعكس ما جرت عليه العادة.
القهوة يمين ولو كان أبو زيد (الهلالي) يسار
أول القهوة خصّ ثم قص. وهذا المثل يعني أن من الممكن تجاوز الجميع والبدء بصبّ القهوة للضيف، قبل تقديمها للعموم. لكن لا يجوز لشارب القهوة مناولة الفنجان لجليسه كما هو الحال في الماء، لأن الفنجان مخصوص له بالذات
دخان بلا قهوة راعي بلا فروة. (مثل فلسطيني)
السادة للسادات والحلوة للستات. أي أن القهوة السادة (المرّة) تدار بفناجين رقيقة (عربية) وبكميات قليلة في قعر الفنجان لتشاؤمهم من ملء الفنجان. وهي لا تقدّم عادة للنساء: فإذا قدّمت لهنّ قاموا بملء الفنجان لاعتقادهم عدم قناعة المرأة بالقليل.
عادة يقوم بإعداد القهوة رجل مختص بذلك، ويلخص أدوار إعدادها المثل القائل: القهوة حِمّاصها لطيف ودَقّاقها خفيف، وشرَّابها كَييف.
القهوة بالرويش والنار بالحرفيش. أي أن القهوة، وهي بالبكرج تحتاج إلى (الرويش) أو الرماد الساخن المختلف عن نار الحطب السريع الاتقاد، والمسمى (حرفيش) الذي يتم تقليبه بواسطة الماشة.
حبوب البن خرش اجرشها جرش واطبخها هرش (بمعنى لفترة طويلة) والسكب بالفنجان دور الغرش( العملة القديمة بمعنى القليل).
أول فنجان للضيف، والثاني للسيف، والثالث للكيف وقد راعت الأمثال الشعبية العربية عموماً عادة صبّ القهوة وتقديمها باليد اليمنى للجالسين ثلاث مرات في فترات متقطعة أثناء الجلسة.

محمد السموري

طقــوس وأدوات وآنيــة خاصــة

تحضير القهوة في بادية الأردن وتبدو عدة القهوة والدلات المختلفة الحجم على النار
تحضير القهوة في بادية الأردن وتبدو عدة القهوة والدلات المختلفة الحجم على النار

للقهوة العربية طقوس وأدوات وآنية خاصة بها عند العرب ولا سيما أهل البادية وقبائل بلاد الشام، إذ يسمى الإبريق النحاسي الذي تقدم بواسطته “الدلّة”، وهذه قد يتنافس أهل الضيافة في اقتناء أفضلها وأغلاها ثمناً، وقد يوصي عليها بعضهم في بلدان بعيدة وبأسعار باهظة طمعاً في السمعة والجاه، وقد اشتهر بصناعتها أهل الشام والعراق الذين كثيراً ما يزينون “الدلّة “بنقوش مستوحاة من تراثهم وبيئتهم؛ فهذه الدلال الشامية تتزين بصور الطيور، كما أن “الدلة” تحمل في رأسها صورة طائر يتّجه رأسه نحو مصبّ القهوة، بينما تحمل “الدلة” في الخليج صورة جوهرة تعبيراً عن تجارتهم مع الشرق أو الصيد البحري.

صنعة لها أسرارها
تحمّص القهوة أولاً على النار بواسطة إناء معدني مقعر يسمى (المحماسة) وتحرّك القهوة حتى تنضج جميع جهاتها بواسطة محراكين من الحديد يشبهان الملعقة الطويلة، ثم تطحن القهوة بواسطة إناء معدني يسمّى “النجر” أو “المهباش” (المهباج) وبعد غلي الماء توضع القهوة في إناء لطبخها وتنقل منه إلى الثنوة لتهيئتها لدلّة أخرى أصغر منها إسمها البكر ومن البكر تنقل إلى المصب، أي أن طبخ القهوة يتم على ثلاث مراحل، وقد يستغرق في جبل العرب ساعات طويلة فعلاً وسهراً على جودة التحضير من مرحلة إلى التالية.
أما أدوات عمل القهوة كما تعرف في الخليج العربي فهي:
المحماس: وتوضع فيه حبوب البن الأخضر لتحميصها إلى الدرجة المطلوبة.
المخباط: ويستخدم لتقليب حبوب القهوة عند تحميصها بحيث تنضج كلها بصورة متكافئة.
المنحاز: ويصنع من الخشب أو الحديد أو النحاس ويعرف أيضاً بالهاشمي ويستخدم في دق حبوب القهوة.
الفنجان: ويستخدم لشربها.
السلة أو المعاميل: وهي مجموع أدوات عمل القهوة من محماس وقدور ودلال وفناجين وغيرها.
الكوار: ويطلق عليه أيضاً اسم “المنقل” أو ( المنكلة ) بلهجة أهل الخليج وهو وعاء معدني يوضع فيه الجمر، ويستخدم لإبقاء القهوة ساخنة.
الرشاد: وهو عبارة عن الأداة التي تستخدم في الدق والتنعيم.
الدلال: ومفردها دلّة، وهي معروفة منذ القدم في صناعة القهوة العربية وتقديمها، وكانت تصنع من الفخار، وهي عادة ما تكون ذات رأس عريض ومقدمة عالية. وتنقسم الدلال تبعاً لاستخداماتها المختلفة إلى ثلاثة أنواع:
الخمرة: وهي أكبر حجماً من دلال القهوة العادية، وتوضع دائماً فوق الجمر على الكوار وفيها الماء الساخن وما تبقّى من بقايا الهيل والبن.
الملكمة: وهي الدلّة المتوسطة الحجم، والتي يتم فيها تلقيم القهوة بعد نقل جزء من الماء الساخن من الدلة الكبيرة ( الخمرة ) فيرفع البن من قاعها، ويقال:( لكم ) القهوة معلومة أي جهّزها تمهيداً لصنعها.
المزلة: هي أصغر الدلال المستخدمة في عمل القهوة، وتستخدم بعد طبخ القهوة في الدلة المتوسطة، حيث يصبّ فيها صافي القهوة، ويقال ( زل ) القهوة، ثم يوضع بها الهيل، وتستخدم لتقديم القهوة حيث تصبّ في الفناجين.
ويمكن ترك قليل من القهوة القديمة واستعمالها كـ “خميرة” للقهوة الجديدة، وهناك قناعة تامّة لدى معديها وشاربيها على حدّ سواء أن الجراثيم لا تعيش في القهوة لكثافتها العالية ومرارتها واستمرار غليانها، فهي تسخن إلى درجة الغليان مرتين في الأحوال العادية( قهوة الصبح وقهوة العصر)، وكلما قَدِم ضيف جديد لذا لا ضير من بقائها أياماً عدة، والقهوة لا يطيب طعمها إن لم يكن ماؤها من أجود المياه وأنظفها فتتوقف جودتها على جودة الماء، وكان البدو يحرصون على حفظ الماء الخاص للقهوة في قربة خاصة، وللماء نسبة معلومة إلى نسبة البن فلا يجب أن يزيد الماء عن معدل معين، ولا البن، وإلا فإن القهوة سيكون فيها عيب وقد يلمحه بسرعة بعض الضيوف من الذوّاقة.

القهوة لا يطيب طعمها إن لم يكن ماؤها من أجود المياه وأنظفها وكان البدو يحرصون على حفظ الماء الخاص للقهوة في قربــة خاصة

للقهوة فوائد صحية جمة
والعربيّة المرّة أفضلها

الهيل فاتح للشهية مقاوم للحرقة يطهر الفم من الميكروبات
يرفع المعنويات ويساعد في تسكين نوبات السعال الجاف

على عكس الانطباع الذي شاع لبعض الوقت عن مضار القهوة، فقد أثبتت الدراسات العلمية الأخيرة أن من يتناولون القهوة بشكل منتظم يحصلون على فوائد صحية جمة ليس أقلها زيادة مقاومة الجسم لأنواع عدة من السرطانات.

أظهرت دراسة أجراها علماء الأمراض العصبية في جامعة لشبونة في أوائل سنة 2010 أن القهوة يمكن أن تقي من تدهور الجهاز العصبي الذي يصاحب الاضطرابات العقلية والشيخوخة، واكتشف الباحثون أن تناول حوالي 3 فناجين من القهوة يومياً على مدى طويل أدى بالفعل الى الوقاية من تدهور الذاكرة.
كما أظهرت دراسة أميركية حديثة أن تناول ثلاثة فناجين من القهوة يومياً يحمل فوائد كبيرة للقلب والأوعية الدموية، لكن الدراسة نفسها أظهرت أن الفوائد الصحية للقهوة تبدأ بالتضاؤل إذا زاد عدد الفناجين التي يتم تناولها يومياً على ثلاثة.
وحتى وقت قريب كان الانطباع السائد هو أن القهوة تزيد من مخاطر الإصابة بالأزمات القلبية وأمراض الشريان التاجي، لكن الدراسات الحديثة أثبتت أن العكس هو الصحيح، فقد ذكرت دراسة أجريت في كلية الطب في جامعة هارفارد سنة 2009 أن تناول القهوة يقلل من احتمالات الإصابة بأزمة قلبية.
وتعتبر القهوة المصدر الأول لمضادات الأكسدة عند الكبار، وهي بالتالي تساعد على منع تدمير الخلايا، وفقاً لدراسة قامت بها جامعة سكرانتون في ولاية بنسلفانيا الأميركية وتساعد المواد المضادة للأكسدة على منع تدمير الخلايا والوقاية من الاضطرابات المصاحبة للشيخوخة، إذ يحتوي فنجان القهوة الواحد على العديد من المركبات العضوية وغير العضوية مثل مركبات الفينول وميلانودين ودايتربين، كما تحتوي حبات القهوة على حمض الكلوروجينيك الذي يساعد على الهضم وفقاً لدراسة نشرت في مجلة التغذية الإكلينيكية.

فوائد القهوة العربية
تزيد القهوة العربية على فوائد القهوة المبيّنة في هذه الدراسة، وذلك بسبب المطيَّبات والتوابل مثل الزنجبيل والقرنفل والزعفران التي تضاف عليها وتحتوي جميعاً على فوائد صحية.
إلا أن أبرز الفوائد الإضافية في القهوة العربية يعود الفضل فيه إلى حب الهيل، إذ وبالإضافة الى اكساب القهوة العربية الطعم الزكي الذي باتت تعرف فيه في العالم، فإن الأبحاث الأخيرة أثبتت أن الزيوت الطيارة ذات الرائحة العطرية في بذور الهيل لها خاصية ابطال مفعول الكافيين على الجسم. ومن المعروف أن بن القهوة العربية الأشقر يحتوي على كمية من الكافيين تفوق ما يحتويه البن الأكثر تحميصاً (الغامق).
ويعتبر الهيل أحد اقدم المنتجات التي استخدمت في معالجة الأمراض، وهو ما دلّت عليه مدوّنات الطب اليوناني القديم. وفي العديد من مناطق العالم، ينصح الطب الطبيعي بتناول الهيل لمعالجة أعراض وحالات عدة قد تصيب الجسم، فهو فاتح للشهية وطارد للغازات في البطن، كما أنه علاج لحرقة المعدة، وهو مفيد في تنظيف الفم من الميكروبات وفي مداواة التهابات الفم ومنع تكوّن الرائحة غير المحببة فيه.
ويساعد الهيل على رفع الحالة المعنوية ويحسّن المزاج ويخلص من الشعور بالاكتئاب، كما أنه يخفف من أعراض التهاب الجهاز التنفسي في طرد البلغم وتسكين نوبات السعال الجاف، وكثيرون يشيرون الى قدرته على مقاومة الميكروبات.

للقهوة-العربية-فوائدها-الكثيرةa
للقهوة-العربية-فوائدها-الكثيرةa

القهوة هي المصدر الأول لمضادات الأكسدة عند الكبار وهي تساعد على منع تدمير الخلايا، وتنشط الذاكرة وتقي من الاضطرابات المصاحبة للشيخوخة

القهوة العربية في الشعر الشعبي

يفوح منها عبير الهيل إن سُكبت فتنعش القلب من ندٍّ ومن طيبِ

تحتل القهوة في الإرث الشعبي لمجتمعات بلاد الشام والجزيرة العربية مكانة خاصة جعلت منها عامل إلهام لشعراء العامية والفصحى على مرّ العصور. وقد استخدم شعراء العرب شعرهم للتغني بمحامد القهوة وطيب مذاقها وآدابها وجلساتها ودورها الاجتماعي، أو لشرح أساليب صنعها وتقديمها، وغير ذلك من تفاصيل تراثها الغنيّ. في ما يلي عرض لبعض ما يتضمّنه الأثر الشعري العربي في موضوع القهوة (المرّة) وتدعى القهوة العربية أيضاً.

