تأثير الحكمة الهرمسية المصرية
في تطور الفكر الفلسفي اليوناني
بِتاح فكَّرَ بالكون ونطَقَ به فكان الوجـــود
محاورات أفلاطون أظهرت مدى تأثر الفكر اليوناني
بتعاليم هرمس المثلث العظمة وعلومه المختلفة
فيثاغوراس قرأ الرسوم على جدران المعابد المصرية
فذهل كهنتها وأدخلوه معابدهم وأصبحوا هم من مُريديه
“ألا تَعْلَم يا أشقلبيوس، أنّ مصرَ هي صورةٌ للسموات، بل في مصرَ، كلُّ القِوَى التي تحكمُ وتُدبِّرُ في السماء قد نُقلت إلى الأرض».
(أشقلبيوس III – الفقرة 24b، من النصوص الهرمسية)
هَمَسَ الكاهنُ الأكبر بمدينة ممفيس في أُذن المُشرِّع والحكيم الإغريقي الكبير صولون (Solon)، “إنّكم أطفالٌ أيُّها الإغريق»، (عبارة هزّت أعماق صولون)، والمقصود بها أنكم أطفالٌ في معرفة الحقيقة والعقل وسرّ الوجود، سوى الذين منكم جاءوا إلى مصر يلتمسون أذيالَ ثوبِ الحقيقة فيها، مصر خزّان العلوم السرّية والحِكَميّ، محجة الحكمة والأسرار الروحانية منذ أقدم الأزمان.
بين صولون ولقائه بكاهن الحكمة المصرية وزيارة فيثاغوراس الغامضة إلى مصر ومكوثه فيها ردحاً طويلاً من الزمن ثم زيارات كبار مثل أفلاطون والقائد الاسكندر وكذلك معاهد الحكمة التي كان المصريون يقبلون فيها الطلبة الإغريق نشأت قصة أكبر عملية نقل للحضارة الحكمية القديمة من الشمال الشرقي الأفريقي في مصر الفرعونية إلى بلاد الإغريق التي كانت قد خرجت لتوها من عصر ظلمات مديد وبدأت تبحث عن وسائل لتكتب فيها فكرها وإرثها الشفهي. إنها قصة رحلة حضارة وفكر عادت فطبعت العالم بأسره عبر امتداد الحضارة الإريقية في ما بعد إلى مختلف أنحاء العالم بما في ذلك بلاد الشرق والمجتمع الإسلامي الذي كان في عزّ تعطشه إلى مختلف أشكال المعرفة ليجد ضالته في أصولها ومصادرها اليونانية الغنية. فما هي حكاية هذا التفاعل العميق والشامل بين أقدم حضارتين سبقتا الحضارتين الإسلامية والمسيحية لتؤثرا فيهما بعد ذلك أيما تأثير؟ وكيف تمكن المصريون من تشكيل الوعي الفلسفي المعاصر عبر القناة الإغريقية وكيف تمكن كهان غامضون لم يعرف أحد عنهم ولم يسمع بأسمائهم من ممارسة هذا التأثير الهائل عبر السنين على الحضارة الإنسانية في مجملها؟


لقد بات واضحاً أن المصريين عرفوا التوحيد بصورته الجلية وغير الملتبسة على الإطلاق – كما يتضح من التعاليم الهرمسية نفسها من التأثير الحاسم الذي مارسته تلك التعاليم والشخصية الغامضة للحكيم هرمس في الفكر المصري القديم ولاسيما منه التفكير الروحي والخلاصي. وقد حفظ المصريون هذا التعليم وأسراره في معابدهم ومعاهدهم وحلقاتهم السرية وعلموها بشروط للمستحقين فقط، وبعد التأكد من أهلية المريد، لكنهم ربما بسبب ما كانت تتعرض له عقيدتهم الصوفية من عداء من قبل التفكير «الأصولي» الخاضع لنفوذ الملوك وكهنتهم فإنهم قرروا في وقت معين التحول إلى أسلوب التعليم السري وإلى الرمزية الكثيفة في نصوصهم، وفي تعبيراتهم وكتاباتهم الفلسفية. لكن المدهش هو أن الإغريق فهموا أبعادَ تلك اللغة الأسطورية وقاموا بتأويل معانيها إلى لغة يفهمها الإغريق ونقلوها بالتالي من مصر إلى بلادهم وقد لعب العقلُ الإغريقي البارع دوراً تاريخياً في جمع حلقات الحقيقة وصياغتها بصورة منطقية وفلسفية، كما قام بصياغتها بلغة شفافة وعقلانية وعمد عند الضرورة إلى استعارة مفيدة للتعبيرات الأسطورية لحضارة الإغريق.
