الرّابعُ من شهر آب/أغسطس 2020، تاريخٌ أليمٌ أُضيف إلى الذاكرة اللبنانية الثّكلى بالأحداث المأساوية والكوارث الطبيعية والأزمات المتتالية، بعد انفجارٍ مشؤومٍ أطاح بمرفأ بيروت وبالقريب والبعيد منه. فالانفجار الذي أودى بحياة مئات الضحايا وأدّى إلى آلاف الجرحى والمشرّدين وعشرات المفقودين، ترك خلفه عاصمةً مجروحةً وشعبًا يئنّ تحت الأنقاض والرّكام، وهو الذي يرزح منذ زمنٍ تحت ثِقل همومٍ معيشيّة واقتصادية خانقة وتحت وطأة وباءٍ عالميّ لم تنته فصوله بعد.
ما هي إلا دقائق معدودة حتّى تحوّلت “ستّ الدنيا” إلى مدينةٍ منكوبةٍ، إلى أكوامٍ من الزجاج والحديد والركام تتعثّر بها أينما ذهبت في أرجاء العاصمة. فالدمار في كلّ زاويةٍ وبقع الدماء من كل حدبٍ وصوب وصراخ الأطفال والأهالي يملأ المكان، حتى يُخيّل إليك أنّ الحرب مرّت من هنا، وأنّ القذائف والصواريخ وطلقات الرصاص عبثت بمعالم المدينة وتاريخها وحاضرها.
وفي جولةٍ لمجلة “الضحى”، يبدي الأهالي المتضرّرون تحسّرهم على “وطنٍ لا يلبث أن ينهض من كارثةٍ حتى تحلّ به المصائب تلو الأخرى، وكأنّه قُدّر على الشعب اللبناني أن يسير على درب جلجلةٍ، تجعل أقصى أحلامه فسحة عيشٍ يسودها الأمن والأمان”، كما تقول سلمى، المواطنة التي تسمّرت أمام منزلها المدمَّر، متسائلةً: “هل هناك مَن يسمع صرخاتنا وهل هناك مَن يتلمّس آلامنا؟ هل قُدّر علينا الموت عند انبلاج كلّ فجرٍ جديد؟”.
وإذ طاولت الخسائر والأضرار معظم مباني بيروت، الأثرية والسكنية منها، لحقت الأضرار الجسيمة كذلك بالشركات والمؤسّسات والمصارف ودمّرت العديد من المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية الأولية، طارحةً حالة طوارئ على صعيد الوطن ككلّ. أمّا الفاجعة فواحدة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، مرورًا بالبقاع والجبل ومختلف الأقضية والمحافظات. فبيروت التي طالما كانت مقصد السيّاح العرب والأجانب ومحور النهضة العربية والأدبية وعاصمة الحريّات السياسية والاجتماعية، امتدّت يد الإهمال وضروب الفساد مرةً جديدة، لتنال من قلبها النابض، من شوارعها وأزقّتها الصاخبة، من موقعها الاستراتيجي ومن إرادة حياةٍ لم يتخلَّ اللبنانيّون عنها يومًا.
وفي أحد شوارع بيروت، يتّكئ الرجل التسعيني على عصاه، مردّدًا: “نجوت من الموت بأعجوبة، وهذه ليست المرة الأولى، فمدينتنا احترقت ودُمّرت مرارًا وتكرارًا، حتّى باتت شوارعها وجدرانها وأبنيتها شاهدًا يروي آلامنا ومآسينا”، مضيفًا: “لكنّنا شعب لا يستسلم ولا يموت. ستبقى بيروت جميلة، ستعود إلى الحياة بهمّة أبنائها وبناتها، كما كانت على الدوام”.
أمّا الدموع على فراق أحبّةٍ وأطفالٍ وشبابٍ وشابّاتٍ بعمر الورد، فقد انسكبت لتروي وجعًا واحدًا، هو وجع أهالي العاصمة وسكّانها من لبنانيّين وأجانب على اختلاف جنسيّاتهم، ووجع كلّ لبناني مقيم ومغترب، امتدادًا إلى مختلف الدول العربية وشتّى أصقاع العالم، الذين بادروا بدورهم إلى مد جسور الدعم، سواء من خلال المساعدات الإنسانية الإغاثية، الغذائية والطبية أو من خلال المستشفيات الميدانية العربية والأجنبية، إلى الإمداد بالنفط وغيرها من سبل البقاء والصمود.
الحال نفسها على صعيد المجتمع المدني اللبناني والجمعيات الأهلية والمنظمات الدولية، التي نشطت منذ لحظة وقوع الانفجار، فكانت أن انطلقت فرقها ومجموعاتها في ورشةٍ يوميّةٍ، عملَ بعضُها على إزالة آثار الدمار والحطام، ولملمة جراح المتضرّرين والمُصابين وتقديم الدعم النفسي والمعنوي للصغار والكبار، كما الدعم المادي والمساعدات العينيّة والغذائية، في حين عمد البعض الآخر إلى المساندة في أعمال الكنس والتنظيف وتركيب الواجهات الزجاجيّة والحديديّة والألواح الخشبية، كما في الحراسة الليليّة للمنازل والمحال والشركات.
وفي وقتٍ تداعى فيه المهندسون والفنيّون والتقنيّون إلى إجراء المسح الميداني للأضرار، تبلورت كذلك المبادرات الفردية، سواء لناحية إطلاق حملات التبرّع أو التكفّل بعلاج الجرحى والمصابين أو بإعادة ترميم وتجميل حالات التشوّه التي تعرّض لها البعض. مبادراتٌ جسّدت مشهديّةً من التضامن والتكافل بين أبناء المجتمع اللبناني وسائر المقيمين على أرض الوطن، كما رسّخت من جديد تمسّك المجتمع الدولي والأشقاء العرب بلبنان وشعبه وما يميّزه من عزيمةٍ وإرادةٍ صلبة. فهو كعاصمته يُبلسم جراحه، يلملم أحزانه وينهض من أجل الحب، من أجل الخبز، من أجل الفقراء، كزهرة لوزٍ في نيسان.