عمار حسين أبو عمار (*)

في كون القهوة العربية رمز الكرم والضيافة في كافة المناسبات ولا تكتمل الضيافة إلا بتقديمها قال الشاعر:
ضيــــــــــوف علينــــــــــا بدجة الليل طبــــــــــــــــــــة زاد أن تقهــــــــــــــــــــووا بعــــــــــــــــــــد لعــــــــــــــــــــب الرباني

وهي مادة شيقة تغنّى بها الشعراء في المضافات والدواوين والربعة والمقعد والمسحاب. قال الشاعر:
يــــــــــــــــــــــــــــــا محــــــــــلا الفنجان بفـــــــــــــي وظلال بــــــــــــــــــــربعــــــــــة مــــــــــــــــــــا بهــــــــــــــــــــــــــــــا نفــــــــــــــــــــوس ثقيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــله

وغالباً تهيّأ القهوة في الصباح بإشراف الرجال في أغلب الأحيان ولها أنواع متعددة وأفضلها العدنية والبرازيلية والكولومبية وأنواع أخرى، ويضاف للقهوة الهيل ( الهال ) كما يضيف البعض في أنحاء الجزيرة العربية الزعفران أو القرنفل ( المسمار ) أو العنبر أو جوزة الطيب. ويقول الشاعر:
أدعي بها المسمار والهيل مسحوق وإن زدتــــــــــــــــــــــــــــــها مــــــــــن عنبر البن لا بــــــــــــــــــــــــــــــاس

ودلالة على تكريم الأبطال والكرماء عندما تقدم يقال هذا فنجان الكريم والبطل الشجاع الذي يستحق التكريم وتجدد بعد الصباح تكريماً للضيوف، وتقدم على اليمين. وقال الشاعر:
صبه على اللي تدفق السمن يمناه وهــــــــــــــــــــاب مــــــــــــــــــــا له بالســــــــــنين الشحوحــــــــــــــــــــي

وللقهوة العربية دور كبير اجتماعي وسياسي أحياناً إذ بها تعقد الرايات، وتكم السايات، وتقضى الحاجات. وقال الشاعر:
يا سارياً عند الفجر عرج وشوف ديارنا الهيل والبن والعطر نقري بها زوارنا

ومجلس القهوة العربية مجلس كرم وسخاء وانفتاح تدور فيه الفناجين مثنى وثلاث لا يتعب المضيف من متابعة جلسائه بكل حواسه مبالغة في الكرم واحترام الضيوف وإعطائهم حقوق الضيف، وهي مقدسة في أعراف العرب وشيمهم. وقد قال الشاعر:
نفرح إذا كثروا المسايير وضيــــــــــوف لــــــــــــــــــــو صــــــــــــــــــــار دورتهــــــــــــــــــــم ثمانــــــــــين فنجــــــــــــــــــــان

كما أن القهوة العربية صناعة دقيقة لها أسرارها وفنونها خصوصاً في ما يتعلق باختيار نوع البن وطريقة التحميص والطحن (الجرش) والطبخ وصولاً إلى تهيئة المزيج الأخير المعد للضيوف، وغالباً ما يقدمها صاحب المضافة أو أحد مساعديه بشيء كثير من التهيّب في انتظار عبارات الاستحسان من الضيوف، وخوفاً من أن يعيب عليه أحد قهوته. قال الشاعر منبهاً إلى أهمية الاحتياط الشديد عند تحضير القهوة:
أياك وأيّا الني وأصحى من الحراق وبالك تكون بعاجل الحمس مرهوق

وآخر يقول:
احمس ثلاث يا نديمي على ساق ريحه على جمر الغضا يفضح السوق

يعدّ المهباش ( المهباج ) أو النجر من أبرز أدوات القهوة العربية، وهو مصنوع غالباً من خشب البطم وهو الأجود أو من بعض أنواع الأخشاب الأخرى، وله يد من نفس الخشب، وهو مجوف من الوسط لسحن القهوة. قال الشاعر:
يا خوي هات النجر دني المعاميل ابن الكــــــــــــــــــــرام اللــــــــــــــــــــي ولا لو حشــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمها

وقال آخر:
بنجر به المهباج بالصوت خفاق يجلب لك القصيان البعيدين دقة خفوقه
أي أن دقه المنتظم يُنبئ أبناء الحي والجيران بقدوم الضيوف، ويدعوهم لشرب القهوة.
يحتاج صنع القهوة العربية إلى مجموعة من الدلال (جمع دلّة) أكبرها يستخدم لغلي التشريبه وتسمى عند البعض ( دلّة النقوع)، بينما تستخدم الثانية وهي أصغر حجماً لتلقيم القهوة قبل “زلِّها” أي تصفيتها في الدلّة الثالثة (الأصغر) تمهيداً لإضافة الهيل والتوابل الأخرى وتقديمها للضيوف. وقد وصف أحد الشعراء دِلال القهوة بقوله:
دلال فوق النار دوماً جواليس وإكرامــــــــــــــــــــهن حقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً علينــــــــــــــــــــــــــــــا لزومـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي

وأفضل أنواع الدلال الشامي ( صالحاني ).والبغدادي يقول أحد الشعراء معبراً عن عبق القهوة التي تلاقي رائحتها القادم:
يفوح منها عبير الهيل إن سُكبت فتنعــــــــــــــــــــش القلــــــــــــــــــــب من نــــــــــدٍّ ومن طيــــــــــبِ

القمح

«كثرة الأيادي في الحصيدة غنيمة»

موسم القمح عرس القرية الذي غاب

من الحرث إلى الزرع فالحصاد فالدرس فالتذرية والجمع
سلسلة نشاطات كانت تجمع القرية وتؤمن الفلاح غائلة الأيام

عرف الريف اللبناني زراعة القمح بإعتبارها أحد أهم مقومات الحياة والنشاط الاقتصادي. وكان لا بدّ لكل منزل أن يمضي معظم أشهر السنة على ما يمكن خزنه من مؤونة القمح والشعير في “الكواير”، وهي جرار كبيرة مستديرة ومصنوعة من الصلصال والقش بهدف الحفاظ على القمح في حالة جيدة طيلة العام.
وكانت زراعة القمح مسؤولية كل بيت لكن كان يشترك فيها أحياناً عدد من الفلاحين الذين يتعاونون في الزرع، ثم في الحصاد، ثم في درس القمح وتنقيته وهو ما يدلّ عليه المثل الشعبي “كثرة الأيادي في الحصيدة غنيمة”، وكان الموسم يبدأ قبل هطول الأمطار، إذ يقدم المزارعون على حراثة الأرض في ما كان يسمى “التعفير”، أي إعداد التربة لتصبح قادرة على امتصاص أكبر كمية ممكنة من المياه في موسم الأمطار، وذلك لاعتقاد المزارع من خلال الخبرة المتوارثة أن امتصاص الأرض للمياه الكثيرة يساعد على حفظ الرطوبة ويمدّ نباتات القمح بالرطوبة اللازمة في فترة النمو عندما يتوقف المطر أو يقلّ هطوله في أواخر الربيع وقبل نضج السنابل.
وبعد أن ترتوي الأرض، يعود المزارعون الى حقولهم ليبدأ موسم الحراثة وبذر القمح في التربة. ويكون البذار عادة من قمح جرى الاحتفاظ به من موسم العام الماضي على أن يكون مأخوذاً من السنابل الجيدة، وذلك للحصول على أفضل إنتاج في الموسم التالي. وكان يتم مزج القمح أثناء البذر بمادة تُعرف بالجنزارة كي يبقى في الحقل دون أن تسحبه الفئران والنمل.
عندما ينبت القمح خلال فصل الربيع وتصبح السنبلة فوق سطح الأرض بسنتمترات عديدة تبدأ عملية التعشيب، أي إزالة الأعشاب الضارة، لاسيما الشوك من بين القمح كي تسهل عملية الحصاد. وعند حلول آخر شهر حزيران وبداية شهر تموز تكون حقول القمح قد اصفرّت والسنابل نضجت فيبدأ موسم الحصاد، وهو موسم كان أشبه بعرس أو احتفال حقيقي لأهل القرية شيباً وشباناً.

الحصاد
يعتبر الحصاد من أهم نشاطات الموسم بعد انتظار نضج القمح، وهو غالباً نشاط جماعي يقوم به الفلاحون صفوفاً فيكون كل فلاح أو حصاد مسؤولاً عن إمّان أو قطاع طويل يمتد أمامه في الحقل، وتبدأ عملية الحصاد بعمل متزامن بين الحصّادين الذين يتقدمون في الحقل ويعمدون إلى جمع القمح في حزم يتركونها خلفهم، فيأتي آخرون ويجمعونها أغماراً وحزماً، ثم حملات تنقل على ظهر الدواب أو الناس الى البيدر وتترك هناك زمناً قصيراً الى أن تجف وتصبح جاهزة للدرس.
البيدر
اللفظة آرامية bet draya أي مكان التذرية. والبيدر مكان لدرس حزم القمح بهدف تنعيمها وسحنها إلى خليط ناعم يضم التبن والقمح تمهيداً لفصلهما وجمع كل منهما في أكياس مستقلة. وعادة كان الفلاحون يختارون أرضاً رصفتها الطبيعة بالبلاط الأملس وكانوا أحياناً يكملون ما يجدونه في الطبيعة من خلال عملية رصف إضافية تستكمل بناء أرض البيدر التي يجب أن تكون صلبة لتساهم في تسهيل عملية سحن خليط القمح والتبن تحت المورج.
وفي حال تعذّر وجود بلاطة طبيعية، فإنه كان على الفلاح أن ينتقي قطعة أرض قريبة من حقول القمح ويسهل وصول الماشية إليها، ويجب أن تكون قطعة مستوية، ممهدة، معرّضة لمهب النسيم، فلا تكون في منخفض ولا في مكان يُصَدّ عنه النسيم. ولذا تجد أن البيدر يقع على هضبة من الأرض، معرّضة للشمس والهواء، ويفضل أن تكون هناك أشجار ظليلة مثل السنديان أو الملول أو البطم أو تينة عظيمة أو جوزة بالقرب منه، ما يوفّر للعاملين مكاناً ظليلاً لأخذ قسط من الراحة أو تناول الطعام خلال عملية الدرس.
ولا يحتاج بناء البيدر الى عناء كبير أو نفقات، وهو عادة رقعة مستديرة ممهدة تحيط بها دائرة من حجارة غشيمة. ومن أجل تأمين قساوة مثلى للأرض يتم عادة حدلها قبل فصل الدراسة. ويفضّل أن ينمو فيها عشب التيِّل (والبعض يسمونه تيّول)، الذي يمسك وجه الارض مسكاً شديداً. ويجب أن يتوافر بالقرب من البيدر منبسط تعرّم فيه أكداس الحبوب. رغم أن البيدر يكون عادة ملكاً لمزارع، فإن كثيرين يشتركون في دراسة حبوبهم عليه، لقاء أجر زهيد على شكل كمية بسيطة من القمح أو التبن، أو أحياناً من دون مقابل.

المورج
المورج هو آلة درس القمح وهو كناية عن لوحين أو ثلاثة ألواح من خشب الصنوبر العتيق الملقش. يقطعون جذع الصنوبر الى قطع طولها قرابة مترين، وينشرونها الى ألواح سميكة 7-6سنتمترات وعرضها قطر الشجرة، 50-40سنتيمتراً، ثم أنهم يحفرون في أسفل اللوح نقراً يدخلون فيها قطعاً من حجر الصوان، أو الحجر البركاني، وبعضهم يضعون قطعاً من الحديد ذات وجه خشن أو مسنن لكي يقطع القش الى قطع صغيرة: تبن.
يسمون مقدار القمح، الذي يدرسونه دفعة واحدة “طرحة” أو “فلشة”. وكبر الطرحة أو صغرها يتوقّف على حجم البيدر. ولكن المعدل 4 أو 5 أحمال من القش، ثم أنهم يربطون المورج الى زوج ثيران أو إلى بغل ويجلس صبي، أو فتاة صغيرة (وهو عمل محبّب عند أطفال القرية) وتأخذ الثيران بتدوير المورج على أكوام سبلات القمح الى أن تتكسر هذه إلى خليط ناعم يضم حبات القمح التي تكون قد خرجت من السنبلة، ومن التبن هو نتاج سحن سيقان القمح بفعل دوران المورج وعمل الأحجار الصوانية. وكانوا يضعون على أفواه البقر كمامات، ويسمونها بلانة لكي لا تأكل السنابل. وعلى السائق أن ينتبه الى إفراز البقر، فيتلقى الإفراز برفش معد أمامه.

درس القمح
درس القمح

التذرية
تعتبر عملية تذرية القمح الفصل الأخير في موسم الحصاد وجمع الغلة، ذلك أن عملية درس القمح ينتج عنها خليط من حبات القمح الغارقة في أكوام التبن والقش التي نجمت عن عملية الدرس. وتتم عملية التذرية بواسطة مذاري (جمع مذراة) هي عبارة عن رأس من أربعة أو خمسة أصابع مدببة وطويلة منضودة على شكل كف وتشدها عادة أربطة من الجلد الحيواني ويتم تثبيتها بمسامير من الخشب. ويتم ربط كف المذراة بعصاً طويلة من خشب ويراعى في المذراة أن تكون من خشب قاسٍ وخفيف في آن، بحيث لا يشعر المزارع بالإرهاق من استخدامها.
ينتظر المزارعون يوماً يهب فيه نسيم أو هواء خفيف ويبدأون التذرية برفع أكوام الحنطة والقش بواسطة المذراة، وينتج عن ذلك دفع الهواء للتبن وهو أخف وزناً بعيداً إلى ناحية يتجمع فيها بفعل هبوب الهواء وسقوط حبوب القمح وهي أثقل وزناً في دائرة التذرية. ومع الوقت واستمرار التذرية يستمر فصل التبن عن القمح بحيث يتجمع التبن في الناحية التي يدفع الهواء باتجاهها ويتجمع القمح في وسط البيدر تحت المذاري ليشكل كوماً مستقلاً. ومع استكمال عملية الفصل بين التبن والحنطة يأتي المزارعون بأكياس لتعبئة كل منتج على حدة ونقله إلى المنازل ليتم حفظه طيلة العام.
وغالباً ما يتبع جمع القمح عمليات تنظيف إضافية عبر غسله مراراً بالماء، ورفع كل الشوائب التي قد تكون خالطته خلال عملية الدرس والجمع مثل البحص الصغير أو الزوان أو الأتربة وغيرها، وهو ما يسمى عملية “التصويل”، ويتم فلش القمح “المصوّل” على الأسطح في أيام مشمسة، ويبقى هناك أياماً عدة يتم فيها تقليبه باستمرار إلى أن يجف ويصبح صالحاً للخزن ونقله إلى المطحنة.
ويتم عادة استخدام جزء من محصول القمح لصنع البرغل، فيعمد المزارع إلى سلق القمح في دسوت كبيرة أو براميل لمدة ساعتين أو أكثر إلى أن “يفقش” الحب ويصبح ناضجاً لرفعه من الدست وفلشه على الأسطح ليجف تمهيداً لأخذه إلى المطحنة. وفي المطحنة يتم جرش القمح المسلوق والمجفف إلى برغل خشن وبرغل ناعم وبرغل وسط، ولكل من أنواع البرغل هذه استخداماته لدى ربة المنزل.