الحجُ إلى مصر والتلاقُحُ الفلسفي
إن أهم ما ثبت من دلائل وبراهين على التأثير الحاسم لمصر القديمة في الفكر الفلسفي اليوناني هو «قوافل الحَجَّ” التي تشكلت من الإغريق التائقين إلى اكتساب المعرفة الصوفية نحو مصر ليكونوا مُريدين في تعلُّم نظام الأسرار وسُبُلِ الخلاص الرُّوحي ومبدأ الخير الأسمى ومعرفةِ النفس والتحلِّي بالفضائل، وجاءت شهادات دور مصر في تعليم اليونان تلك المعارف على ألسنة فلاسفة يونانيين، أبرزهم أفلاطون في محاورات «كريتياس” و”تيماوس” و”القوانين”، وهو ما يُثبته أيضاً الفيلسوف طاليس، أب الفلسفة اليونانية من الناحية التاريخية، والفيثاغوريون، وفلاسفة المدرسة الأيونية الأولى، وفلاسفة المدرسة الإيلية اللاحقة. وقد نقلوا هؤلاء «الأمانة الحِكمية» من مصر إلى بلادهم ولاسيّما روّاد المدرسة الفيثاغورية والأورفية الذين كان لهم الفضل الأكبر في نشر الفكرَ الرُّوحاني الصوفي في بلاد الإغريق. وقد تحدثت المصادر التاريخية عن تمكُّن الحكيم فيثاغوراس، خلال زيارته إلى مصر ومكوثه هناك لسنين عدّة، من قراءة الرسوم والنقوش الهيروغليفية على جدران المعابد، وهو ما أذهل الكهنة المصريين، ففتحوا له أبوابَ معابدهم، بل وأصبحوا هم من مُريديه يستقون منه التعاليم الرُّوحيّة على نحو مشترك. فهو كان يشرح لهم بواطن أسرارهم المصرية ويدهشهم بمدى عمقه الفلسفي والرُّوحي.
وهناك أيضاً رواية عن زيارة أفلاطون لحاكم صقلية ديونسيس، حيث التقى هناك بالفيلسوف الفيثاغوري فيلولاوس ودفعَ له المال السخي ليستحصل منه على كتابٍ ضمَّ في حناياه تلك التعاليم الرُّوحانيّة التي تكاملت فيها أسرار العلوم الرُّوحانية المصرية والفلسفة الفيثاغورسية.
أهمية الفكر الفيثاغورسي
من هذا التلاقُحِ الفلسفي الرُّوحاني، تعرَّف اليونانيون على الفكر الفيثاغورسي الصوفي وبعض أهم مفاهميه: الأضداد (نور وظلمة، خير وشر)، والتناغم، والنار الكونية، وكذلك المبادئ الأساسية: العقل الكوني، وخلود الأرواح، والخير الأسمى وغاية الفلسفة. وقد بنى على هذه الركائزِ العقلية الرُّوحانية كبارُ فلاسفة اليونان، من طاليس إلى فلاسفة المدرسة الأيونية الأولى: أنكسماندر وأنكسيمانس، ومن ثم فلاسفة المدرسة الإيلية (بانتقال الفلسفة مع فيثاغوراس إلى إيطاليا) وهم إكزينوفان وبارمنيدس وزينون، ومن ثم الفلاسفة الكبار هيرقليطس وإمبيدوقليس وأنكساغوراس (أول مَنْ تكلّم عن “العقل الكوني” Nous) وصولاً إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو.
