الإثنين, شباط 24, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, شباط 24, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

توفيق عساف

تَوْفيق عّساف

قِصّةُ رجلِ أعمــــــالٍ أحــــبَّ النّــــاسَ
فأحبّـــــوه وحفــــــــظ ودَّ الوطــــــــن

غسّان عسّاف:

آمنَ باقتصادٍ حُرٍّ لكنْ ليس للأغنياءِ وحدَهم
وكان رائدًا في الاهتمام بالمؤسّسات الصّغيرة

ربطتهُ صداقةٌ فكريّةٌ بالشّهيد كمال جُنْبُلاط
وذات يوم سأله: لماذا لا تترشّحُ نائبًا عن عاليه؟

يُقدّم المرحوم الشّيخ تَوْفيق عسّاف في الكثير من جوانب مَسيرة حياته الحافلة نموذجًا لحياة الكفاح التي تميّزت بها حياة المهاجرين اللّبنانين في كلّ البلاد التي ذهبوا إليها، فهي حياة البدايات الصّعبة والتّرحال والكفاح والسّهر لكنّها في الوقت نفسه المهارة اللّبنانية في أخذ الفرص واقتناص اللّحظة، وقد نجح توفيق عسّاف بتوفيقٍ من الله في إنشاء مؤسّسة كبرى ماليّة صناعيّة لكنّ نجاحه لم يغيّر فيه على الإطلاق طبيعته الإنسانيّة وشخصيّته الدّمِثة المهتمّة بقضايا النّاس، وهو الذي اعتبر نفسه على الدّوام واحدًا منهم وتعلّم من تجربة كفاحه الصّعب احترام كفاحهم والسّعي بكلّ وسيله لمساعدة ضعفائهم. لكنّ توفيق عسّاف كان أيضًا رجل مواقف وصاحب شخصيّة طيّبة، لكن صريحة فكان بالتّالي صادقًا صدوقًا في مواقفه العامّة، وعلى هذه الصّداقة بُنِيَت في ما بعد صداقاته مع زعامات البلد مثل المعلّم الشّهيد كمال جنبلاط والمغفور له الأمير مجيد أرسلان وغيرهم. ولقد أصبح الرّجل في وقت معيّن نقطة التّلاقي بين القطبين الدّرزيّين ورجل المواقف الذي يعتمد عليه في الدّفاع عن حقوق العشيرة والوطن في آن. كما قَيِّض القدر للشّيخ توفيق عسّاف أنْ يلعبَ دورًا مهمًّا في تمثيل الموحّدين الدّروز في اتّفاق الطّائف بتنسيق مع القيادة السّياسيّة للطّائفة، وقد لعب دوره كاملًا خصوصًا في الدّفع باتّجاه تأسيس مجلس للشّيوخ يكون برئاسة شخصيّة درزيّة. فماذا نعرف عن تَوفيق عسّاف وعن إنجازاته العمليّة والدّور المهمّ الذي لعبه في الاقتصاد الوطنيّ وفي الحقل العامّ؟

بيتُ فَضيلةٍ وكفاح
وُلِدَ تَوفيق عسّاف في العام 1915 في بلدة عَيتات قضاء عاليه لـ “عائلة أجاويد مُتَواضعة” كما يصفها ابنه الأستاذ غسّان الذي يَتولى منصب رئيس مجلس الإدارة والمدير العام لبنك بيروت والبلاد العربية، افتقد منذ وقت مبكّر حنان الأب عندما اضطُرّ والده، وسط ظروف الضّنك والفَقر التي نجمت عن الحرب العالميّة الأولى وكوارث أخرى مثل الجراد للهجرة إلى أميركا الجنوبية، وكان توفيق الثّالث بين خمسة أطفال تحتّمَ على والدتهم أن تهتمّ بأمر تربيتهم ومعيشتهم. ويبدو أن تَوفيق الشّابّ تأثّر كثيرًا بأمّه التي ربّته على حُبّ النّاس والأخلاق الرّفيعة منذ نعومة أظفاره، إذ كان توفيق ما زال صغيرًا عندما توفّي والده فعاش فترةً من حياته يتيم الأب، لكنّه تلقّى رعاية تامّة من والدته القديرة والتي اعتبر دومًا أنّها لعبت أكبر دور في حياته. ومع دخوله مرحلة الشّباب استشعر توفيق القوة والبأس في جسده فمال إلى الرّياضة ولاسيّما لعبة الملاكمة وصعد في صفوف أبطالها ووصل به الأمر إلى منافسة بطل لبنان في الملاكمة في ذلك الوقت إدمون زعنّي.