منظمة

كشوفات علمية تسلّط الضوء على مخاطر استخدام الخليوي

منظمة الصحة العالمية تقرّر رسمياً
أن الخليوي مسبب محتمل للسرطان

الخبراء ينصحون باستبدال التهاتف الصوتي بالدردشة النصية
والاكتفاء باستخدام الخط الأرضي في المنزل وأماكن العمل

الموجات الكهرومغناطيسية تتسبب بمرض السكري والعقم
والخليوي على الورك يُضعِف العظم في منطقة الحوض

يُقدَّر اليوم أنّ هناك نحو 5,9 مليارات مشترك في الهواتف الخليوية على مستوى العالم، أيّ ما يوازي نحو 87 في المئة من عدد سُكّان العالم، وقد غدت صناعة الإتصالات الخليوية من بين أسرع الصناعات نمواً وقوة في سوق تقيّم ببضعة تريليونات من الدولارات. وفيما تُواصل هذه الثورة في عالم الإتصالات تناميها، يزداد عدد الباحثين الذين ينبرون للتحذير من مخاطر هذه التكنولوجيا على صحة الإنسان. وأخذت هذه التحذيرات تجد آذاناً صاغية ولو ببطء شديد. فالرابط بين تعرُّض الدماغ للضرر واستخدام الهاتف الخليوي بات قوياً جداً إلى درجة يتعذُّر معها إنكاره. والمُلفت أنّ الدراسات التي تُموِّلها صناعة الإتصالات الخليوية غالباً ما تُظهر نتيجة «لا تأثير مؤكد على الصحة» مقابل الدراسات العلمية المموَّلة بجهد مستقل التي تخرج بنتائج تثير القلق.
وإذا كنت من المتمسّكين باستخدام الهواتف الخليوية وترفض التصديق بأنّ وضع هذا الجهاز الباث للإشعاعات الكهرومغناطسية بالقرب من رأسك يُسبِّب مخاطرَ جدّية، فعليكَ أن تقرأ الآتي.
الحق ..مع الطليان!
لنبدأ من إيطاليا، فقد حَكَمت المحكمة الإيطالية العليا منذ مدة بوجود رابطٍ بين إصابة موظّفٍ يُدعى إنوسينتي ماركوليني Innocente Marcolini بورم في الدماغ واستخدامه المكثّف للهاتف الخليوي، كان ماركوليني يستخدم الهاتف الخليوي ما بين 5 إلى 6 ساعات يومياً على مدى 12 سنة تحدُّثاً مع عملاء في المؤسّسة التي يعمل فيها. وإثر ذلك أُصِيبَ بورمٍ في «العَصَب المثلث التوائم» trigeminal nerve، في موقع قريب جداً من المكان الذي يتلاقى فيه الهاتف الخليوي مع الرأس.
وقد تطلّب الأمر إجراء عملية جراحية لإستئصال الورم، ممّا ترك وجهه شبه مشلول. وبعد محاولته الحصول على تعويض من «الهيئة الإيطالية لتعويض العمّال» INAIL ورفض طلبه بحُجّة الإفتقاد إلى دليل كافٍ يُثبت أنّ عادات عمله قد سبّبت الورم، رفع قضيته إلى المحكمة العليا التي أصدرت حكمها بوجود رابطٍ بين استخدام الهواتف الخليوية واللاسلكية ونمو الأورام. واستندت المحكمة في قرارها إلى دراساتٍ أجراها البروفيسور السويدي لينارت هارديل Lennart Hardell الذي توصَّل إلى أنّ أولئك الذين بدأوا بإستخدام الهواتف الخليوية بكثافة منذ سن المراهقة كانوا عرضة على نحو أكثر بـ 4 أو 5 أضعاف للإصابة بسرطان الدماغ وهم في سن الرشد، وأصَرَّت المحكمة العليا على قرارها عبر التأكيد بأنّه مبرَّرٌ بأدّلة علمية موثوقة.

على الحكومات والمؤسسات والأهل، والأطباء، والمدارس، والمواطنين كافة أن ينصحوا كلّ مَنْ هم تحت رعايتهم أو تأثيرهم بالحاجة الماسّة إلى ترشيد استخدام الهواتف الخليوية والأجهزة الأخرى الباثّة للإشعاعات

50 دقيقة مع الخطر
لكن لا داعي لاستخدام الهاتف الخليوي لبضع ساعات في اليوم لكي يتعرّض المرء لخطرٍ مماثل، بل يكفي 50 دقيقة فحسب من التعرُّض لإشعاعات الهاتف الخليوي الذي يبث استقبالاً وإرسالاً، كما تؤكّد الدكتورة نورا فولكاو Nora D. Volkow، مديرة «مؤسّسات الصحة الوطنية» الأميركية NIH. فقد وجدت فولكاو أنّه بعد استخدام الهاتف الخليوي لفترة 50 دقيقة فحسب، فإنّ الإشعاع الكهرومغناطيسي المنبعث منه يُضاعف نشاط خلايا الدماغ في المنطقة الأقرب إلى إرسال الهاتف، ولو أنّها لم تُفصِح عن التأثيرات الصحية لهذا النشاط المتزايد للدماغ. إلا أنّ دراستها بدّدت الوهمَ السائد في دوائر الأبحاث الحكومية الأميركية بأنّ إشعاع الهاتف الخليوي عند مستويات غير حرارية non-thermal levels لا يتسبّب بأي تغييرٍ بيولوجي.
وبحسب ما توصّلت إليه فولكاو في بحثها، فإنّ التأثيرات غير الحرارية للتعرُّض المزمن للهاتف الجوّال قد تنعكس ضرراً بيولوجياً أشد مما يسببه التأثير الحراري. فالخطوط الإرشادية للسلامة الخاصة بالأجهزة الباثّة للإشعاعات المايكرويفية microwave radiation إنّما تستند فقط إلى قيمة ما يُعرف بـ «المعدّل الخاص للإمتصاص» Specific Absorption Rate – SAR، وهي تقيس الطاقة المنبعثة من الهاتف الخليوي وإمكانية تسخينها للأنسجة المتعرِّضة.

ترك الخليوي مع الطفل تهاون غير مسؤول من قبل الأهل
ترك الخليوي مع الطفل تهاون غير مسؤول من قبل الأهل
تهديد الحمض النووي
وكان باحثون في «جامعة كولومبيا» Columbia University  قد طرحوا منهجاً جديداً لتقييم سلامة الهاتف الجوّال لا يقيس الطاقة المنبعثة من الجهاز بل التأثيرات الفعلية على الكيمياء الإحيائية لـ «الحمض النووي الريبي المنقوص الأوكسجين» (DNA).
ويلفت الباحثون إلى أنّ الضرر المتأتّي عن التعرُّض للهاتف الخليوي قد يستغرق سنين عديدة للظهور. وقلّما تكون هناك عوارض أوّليّة، تماماً كشأن التدخين مع سرطان الرئة. وتوقّعت إحدى الدراسات التحليلية المختصة زيادة كبيرة جداً في حالات سرطان الدماغ الناجمة عن انتشار استخدام الهواتف الجوّالة منذ نحو 20 عاماً، وقد استندت أيضاً إلى تأثيرات إشعاع الهاتف الخليوي على الطفرة أو التحوُّل أو التغيار الأحيائي (mutation) في الـ «دي أن أيه»، وكذلك على فعالية ترميم الـ «دي أن أيه» المتحوِّل.
وخلُصَ لويد مورغان (Lloyd Morgan) أحد المشاركين في الدراسة إلى أنّه ما لم تتبدّل أنماط سلوك استخدام الهاتف الخليوي بشكلٍ جذري فإنّه من المتوقّع ازدياد حالات أورام الدماغ، التي بات المستخدمون مهيَّئين لها بعد هذه المدة من انتشار التكنولوجيا، وعلى الحكومات، فضلاً عن الأهل، والأطباء، والمدارس، والمواطنين كافة أن ينصحوا كلّ مَنْ هم تحت رعايتهم أو تأثيرهم بالحاجة إلى ترشيد استخدام الهواتف الخليوية والأجهزة الأخرى الباثّة للإشعاعات.
وصرّح خبراء في حقل التأثيرات البيولوجية للتردُّدات الكهرومغناطيسية (EMF) والتكنولوجيات اللاسلكية أنّ الهواتف الخليوية ليست مسبباً محتملاً للسرطان فحسب، بل هي تُسهِم أيضاً في مجموعة واسعة من المشكلات الصحيّة الأخرى، كالإكتئاب، وداء السُكَّري، وعدم انتظام دقات القلب، والعقم. وقد حدّد هؤلاء الباحثون الآليات العديدة التي يمكن للخليوي أن يتسبب فيها بالضرر، وكيف تؤثر الحقول الكهرومعناطيسية على الخلايا وتُتلِف الـ «دي أن أيه».
وفي هذا الإطار، تحدّثت الباحثة المتخصّصة الدكتورة ديفرا دايفيس Devra Davis في كتابها بعنوان «قطع الإتصال» Disconnect على أنّ هناك مخاطرَ صحيّة جدّية أخرى لاستخدام الخليوي غير الأورام الدماغية. وأوردت دايفيس دراسات تشير بوضوح إلى أنّ الإشارات النبضية الرقمية pulse digital signals الصادرة عن إشعاع الهاتف الخليوي يمكن أن تُغيِّر أغشية الخلايا، وتُضعِفها، وتساعد على إنتاج ما يُسمّى بالشوائب أو الجذور الحرّة free radicals المؤذية جداً للخلية، لكنّها أكّدت أنّ التأثيرات البيولوجية الطويلة الأمد لهذا الإشعاع لم تتّضح بعد، ولو أنّها ترى أنّ الضرر الأكبر قد يطال الأعضاء التناسلية، حيث أنّ الناس يضعون الهواتف في جيوبهم أو عند خصورهم، وهي أسوأ الأماكن لوضع الهاتف.
وفي الدوائر العلمية المخبرية، جرى أيضاً ربط الهاتف الخليوي بخمسة أنواع أخرى من السرطان هي: الورم السُحائي meningioma، وأورام الغدة اللعابية، وسرطان العين، وسرطان الخصية، وسرطان الدم «اللوكيميا» Leukemia، فضلاً عن مجموعة واسعة من التأثيرات البيولوجية الأخرى.
تحوّل كبير في موقف منظمة الصحة العالمية
وفي خضم هذه الدراسات والتحاليل التي تبعث على القلق، قامت «الوكالة الدولية لأبحاث السرطان» IARC، التابعة لـ «منظمة الصحة العالمية» WHO، بمراجعة دراسات ذات صلة لتُعلِن في خلاصة لها أنّ الهواتف الخليوية قد تكون من مُسبِّبات السرطان، لتُدرجها في الفئة ذاتها التي تضم عوادم محرّكات الديزل، وبعض مبيدات الحشرات، والمعادن الثقيلة. وتوصّلت لجنة خبراء الوكالة إلى وجود بعض الأدلّة على أنّ الإستخدام المنتظم للهاتف الخليوي قد ضاعف مخاطر الإصابة بنوعين من الأورام – الورم الدماغي (الورم الدبَّقي
glioma)، «وورم العصب السمعي» (acoustic neuroma).
واستجابة لهذه الأبحاث أصدرت «الوكالة الدولية لأبحاث السرطان» تقريراً صنّفت فيه الحقول الكهرومغناطيسية للتردُّدات الراديوية لهذه الأجهزة اللاسلكية بكونها «من مُسبِّبات السرطان المحتملة للبشر» من الفئة «2ب» (ClassB2).
وحذّر الدكتور جوناثان ساميت (Jonathan Samet)، من «جامعة ساوث كاليفورنيا»، رئيس مجموعة العمل على هذا التقرير من أنّ «دلائل الإثبات» على التأثير المسرطن لموجات الخليوي وإن كانت ما زالت بعد في طور التكامل إلا أنها قوية بما يكفي لدعم النتائج والتوصيات التي توصلت إليها الدراسة». وأوصى التقرير بمواصلة الأبحاث على الاستخدام الكثيف والطويل الأمد للهواتف الخليوية، مؤكداً على أن من المهم اتّخاذ إجراءات عمليّة لخفض التعرُّض لهذه الإشعاعات، مثل اللجوء إلى سمّاعات الأذن المَحمِيّة واعتماد النصوص النصية بدلاً من التهاتف الصوتي.

