ترتبطُ الثوابتُ، في حياةِ مجموعةٍ بشريَّة، بما يختزنُه وجدانُها من ذخائر المفاهيم المكوِّنة لوجودها، ليس فقط في أبعادها الذاتيَّةِ، بل وخصوصاً في آفاقها المفتوحة على المشترَكات الإنسانيَّة ماضياً وحاضراً ومستقبلًا. وأيضاً، ما تحفظه ذاكرتها التاريخيَّة من قِيَم ومبادئ وأصُول انتماء كافحَت بها عبر تقلُّب العصور ووجوه السلطان، وناضلت وعمَّقت جذورها في عمق الأرض، إزاء كلّ الأزمات العاصفة والمِحَن العارضة والتحديات تأتيها من هنا وهناك لسلبها أغلى ما تملكه أي الكرامة والحرّيَّة ونَخوة الحياة.
وأمَّا المتغيّرات، فهي مرتبطة بالظروفِ الآنيَّة، وتعاقُب الأحداث، واختلاف عوامل الأزمات وتقاطعات مصالحها. وفي كلِّ حال، فإنَّ المواقفَ التي يمكنُ اتِّخاذها تحت وطأةِ ضغوط أيّ “واقع راهن”، لا يجوز أن تمسّ الثوابت، وأحوال الزمانِ عابرة، في حين أنَّ المبادئ المرتبطة بتكوين الجماعة وسجلّ شرفها فهي راسخة كالصخور الصلبة في جوف الجبل.
إنَّ توجيه الانتباه النافذ لهذه المسألة الحيويَّة هُوَ أمرٌ ضروريٌّ، وواجبٌ لازم، لكلِّ من له اكتراث بالمصالح العليا لأهلِنا في حِماهُم، بل وفي وطنهِم، من حيث أنَّ صحَّةَ كيانهم هو من صحَّةِ مكوِّناتِ الوطن. وهذه قاعدة جوهرية لا يجبُ أن تغيبَ عن بالٍ أحد.
الكلُّ عالِمٌ بالأوضاع الحرجة التي يمرّ بها بلدُنا وبلدان الجوار وسط عالَمٍ يتزعزعُ “نظامُه الدوليّ” شيئا بعد شيء. ولا يجبُ بأيِّ حال من الأحوال أن يغلبَ الانفعالُ عند كلِّ أزمة ناشبة على منطق الحكمة والتروّي وحسن التدبير ومن واجب الجميع الجميع الحرص البالغ على الترفع والتضحية لما فيه مصلحة أبناء العشيرة وخيرهم وكرامتهم، بل وسائر أبناءِ البلد واستقرارهم وسلامهم.
إنَّ تاريخ الموحِّدين من بني معروف حافلٌ برُوح المروءةِ والشهامَة وانسجام المواقِف، لا سيّما حين اشتدَّتْ عليهم خُطُوب الدَّهر، وما كان أكثرها عبر ألف عام من وجُودهم الَّذي حافظوا عليه بكرامةٍ وحكمةٍ وسدادِ تدبير. وبهذا، حافظُوا على الأرضِ، ليس بحَميَّةِ التَّعصُّبِ الفئويّ، بل برُوح المشاركة في حيِّز المكان والحاضِنَة الإنسانيَّة التي بها بقيت الإمارة أشبه بنواةٍ صلبة بُنيَ عليها بعد ذاك الكيانُ الوطنيّ اللبنانيّ. وبالرُّغم من تبايُن العصبيَّات داخل مجال النفوذ السلطويّ في البيئة المحليَّة التي فرّقت كلمتها ووحدتها، فإنَّ الشّعورَ بوحدةِ المصير ظلَّ حاضراً في الوجدانِ والخواطر في السياق العام لمجرى الأحداث.
إنَّ أبناءنا اليوم، في ديارهم وفي بلاد الانتشار، بحاجةٍ إلى استلهامِ الحسّ التاريخيّ الراقي الذي تحلَّى به أسلافُهُم، سواء في ذلك الزّعماءُ والأمراءُ والشّيوخُ والأعيانُ وعامَّة الشّعب الذي أعطى وقدَّم من الشجعان والأشاوس والشرفاء وذوي الفضل الكثير الكثير فداء عن حماهُم، بل وحمى بلادهم وأمَّتهم كما هو مسطور في صفحات التاريخ بلا منَّةٍ من أحد.
على الجميع ان يدرك ان المشكلات لا تعالج الّا بالتجرد والإخلاص والبحث عن مسارب النور في ظلام تلك المشكلات، والسبيل السوي لتخفيف حدّة الخصومات ومعالجة ازماتنا والخروج من ذلك بحلول لها هو الخطاب اللّين، فليس كالكلمة الطيبة الفيّاضة بالاحترام مفتاح للمعضلات المغلقات.
إنَّ من مقوِّمات البقاء والثباتِ والفلاح التحلِّي بالقيَم المعروفيَّة النبيلة، في الذاتِ وفي الجماعة، أي في الثــقافةِ اللائقة التي تتجنَّب سيْل الأغاليطِ والمقاربات الخاطئة لتراثـنا الأثيل، وفي التربية التي لا بدَّ أن تترسَّخ أصُولها في حرم الكنف العائليّ الذي لا بديل عنه سوى الشتات الفكريّ والهَجانة الرُّوحيَّة. وهي مسؤوليَّات تقع على عاتق كلّ فرد، وكلّ عائلة، وكلّ منتدًى، وكلّ جهة ناشطةٍ في الشأنِ الاجتماعيّ وفي الحقل العام ﴿وَاعْمَلُوا صَالِحاً إنِّي بِمَا تَعْـمَلُون بَصِيرٌ﴾.
رسالتنا الى بني معروف ستبقى على الدوام رسالة تعزيز ما فيه عزتهم وشجب ما فيه انتقاص لكرامتهم، وليس لنا إلَّا التذكير بالحكمةِ القديمة التي تمسَّكَ بها قولا وعملا حكماؤنا الأفاضل على مرِّ التاريخ، وهي الحذر الأكبر من تفرُّق الكلمة وتشتُّت الصفوف، وإنَّما الظفرُ والفلاح في التمسُّك المصيريّ بوحدةِ الجهود الآيلة إلى الخيْر العام، في جبلنا وفي وطننا بالسويَّةِ ذاتها. ■