“شنَّت «كوكا كولا» حربَ أسعارٍ على تَوفيق عسّاف فردّ بـ «حرب جوائزَ» فوريّة زادت شعبيّة الببسي ومكّنتها من أخذ نصــــف السّـــــوق في 15 عامًا”

الأستاذ غسان توفيق عساف رئيس مجلس الإدارة والمدير العام لبنك بيروت والبلاد العربية
الأستاذ غسان توفيق عساف رئيس مجلس الإدارة والمدير العام لبنك بيروت والبلاد العربية

في أرضِ الله الواسعة
مع وفاة والده واجه توفيق الشّاب وضعًا جديدًا ودقيقًا إذ إنّه كان مازال فتًى يافعًا عندما اضطُرّ إلى تحمّل المسؤوليّة رغم صِغَر سنّه، وقد مارست والدته ضغطًا قويًّا عليه لتَرْك لعبة الملاكمة والبحث عن مهنة يستطيع من خلالها أنْ يساهم في تَكلفة معيشة الأسرة وأشقّائه الأصغر سنًّا. تقلّب توفيق الشّاب في عدد من الأعمال لكنّه قرّر في العام 1935 (وكان في العشرين من العمر) الهجرة الى أفريقيا وتوجّه إلى ليبيريا، لكنّه لم يمكث هناك أكثر من سنة إذ شجّعه أخوه الكبير يوسف، الذي كان بمثابة والده،على الانتقال إلى فنزويلّا حيث كان يعمل في تجارة الأقمشة.
كانت فنزويلّا وقتها من أكبر الدّول المنتجة والمصدِّرة للنّفط في العالم وتعوم على ثرَوات كبيرة كما أنّ نظامها الاقتصاديّ كان ليبراليًا ومفتوحًا لمختلف أنواع الهجرة من الخارج

“نجاحُهُ العمليُّ وسمعتُه الطّيِّبةُ جعلاهُ المرشّحَ المفضّلَ للمشاركةِ في تأسيس بنك لبنانَ والبلادِالعربيّة و80% من أسهم البنك أصبحت ملكًا لآلِ عســـــاف”