” الدارسون وطلاب الحكمة الإغريق توافدوا دوماً إلى مصر ومعابدها لتعلّم أسرار الوجود وسبل الخلاص الروحي ومعرفة النفس “
التهيُّؤ الرُّوحي والخلاص
في مصر، تعلّمَ الإغريقُ نظريةَ الخلاص الرُّوحي، عبر تشبُّه الإنسانِ بالعوالم الرُّوحانيّة العقلية تحرُّراً من قيود الجسد بلوغاً للتحقُّق الصوفي والكشف الرُّوحي واستنارة البصيرة. فقد كان المُريدون في مدارس التهيُّؤ الرُّوحي المصرية يخضعون لمنهاجٍ معرفيّ شامل. يبدأون بتعلُّم اللغة والخطابة، ومن ثمّ الهندسة والرياضيات وعلم العدد والمنطق وصولاً إلى تعلُّم الفضائل والرُّوحانيات لتحقيق السعادة الخالدة، وبذلك يصبح المُريد شاهداً حيّاً للعقل الكوني «اللوغوس. لكن وقبل أن يدخل المُريدُ مرحلة التهيُّؤ الرُّوحي، كان يتعيّن عليه أن يُظهِر تحلِّيه بصفاتٍ تُحاكي الفضيلة: استقامة الفكر والعمل، بتحكُّمه بفكره وسلوكه، والمثابرة لتحقيق الهدف السامي المنشود، والأخلاق الرُّوحيّة، والتزام تعاليم المرشد الرُّوحي والثقة به، وكذلك الثقة بالقدرة على التعلُّم، وعدم الغضب عند التعرُّض لاضطهاد، وكلّ ما تنطوي عليه هذه السجايا الخُلُقية من فضائل، تغنَّى بها فلاسفة الإغريق في تعاليمهم هم أيضاً.
ولاحظ الباحثون مدى تشابه “آلهيات” الفكر اليوناني مع مثيلاتها لدى مصر وبابل، وأبرز ما دلَّ على هذا التأثُّر هو التشابه بين فلسفتَي أفلاطون وأرسطو ومَنْ جاء بعدهما من الفلاسفة الرُّوحانيين (كأفلوطين)، وبين فلسفة الحكيم المصري «بِتاح حتب» الذي يُعتقَد أنّه عاش حوالي سنة 2700 قبل الميلاد، وربّما قبل ذلك، في مدينة ممفيس. وجوهر هذه الفلسفات هو تفسير الكثرة في الكون وردّها إلى منشأ واحد. ولو أنّ انطلاقة الفلسفة اليونانية كانت تبدو للبعض ماديّة، بيدَ أنّها انتهت إلى ما ورائيات ميتافيزيقية جليّة.


مصر المُلهِمَة عند أفلاطون
ممّا يُدلِّلُ على تأثُّرِ أفلاطون بمصر، وهو الذي أمضى فيها ثلاث سنوات( وفي رواية أخرى 13 عاماً) حديثُه المباشر عنها في إحدى عشرة محاورة من محاوراته، وعلى الأخص «كريتياس» و«تيماوس» و«فايدروس» (Phaedrus) و«القوانين» و«السياسي»، في نحو ثلاثة وعشرين موضعاً مختلفاً من تلك المحاورات، حيث أكّد فيها أنّ مصر هي منبع الحكمة وأصل الحضارة.
وفي نهاية محاورة «فايدروس»، وهي من المحاورات المتأخّرة التي كتبها الفيلسوف بعد محاورتَي «الجمهورية» و«المأدبة»، يقصُّ أفلاطون في الحوار، الذي تناول المحبّة والنفس والخطابة، قصةً توارثتها الأجيالُ عن أصل الكتابة تؤكّد أنّ الشخصية الأسطورية المُبجَّلة لدى المصريين «تحوت» (Theuth)، الكاتب الأعظم عند المصريين، هو مُكتشِف علوم الرياضيات والعدد والهندسة والفلك وحروف الأبجدية، وعلم الحروف الصوتية. إنّه الشخصية التي أصُبِغَت عليها في عصور لاحقة صفة إله الحكمة والمعرفة، وبالتالي اعتبرت هذه الشخصية مصدراً للإلهام والحكمة. وقد أطلق الإغريق على هذه الشخصية «هرمس مثلث العظمة» (Hermes Trismegistos).