 

محكمة إيطالية حكمت للمرة الأولى وبالاستناد إلى دراسات علمية بوجود رابط بين الخليوي وبين الإصابة بسرطان الدماغ

الخطر على الأطفال كبير لقابلية جسمهم لامتصاص الموجات واستخدام المرأة الحامل الكثيف للخليوي يتسبب بالضرر للجنين

الهواتف الخليوية كلها سواء فلا تظنَّنَّ أنّ أياً منها هو أكـــــــثر «أمـــاناً» من غيره

قبل وبعد المكالمة
قبل وبعد المكالمة

أبعدوه عن الأطفال وأبعدوا الأطفال عنه
الأطفال هم الأضعف في ما بيننا من ناحية التعرُّض لمخاطر إشعاع الهاتف الخليوي، حتى وهم أجنّة في الرحم. فدماغ الإنسان تحميه الجمجمة، إذ أن العظام أكثر كثافة من أنسجة الدماغ التي تحتوي على سوائل. ودماغ الطفل أكثر عرضة لإختراق الإشعاع الكهرومغناطيسي لأنّ جمجمته أقل سماكة ودماغه يحتوي على كمية أكبر من السوائل، التي يمكنها أن تمتص كماً أكبر من الإشعاع المايكروويفي، بحسب الدكتورة دايفيس.
وربّما سلوك الوليد يُقاس حقاً بعادات الأمهات المتصلات، فللأسف ربّما تصل مخاطر إشعاعات الهاتف الخليوي إلى داخل الرحم وتؤذي الطفل جنيناً، وهو ما قد يجعله بعد ولادته يُواجه صعوبات سلوكيّة في فترات لاحقة من عمره. فقد قام الباحثون في سنة 2008 بتحليل بيانات تعود لنحو 13 ألف طفل، ووجدوا أنّ التعرُّض لإشعاعات الهواتف الخليوية والطفل في الرحم (وحتى في خلال الفترة المبكرة من طفولته) مع استخدام الأم للهاتف بين مرتين إلى ثلاث مرّات في اليوم، قد ارتبط بمشكلات سلوكية، ورفع مخاطر إصابة الصغار بفرط النشاط، وصعوبة التواصل العاطفي والعلاقة مع الأقران عند دخول المدرسة، هذا ناهيك عن مخاطر استخدام الصغار بأنفسهم للهاتف الجوّال. وكشفت الدراسة في خُلاصة لها عن أنّ الأمهات اللواتي استخدمنَ الهواتف الخليوية على نحو متكرِّر كُنَّ أكثر ميلاً بنسبة 54 في المئة لإنجاب أطفال يعانون مشكلات سلوكية.
وأخذ مزيدٌ من الدول يتبنّى مبدأ الحيطة المُسبَقة والإحتراز لجهة استخدام الأحداث للهاتف الخليوي. فنجد على سبيل المثال كلاً من كندا، وروسيا، والمملكة المتحدة، وبلجيكا، وألمانيا، وفرنسا، وفنلندا، وحتى الهند تطلق تحذيرات عامة وتحثُّ مواطنيها على توخِّي الحذر من ناحية استخدام أطفالهم للهاتف الخليوي.
وتختصر الدكتورة دايفيس هذه التحذيرات العامة للإستخدام الآمن للهاتف الجوّال، أولاً إبقاء الهاتف على مسافة آمنة بعيداً عن الجسد، واستخدام سمّاعات أذن مَحمِيّة جيداً ومعزولة الأسلاك، وعدم وضع الهاتف في الجيب أو عند الخصر أو فوق القلب أو أيّ أماكن حيوية أخرى.
وتُوصي الباحثة بعدم استخدام الهواتف الخليوية إلا لِماماً، وإبقاء الإتصال للمكالمات الضرورية والمهمة جداً، وتنصح بإطفاء الهاتف عند عدم استخدامه لأنّه يواصل بَثّ الإشعاع ولو لم نُجرِ اتصالاً، والإستغناء عن ذلك بإستخدام الخط الأرضي في المنزل وأماكن العمل. وتُوفِّر خدمة «سكايب» (Skype) على الإنترنت تواصلاً صوتياً ومرئياً يُغنيك عن وضع ذلك الجهاز الباث للإشعاع على أذنك، وهنا تُوصي دايفيس أيضاً بإبعاد المُوجِّه اللاسلكي أو «الراوتر» عن غرفة النوم، ويُستحسن إطفاؤه ليلاً، فلربّما يحدث اضطراباً في نمط نومنا.

من العِبّ إلى الجيب
ولا بد من تشديد التوصية للسيدات، وإحدى الحالات قد تُشكِّل تحذيراً كافياً لإحتمال تسبُّب الهواتف الخليوية بأمراض خطرة. شابةٌ أميركية شُخِّصت لديها الإصابة بسرطان في الثدي متعدّد البؤر تبيّن أنّها ممّن يضع الهاتف في «عِبِّه»، وخلُصَ أخصّائيان بأمراض السرطان روبرت ناغورني (Robert Nagourney) وجون ويست (John West) إلى أنّ توزُّع نقاط الخلايا السرطانية في المنطقة المصابة عند هذه الشابة قد اتّخذ تماماً شكل الهاتف الخليوي!! ولعلّ ذلك لا يكفي كإثبات قطعي بتسبُّب الهاتف الخليوي بالسرطان، لكنّه يصلح لأنّ يكون تحذيراً كافياً ليس لكلّ مَنْ يضع الهاتف في «عِبِّه»، بل أيضاً في جيبه الأمامي، والآخر الخلفي، هذا ناهيك بجيب القميص أو جيب السترة فوق القلب مباشرة.
وأظهرَ بحث نُشِرَ في سنة 2009 إثباتات على أنّ وضع الهاتف الخليوي في محفظة على الورك قد يُضعِف منطقة الحوض. وقام باحثون، يستخدمون تقنية «أشعة أكس» (X-Ray) المعتمدة في تشخيص ومراقبة المرضى المصابين بهشاشة العظام (Osteoporosis)، بقياس كثافة الحوض لدى 150 رجلاً يحملون هواتفهم عادة في محفظة متصلة بأحزمتهم عند الورك. وكُلٌ من هؤلاء يحمل هاتفه لنحو 15 ساعة في اليوم، ويستخدمه منذ قرابة 6 سنوات. ووجدَ الباحثون أنّ كثافة العظام قد انخفضت عند جانب الحوض الذي وُضِع عنده الهاتف الخلوي، ممّا أثار الشكوك بأنّ ذلك جاء بفعل تأثير التعرُّض للحقول الكهرومغناطيسية التي تبثّها الهواتف الخليوية حتى ولو لم يكن صاحبها يُجري اتصالاً. وكانت دراسات سابقة قد وجدت أنّ إشعاعات الهاتف الخليوي قد تؤثر على الخصوبة لدى الرجال.
وأضف إلى ذلك أنّ هناك عدداً من الأعضاء الحسّاسة الأخرى بالقرب من الحوض، بما في ذلك الكبد، والكِليتان، والمثانة، التي تتعرّض بدورها لهذه الإشعاعات.

كيف تخترق إشعاعات الخليوي دماغ الإنسان copy
كيف تخترق إشعاعات الخليوي دماغ الإنسان

نصائح سريعة
وفي ما يلي نصائح بسيطة لإبعاد هذا الخطر الخليوي قدر الإمكان:
استخدِمْ الهاتف الجوّال فقط حينما يكون الإرسال جيداً. فبقدر ما يكون الإرسال ضعيفاً بقدر ما يستهلك هاتفك طاقة للإرسال، وبالتالي بقدر ما يستخدم طاقة، بقدر ما يبث إشعاعاً، وأشدُّ ما تكون قدرة الموجات الراديوية الخطرة على إختراق الجسم.
احْملْ الهاتف في حقيبة يد، فمسافة 15 سنتيمتراً قد تكون كافية لإبعاد خطر الإشعاع الكهرومغناطيسي عنك. وأخيراً، إنّ الهواتف الخليوية جميعاً سواء، ولا تظنَّنّ أنّ أحدها هو أكثر «أماناً» من غيره.
وبانتظار ما ستُفصِح عنه الأبحاث المتواصلة في هذا الشأن مستقبلاً، يمكن التوصية باختصار: لا تدعْ موجات الهاتف الخليوي تخترق دماغك عبر أذنك، وأبْقِه بعيداً عن العين، والقلب، والأذن.. والورك!

الحياة السريّة لآل مَعن بعد نكبة فخر الدين وأسرته

الحياة السريّة لآل مَعن
بعد نكبة فخر الدين وأسرته

المعنيون لم ينقرضوا بوفاة الأمير ملحم
واحتفظوا بوجودهم في إبل السقي وعرنة

مطاردة الولاة العثمانيين لهم وسطوة الأمراء الشهابيين
أقنعتهم بالعيش البسيط ففقدوا الإمارة واحتفظوا بالنسب

عولج تاريخ المعنيين بعشرات الكتب والأبحاث والمقالات الخاصة بهم، كما عولج في سياق التاريخ العام، واستحوذ الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير بالقسم الأوفر من هذه الأبحاث نظراً لعظمته، ولتوسّع رقعة نفوذه التي شملت، بالإضافة إلى كامل لبنان، مناطق من سوريا وفلسطين وشرق الأردن. وقد قيض لفخر الدين أن يحكم المنطقة لمدة طويلة نافت على الـ 43 سنة (1)، كان خلالها من رجال التحديث كما من رجال الحرب والسياسة، وأحدث نهضة عمرانية واقتصادية، فغدا رمزاً كبيراً في تاريخ لبنان.
ومع وفرة الأبحاث عن فخر الدين الثاني، وعن تاريخ المعنيين الذي امتد في لبنان من سنة 1120 إلى سنة 1697م، (أي حوالي 580 عاماً) فقد ظل هناك العديد من الإشكاليات والنواحي الغامضة عنهم، ومنها نسبهم، وتاريخ قدومهم من جهات الجبل الأعلى (جبل السمّاق) إلى لبنان، وخطبة فخر الدين الأول أمام السلطان سليم العثماني في دمشق سنة 1516، وسبب موت قرقماس والد فخر الدين الثاني، وأسباب الحملة العثمانية عليه وعلى سائر أمراء جبل لبنان سنة 1585. وهناك أيضاً نشأة فخر الدين الثاني في بلّونة في كسروان وشخصيته الخلافية في تاريخ لبنان. ثم هناك أخيراً الزعم القائم حول انقراض المعنيين بموت الأمير أحمد المعني سنة 1697 من دون عقب، إضافة إلى مزاعم ذات أغراض فئوية أو سياسية، كالزعم بتنصّر فخر الدين الثاني. لكننا سنعالج في ما يلي أمراً واحداً من هذه الأمور لنثبت أن المعنيين لم ينقرضوا وأنهم حافظوا على وجودهم بعد النكبة التي حلّت بهم في أواخر القرن السابع عشر، وذلك تحت اسم آل علم الدين المعنيين في إبل السقي (حتى سنة 1963)، بينما يستمر وجودهم حتى يومنا هذا في عرنة والريمة وسواهما، بإسم آل معن.
سلسلة نسب مجتزأة
من المعروف حتى الآن أن المعنيين جاؤوا من جهات الجبل الأعلى في سوريا إلى لبنان، في الربع الأول من القرن الثاني عشر الميلادي، وأن صاحب دمشق، طغتكين زنكي، طلب من أميرهم آنذاك، الأمير معن، الإقامة في جبل الشوف لمهمة جهادية، هي الإغارة على الفرنجة الذين احتلّوا معظم الساحل الشامي، وبيت المقدس. ومن نسل الأمير معن تسلسلَ الأمراء المعنيون الذين كانوا أولاً مقدّمين على جزء من الشوف، ثم غدوا أمراء عليه كله، وأسسوا فيه إمارة بلغت أوجّ مجدها واتساعها في عهد فخر الدين المعني الثاني.
ذكرت أوائل المراجع الحديثة، التي تكلّمت عن المعنيين، أن المقر الأول الذي نزل فيه الأمير معن كان بعقلين. وسلسل طنّوس الشدياق الأمراء الذين تحدّروا منه، وتحدّث عن توطّنهم في بعقلين، واستقبالهم فيها من بعد للأمراء الشهابيين، وآثارهم في هذه البلدة تشهد على إقامتهم المديدة فيها، ومنها البيت الذي نشأ فيه فخر الدين الثاني، وأُزيل في النصف الثاني من القرن العشرين لتوسيع الطريق الرئيسية. لكنه كان هناك مقر آخر لهم، قريب من بعقلين، هو دير القمر التي ذكر كتاب «قواعد الآداب حفظ الأنساب»، المدوّن في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، أن الأمير معن نزل فيها(2). ومن الآثار المعنية القديمة في هذه البلدة الجامع الذي بناه الأمير فخر الدين عثمان سنة 899هـ/ 1493م. وتقدم هذه الوقائع الدليل على أنه كان هناك مقرّان رئيسيان للمعنيين، هما بعقلين ودير القمر، وأن المعنيين كانوا فرعين، أو قسمين: قسم أقام في بعقلين، وقسم آخر أقام في دير القمر، لا نعرف من أمراء فرع دير القمر إلا الحاج يونس وإبنه فخر الدين عثمان، وولديه قرقماس وسليمان. ونظراً للإقامة الطويلة للمعنيين في دير القمر فإن وجود خبر عن ثلاثة أو أربعة منهم عاشوا فيها يدل على أن عدداً كبيراً من أمراء الشجرة المعنية لم تصلنا أخباره وأن خبر السلالة المعنية فيه فجوات كثيرة تترك المجال واسعاً للاجتهاد حول تاريخهم اللاحق.
لدينا دليل آخر على أن سلسلة النسب المعني المعروفة مجتزأة وتشكو من ثغرات بل وأحياناً من تناقضات بيّنة، وهو أن الشدياق الذي أوردها موسّعة، وعنه أخذها المؤرّخون، سمّى أربعة عشر أميراً بدءاً بالأمير معن الذي قدم إلى لبنان، بحسب رأيه، في سنة 1119م، وانتهاءً بالأمير يونس الثاني المتوفّى سنة 1511، ليس من بينهم إلا أمير واحد ولّد ولدين، هو الأمير ملحم الذي ولّد يوسف وعثمان. ومن المستبعد أن يكون لكل من الأمراء الثلاثة عشر ولدٌ واحد، أو أن يبقى له ولد واحد على قيد الحياة، إضافة إلى ذلك، فإن الأمير يونس المذكور لا يُعرف إذا كان ولّد أبناء، ولا يُعرف اسم والده بالتأكيد، لأن ابن سباط ذكر في تاريخه أنه في سنة 1511 «توفي الأمير يونس ابن معن أمير الأشواف»(3)، فيما ذكر الشدياق أنه في سنة 1511 «توفي الأمير يونس إبن الأمير معن»(4). ولقد ذكر الشدياق ابن سباط بين المؤرّخين الذين أخذ عنهم، ولا ندري إذا كان أخذ تاريخ وفاة الأمير يونس المعني عنه وأخطأ في النقل فأضاف كلمة «الأمير» إلى كلمة «معن». أما إذا لم يذكر ذلك نقلاً عن إبن سباط فمن المفترض أن يكون الأمير يونس ابن الأمير معن، وفي هذه الحالة يصبح عندنا أمير معني ثانٍ بإسم «معن» لم يرد ذكره في سلسلة النسب المعني.
أخطاء الشدياق
ويظهر الارتباك والخطأ في سلسلة النسب المعني عند الشدياق، وذلك حين يجعل الأمير عثمان إبناً للأمير ملحم، ويقول إنه توفي سنة 1507م (5)، وحين يجعل فخر الدين الأول فخر الدين بن عثمان، فيما هو فخر الدين عثمان، أي أن اسمه عثمان ولقبه فخر الدين، مع الإشارة إلى أن فخر الدين عثمان هو إبن الحاج يونس، كما يظهر من الكتابة على مئذنة جامع دير القمر الذي بناه. يضاف إلى ذلك أن حيدر الشهابي يقوّل فخر الدين الأول، المتوفى سنة 1506 أو 1507م، خطبة في دمشق في سنة 1516، أمام السلطان سليم العثماني. ثم يظهر فخر الدين آخر، هو والد الأمير قرقماس وجدّ الأمير فخر الدين الثاني الكبير. وتفسير ذلك هو أنه قد يكون هناك فخر الدين آخر غير فخر الدين عثمان، وغير فخر الدين الثاني الكبير، أو يكون هذا الفخر الدين الآخر لقباً لأمير معني لم يصلنا اسمه. ومن وجوه الإكتفاء بذكر الإسم أو ذكر الصفة، أنه كان لفخر الدين عثمان ولدان، هما قرقماس، وسليمان الذي ذكره حيدر الشهابي بإسمه فقط (سليمان)(6)، فيما ذكره طنوس الشدياق بإسمه ولقبه (علم الدين سليمان)(7). ومع أن سلسلة النسب المعني تبدو أكثر وضوحاً منذ عهد قرقماس (والد فخر الدين الثاني)، إلا أنه تبقى فيها حلقات غامضة، وأسماء لأمراء معنيين غير معروفة، من نسلها المعنيون المتأخرون الذين سنتحدّث عنهم في هذا المقال.