الثّروةُ الأولى
كان لتوفيق عسّاف بُعْد نظر تجاريٍّ، فلاحظ أنّ السّوق في حاجة لأنواع وكميات محدّدة من الأقمشة، لكنّه لم يكن يملك رأسمالًا كافيًا لتوسيع تجارته، وبسبب موهبته في بناء العلاقات وشخصيّته الموثوقة وجد من يقبل بتسليمه البضائع على الحساب، إذ إنَّه عرف كيف يلبّي طلبيّات السوق، ولمسَ بعض التّجار مهارته تلك فأمدّوه بكلّ ما يحتاج، وعلى أثر ذلك نمت تجارته بسرعة وبات من اللّاعبين الكبار في السّوق، كان ذلك النّجاح المصدر الأوّل لبناء ثروته الاغترابيّة. لكنّه بينما كان يحصد ثمار عمله وثقة النّاس لم ينشغل عن المهنة الأهمِّ التي يحبها وهي: خدمة النّاس، إذ حفَّزه نجاحه للاهتمام بشؤون الجالية اللّبنانية ومساعدة أبنائها، كما أنّه وجد نفسه أيضًا في بؤرة الضّوء عندما انبرى للردِّ على حمَلاتٍ أرادت تشويه صورة العرب واللّبنانيّين، حينها كان قد أصبح شخصيّة عامّة بين المهاجرين من بلاد الشّام بوجه الإجمال.
هل كان نجاح توفيق عساف في فنزويلّا نتيجة عمله فحسب أم حالفه الحظُّ أيضًا؟
هذا هو السّؤال الذي يطرحه البعض عادة في محاولة تفسير بعض النّجاحات ، وهم يشيرون مثلا إلى أن كثير من الناس يبذلون الجُهد ويكافحون لكنّ النّتائج لا تأتي متساوية، كما أنّ النّجاح والشّهرة لا يكونان إلّا نصيب قلّة.
يَعتبر الأستاذ غسان عسّاف أنّ من الصّعب الفصل بين ما يُسمّى عامل الحظّ وبين عامل الموهبة أو الجهد الشّخصيّ. فتوفيق عسّاف كان شخصًا مكافحًا وطموحًا لكنّه أوتيَ زيادة على ذلك شخصيّة محبّبة وأخلاقًا رجوليّة طيِّبة تجتذب النّاس إليه وتجعله يستحقُّ ثقتهم، وربّما يعتبر البعض هذه الصّفات بمثابة عامل “الحظِّ” وهذا قد يكون صحيحًا بشرط امتلاك موهبة المبادرة والفاعليّة الشّخصيّة والتّميُّز بين الآخرين.
جميع المهاجرين كانوا مكافحين فعلًا لكنّ معظمهم حصر اهتمامه بتأمين لُقمة العيش أوبناء ثروة صغيرة ولم تكن لهم موهبة بناء العلاقات الشّخصيّة وكسب ثقة النّاس كما فعل “الوالد الذي توسّعت علاقاته إلى أن عقد صداقة مع أكبر رجال الأعمال في فنزويلّا”. ويَعتبر غسّان عسّاف أنّ “هذا النّجاح في بناء شبكة العلاقات والصّداقات والسّمعة الطيّبة التي بناها الوالد ساعداه كثيرًا في تنمية أعماله، لأنّ الثّقة مع الموهبة هي أهمّ أسباب النّجاح. وكلّ شخص يضع نفسه في المكان المناسب يجذب الحظَّ إلى ذلك المكان”.