لقد شكّلت مصر «تحوت/هرمس المثلث العظمة» وعلومه المختلفة مصدراً للإلهام الفلسفي، وتبدَّى ذلك واضحاً في محاورات أفلاطون التي تناول فيها أصلَ العالم وكوزمولوجيا الخلق وظهور الكائنات العلويّة والإنسان والطبيعة والنفس البشرية.
وتحدّث أفلاطون في محاورتَيه «تيماوس» و«كريتياس» عن تلقّيه التقليد الدقيق للنظام الكوني والعقول العشرة استناداً إلى علم العدد من مصر عبر سلفه صولون، ووصْفه بلغة فيثاغورية للكائن الأول «الموناد» (Monad) الذي وُجِدَ منه الكائن العلوي الثاني «دياد» (Dyad)، ومن ثمّ الكائن الثالث “ترياد” (Triad)، ومن ثمّ العناصر الأخرى والأفلاك، ووجود العالَم الأصغر كإنعكاس للعالَم الأكبر. فالعالَمُ الأصغر يعكس «بالعدد» حقائقَ العوالم السماوية من الأفلاك والكواكب إلى الأرض ومَنْ عليها، ولاسيّما الإنسان.
ما الذي نقله صولون؟
في مقارنة بين ما أورده المؤرّخ الإغريقي هيرودوت عن مصر، من حيث الاهتمام التاريخي والمقارنة بين معتقدات وعادات الشعبين في مجالات الحياة والسياسة، وما تحدث عنه أفلاطون فهو التأكيد على أوجه الشبه الفكري بين المصريين والإغريق القدامى، ولا سيّما في عصر صولون، بما يُوحِي بوجود تلاحمٍ قديم بين الشعبين، ولاسيّما في تناقل الحكمة القديمة السرّية.
فالإغريقي بدا للكهنة المصريين توّاقاً مُغامِراً يتميّز بروح الشباب الدائم والأفكار المتجدّدة التي لا تركن إلى التقليد والنقل بل تسعى إلى الإستزادة بالمعرفة العقليّة والتحقُّق الرُّوحي. ومصر هي مُلهِمةُ الفلاسفة الإغريق، ومهدُ التاريخ والحضارة الإنسانية. لقد ورثت مصر «ما قبلها» وأورثته لمَنْ بعدها في سلسلة متصلة من العلم الصوفي الحِكمي الرُّوحاني.
وفي مطلع محاورة «كريتياس» قوله: «إذا ما تذكّرنا تماماً وأوردنا أقوال الكهنة المصريين وقد نقلها صولون إلى بلادنا، فأكاد أعلم أنّنا سنبدو للقوم بمظهر مَنْ أنْجَزَ لهُ ما يليق به…». لكن ما الذي نقله صولون إلى بلاد الإغريق عدا روايته عن قارة أتلانتس الغارقة، وترك ذلك الأثرَ الكبير في الفلسفة الإغريقية وعلم الإلهيات تحديداً؟
بتاح قال للكون كن .. فكان
ثمة باحثون يربطون بين الرؤية الفلسفية لنشأة العالم لدى أفلاطون، ومن ثم أرسطو، وفكرة العقل الكوني الأول «اللوغوس» ونظرية الخلق «الممفيسيّة» (نسبةً إلى ممفيس)، وكذلك ما جاء في نصوصٍ داخل الأهرامات، التي تتحدّث عن الكائن الأعلى «بِتاح» (ويبدو بهيئة بشرية دون أن يصبغ عليه صفات إلهية، وهو ما حدث في وقت متقدم لاحق)، الذي أوجده الإله الأول «آتوم” (Atum)، ووضعَ في فكرِه بالفعل كلّ ما هو كائنٌ. لقد فكَّرَ “بِتاح” بالخلق ثم “نطَقَ” به فكان الوجود، وأوجدَ منه كائناتٌ علويّة أخرى، فأرسى النظام في ثُمانيّة من «الأزواج المتضادة” أو تاسوعيّة (Ennead) تضمّه، وهي ما تُذكِّرنا بالعقول العشرة عند أفلاطون والعقول التسعة لدى أرسطو. فما هي «إلهيّات» ممفيس التي تعود بنا أربعة آلاف سنة قبل الميلاد؟