قصر-فخر-الدين-في-دير-القمر
قصر-فخر-الدين-في-دير-القمر

زعم انقراض المعنيين
إن أواخر الأمراء المعنيين المذكورين في المدوّنات، هم الأمير فخر الدين الثاني، وأخوه الأمير يونس، وأبناؤهما. وقد قُتل علي بن فخر الدين في موقعة سوق الخان سنة 1633، أثناء تصديه لحملة أحمد الكجك باشا التي أرسلتها الدولة العثمانية للقضاء على تمرّد والده. وأُعدم فخر الدين، وأبناؤه: بلك وحسن وحيدر ومنصور، في الآستانة سنة 1635، ولم يبقَ من أبنائه سوى حسين الذي عفا عنه السلطان العثماني، ورُبّي تربية عثمانية، وتقلّد مناصب عدة، منها تعيينه في سنة 1656 سفيراً للسلطان لدى ملك المغول في الهند، شاه جهان. وقد عاش حياته كلّها في الآستانة، وتزوّج، لكنه لم يرزق بأبناء، بدليل أن تركته آلت إلى أحد رجال الاسباهية (صالح) الذي تزوّج من أرملته ودعي «معن أوغلو».
أمّا الأمير يونس، فقد استدرجه أحمد الكجك من مخبئه بإعطائه الأمان، وحين حضر، قتله مع إبنه حمدان، فيما سلم إبنه ملحم وتسلّم في سنة 1635 الإمارة المعنية في الشوف. وكان له ولدان، هما قرقماس الذي قُتل في كمين مزبود، الذي أعدّه والي صيدا، محمد باشا، سنة 1662، وأحمد الذي نجا من هذا الكمين، لكنه غدا عقيماً بسبب الجرح الذي أصابه، وتوفي في سنة 1697 من دون عقب. وبناءً على ذلك، وعلى عدم معرفة المؤرّخين لاسم أي ولد لأبناء فخر الدين وأخيه يونس، نشأت المقولة التي تقول بانقراض المعنيين، والتي تعزّزت بانتقال الحكم من المعنيين إلى الشهابيين، لأنه لم يظهر آنذاك أي أمير معني ليخلف الأمير أحمد.
كان الأمير فخر الدين الثاني قادراً على حماية الملهوف وإجارة اللاجئ وتأمين الهارب من ملاحقة الولاة العثمانيين والحكام المحليين. لذا نشأت المقولة التالية: «ليس هناك أمنع من نزيل ابن معن». إلا أنه بعد قضاء الدولة العثمانية عليه، وضعف الإمارة المعنية بعده، ما عاد بإمكان من خلفوه أن يقوموا بهذا الدور الذي يقوم به عادةً الأقوياء، بل ما عاد بمقدورهم أن يؤمّنوا، إبّان غضب الدولة العثمانية عليهم، الحماية لأنفسهم، والإحتفاظ بالإمارة، وإيجاد الملجأ الآمن عند حلفائهم من الحكام.
اضطر آل طربيه، أمراء عجلون، إلى تسليم الأمير ملحم المعني سنة 1633 لأن عسكر أحمد باشا الكجك ضايقوهم. وخاض الأمير ملحم وإبنه الأمير أحمد المعارك المتواصلة ضد اليمنيين الذين كانوا بقيادة الأمير علي علم الدين وأبنائه، الذين نافسوهما على الإمارة وتداولوها معهما مرات عدة. وقد أباد الأمير علي علم الدين التنوخيين الذين هم حلفاء المعنيين، في المجزرة التي أوقعها بهم وبأبنائهم الصغار في عبيه سنة 1633. وقرّرت الدولة العثمانية الإلغاء السياسي والوجودي للأمراء المعنيين، وتجلّى هذا في الأمور التالية: إعدام فخر الدين الثاني وأبنائه، واستدراج والي صيدا وبيروت للأميرين الأخوين قرقماس وأحمد إلى كمين مزبود للقضاء عليهما، والدعم السياسي والعسكري لأمراء آل علم الدين اليمنيين في صراعهم ضد المعنيين. وتميّزت الفترات المتقطّعة التي حكم فيها الأمير ملحم المعني وابنه أحمد بعدم الاستقرار، وبكثرة المعارك. إزاء ذلك ما عاد أمام الأمراء المعنيين غير الحاكمين سوى التستّر والتقية، والحفاظ على وجودهم، والإختباء عن أعين الأعداء العثمانيين والأعداء المحليين، فعاشوا في مكانين آمنين بعيدين عن مراكز الخطر، هما إبل السقي في الجنوب اللبناني، وعرنة في السفح الشرقي لجبل حرمون.
عاشت في قرية إبل السقي أسرة عرفت باسم آل علم الدين المعنيين، واختصاراً باسم آل علم الدين. إنصرف أبناؤها عن الشؤون السياسية إلى أمور العبادة والتديّن. وانصرفوا عن العمل لدنياهم إلى العمل لآخرتهم، بحيث تطابق سلوكهم مع العبارة المأثورة التي علّقها أحد أمرائهم، سليمان علم الدين، في صدر مجلسه، وهي «اغتنموا زمان الإمهال وتقرّبوا من الله بصالح الأعمال»(8). وكان لهذا الأمير ولدان اسمهما علم الدين وسليم، وابنة اسمها مهيبة ملقّبة بالشيخة. وقد مات سليمان في أوائل القرن العشرين، ومات ابنه علم الدين من دون عقب، ثم مات إبنه سليم في سنة 1963 من دون عقب أيضاً، فانقرضت بذلك أسرة آل علم الدين المعنيين.

آل علم الدين المعنيين في إبل السقي
توارث آل علم الدين المعنيين الإشراف على خلوة لا تزال تعرف بإسمهم إلى اليوم، وهي الخلوة المعنية، وهي قائمة إلى الجنوب الشرقي من إبل السقي. كما توارثوا الإشراف على الأوقاف المخصصة لها، وكان متسلّمو الديانة منهم يتعبّدون فيها وعلى سطحها بعدد لا بأس به، مما يدلُّ على أنهم تكاثروا في مرحلة زمنية معينة قبل أن يندثروا. وهم حرصوا على أن يتناقلوا جيلاً بعد جيل مستندين مهمين يدلان، إضافةً إلى دلالات أخرى، على نسبهم المعني، أولهما جلد غزال آل إلى رئيس محكمة الجنايات في لبنان، سعيد زين الدين، الذي سلّمه إلى الجامعة الأميركية في بيروت، وفيه إعفاء صادر عن أحد السلاطين العثمانيين لآل علم الدين المعنيين من دفع الضرائب، ومن الخدمة الإلزامية في الجيش العثماني. وثانيهما رقٌّ نحاسي يفيد عن نسبهم، آل إلى الأمير حسن الأطرش، ثم فُقد من قصره عندما قصفته الطائرات في سنة 1954، بأمر من رئيس الجمهورية السورية، أديب الشيشكلي، أثناء تجريده حملة عسكرية على جبل العرب، لإخماد الإنتفاضة التي قامت ضدّه، بقيادة سلطان باشا الأطرش، وأدّت مع انتفاضات سائر المناطق إلى إسقاطه. لكنّ نسخاً عديدة نُقلت عن الرق النحاسي، تفيد عن مضمونه الأساسي، ولا سيما الوجود المعني في إبل السقي، على الرغم من الاختلافات بينها، الناتجة من أخطاء النقل.
إن رقّ النحاس هو صك توزيع للإرث في قرية إبل السقي، تاريخه غرّة شعبان من سنة ألف وثلاثة وسبعين هجرية الموافق لآذار 1663م. وأهم ما ورد فيه بالنسبة إلى المعنيين، أنه كُتب في «سفارة سليمان معن جده إلى الأمير فخر الدين». وهذا يفيد عن وجود معني مؤكّد في إبل السقي في النصف الثاني من القرن السابع عشر، ممثلاً بالأمير سليمان معن، وربّما بمعنيين آخرين من أسرته، هم، على الأقل، والده، ممّا يفترض ضرورة التعرّف على فخر الدين، جد سليمان معن، وعلى كيفية وجود سليمان معن في إبل السقي.
قد تكون لفظتا «فخر الدين» اسماً مركّباً لأمير معني، وقد تكونان لقباً يسبق اسمه. ومن المعروف أن هناك ثلاثة أمراء حملوا هذا الإسم، أو هذا اللقب، أولهم فخر الدين عثمان المتوفّى سنة 1506 م، وثانيهم فخر الدين الأول الذي هو جد فخر الدين الكبير، وثالثهم فخر الدين الكبير الذي من المستبعد أن يكون جداً لسليمان معن، لأن أبناءه معروفون كلهم، وإذا كان له أحفاد، فإنهم لم يكونوا كباراً في سنة 1663، تاريخ تدوين الرق النحاسي. وأغلب الظن، تبعاً لذلك، أن المقصود بفخر الدين، الوارد اسمه في الرقّ، فخر الدين عثمان، لأنه كان له ابن اسمه علم الدين سليمان، مما يرجّح أن يكون سليمان معن مسمّى بإسمه، كونه جدّه أو جدّ أبيه.

قررت الدولة العثمانية الإلغاء السياسي والوجودي للأمراء المعنيين، فاختار بقيتهم الاختباء في عرنة وإبل الســقي وحافظوا على وجودهم منذ ذلك الحيـــن

الأمير-فخر-الدين
الأمير-فخر-الدين

المعنيون في إبل السقي
ما الذي أوجد سليمان معن في إبل السقي؟ في رأينا أن سبب وجوده فيها لا يعود إليه، وإنما يعود إلى جده أو إلى أبيه الذي من المرجّح أنه انتقل إلى هذه القرية في سنة 1585، إبّان الحملة العثمانية التي قام بها الوالي إبراهيم باشا على الدروز. فلقد عاثت تلك الحملة في مناطق المتن والجرد والغرب والشوف، ونكّلت بأبنائها مما اضطر الأمير قرقماس للإلتجاء إلى قلعة شقيف تيرون، واضطر غيره من الأمراء المعنيين للإلتجاء إلى مناطق آمنة بعيدة عن مركز العسكر العثماني في عين صوفر، وكان من هؤلاء جد أو والد الأمير سليمان معن الذي انتقل إلى إبل السقي وظل فيها، مما يفيد أن الوجود المعني في هذه القرية يعود إلى سنة 1585، ولا يعود إلى ما قبلها.
وبالإضافة إلى الرق النحاسي الذي يفيد عن الوجود المعني في إبل السقي، هناك رواية يتناقلها أبناؤها، وهي أن أميراً اسمه علم الدين المعني لجأ إليها بعد هزيمة المعنيين في موقعة سوق الخان سنة 1633، وأنه تستّر على نفسه كي لا يلفت نظر الأتراك العثمانيين إليه، وانصرف إلى التعبّد في خلوة متواضعة(9)، ولربما كان هو ذاته الأمير علم الدين المعني الذي يروى عنه أنه ذهب مع 150 فارساً وعيالهم إلى جبل حوران سنة 1685، لكنه لم يمكث طويلاً، وإنما عاد إلى لبنان بعد أن زرع في الجبل أول جالية درزية كانت نواة استقطبت جموع النازحين إليه من لبنان وسوريا وفلسطين.