مع-الرئيس-الأميركي-ريتشارد-نيكسون
مع-الرئيس-الأميركي-ريتشارد-نيكسون

العَوْدةُ إلى الوطن
على عكس ما يتوقّع المرء فإنّ جَمْعَ تَوفيق عسّاف لثروة مُحترمة في المهجر لم يجعله يتعلّق بالاغتراب أو يستبدل وطنه الذي ترعرع فيه بالمُغْتَرَب البعيد. بالعكس، فقد تحولت ثروة توفيق عسّاف إلى حافز قويٍّ له للعودة به إلى البلاد التي يعرفها جيّدا ويحبّها ويعلم أيضًا أنّها بلد الفرص والأُلفة والعيش الأصيل. ورغم أنّ فنزويلّا كانت يومذاك تعوم على ثروة النّفط فإنّ توفيق عسّاف قرّر يومًا أنّ الوقت قد حان للعودة إلى الوطن
حدث أمرٌ جعلَ المغتربَ النّاجحَ يحزم قراره في عودة عَجْلى إلى الوطن، إذ انفتحت أمامه فجأةً فرصة الحصول على اميتاز شركة الببسي كولا للسّوق اللبنانية. كان ذلك بفضل علاقته الوثيقة بعائلة “سيسنيرو” الذين كانوا من أثرياء فنزويلّا وكانوا وكلاء البيبسي كولا في تلك البلاد.
كانت الببسي آنذاك في طَوْر توسيع انتشارها في العالم، وكانت السّوق اللّبنانية سوقًا واعدة بسبب الازدهار اللّبناني، والحركة السّياحيّة آنذاك ، لكن السّوق كانت حينها حِكرًا على شركة كوكا كولا، الأقدم والأعرق تاريخيًّا والمهيمنة عالميًّا. لكنّ توفيق عسّاف لم يتردّد لحظةً في السّعي لنيل ذلك الامتياز، فسافر إلى نيويورك برفقة بعض أصدقائه من أسرة سيسنيرو الذين دعموه مباشرة لدى الشّركة الأمّ، وكانت النّتيجة أن عاد من سَفرته الموفّقة تلك بعقد امتياز البيبسي كولا في السّوق اللّبنانيّة. كان ذلك في العام 1949 وفي ذلك العام عاد توفيق عسّاف إلى لبنان لتأسيس شركة الببسي، وإطلاق أعمالها.
لكنْ بمجرّد تأسيس الشّركة وإنشاء مصانعها في الحازميّة شنَّت شركة كوكا كولا على الشّركة النّاشئة حربًا قاسية لأنَّها كانت تريد حماية حِصّتها الضّخمة في السّوق، وكان ردّ فعل كوكاكولا جزءاً من سياستها ضمن الصّراع الذي بات عالميًّا مع شركة بيبسي كولا، ولأنّ شركة كوكا كولا كانت قد تأسَّست قبل عَشْرِ سنواتٍ في لبنان فإنّها كانت تستحوذُ على معظم السّوق وجميع نقاط البيع والتّوزيع. وفي سبيل توجيه ضربة قاضية إلى شركة بيبسي كولا النّاشئة قامت كوكاكولا بخفض أسعارها بشكل كبير ممَّا أدّى إلى هبوط مبيعات الشّركة المنافسة التي مُنِيَت بخسائر كبيرة، لكنَّ توفيق عسّاف صاحب العزيمة قرّر الرّدّ على الحرب بحرب مماثلة وأثبت في وقت قصير أنّه نَدٌّ قويٌّ بل خصم متفوّقٌ على منافسيه. لقد قرّر وبدعم من الشّركة الأمّ في نيويورك شنَّ حملة تسويقٍ كبرى في لبنان استخدمت إغراء “الرّبح الفوريّ” وذلك من خلال الهدايا الموجودة تحت الغلاف الدّاخليِّ لسِدَادة زجاجة البيبسي، وكانت الهدايا مهمّة مثل الكاميرات أو السّاعات أو الأدوات المنزليّة أو السّيارة أو حتّى الشّقة السّكنيّة، وغير ذلك، وبدأت عناوين الصّحف اللّبنانية تنشر الأنباء المثيرة عن جوائز الببسي كولا والرّابحين، وتهافت النّاس على زجاجات البيبسي وارتفعت مبيعات الشّرِكة، وفي أقلّ من خمسةَ عشَرَ عامًا كانت الشركة قد حصلت على نِصف السّوق اللّبنانيّة من المرطِّبات. ولفتت تلك النّجاحات الصّحافة اللّبنانيّة فكتبت عن تَوفيق عسّاف،”رجل الأعمال النّاجح ذي الأخلاق الحسَنة والسّمعة الطّيّبة”.
وبفضل تلك السّمعة الطّيّبة، ولا سيّما الموثوقيّة والصّدق في المعاملة التي يتمتّع بها توفيق عسّاف فقد ارتقى به سعيُه إلى مهنة تقوم على قيم من الثقة والمصداقيّة، ألا وهي مهنةُ العمل المصرفيّ. ورغم أنّه لم يكن يمتلك خلفيّة مصرفيّة فإنّ بروزه كرجل أعمال وصناعيٍّ ناجح جعل منه شريكًا مناسبًا لمجموعة من رجال الأعمال كانوا يعملون على تأسيس “بنك بيروتَ والبلاد العربيّة” ومن أفراد تلك المجموعة نَشْأتْ شيخ الأرض وهو سعوديٍّ من أصل سوريٍّ وجمال شحيبر وهو لبنانيّ من أصل فِلَسطينيّ. تردّد توفيق عسّاف بادئ الأمر، انطلاقًا من كَوْنه لا يمتلك خبرة في الصّناعة الماليّة، لكنّه اقتنع في ما بعد، وقَبِلَ في العام 1954 المشاركةَ في تأسيس البنك الذي انتُخِبَ ألفرد نقّاش أوّل رئيس مجلس إدارة له. وفي العام نفسه تزوّج توفيق عسّاف من عايدة ابنة شاكر صعب، التي وفّرت له سندًا قويًّا في حياته العائليّة والاجتماعية. يقول الأستاذ غسّان عسّاف في ذلك: “والدتي لم تكن تشبهه بل كانت تُكَمّله، وفيما فُرِض على رجل بمكانته أن يكون صارمًا وقاسيًا عائليًّا، كانت هي الوجه اللّيّن ومصدر الحنان كما حملت عنه بعض الأعباء الاجتماعيّة التي لم يكن بمقدوره تلبيتها خصوصًا بعدما تطوّرت أعماله وانخرط في السّياسة”.