حجر «شاباكا» و «إنجيل» ممفيس
في المتحف البريطاني، يُحفَظ حجرٌ يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد يُفسِّر نشأة الكون عند المصريين القدامى، كوزمولوجياً وفلسفياً ودينياً. وهو نقشٌ منقولٌ عن “مخطوطة” تعود إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، إلى الحقبة الأولى المبكرة من التاريخ المصري، وُجِدَ في العاصمة الحاضرة آنذاك مدينة ممفيس (قبالة القاهرة اليوم)، “استنسخه” عن مخطوطة قديمة جداً ملكُ مصري اسمه شاباكا (من السلالة الخامسة والعشرين قرابة 712-698 قبل الميلاد)، ودُهِشَ علماءُ الحضارة المصرية لمدى التشابه بين الفلسفة اليونانية، ولاسيّما فلسفة أفلاطون وأرسطو وبعدهما أفلوطين، وما كُتِبَ في هذا الحجر، ومن ثم وجِدَ في نصوص داخل الأهرامات، حول النظام الكوني وعلاقته بـ “موجِدِه الواحد”، ولو بلغة “أسطورية”، أو بالأحرى رمزية كأنما أراد كاتبها أن يخفي مقاصده إلا عن الراسخون في العلم.
وقد اعتبر بعضُ الباحثين المختصّين في مصر القديمة وأبرزهم العالمُ والفيلسوف البلجيكي ويم فان دين دونغن
(Wim van den Dungen)، والعالمُ والفيلسوف الهولندي هنري فرانكفورت (Henri Frankfort) حجر شاباكا كأساسٍ أوّليّ للفلسفة الإغريقية بأكملها. فلم تتردّد فيه فحسب العبارةُ الفلسفية الشهيرة التي تُنسَب إلى سقراط: «اعرَفْ نفسك»، والتي وجدها هؤلاء العلماء منقوشة أيضاً على جدران المعابد المصرية، ولا الفضائل والسجايا «الأفلاطونية» الإنسانية كالشجاعة والاعتدال والحكمة والعدالة، بل أيضاً أشار ت إلى “المُحرِّكَ الأولَ غير المُتحرِّك» لدى أرسطو، و”الفيض” الذي اشتُهِرَ في فلسفة أفلوطين.
وكذلك وجِدَ في النقش ما يشبه “الأضداد الفيثاغورية”، والصانع الوسيط العلوي بين الإله والخلق وأصل النظام الكوني، و”الصوادِر الأُوَل”، التي وُجِدَت بـ “كلمةٍ نطقَ” بها الكائن الأعلى الأول «بِتاح” الذي يحمل في قلبه كلّ موجود، الذي “أوجده الإله الأول آتوم ليكون صانعاً للإبداع والخلق”. فكَّرَ “بِتاح” في عقله بكلّ الموجودات ونطقَ بها كلمةً أوجدَت الخلق بعد أن صدرَت عنه ثمانية كائنات علوية أخرى وهي أزواج متضادّة، ليصبح وإيّاها أشبه بالعقول التسعة عند أرسطو.
يُفكِّر «بِتاح” بعناصر الكون في عقله («القلب») ويُوجدها بأمره، وبذلك نجد في بدء التاريخ المصري مقاربةً لعقيدة “اللوغوس” كوسيط للخلق. فالعقل الإلهي الأوّل، وبالتالي الكلمة الإلهية الأولى، أوجدَت الحقيقة انبثاقاً عبر الكائنات العلوية الثمانية تحت «بِتاح”، وهو ما قد يُشكِّل خاتمة القصة التي لم يُكمِلها صولون، وأشار كريتياس إلى أنّها قد تكون لا تزال محفوظة في مخطوطاتٍ ورثها عن جدّه صولون. ولفتَ بريتشهارد إلى أوجه التشابه مع العِلّة الوسيطة للخلق لدى أفلاطون، وكذلك مع “العِلّة الأولى” للفكر المَحْض لدى أرسطو.