آل معن في عرنة والريمة
كثيراً ما تخطئ الجماعات في سلسلة أجدادها، وقد تخطئ، أحياناً، في تحديد الجد الأعلى الذي تنحدر منه. لكنها قليلاً ما تخطئ في تحديد نسبها، وخصوصاً إذا كان شهيراً يُفتخر به. ومن هذا القبيل أسرةٌ تُدعى آل معن يتوارث أبناؤها رواية تقول إنهم معنيون، وإنهم ينحدرون من الأمير قرقماس بن علي بن فخر الدين الثاني، وقد رزق قرقماس خمسة أبناء، هم حسن وأحمد وفخر الدين وعلي ومحمد. والمنشأ الأساسي لهذه الأسرة هو عرنة الواقعة في السفح الشرقي لجبل حرمون. ومنها انتقل بعضهم إلى الريمة المجاورة لها. ثم انتقل فريق منهم إلى لبنان وسكن في أماكن عدة منها عين عنوب وغريفه وشملان. وما يدعم روايتهم هذه عن نسبهم، إضافة إلى شهرتهم (آل معن)، شجرة نسبهم التي تسلسلهم إلى الأمير فخر الدين الثاني، وأسماء العديد من أشخاصهم، التي هي أسماء بعض الأمراء المعنيين، وأسماء بعض الأماكن. ومن أسماء الأشخاص : قرقماس وأحمد وحسن وحسين وفخر الدين ومنصور وعلي ويونس، وبعضها غدا فروعاً من آل معن، مثل فرع فخر الدين في الريمة. ومن أسماء المكان: بيت المير حسين وشجرات المير حسين، مما يفيد أن بعضهم احتفظ بلقب الإمارة قبل أن يصبحوا جميعهم كعامة الناس.

قلعة فخر الدين المعني في تدمر -2
قلعة فخر الدين المعني في تدمر -2

نظرية الألماني ڤستنفلد
ينفرد المؤرّخ الألماني، المستشرق ڤستنفلد، بالقول إن الأمير علي بن فخر الدين رُزق ولداً، من زوجته إبنة الأمير علي الشهابي، اسمه قرقماس(10). لكن المؤرّخ عيسى اسكندر المعلوف يذكر أن الأمير علي مات في سنة 1633 عقيماً(11). وإننا نستبعد ذلك لأن الأمير عاش 35 سنة، في زمن يتصف بالزواج المبكر، وكثرة الإنجاب، وزواج أصحاب الشأن لدواعٍ سياسية. فإذا كنا لا نعرف شيئاً عن شؤونه العائلية، فإن هذا لا يعني بالضرورة أنه مات عقيماً، ولاسيما أن رواية آل معن تتوافق مع ما جاء عند المؤرّخ ڤستنفلد من حيث وجود ولد لعلي اسمه قرقماس. ورواية آل معن تعيد الحفاظ على قرقماس بن علي وعلى نساء المعنيين، وولدي الأمير ملحم (أحمد وقرقماس)، إلى الأمير ملحم الذي التجأ إلى عرنة بعد تخلّصه من الجند العثماني الذي كان يحضره مخفوراً إلى دمشق في سنة 1633، بعد أن قبض أحمد باشا الكجك على عمه فخر الدين الثاني.
عاش الأمير قرقماس بن علي في عرنة، بعيداً عن أنظار العثمانيين، متستّراً على نفسه. وهكذا فعل أبناؤه وأحفاده في مرحلة تسلّم الشهابيين إمارة الجبل خلفاً للمعنيين، وحرصهم على الاستئثار بالإمارة من دون أي منافس. وكان آل معن لا يعنيهم سوى الحفاظ على البقاء في ظل المتغيّرات الخطيرة والمراحل الصعبة، فانصرفوا إلى العمل في الزراعة وإلى تدبير شؤونهم المعيشية.
كانت عرنة البيئة الحاضنة طبيعياً وبشرياً لآل معن. فعلى الصعيد الطبيعي هي مع محيطها منطقة جبلية وعرة، صعبة المسالك، كثيرة المغاور والشعاب. وهي على الصعيد البشري مسكونة بالموحِّدين الدروز منذ بدء الدعوة إلى مذهب التوحيد (الدرزي)، الذي أعلن عنه في مطلع سنة 408هـ/1017م. وقصة الموحِّدة من نساء عرنة مع المرتد سكين مشهورة، إذ كانت نهايته في النار التي كانت تخبز عليها، بعد هربه من يذما في وادي التيم، حين قضى الأمير معضاد الفوارسي على أنصاره وعلى حركته الردية.
بناءً على ما ورد، يمكن القول إن المعنيين انقرضوا في المدوّنات، لكنهم ظلّوا موجودين في الواقع باسم آل علم الدين المعنيين في إبل السقي، وبإسم آل معن في عرنة والريمة. وقد آثروا في بدايات توطّنهم في هذه القرى التستّر على أنفسهم، ثم قبلوا في مرحلة لاحقة حقيقة أنهم فقدوا الإمارة ولم يعد لهم سبيل لاستعادتها بعد أن قام واقع جديد أصبحوا خارجه تماماً، كما أنهم فقدوا أي زعامة بارزة يمكنها المطالبة باستعادة الإمارة أو السعي إليها مجدداً عبر استرضاء العثمانيين. أخيراً ومع مضي الوقت اندمج المعنيون المتأخرون بالبيئات التي لجأوا إليها وأصبحوا جزءاً منها لكنهم حملوا معهم تاريخهم وحافظوا على نسبهم. إلا أن النتيجة هي أنهم فقدوا لقب الإمارة وباتوا من الأسر الدرزية كغيرهم من الأسر التي تعيش في الجبل أو في لبنان. وقد استمر آل علم الدين المعنيين في الوجود حتى انقراضهم في سنة 1963، فيما لا يزال آل معن موجودين في عرنة والريمة في سوريا، وفي عين عنوب وغريفه وشملان. وممّا تجدر الإشارة إليه أن درزيتهم ودرزية آل علم الدين المعنيين هي من الدلائل على درزية المعنيين عموماً، ودرزية الأمير فخر الدين الثاني خصوصاً، التي حاول بعض المؤرخين طمسها أو التشكيك بها، إمّا لجهل الوقائع التاريخية، وإمّا لغرض فئوي أو سياسي(12).

قرية-عرنة-في-سوريا-اليوم
قرية-عرنة-في-سوريا-اليوم

عرنة في سفوح حرمون كانت بيئة مثالية لاستتار آل معن بسبب وعورة مسالكها وسكنها من الموحدين الدروز

الصفحة الأخيرة

الندم

حياة الإنسان قصيرة لكن قلما يَنتبِه لذلك إلا بعد فوات الأوان.

في هذه الأيام كل شيء موجّه لاستدراج الفئة الشابة من الناس. يصنعون لهم ما لا يحصى من الأشياء ويدفعونهم دفعاً وبشتى الوسائل للغرق في دوامة الأغراض والارتهانات. بعض الشباب ينتبه أحياناً إلى أنه يُساق مثل الخراف ويحاول امتلاك زمام نفسه لكنه لا يلبث أن يسلّم بأن ما كان قد كان وأن دولاب الحضارة المادية لا يمكن وقفه.

تكاثرت الأغراض وثقلت وطأتها على الناس الذين من أجل الاستحواذ عليها يبذلون النهار والليل ويضحون بساعات النوم ويركضون في كل اتجاه. لكن مَن مِن أهل الزمان يسأل نفسه ولو لربع ساعة في اليوم : من أنا؟ ولماذا خلقت في هذا الوجود اللانهائي؟ ما هي علاقتي بخالقي الذي أوجدني وأوجد كل شيء؟
– ماذا تعلّمت من الحياة؟
درست إدارة الأعمال؟
– وماذا غير ذلك؟
عملت في الخليج وتزوجت
لكنك الآن في أواخر الأربعينات أو مطلع الخمسينات والزمن يركض، هل هيّأت شيئاً آخر لراحة نفسك؟
مازال هناك وقت وسنرى في ما بعد، الآن أنا مشغول كثيراً ولا وقت لدي للتفكير بهذه الأمور.

هذه هي حال أهل الزمان خصوصاً الشباب الذي يعيش الواحد منهم ليومه كما لو أنه سيعيش أبداً. وعندما تمرّ السنون ويبدأ بياض الشيب يرتسم في مفرق الرأس ويجتاز الرجل أو المرأة الخمسين من العمر حتى تبدأ الاستفاقة المرة. لقد مضى زمان الفتوة أو الجمال وهجم الوقت هجمة واحدة على الجسد والفكر. عندها يستفيق المرء على حقيقة أنه سيفنى وفي وقت أقرب مما كان يظن. يتحول كبرياء الماضي والثقة اللامتناهية بالغد إلى خوف من الغد وتصبح ساعات النوم مختلطة برؤى مفزعة أوبظلمة المجهول وتصبح كل سنة جديدة تمرّ مثل خطوة أخرى نحو خط النهاية.

عندها ربما يفتح البعض منّا أعينهم على حقيقة أنهم “عبيد زوال” -على حد قول عقالنا- وأنهم باتوا أقرب إلى باب الخروج من هذه الفانية منهم إلى الباب الذي دخلوا منه. بعض الذين أوتوا القدرة على التمييز والهداية يشعرون عندها بأنهم مثل لا شيء لأن حياتهم كلها وكل ما جمعوا وفعلوا أصبح وراءهم لكن دون أن يكون أمام ناظريهم شيء واضح عن ما هو آتٍ.

ربنا جلّ وعلا يشرح حال الكثيرين في الآية الكريمة }نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ{ (التوبة:67) والمقصود أنه جعلهم منسيين في غفلتهم لأن المولى العزيز منزّه عن نقيصة النسيان. والمنسيون هم الذين يستفيقون متأخرين على حقيقة أن حياتهم مرّت كالشهاب أو كـ “يوم أو بعض يوم” فيجدون أنفسهم وحيدين وبلا أي زاد عندما يكونون في أمسّ الحاجة إلى زاد يعينهم على رحلة العودة إلى خالقهم. ذلك أنهم أضاعوا حياتهم القصيرة باللغو والمتع والمعاصي وبلغوا أعتاب الحضرة صفر اليدين إلا من أوزار الماضي. يومئذٍ يغشى الإنسان حال من الندم والأسف على ما سلف، ويجعله الله يرى بعض أعماله ويدرك سيئاته ربما ليسهل له أمر التوبة وطلب العفو والإقرار بالذنوب. }يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28){(الفرقان).

وهذه أيضاً ساعة التوسل لأن الإنسان الضعيف الخاوي الوفاض سيتوسل لخالقه أن يعطيه فرصة جديدة لعلّه يصلح بعض ما أفسده في حياة الغفلة وهو ينظر بخوف كبير إلى ما تبقى من الأيام (وقد يكون قليلاً) يقول }رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ { (المنافقون: 10).

هذه ساعة الندم التي سيصلها الكثيرون عاجلاً أم آجلاً عندما يبدأ وجودهم بالشحوب وتضعف قواهم ويجدون أن الدنيا التي ركضوا وراءها تنسل من بين أيديهم كما ينسل الدخان من بين الأصابع. لذلك فإن الله تعالى حبا بعبيده الغافلين وإشفاقاً عليهم أمر رسوله الكريم بأن {ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55).

لكن هل من يذكر الآن ؟ وهل من إذا ذُكِّروا استمعوا إلى التذكير فوجلت قلوبهم وتابوا وأصلحوا }أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا{؟ (محمّد: 24).

كلمة السواء

إعلان أو لا إعلان؟

مجلة “الضحى” في طريقها لأن تصبح أحدى أهم المجلات الفكرية في لبنان، وقد بات نطاق قرائها يتّسع مع كل عدد ليطاول مناطق وقرى جديدة، ومعدل اختراقها التوزيعي ينمو بصورة كبيرة وقد وصلت نسبة الأعداد المباعة من العدد السادس إلى %90 من مجموع الكمية المطبوعة، وهذه نسبة لا يوجد مقابل لها بين جميع المجلات وفق شركة التوزيع، بل أننا واجهنا مع العدد السابق مشكلة نفاذ الكميات من مناطق عديدة ومطالبة القراء ومراجعاتهم بهدف الحصول ولو على عدد واحد. علما أن هناك مطالبات دائمة من القراء بالحصول على الأعداد السابقة من المجلة ربما بهدف استكمال المجموعات وحفظها. ترافق ذلك بانطلاق خدمة الاشتراكات بصورة نشطة وهي خدمة يتم تنظيمها بما يضمن وصول الأعداد إلى العناوين المحددة من قبل المشتركين بواسطة اليد ونحن نعتمد خدمة التوصيل السريع من قبل شركة التوزيع لتأمين وصول الأعداد إلى المشتركين بعد أيام قليلة من صدور العدد وهذه الخدمة مؤمنة إلى مختلف المناطق وليس في بيروت فقط.
لكن أكثر المظاهر المشجعة هي أن المزيد من قراء ” الضحى ” يأتي الآن من خارج المناطق التقليدية عبر شبكة نقاط التوزيع والمكتبات التي تطالها شركة التوزيع في كل أنحاء لبنان ، كما أننا بدأنا نتلقى طلبات اشتراكات من مناطق مثل طرابلس أو الجنوب أو بيروت. ولا يمضي يوم إلا وتتلقى إدارة التوزيع اتصالات من أشخاص يرحبون بالمجلة وينوهون بمواضيعها وبفائدتها لهم ولأسرهم.
في هذه الأثناء، يسرنا أن نعلن أننا اقتربنا من استكمال الموقع الشبكي للمجلة والذي سيسمح للقراء في جميع أنحاء العالم بالإطلاع على المجلة ومواضيعها والتفاعل أيضاً عبر إرسال المساهمات المفيدة وما زال إطلاق الموقع يحتاج إلى ترتيبات محدودة ونأمل إنشاء الله أن تكون المجلة ” أونلاين ” في وقت قريب جداً.
هناك أمر مهم ايضاً يطرح الآن في المجلة وهو موضوع الإعلانات والرعايات. وقد كانت سياسة المجلة حتى الآن عدم السعي جديا للحصول على إعلانات من بعض الشركات أو المؤسسات على اعتبار أن المجلة، التي لم تقم كمشروع تجاري، يمكنها العيش على الموارد المؤمنة من المساهمات السنوية الكريمة لمجلس الأمناء وكذلك من دخل المبيعات والاشتراكات. ومن حيث المبدأ فإن مجلة ذات طابع جدي وثقافي وروحي مثل الضحى تشعر بقوة أكثر في كونها غير معتمدة على الترويج لأي سلعة أو مؤسسة من أجل أن تستمر في الصدور. لكن هناك من يعتقد في المقابل بأن زيادة موارد المجلة ستمكنها من تطوير خدماتها ومنها خدمة النشر وتمويل بعض مشاريع التأليف التي قد لا تجد اهتماما من دور النشر التقليدية.
لكن رغم سياستنا المستمرة بعدم السعي للحصول على إعلانات فقد بدأ عدد من المعلنين يكتشفون قوة المجلة وانتشارها وأهمية سوقها وهم يتصلون بنا عارضين شراء مساحات إعلانية فيها. والحقيقة أن اهتمام بعض المؤسسات بالإعلان في “الضحى” سيفرض علينا أن نقرر إذا ما كنا سنفتح باب الإعلان في المجلة أو أننا سنحافظ على خطها الحالي. وفي حال الأخذ بمبدأ قبول الإعلانات، ما هي النشاطات أو المؤسسات التي قد لا تكون مناسبة مع طابع المجلة ورسالتها وأهدافها وما هي المؤسسات التي يمكن قبول لها بنشر إعلاناتها. هذه أمور مهمة سيتم التشاور فيها مع المعنيين بما في ذلك مجلس الأمناء وسنحاول التوصل إلى موقف من الأمر في وقت لاحق. لكن في جميع الحالات لسنا مستعجلين وقد قدمت الضحى حتى الآن مثالا للمجلة الثقافية المنفتحة والمحافظة في الوقت نفسه، كما أنها قدمت مثالا في إمكان إصدار مجلات ثقافية هادفة بنجاح وتوازن مالي دون حاجة للإعلان. وهذا بالطبع ناجم عن دعم مجلس الامناء وسياسة في الإدارة تقوم على حصر الإنفاق على التحرير والطبع وعدم ترتيب أي نفقات إدارية من مكاتب أو موظفين أو غير ذلك. ونحن في عصر الإنترنت وثورة الاتصالات يمكننا تحرير المجلة والتواصل اليومي مع المحررين والباحثين دون حاجة لعقد الاجتماعات أو استخدام المكاتب. هذا على الأقل في المدى القريب وإلى أن يقوى عود المجلة وتتعزز مواردها المالية أو تتسع نشاطاتها، إذ عندها سيكون الجو مهيئا للانتقال إلى المرحلة التالية من العمل وهي مرحلة قد تحتاج إلى إطار أكثر ثباتاً وتنظيماً.

التين

زراعة الخضار الصيفية

مصدر غذاء طبيعي يحمي صحة الأسرة
ومصدر دخل وفير للمزارعين المحترفين

حذار التسميد الزائد لأنه يضعف المحصول ويسبب الآفات
ويؤدي أخيراً إلى تملح التربة وقتل الكائنات المفيدة فيها

الخضار خصوصاً العضوية وغير المطهية هي المصدر الأهم للفيتامينات والأملاح والانزيمات والمعادن والألياف الطبيعية

جميع أمراض الخضار لا تحتاج الى مكافحة كيميائية
لوجود بدائل مثل المكافحة اليدوية والبيولوجية والعضوية

زراعة الخضار الصيفية في لبنان هي من الزراعات الهامة التي تلعب دوراً أساسياً في الإقتصاد اللبناني وتعطي مردوداً جيداً للمزارع خاصة إذا ما أتقن عمله من حيث المعاملة، المكافحة، الري، التغذية، والقطاف ثم التوضيب، البيع، والتصنيع. ويتوزع الاهتمام بزراعة الخضار بين مزارعين صغار هدفهم تأمين حاجة البيت من الخضار الطبيعية التي لا تدخل في إنتاجها المبيدات والأسمدة الكيميائية أو هرمونات النمو، وهي أساليب باتت مع الأسف شائعة، وهناك المشاريع الزراعية الصغيرة (من دونم حتى خمسة دونمات)، وهذه يستهدف أصحابها تأمين العيش أو دعم مداخيلهم بدخل إضافي يحصلون عليه من استثمار أرضهم، خصوصاً إذا توافرت لهم المياه. ونظراً لأهمية الدور الذي تلعبه الخضار في تحقيق الأمن الغذائي وفي رفع مستوى المعيشة وتدعيم الإقتصاد الوطني، نضع بين أيادي المزارع اللبناني، أكان محترفاً أو تقليدياً، هذا الموضوع الذي يتطرق الى سبل كيفية زراعة الخضار بدءاً من تهيئة الأرض حتى القطاف.

كانت زراعة الخضار في المناطق الجبلية حتى أربعينات القرن الماضي مقتصرة على الزراعة البيتية كجزء من الاقتصاد المنزلي الذي يشمل أحياناً تسمين الخراف أو تربية الدواجن، وكان الهدف سد حاجة سكان القرى الذين كان العمل في الأرض أسلوب حياتهم ومصدر عيشهم، أي أن الزراعة البيتية كانت جزءاً من حياة الكفاف التي طبعت اقتصاد الجبل، وقد حال دون التوسع فيها نقص المال والمعدات وعدم توافر المياه أو البنى التحتية مثل الطرق ووسائل النقل والخبرات اللازمة. لكن الزراعة لأغراض التجارة أو التسويق المحلي فقد بدأت تتطور منذ منتصف القرن الماضي بسبب نمو المدن والقوة الشرائية للمقيمين فيها وتطور الاقتصاد عموماً، وقد اكتشف المزارعون تدريجياً الزراعة الحديثة ووجدوا فيها مصدر دخل وفير فبدأوا في تعلمها وإتقان فنونها. وققد نشأ عن ذلك تطور القطاع الزراعي في لبنان وتحوله إلى أحد أركان الاقتصاد، لا سيما وقد ذاعت في الدول العربية سمعة وجودة الإنتاج اللبناني. وزادت من قوة القطاع الزراعي خبرة اللبنانيين في استقدام أو تطوير أصناف جديدة مرغوبة من المستهلك اللبناني أو العربي، وتتمتع بخصائص وراثية جيدة ومتطورة من حيث قدرتها على مقاومة الآفات الزراعية وجفاف التربة وتأقلمها مع جميع أنواعها، إضافة الى قدرتها على إنتاج أكبر كمية ممكنة من الخضار مع مواصفات مميزة للبذور والثمار عن الأصناف السابقة. كما تطورت خبرة المزارعين في تنظيم عملية التسميد الذواب وطرق الري والمكافحة العضوية والكيميائية، وبات ممكناً تصدير الكثير من هذه المنتجات للأسواق الخارجية، إضافة الى تصنيع المنتجات الغذائية، خاصة الخضار التي لا تصلح للتسويق والإستهلاك الطازج.

عالم من التنوع
زراعة الخضار عالم واسع من التنوع، وهناك في لبنان محاصيل خضرية كثيرة شائعة تطلبها السوق والمزارع، وأهمها:

وتختلف إنتاجية هذه الأصناف حسب إختلاف عوامل الوقت والمعاملة والأحوال الجوية وطبيعة التربة وعمقها وصلاحيتها للزرع وإصابتها بالآفات الزراعية من حشرات وعناكب وفطريات وبكتيريا وفيروسات وغيرها. هذا بالإضافة إلى مدى توافر العناصر الغذائية التي يحتاجها النبات أو زيادة إستهلاك عنصر غذائي أكثر من غيره مما يؤدي إلى ظاهرة عدم إمتصاص باقي العناصر.

أهمية الخضار كغذاء
تتصدر الخضار على إختلاف أنواعها قائمة المواد الغذائية التي تقدم لجسم الإنسان ما يحتاج إليه من الأملاح المعدنية والفيتامينات الضرورية، إضافة إلى وجود الألياف النباتية الهامة للتغذية وإستمرار الحيوية. فالإنسان منذ القدم أدرك حاجته لجميع أنواع الخضار الشتوية منها والصيفية فإعتمدها في قوائم طعامه اليومي.
لذا، زراعة الخضار لها أهمية ملحوظة في تأمين جزء من الإحتياجات الغذائية للإنسان. والخضار هي نباتات عشبية حولية أو ثنائية الحول. الحول الواحد معروف بالموسم الواحد أي الخضار التي تزرع في وقت أقل من سنة على سبيل المثال: البندورة تزرع بدءاً من شهر نيسان في المناطق الساحلية حتى شهر حزيران في المناطق الجبلية، وتتوقف عن الإنتاج في شهر تشرين الثاني عند تدني الحرارة. الحولان أي موسمان وهي النباتات التي تعطي الجزء الذي يؤكل في الحول الأول والأزهار والبذور في الحول الثاني مثل البقدونس والسلق.
وتزرع الخضار سنوياً حسب حاجة السوق، منها ما تستخدم أجزاؤها للتغذية فقد تؤكل ثمارها طازجة أو مطبوخة مثل: البندورة، الملفوف، والبازيلا؛ ومنها ما تؤكل نوراتها الزهرية مثل: القرنبيط، والبروكولي؛ أو أوراقها مثل: الخس، البقدونس، السلق، والرشاد؛ أو جذورها مثل: الفجل، الجزر، الشمندر، اللفت، والبطاطا الحلوة؛ أو أبصالها مثل: البصل، والثوم.

تقسيم النباتات
تصنف علوم النبات أنواع الخضار إلى مجموعات تجمع بينها خصائص مشتركة، وذلك بهدف تسهيل فهم خصائص كل منها ومتطلباته، مع العلم إن النباتات التي تنتمي الى فصيلة واحدة لا تتشابه جميعها في الحاجات والعمليات الزراعية من تغذية وري ومكافحة… ولا في الإحتياجات البيئية من حرارة وتربة… وتقسم هذه النباتات الخضارية الى مجموعات عدة بحسب الجزء الذي يستعمل للتغذية، وهي كالتالي:
1. خضر ورقية: وتشمل الخضار التي تؤكل أوراقها وتضم: الملفوف، الرشاد، الجرجير، السلق، السبانخ، الخس، البقدونس، الهندباء، الكرفس، الشمرة، البقلي، والكزبرة.
2. خضر ساقية: وتشمل الخضار التي تؤكل منها الساق في التغذية سواء كانت هذه الساق هوائية كما في الهليون، أو ساق منتفخة كما في الكرنب، وإما ساقا متحورة تحت سطح التربة مثل البطاطا، والقلقاس.
3. خضر جذرية: وتضم الخضار التي تؤكل فيها الجذور وتتضخم جذورها كما في الجزر، اللفت، البطاطا الحلوة، والشمندر.
4. خضر زهرية: وتشمل الخضار التي تؤكل منها الأجزاء الزهرية مثل: الأرضي شوكي، القرنبيط، والبروكولي.
5. خضر بصلية: وتضم الخضار التي تؤكل منها الأبصال سواء كانت هذه الأبصال ناتجة عن تضخم قواعد الأوراق كما في البصل؛ أو من تضخم براعم أبطية موجودة في قواعد الأوراق كما في الثوم.
6. خضر ثمرية: وتشمل الخضروات التي تؤكل ثمارها سواء أكانت ناضجة مثل: البندورة، البطيخ الأحمر والأصفر؛ أو غير ناضجة مثل: الخيار، القثاء، الكوسا، اللوبياء، الباذنجان، والبامياء.
7. خضر بذرية: وتضم جميع الخضار التي تؤكل بذورها طازجة أو جافة كما في: الفاصولياء، الفول، الحمص، والبازلاء.

الإحتياجات البيئية
تحتاج بعض أنواع الخضار الى تنشئة بذورها في مشاتل صغيرة سواء عبر وضع تلك البذور في أوعية خاصة أو وضعها في التربة مباشرة. بالنسبة للبذور الصغيرة مثل: البندورة، الخس، الفليفلة، والباذنجان، يتم بذرها قبل موعد الزرع بحسب النوع من 20 الى 45 يوماً في أتربة مشجعة للإنبات، والتي تحوي عناصر غذائية، مثل التورب، مع تظليلها (بقطع من النيلون أو في البيوت الزجاجية إن وجدت) تنقل الشتول الصغيرة الى أوانٍ خاصة (صوانٍ أو كبايات صغيرة) لتسريع نموها مع إبقائها في الجو المظلل. بعد ذلك، تتم زراعتها في مكانها المعين عندما يصبح الجو ملائماً والأرض مهيئة. وتساعد هذه العملية في إستمرار النباتات في النمو مباشرة ومن دون الحاجة لتظليلها خاصة إذا كان الجو حاراً، مثل: البندورة، الفليفلة، الباذنجان، الخس، والملفوف.

ملاحظة إن الشتول التي تقلع من المشتل لتزرع في الحقل تفقد قسماً كبيراً من جذورها الماصة مما يؤدي الى تأخيرها مدة أسبوع على الأقل لتبدأ بتكوين جذور حديثة ومن بعدها تبدأ في النمو. لهذا تحتاج الى تظليل بعد الزرع مباشرة.