الصّناعة والمؤسّسات
بعدما أخذت السّياسة ألفرد نقّاش، طلب من تَوفيق عسّاف تَرَؤس البنك نظرًا لمكانته في المجتمع ولثقة النّاس به، فقبل المهمة لكن على أن يكون له في الوقت نفسه الاستعانة برجل يثق به للإدارة الفعليّة. في ذلك يقول الأستاذ غسّان: “كان والدي متواضعًا ولا يدّعي أنّه يعرف كلَّ شيء، وهو رأى أنّ تَرَؤس إدارة مصرِف يجب أن يعهد به إلى شخص متخصّص ولديه الخبرة في الشؤون المالية،لذلك، قبل بتسلّم المنصب، لكنّه استقدم الشّيخ أمين علامة الذي كان موظفا كبيرا في البيبسي كولا نظرًا لثقته به، وأرسله إلى أميركا حيث تدرّب لمدّة سنة، وكان مثابرًا أحبّ عمله، وعند عودته كلّفه بالإدارة العامّة – وكان البنك وقتها صغيرًا – لكن أمين علامة تطور ورافق تطور البنك وكان من المصرفيين الذين يحظون باحترام في أوساط الصناعة المالية. ونتيجة النّجاحات التي حقّقها بنكُ بيروتَ والبلاد العربيّة بقي توفيق عسّاف رئيسَ مجلس الإدارة إلى حين وفاته”.
أمّا على صعيد المساهمة فقد زادت حِصّة توفيق عسّاف مع الوقت أوّلًا إذ قرّر آل شحيبر بيعه حِصَّتهم ممّا جعل منه المساهم الأكبرَ في المؤسّسة، ولا زال نشأتْ شيخُ الأرضِ شريكًا مساهمًا لغاية اليوم رغم أنّ أولادَ توفيق عسّاف اشترَوْا مزيدٍا من الأسهم وهم يملكون حاليًّا 80 في المئة من بنك بيروت والبلاد العربية.
دعمَ الشيخ توفيق على صعيد الصّناعة أيضًا أكثر من شركة كما شارك في تأسيسها، وكانت هذه الشّركات متخصّصة في صناعات عديدة بعضها يعتمد على شركة البيبسي كولا، مثل صناعة الزّجاجات وسِداداتها الحديديّة والبلاستيكيّة وغيرها. كما دخل الشّيخ توفيق مجال التّأمين كمساهم أساسيٍّ في شَركة SNA التي بيعت في ما بعد.
ولم يقتصر عمل ونشاط توفيق عسّاف على قِطاع الصّناعة والأعمال المصرِفيّة إذ امتدَّ ليشمل الإعلام، فكان مساهمًا رئيسًا في تأسيس “تِلِفزيون لبنانَ والمشرق” وقدّم الأرض في الحازميّة لإقامة مبنى التِّلِفِزيونَ. كما كان من مؤسّسيّ نادي الصَّفا الرَّياضيِّ ورئيسه الفخريّ لسنوات عدّة.