وفي هذا المعنى، يقول الكاتبُ دايفيد فيديلير (David Fideler)، المختص بالأديان والفلسفات والكونيات القديمة، في كتابه حول الكوزمولوجيا القديمة والرمزيّة المسيحية الأولى1(**): “يُمثِّل اللوغوس صميمَ النظام الكوني ومصدرَ الوجود، وممثوله الشمس، مصدر الحياة والنور”. وحول تعاليم اللوغوس في المدرستَين الفيثاغورية والأفلاطونية، يقول فيديلير: “يُمثِّل اللوغوس المستوى الأول من التبدِّي أو الكينونة، إذ إنّه يضم في ذاته جميعَ القوانين والعلاقات التي تحكم الكون الظواهري»، ويخلُص إلى القول: «اللوغوس هو مصدر كلّ وجود وهو مرتبطٌ بمبدأ العقل الكوني Nous، الذي تكمن فيه جميع الصور والمبادئ الكونية الذي يستند إليها الخلق».


ما كمِنَ في حَجَر “شاباكا” من «وحدانيّة مَشُوبة» لفِقه “الإلهيّات” الممفيسيّة تلوح منه أفكارٌ انجلت في سياق مبدأ اللوغوس الأفلاطوني ومن ثمّ فكرة اللوغوس لدى المسيحيين الأوائل. وفي هذا يقول الباحث جيمس هنري بريستد (James Henry Breasted) في مقالة له عن “الإلهيات” الممفيسية تحت عنوان «فلسفة كاهن من ممفيس” إنّ ما جاء في “إلهيات” نقش حجر «شاباكا” عن “العقل” الذي ولَّد العوالم
بـ “كلمته” يُشكِّل أساساً كافياً للإقتراح بأنّ مبدأَي العقل الأول Nous والكلمة الإلهية Logos “قد جاءا أيضاً إلى مصر في وقتٍ مبكر من التاريخ نقلاً عن إلهيات وكونيات حضاراتٍ مُوغِلَة في القِدَم”، وكما يؤكّد التقليد الإغريقي عودة أصول فلسفته إلى مصر، ثمة هيروغليفياتٍ تُلمِّح إلى أنّ ثمة مَنْ “همَسَ” أيضاً في آذان الكهنة المصريين حقائقَ توارثتها الأجيالُ من الحكماء عبر تعاقب الحضارات. ويشير بريستد إلى أنّ كلمة Nous اليونانية التي تُشير إلى العقل الكوني، قد تكون مشتقة من الكلمة المصرية «نو» (Nu)، وتشير إلى الرؤية البصرية والعقلية.
يتضح إذاً أنّ المصريين القدامى أخذوا مِشْعَلَ هذا الفكر الوضّاء عمَنْ سبقهم من شعوب، وقدّموه إلى الإغريق الذين بعقلهم المُبدِع أناروا العالم. ومن ثمّ توارت هذه الحقائقُ المصرية تحت رمالِ الآثار وسراديبِ الأهرامات من الأزمان السحيقة. لكنّ السطرين الـ 56
و 57 من نقش حجر “شاباكا” الممفيسي أبَيَا إلَّا الخروج من تلك الرمال والسراديب لينطقا بالحقيقة التي تلقّفها الفلاسفة الإغريق: «انظروا، كلُّ كلمةٍ من الإله أصبحت كائنةً في الوجود عبر أفكار العقل (القلب) والكلمة الآمرة (اللسان)”.
الكتابات الهرمسية
ومبدأ حفظ الأسرار


ظهرت الكتابات المسماة (المجموعة الهرمسية) في القرن الميلادي الأول، وكان ظهورها المكثّف في الإسكندرية، وإن كانت الهرمسية لم تكن محدودة بالإسكندرية، فقد كان للهرمسيين تجمعات (سرية) في عديد من المدن القديمة، ومنها ما هو في صعيد مصر.