الموقع: يجب أن يكون في مكان مكشوف لا تتجمع فيه الرطوبة التي تؤدي الى تكاثر وإنتشار الأمراض وغير معرضة للرياح الساخنة التي تؤدي الى تلف الأزهار وجفافها، قرب الموقع من الطريق لتقليل الكلفة، ووجود نبع ماء أو خزان لتجميع مياه الأمطار.
التربة: تحتاج نباتات الخضار الى تربة جيدة الصرف، عميقة ومفككة، وصالحة للزراعة، غنية بالمواد المعدنية الضرورية لها.
الحرارة: تنمو نباتات الخضار في حرارة معتدلة الى حارة نسبياً كونها من الخضار الصيفية. تتراوح درجات الحرارة ما بين 15 الى 33 درجة مئوية. أما الحرارة التي تزيد على 33 درجة مئوية، توقف نمو النباتات وتمنع عقد أزهارها، كما في إنخفاض الحرارة عن المعدل المطلوب، مما يؤدي الى إنخفاض المردود الإقتصادي لهذه الزراعة.
الري: بشكل عام، جميع نباتات الخضار تحتاج الى ري ولكن بمعدلات مختلفة على سبيل المثال: تحتاج البندورة الى حوالي 20 ليتراً من الماء في الاسبوع عند مرحلة جني المحصول. أما نبتة القثاء (مقتي)، فلا تحتاج لأكثر من 10 ليترات ماء أسبوعياً. إن الخضار تستجيب بشكل جيد عند إشباعها بالماء والسماد وتعطي إنتاجاً ذات جودة وكمية عاليتين.
التسميد: تحتاج الخضار الى كميات متفاوتة من الأسمدة العضوية والكيميائية. بشكل عام، كلما كان حجم وتفرع وعدد الأوراق أكبر، تحتاج الى عناصر غذائية أكثر وتتفاوت حاجة النباتات الى هذه العناصر في مراحل نموها وحسب إنتاجها. فالنباتات الورقية مثل: البقدونس، الخس، والرشاد، تحتاج الى عنصر الآزوت أكثر من الفوسفات والبوطاس. كما أن الخضار التي تعطي ثماراً مثل: البندورة، البطيخ، واللوبياء، تحتاج الى الآزوت أكثر من غيره في مراحل النمو الأولى وتحتاج الى الفوسفور أكثر في مرحلة الإزهرار، والى البوطاس في مرحلة نمو الثمار لزيادة حجمها ونضجها.

تين-مجفف--تركي-في-الغالب
تين-مجفف–تركي-في-الغالب

مخاطر التسميد الزائد
إن الإفراط في زيادة كميات الأسمدة الكيميائية للخضار يؤدي الى تراجع الخضار عن المقاومة الذاتية للآفات الزراعية وتلف الثمار في وقت قصير وترسبه في التربة كأملاح معدنية وقتل بعض الكائنات الحية الدقيقة الموجودة في التربة، والتي تساعد النباتات على إمتصاص العناصر الغذائية مع الماء بعد تفكيكها وتحليلها وتحويلها كغذاء صالح للإمتصاص من قبل الجذور. مثلاً، يعطي الكثير من المزارعين لشتلة البندورة حوالي 100 غرام في الشهر من الأسمدة الكيميائية الذوابة (20-20-20 + عناصر صغرى) بينما تحتاج البندورة الى حوالي 30 غراماً من هذا السماد في الشهر ويقدم على دفعتين كل 15 يوماً.
أما الدونم الواحد فيحتاج بين 600 و1000 كلغ من الأسمدة العضوية المخمرة، والتي تؤدي دوراً كبيراً في تحسين خواص التربة والحفاظ على الرطوبة والحرارة. وهي الحاضن الطبيعي والأساسي للكائنات الحية الدقيقة والمساعد على تكاثرها، إضافة الى وجود بعض العناصر الغذائية فيه كالآزوت.
تهيئة الأرض قبل الزرع: تحرث الأرض حراثة أولى متوسطة بواسطة الجرار الذي يحمل السكك على عمق حوالي 40 سم مع إزالة الأعشاب البرية والحجارة إن وجدت التي تعيق العمليات الزراعية مثل الزرع، التسميد، الري، المكافحة، والقطاف. ثم حراثة سطحية على عمق 15 سم تقريباً بواسطة الفرامة أو العزاقة لتكسير الكتل الترابية ولتنعيم وتسوية سطح الأرض أو التربة. من المفضل أن تقسم الأرض الى خطوط متساوية أو أثلام أو مساكب لمعرفة سعة الأرض من الخضار المنوي زراعتها. بعد تقسيم الأرض، يوضع السماد العضوي في أماكن الزرع ويفضل خلطه مع التراب لتحسين خواصها وإمداد النبات بالمواد الغذائية اللازمة، إضافة الى وضع محيط الجذور مفكك وسهل لتغلغلها بين حبيبات التراب. وأخيراً، تمدد شبكة الري المعدة خصيصاً لهذه الغاية ليتم بعدها الزرع حسب المسافات بين الشتلة والأخرى ومتوازية للنقاط الذي يمد الشتلة بالماء مباشرة اثناء عملية الزرع.
التعشيب: إن عملية العزق أو التعشيب هي من العمليات الهامة التي تحتاج اليها زراعة الخضار لأن الأعشاب تزاحم نباتات الخضار على الغذاء والماء، وتكون الناقل والحاضن لبعض الآفات الزراعية من أمراض وحشرات مشتركة ضارة، ومما يؤدي بالتالي الى إنخفاض الإنتاج.
المكافحة: تصاب نباتات الخضر بآفات عديدة تندرج تحت مجموعتين: الأمراض تسببها الفطريات، البكتيريا والفيروسات؛ والمجموعة الثانية تسببها الحشرات والعناكب. ومن المفضل أن تكون المكافحة متكاملة.
أهم الأمراض: اللفحة المتقدمة، اللفحة المتأخرة، الرمد، التبقع، الفوزاريوم، التبقع، والفيروسات. وهناك الحشرات الضارة مثل المن والذبابة البيضاء والدودة راعية الأوراق ودودة الثمار والدودة الخياطة والبسيلا، وهناك اخيراً العناكب مثل الأكاروز والحلم.
لا تحتاج جميع أمراض الخضار الى مكافحة كيميائية متخصصة بل نستطيع أن نقي الكثير من الخضار بواسطة المكافحة: الميكانيكة، البيولوجية، العضوية.
المكافحة الميكانيكية: أي يجب إزالة النباتات المصابة خاصة بالفيروس وحرقها، كما يجب إزالة الأعشاب البرية التي تنمو عليها بعض الآفات الضارة. يجب التقليل من الرطوبة المحيطة بالنبات والجذور خاصة في مرحلة النمو الأول (بعد الزرع).
المكافحة البيولوجية: تتم بواسطة الأعداء الطبيعية للآفات الضارة مثل أسد المن، أم علي سيري، المتوفرين بوفرة في الحقول التي لا تعامل كيميائياً.
المكافحة العضوية تعتمد على الخل والحرّ القارس والثوم ومقطر الزعتر مع إمكان استخدام برش الصابون البلدي والكبريت الغروي والجنزارة
المكافحة العضوية: منها ما يحضر منزلياً خاصة لمكافحة الحشرات من خل صابون التفاح (500 ملل) والفليفلة الحارة القارس (حوالي 50 غراماً) ومقطر القصعين أو الزعتر أو النعنع (50 غراماً) مع القليل من برش الصابون البلدي ويضاف كبريت غروي إذا كان الخضار مصاباً بأمراض فطرية. تضاف جميعها الى 20 ليتر ماء وتخلط جيداً وترش على النباتات. والمكافحة العضوية أيضاً تتم بواسطة المبيدات العضوية المتوفرة في الصيدليات الزراعية منها الجنزارة وكبريت الزهرة. يخلط جيداً 1 كيلو كبريت الزهرة مع 200 غرام جنزارة (مادة نحاسية من مصدر موثوق). ويتم تعفير هذا الخليط على النباتات في بداية نموها مثل الباذنجانيات، القرعيات والبقوليات. ويعمل الكبريت والجنزارة على منع إصابة الخضار بالفطريات وتقليل من إصابتها بالأمراض البكتيرية والفيروسية وإعاقة تكاثر ووصول الكثير من الحشرات والأكاروز الى أجزاء نبات الخضار لإمتصاص عصارتها وقضم بعض أجزائها. فهذا الخليط يشكل طبقة فاصلة، نوعاً ما، بين الآفة وجدار النبات. لكن، ينصح بعدم إستخدام الخليط في حرارة تزيد على 32 درجة مئوية، وفي الأيام التي تزداد فيها الرطوبة. وبعكس ما هو سائد ومعروف منذ القدم، يجب أن لا يكون التعفير باكراً على الندى لأنه يتجمع في أماكن حاملة للندى على أجزاء النبتة مما يؤدي الى حرقها وتبقى أجزاء غير محكمة بالكبريت مما يسمح بدخول الآفات. ومنذ سنوات عدة، بدأت تتوفر في لبنان مبيدات عضوية متخصصة.
جني المحصول: تقطف ثمار الخضار عند مرحلة النضج تدريجياً التي تحدد باللون مثل: البندورة والبطيخ الأصفر؛ بالحجم مثل الكوسا، الخيار، واللوبياء؛ بعدد الأيام مثل البطاطا. والخضار الورقية تحدد بالحجم مثل الخس، البقدونس، والهندباء.
التوضيب والتسويق: من المفضل أن يتم فرز الخضار الثمرية حسب الحجم والنوعية ووضعها في عبوات صغيرة مكشوفة لأن هذا يساعد على تسويقها بوقت أسرع وبأسعار أعلى. يستحسن بيع الخضار الطازجة الى المستهلكين مباشرة.
التصنيع: هناك العديد من الخضار صالحة للتصنيع وبطرق وأشكال عدة:
صناعة المجففات: بعد تقطيع الثمار الكبيرة الى أجزاء صغيرة مختلفة الأشكال، مثل: البندورة، اللوبياء، البامية، والكوسا، توضع في الأجهزة المعدة للتجفيف أو في أماكن مظللة وقليلة الرطوبة ويجب أن لا تتعرض الى أشعة الشمس المباشرة، بالإضافة الى حمايتها من الغبار والشوائب التي تؤدي الى تلفها.
صناعة التوابل المجففة: بعد قطاف الثمار وتقطيعها أو قطع جزء من نباتات الخضر الورقية، تجفف في الظل لتصبح خالية من الرطوبة نوعاً ما، بعد ذلك يتم تنعيمها مثل: النعنع، الصعتر، المردكوش، والحبق؛ أو طحنها مثل: الفليفلة الحمراء، البصل، والثوم.
صناعة العصائر: الثمار الكبيرة والمشوهة في الشكل والتي لا تصلح الى التسويق وغير المصابة بأي مرض أو حشرة، يعمد الى عصرها وتقديمها طازجة كما في الجزر، والبندورة.
صناعة المخللات: الثمار التي لا تصلح للبيع أو التصدير، تغسل وتنظف وتعد الى تقطيعها وترتيبها في آوانٍ زجاجية وتوضع في محلول من الماء والملح عيار 1 ملح الى 7 أو 8 ماء تقريباً، كما في كبيس الخيار، القثاء، الفطر، الفليفلة، اللفت، القرنبيط، والجزر؛ أو تكبس في زيت الزيتون كما في الفليفلة الحرة، صعتر الخلاط، اللوبياء، والباذنجان المكدوس.
صناعة المربيات: تصنع من بعض أنواع الخضار المربيات، حيث تقطف الثمار بعد نضجها كما في اللقطين؛ وقبل النضج وهي في حجم صغير كما في الباذنجان.
صناعة المقطرات: إن بعض النباتات العطرية هامة جداً من حيث فائدتها الغذائية والطبية والإقتصادية للإنسان خاصة في مرحلة الإزهار مثل النعناع، والصعتر.
صناعة المركزات: إن بعض ثمار نباتات الخضار في غذائنا طازجة ومصنعة، كما في البندورة، الفليفلة الحلوة والحارة؛ والثمار غير الصالحة لهذه الغاية تحضّر لتركيزها بعد غسلها وإزالة الشوائب منها، ثم تركز على حرارة الشمس أو النار مثل: رب البندورة، الكاتشب، ورب الفليفلة.

الدورة الزراعية
تعني “الدورة الزراعية” عدم زراعة محصول الخضار نفسه أكثر من موسم في المكان نفسه. ويفضل إتباع دورة زراعية ثلاثية أي كل ثلاث سنوات من فصائل مختلفة. مثلاً: تزرع الأرض في الموسم الأول بنبات الخيار الذي يتبع الفصيلة القرعية. في الموسم القادم، تزرع نباتات اللوبياء التي تنتمي للفصيلة البقولية. وفي الموسم الثالث، تزرع بنباتات البندورة التي تتبع فصيلة الباذنجانيات. لأن نباتات الخضار التي تنتمي للفصيلة الواحدة تحتاج تقريباً الى العناصر الغذائية نفسها، ولكن بكميات ونسب مختلفة وتحمل بعض الأمراض مثل: الرمد، اللفحة؛ والحشرات المشتركة مثل: الدودة الخياطة، المن الأخضر، الذبابة البيضاء؛ وتطفل عليها النباتات المتطفلة نفسها مثل الهالوك (الجعفيل) التي تنمو على جذورها ولا تسمح بمرور إلا القليل من الغذاء الى القسم الموجود فوق سطح التربة من النبتة مما يؤدي الى هلاكها.

تأصيل نباتات الخضار
إن تأصيل النبات يستوجب الأخذ في الإعتبار عوامل عدة هامة. يجب مراقبة النبتة خلال الموسم لمعرفة قدرتها على تأقلمها مع المناخ والأرض المزروعة فيها، مقاومتها للأمراض والحشرات الضارة، تحملها للعطش، وأيضاً مراقبتها من حيث النمو الخضري الجيد للخضار الورقية والإنتاجية العالية للأزهار والثمار، بالإضافة الى شكل الثمار المتناسق وجودتها العالية من حيث الحجم واللون والطعم، هذا في الخضار الثمرية أما في الخضار الدرنية، فتجمع الدرنات الصغيرة بعد القلع لتزرع في الموسم القادم كما في البطاطا. تجمع بذور الخضار الورقية والزهرية بعد نضجها وتحفظ للموسم الذي يليه بعد تجفيفها ونقعها لمدة دقيقتين في محلول نحاسي مثل: البندورة، الفليفلة، القرنبيط، والباذنجان.

(1)مرشد زراعي وناشط بيئي

أصناف-التين-عديدة-جدا-وهنا-أحد-أصناف-التين-الأسود---2
أصناف-التين-عديدة-جدا-وهنا-أحد-أصناف-التين-الأسود—2م

العدد 7