رجلُ المواقف
بسبب مساهماته الكثيرة ومشاركته المتزايدة في الحقل العامّ اختير توفيق عسّاف رئيسًا للجنة تأسيس دار الطّائفة الدّرزيّة في فردان، وتسنّى له بعد ذلك التعرُّف على القيادات الدّرزيّة، فبنى صداقة مهمَّة مع المرحوم كمال جُنْبُلاط الذي رأى فيه رجل مواقف إنسانيّة ووطنيّة قبل أنْ يراه رجل أعمال. أمّا بالنِّسبة لتوفيق عسّاف فإنَّ كمال جنبلاط كان الصّديق الذي يتشارك معه في التأمُّل والتّصوُّف بعيدًا عن أجواء الحياة اليوميّة والأعمال.
نتيجةً لتلك الصّداقة اقترح كمال جنبلاط على الشّيخ توفيق في العام 1960 التّرشّحَ للانتخابات فلم يتحمّس بدايةً للفكرة، لكنّه عاد وقبل من منظار رغبته في مساندة الزّعيم كمال جنبلاط في نضاله السّياسيّ، وقال يومها في شرح قبوله بفكرة دخول النّدوة النّيابيّة “لم أفكّر يومًا في الانتقال من المَيْدان الصِّناعيّ والتِّجاريّ إلى العمل السّياسيّ، غير أنّ الصّداقة التي تربطني بكمال حنبلاط والمحبّة المتبادلة بيننا دفعتا بي إلى دخول المعترك السّياسيِّ”. هذه الصّداقة ترافقت في الوقت نفسه مع رابطة وثيقةٍ بالمرحوم الأمير مجيد أرسلان، والمفارقة أنّ توفيق عسّاف لم يكن مجرّد نائب عن دائرة عاليه، بل كان في العام 1972 المرشح التوافقيّ بين الرّاحلين كمال جنبلاط والأمير مجيد. وهكذا أمضى عشرين عامًا في النّيابة، كما أصبح وزيرًا للاقتصاد والنّفط ، فأهّل الوزارة وسنّ تشريعات من أجل تطويرها.
خلال الحرب الأهليّة كانت زوجته والأبناء في الخارج لكنّه لم يترك لبنان سوى لزيارة العائلة ولم يَغِبْ عن وطنه أكثرَ من شهرٍ واحد.
وبعد اغتيال كمال جنبلاط بقي توفيق عسّاف على تنسيق تامٍّ مع النّائب وليد جنبلاط وفي العام 1989 كان توفيق عساف النّائب الدّرزيّ الوحيد الذي بقي على قيد الحياة والممثّل الوحيد للطّائفة التي دافع بشدّة عن حقوقها في اجتماعات الطّائف وكان لوجوده ومشاركته الفاعلة أثر مهمٌّ في الموافقة على إصلاح دستوريّ أساسيّ هو إنشاء مجلس للشّيوخ في لبنان برئاسة درزيّ.

مع الشهيد كمال جنبلاط وسماحة شيخ العقل الشيخ محمد أبو شقرا والأمير مجيد أرسلان
مع الشهيد كمال جنبلاط وسماحة شيخ العقل الشيخ محمد أبو شقرا والأمير مجيد أرسلان

“بسبب شخصيّته الموثوقة اقترحه كمال جنبلاط نائبًا عن عاليه ثم أصبح نائبًا بتوافق جنبلاطيٍّ أرسلانيّ لمدّة 20 عامًا”