وقد احتوت مجموعة (مخطوطات نجع حمادي) الشهيرة، التي اكتشفت بالصدفة سنة 1945، على عدد من الرسائل والكتابات الهرمسية، وفي الكتابات الهرمسية المبكرة، يظهر امتزاج النـزعة الصوفية للهرامسة، مع العناية بعلم الكيمياء الذي كان في الزمن القديم مرتبطاً بالسحر، مع الاهتمام بعلم الفلك الذي كان آنذاك مرتبطاً بالتنجيم ..
وفي الكتابات الهرمسية المبكرة، تظهر بقوة النـزعة التوحيدية. وفي كتاب «زجر النفس» المنسوب لهرمس، تأكيدٌ لا لبس فيه على «التوحيد» وعلى أنه السبيل الوحيد للمعرفة والعلم والتحقيق الروحي. وترى الهرمسية أن تعدُد الآلهة سخافةٌ، وإنكار التوحيد هو أكبر مرض يصيب النفس الإنسانية مع أن إدراك الإله الواحد، صعبٌ، وفهمه والكلام عنه مستحيل.
والله عند الهرامسة منـزهٌ عن العالم المادي/ الجسماني، وهو يتجلى في كل الموجودات من دون أن يحتويه شيء، مع أنه يحتوي الأشياء كلها. وقد صنع الله العالم، في المذهب الهرمسي، عن طريق الكلمة (اللوغوس) ليكون الله مرئياً في مخلوقاته.
والإنسان حسب الهرمسية هو مقياسُ الكون وأبدعُ المخلوقات، وهو قسمان أساسيان: الجسم والنفس.. ونفس الإنسان هي «فيض من الله» لكنها أسيرة الجسم المادي المحسوس، مع أنها ليست مادية ولا محسوسة. وهي جوهرٌ روحاني شريف، يستطيع بالتجرُّد عن شهوات الجسد، وبالطقوس التطهيرية أن يستطلع العالم العلوي (الإلهي) ويستشرف الأفق السرمدي، فيصير كالملائكة .
وتؤمن الهرمسية بتقمص الأرواح، فالأشخاص الذين عاشوا حياتهم بشكل رديء، تعود أرواحهم في أبدان المواليد، لتحيا من جديد وتتطهَّر من المساوئ السابقة، وتظل الروح تنتقل في الأبدان، حتى تخلص في نهاية الأمر من خطيئتها.
فقرات من كتاب «سر الخليقة وصنعة الطبيعة» وهو نصٌ توجد منه بعض النسخ الخطية القليلة. منها المخطوطة التي كُتبت قبل ألف سنة، بالعربية، وتوجد اليوم في مكتبة جامعة (أوبسالا) بالسويد !
“الآن أبيِّن لكم اسمي، لترغبوا في حكمتي وتتفكروا في كلامي.. أنا بلنيوس الحكيم، صاحب الطلسمات والعجائب، أنا الذي أوتيت الحكمة من مدبِّر العالم.. كنتُ يتيماً من أهل طوانة (تيانا) لا شيء لي، وكان في بلدي تمثالٌ متلوِّن بألوان شتى، وقد أُقيم على عمود من زجاج، مكتوب عليه بالكتاب الأول (اللغة القديمة): «أنا هرمس المثلَّث بالحكمة، عملت هذه الآية جهاراً، وحجبتها بحكمتي، لئلا يصل إليها إلا حكيم مثلي. ومكتوب على صدر ذلك العمود، باللسان الأول: من أراد أن يعلم سرائر الخليقة وصنعة الطبيعة، فلينظر تحت رجليّ.. فلم يأبه الناسُ لما يقول، وكانوا ينظرون تحت قدميه فلا يرون شيئاً”.
“وكنتُ ضعيف الطبيعة لصغري، فلما قويتْ طبيعتي، وقرأتُ ما كان مكتوباً على صدر ذلك التمثال، فطنتُ لما يقول، فجئت فحفرت تحت العمود. فإذا أنا بَسَربٍ (سرداب) مملوء ظُلمة، لا يدخله نورُ الشمس. دخلتُ السَّرَداب، فإذا أنا بشيخٍ قاعد على كرسيٍّ من ذهب، وفي يده لوحٌ من زبرجد أخضر مكتوب فيه: هذا سرُ الخليقة وعلم علل الأشياء. فأخذت الكتاب واللوح مطمئناً، ثم خرجتُ من السَّرَداب، فتعلَّمت من الكتاب علم سرائر الخليقة، وأدركتُ من اللوح صنعة الطبيعة وعزمتُ على شرح جميع العلل في جميع الخلْق. وأخبركم أيضاً أنِّني إنما وضعت هذا الكتاب وأجهدت نفسي فيه، لأحبائي وخاصتي من نَسْلي”.
“فالآن أقسم وأُحلِّف من سقط إليه هذا الكتاب (وصل إليه) من ولدي وقرابتي، أو ذوي جنسي من أولاد الحكماء، أن يحفظوه مثل حفظ أنفسهم، ولا يدفعوه إلى غريب أبداً. والحلف واليمين بالله الذي لا إله إلا هو.. ألا تغيرِّوا كتابي هذا، ولا تدفعوه يا وُلدي إلى غيركم، ولا تُخرجوه من أيديكم. فإنني لم أدع علماً قلَّ أو كثر، مما علَّمني ربي؛ إلا وضعته في هذا الكتاب، ولا يقرأ كتابي هذا أحدٌ من الناس، إلا ازداد علماً واستغنى عما في أيدي الناس.. والله الشاهدُ على مَنْ خالف وصيتي، وضيّع أمري”.


ماذا في حجر “شاباكا”؟
قُبالة القاهرة، حيث وضعَ جوهرُ الصقلّي الأساسَ الأوّل للعاصمة الفاطمية سنة 970 ميلادي، وعلى بعد يقل عن 18 كيلومتراً، تكمن آثارُ مدينة ممفيس عاصمة الممالك المصرية منذ السلالات الأولى، وبين تلك الآثار، عَثرَ علماءُ الآثار على أرشيفٍ في مكتبة معبد بِتاح وُجِدَ فيه حجرٌ منقوش أسود مائل إلى الأخضر (يبلغ قياس الحجر 138,5 سنتيمتر× 93 سنتيمتراً، أمّا مساحة النقش فهي 134 سنتيمتراً × 69 سنتيمتراً، وثُقِبَ في وسطه كحجر الرحى) يحمل اسمَ الملك المصري شاباكا (حوالي 698- 712 قبل الميلاد) من الأسرة الخامسة والعشرين، وهو الملك الذي تمكّن مجدّداً، ولو لفترةٍ قصيرة، من إعادة مصر إلى التوحيد وجعل ممفيس مقرّاً لحكمه مع نهاية «الفترة الوسطية الثالثة» (664 -1075 قبل الميلاد) التي أعقبت فترة «المملكة الجديدة» (1075 – 1539 قبل الميلاد). وقد نقلَ اللورد جورج جون سبنسر، الملقّب بآرل سبنسر، هذا الحجرَ إلى المتحف البريطاني في العام 1905.
وفي الأسطر الأولى للنص المنقوش باللغة الهيروغليفية، يؤكّد الملك شاباكا أنّه “أنقذ” ما وردَ في مخطوطة قديمة «أخذ يأكلها الدود» تعود إلى التاريخ الأول لتأسيس ممفيس والسلالات الأولى الحاكمة في مصر ما بين 4000
و 3500 قبل الميلاد، وحفظها في نقشٍ يصمد مع الزمن ويمنعه من الضياع.
ويتألف النصُ المنقوش من ستة أقسام تبدأ بمقدّمة تمهيدية عامة حول الملك شاباكا وإنقاذ «مخطوطة أسلافه» التي أخذ يأكلها الدود بنقشٍ دائم، ومن ثم تمجيد لـ «بِتاح» الصانع، والكائنات العليا التي “أوجدها الإلهُ آتوم” انبثاقاً من بِتاح. وتتحدّث الأسطر بين الـ 53 و الـ 61 عن إلهيات ممفيس وكيف “فكّر” بِتاح (Ptah) في عقله و”نطق” بكلماته فأوجدَ الكائنات العليا الثمانية، المؤلّفة من أربعة أزواج متضادة، ومن ثم الخلق. ويرد فيها أيضاً أنّ بِتاح هو في الأعلى (في السماء) كما هو في الأسفل (على الأرض).