بَصمات ذهبيّة
كانت لمدينة عاليه مكانةٌ خاصّة في قلبه، كما كان له بدوره في كيانها بصمات ذهبيّة، وكان البنك في عاليه الواسطة التي من خلالها تمّ توفير التّمويل للعديد من الشّرِكات الصّغيرة والمشاريع الفرديّة سواء للبدء في الأعمال أم لعمليّات التوسّع والاستمرار. يقول الأستاذ غسّان :”آمن والدي بأنَّ النّظام الحرَّ ليس لإغناء الأغنياء بل لخلق الفرص والمجالات أمام الأفراد وخصوصًا الفقراء لتطويرهم ورفع مستوى معيشتهم، وتأمين العمل لأكبر عدد ممكن من النّاس… أقصد أنّه كان يؤمن بالرّبح المعقول ويرفض الطّموح المتوحّش، من هنا قضت خطّته بانتشار فروع البّنك في كلّ المناطق والقرى المهمّة خصوصا في الجبل. وفي وقت كانت فيه المصارف تهتمّ بالشّرِكات الكبرى كان همّ توفيق عسّاف مساعدة وتمويل المؤسّسات الصّغيرة والفرديّة، فكان بذلك رائدًا في مجال دعم المؤسّسات الصّغيرة والمتوسّطة وفي مجال المسؤوليّة الاجتماعيّة التي باتت اليوم على جدول أعمال كلّ مصرِف. ويتميّز بنك بيروتَ والبلاد العربيّة لغاية اليوم بأنّ جزءًا كبيرًا من موجوداته موزّعًا في المناطق بينما يتركّز 45 في المائة فقط منها في بيروت”.

الصّديق المُنفتح
كما سبق وذكرنا كان توفيق عسّاف رجلًا مُنفتحًا واجتماعيًّا منذ صِغَرِه، ولم ترتبط صداقاته بأهل طائفته أو منطقته بل تخطّت ذلك فكان إدمون كسبار نقيب المحامين آنذاك رفيق دربه، كما صادق فوزي مارون وطلب منه أن يكون عضو مجلس إدارة في البنك، ومن أبرز أصدقائه وزير الماليّة في ذلك الوقت علي الخليل. صاحب البيت المفتوح والمائدة الدّائمة، حافظ على أصدقائه وعلاقاته الاجتماعيّة طوال عمره، ورغم أنّه تعرّض لبعض الخَيبات إلّا أنّه لم يندم قَطُّ على مبادئه وانفتاحه واتّساع دائرة الأصدقاء. ذلك أنّه على العموم قليلًا ما كان يُخطئ في اختيار النّاس المناسبين في كلّ مراحلَ حياته.

رحيلُه ووصيّتُه
في العام 1992 تراجعت صِحّتُه ممّا فرض عليه أن ينكفئ، ويقلّل من التزاماته الاجتماعيّة وفي فجر التّاسع من أيّارَ من العام 1996 رحل توفيق عسّاف إلى دنيا الحّقِّ عندما كان برفقة زوجته ورفيقة عمره في قبرص. وكانت إحدى وصاياه، تحويل أرض منزل والدَيه إلى مبنى للبلديّة ومكتبة عامّة، “نفذنا وصيّتَه وجرى وضعُ الحجر الأساس للمبنى في احتفال الذكرى السّنويّة الأولى لرحيله في العام 1997. وفي الذّكرى الثّانية تمّ تدشين مبنى البلديّة والمكتبة العامّة”، وقد جُهّزت المكتبةُ وفقًا للمواصفات العالميّة. وهي تقدّم لطالبيّ العلم والثّقافة مجموعةً واسعةً وشاملةً من الكتب والمجلّدات. وتضمُّ آلافَ العناوينَ في اللّغات العربيّة والإنكليزيّة والفرنسيّة لكلّ الأعمار. أمّا البلديّة فقد أطلقت على الشّارع الذي يقع وسط البلدة اسم “شارع الشّيخ تَوفيق عسّاف”

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي