الأحد, أيار 5, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأحد, أيار 5, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

ثورة الموحدين الدروز

ثـــــورة الموحّديــــــن الـــــدروز
علـــى الحكـــــــم المصــــــــري

(1837 و 1838)

واجه الحكمَ المصري لبلاد الشام، بين سنتي 1832 و 1840، ثوراتٌ عديدة في فلسطين ولبنان وسورية، كان أهمها ثورة الموحدين الدروز، أو ما سمّي «الثورة الدرزية»، التي بدأت في جبل حوران (جبل العرب)، وامتدت إلى مناطق الدروز في سفحي جبل حرمون، الشرقي والغربي، وقدّم فيها دروز جبل لبنان النصرةَ لإخوانهم. هذه الثورة تتطلب كتاباً، أو بحثاً مطولاً، للإحاطة بأسبابها وبجميع فصولها ومعاركها، ولا سيما أن المصادر التاريخية التي تناولتها، أو تناولت جانباً منها، كثيرة وغنية بالمعلومات، ومنها تقارير القناصل الأجانب، وتقارير القادة المصريين، و«المحفوظات الملكية» المصرية التي جمعها المؤرّخ أسد رستم في أربعة مجلّدات، ووصف الأطباء المرافقين للحملات المصرية على جبل حوران، و«مذكرات تاريخية» لمؤرّخ مجهول نشرها قسطنطين باشا المخلّصي، و«حروب إبراهيم باشا المصري في سوريا والأناضول» لمؤرّخ مجهول، وكتاب «تاريخ الأعيان في جبل لبنان» لطنوس الشدياق، و«كشف اللثام عن محيا الحكومة والحكام في اقليمي مصر والشام « لنوفل نعمة الله نوفل، و«الجواب على اقتراح الأحباب» لميخائيل مشاقة، يُضاف إلى ذلك مصدران من دروز حوران، بالغا الأهمية، هما لشاهدي عيان للثورة في جبل العرب، أولهما قصيدة مطوّلة للشيخ أبي علي قسّام الحنّاوي، وثانيهما مخطوط بعنوان«قصة اللجاه» للشيخ حسين إبراهيم الهجري، كما أن هناك عشرات الكتب والأبحاث التي تناولت «الثورة الدرزية» في حديثها عن تاريخ بلاد الشام. وإزاء هذا العدد الكبير من المصادر والمراجع، والكم الهائل من المعلومات الواردة فيها، لا يسعنا أن نورد في هذه المقالة عن ثورة الدروز إلا أبرز الأسباب والمراحل والمعارك، وبإختصار كلي.

إحتلال محمد علي لبلاد الشام
توصّل محمد علي، الألباني الأصل، إلى تسلّم ولاية مصر، وكان شخصية فذّة وذا طموحات كبيرة، فسعى إلى تحديث مصر على النمط الأوروبي، وأنشأ جيشاً قوياً مجهّزاً بالمدافع، ومدعوماً بالسفن الحربية، ومدرّباً على أيدي ضباط فرنسيين، وأبرزهم سيف المعروف بسليمان باشا الفرنساوي. وطمع في احتلال بلاد الشام، لغناها بالمواد الأولية اللازمة للصناعة التي طوّرها، كالخشب والفحم الحجري والنحاس وسائر المعادن، ولموقعها الإستراتيجي والتجاري المميّز بين الغرب والشرق، ولأنها طريق الحجاج إلى بيت الله الحرام، ومحاذية لتركيا التي كان يرغب في القضاء عليها بعد أن باتت ضعيفة وعرضة للمطامع الأوروبية.
تذرّع محمد علي برفض والي عكا عبد الله باشا إعادة الأموال التي استدانها منه، وبتقديم الأخير الملجأ للفلاحين المصريين الذين هربوا من الخدمة الإجبارية في الجيش المصري، فوجّه في العشرين من شهر تشرين الثاني 1831 جيشاً بقيادة إبنه إبراهيم، لاحتلال عكا التي كانت تُعتبر بوابة بلاد الشام من ناحية مصر، والتي عجز عن إحتلالها بونابرت في سنة 1799، فاحتل إبراهيم باشا قلعتها الحصينة، وتابع زحفه شمالاً فسلّم أهالي دمشق مدينتهم له، فدخلها مع حليفه الأمير بشير الشهابي الثاني الذي سبق لمحمد علي ان تحالف معه وتحالف مع أعيان محليين من بلاد الشام تمهيداً لسيطرته عليها. ثم احتل إبراهيم باشا حمص في 8 تموز 1832 بعد معركة قوية مع الجيش العثماني، واحتل حماه في اليوم التالي، وتقدم إلى حلب فملكها بالأمان في الشهر نفسه. وواصل زحفه شمالاً فتغلّب في ممر بيلان على الحشود العسكرية التي جمعها العثمانيون للدفاع عن الأناضول، وإجتاز جبال طوروس الفاصلة بين سورية وتركيا، وتغلّب في قونيه على جيش كبير حشده العثمانيون بقيادة رؤوف باشا والصدر الأعظم رشيد باشا. ولم يعد هناك من عائق يحول بينه وبين الوصول إلى الآستانة عاصمة الدولة العثمانية، فتقدم إلى كوتاهية، وانتظر تعليمات والده، وما سيؤول إليه تحرّك الدول الأوروبية التي خشيت من توسّعه وقلقت من إنتصاراته، ومن قيام دولة فتية في غرب آسيا وفي مصر مكان الدولة العثمانية الهرمة والمشبّهة آنذاك بالرجل المريض.
إستعان السلطان العثماني بالدول الأوروبية ، وطلب نجدتها لإنقاذ عاصمة بلاده المهدّدة بالسقوط، ولإنقاذ سلطنته، فكانت روسيا السبّاقة إلى تلبية طلبه، لأنها كانت تطمح إلى الإستيلاء على المضائق وعلى الآستانة لتصل إلى البحر الأبيض المتوسط، وهي لا تريد دولة أخرى تنازعها في ذلك. فأرسلت اسطولها إلى الآستانة، وأنزلت 15 ألف جندي إلى البر، الأمر الذي أقلق بريطانيا وفرنسا والنمسا، فضغطت على محمد علي للقبول بمصالحة السلطان العثماني، فعُقد بينهما إتفاق كوتاهية في 14 آيار 1833، وهو ينصّ على قبول السلطان بمحمد علي والياً على مصر وجزيرة كريت بعد ان سبق له وعزله عنهما، وتنازله له عن بلاد الشام، وإعطاء إبنه إبراهيم ولاية أدنه، مقابل أن يدفع محمد علي الأموال التي كان يدفعها الولاة العثمانيون، وان يجلو عن المناطق التي احتلها في الأناضول.

” الأميركي رسل ريزنغ
متى سلّت السيوف من الأغماد كان الضاربون بها أصلب قوم في غربي آسيا، إنهم “الدروز”، حتى ان زهرة الجيش المصري انكمشــــــت وانهزمت في وجــــــــــه تلك الســـــــواعد التي لا تليـــــــــن”  “

إدارة محمد علي في بلاد الشام
أقام محمد علي ابنه إبراهيم حاكماً عاماً على بلاد الشام، فجعل إبراهيم دمشق مركزاً لحكمه وانطاكية مقراً له ليشرف عن كثب على تحرّكات الجيش العثماني، إذ إن إتفاق كوتاهية ما كان إلا هدنة مع الدولة العثمانية، اتخذ منها والده سبيلاً لاسكات الدول الأوروبية عن توسّعه المرحلي، وفرصة لمعرفة ما ستنجلي عنه سياساتها ومواقفها، واتخذت منها الدولة العثمانية فرصة لإعادة بناء قواتها والإستعداد لجولة ثانية مع عزيز مصر محمد علي.
استطاع إبراهيم باشا السيطرة التامة على الأوضاع الأمنية والإدارية والإقتصادية، بفضل تسليمه المناطق والمدن لحلفائه وأعوانه، وبفضل تقرّبه من السكان والإصلاحات الضرائبية، وإضعاف الإقطاع، وإنشاء مجالس المشورة لإدارة المدن، ووضع الأنظمة الحديثة، وتحقيق المساواة بين السكان أمام القوانين، وإلغاء تمييز المسلمين عن النصارى، وتسليم هؤلاء الوظائف الحكومية. فبدا الحكم المصري في أعين السكان أفضل بكثير من الحكم العثماني، إلا ان نظرتهم إلى الحكم المصري ما لبثت أن تبدّلت بعد تبدّل السياسة المصرية إزاءهم، وتراجع إبراهيم باشا عن سياسة التساهل التي اتبعها، واحتكاره للسلع الضرورية، وعدوله عن تخفيض الضرائب ولجوئه إلى زيادتها، وإلى جمع السلاح، والتجنيد الإلزامي والسخرة. وقد عمد إلى ذلك ليلبي حاجات جيشه، وليؤمن المزيد من الموارد له، وليزيد من أعداده تحسّباً للمعارك المحتملة مع الجيش العثماني.
أثارت التدابير الجديدة المتخذة السكان، ضد الحكم المصري في مناطق متعددة من بلاد الشام. وما كانت الثورة تهدأ في مكان حتى تشتعل في مكان آخر، فيما كانت الدولة العثمانية تعمل على إذكاء نار هذه الثورات لإضعاف الحكم المصري، وإظهاره بمظهر العاجز عن تسيير أمور بلاد الشام تمهيداً لعودة سيطرتها عليها. وقد اشترك دروز صفد في الثورة التي قامت في فلسطين، فأدى ذلك إلى نزوح بين خمسمائة وستمائة عائلة منهم إلى جبل حوران (جبل العرب) حسبما ذكر فرديناند بيريه الذي كان مرافقاً لسليمان باشا الفرنساوي.

” تألم الشيخ إبراهيم الهجري لإهانة زعيم الدروز على يد شريف باشا فأطلق شرارة الثورة على إبراهيم باشا مردداً كلمته الشهيرة “ما لإبراهيم إلا إبراهيم” “

نزع سلاح دروز جبل لبنان وتجنيدهم
آنذاك إنقسم سكان المقاطعات اللبنانية إلى فريقين: فريق جلّه من المسيحيين، وعلى رأسه الأمير بشير الشهابي الثاني، رحّب بالحكم المصري، وساعده في إحتلال عكا، وفي السيطرة على بعض المناطق الشامية. وفريق آخر، جلّه من الدروز، وقف منه موقف الحذر والشك، مفضّلاً الدولة العثمانية عليه. ومع هذا قضت الضرورة بتعاون بعض الدروز مع الحكم المصري، ومنهم الأميران الأرسلانيان أمين ومحمد قاسم، والمشايخ حمود النكدي وحسين تلحوق ويوسف عبد الملك، الذين انضموا إلى قوات الأمير خليل، إبن الأمير بشير الشهابي الثاني، وساروا معه إلى طرابلس للمحافظة عليها، فيما كان سائر زعماء الأسر المقاطعجية الدرزية وبعض الأمراء الشهابيين ضد القائد المصري. وقد التحق فريق منهم بالقوات العثمانية المتقهقرة، ورضخ الباقون على مضض. لم ينسَ الزعماء الدروز ما فعله محمد علي عندما وقف مع حليفه الأمير بشير الشهابي الثاني في صراعه مع الشيخ بشير جنبلاط، وعندما أوعز إلى حليفه الآخر، والي عكا عبدالله باشا، بإعدام الشيخ بشير بعد هزيمته أمام الأمير والقبض عليه وسجنه في عكا.
بعد أن تمكن إبراهيم باشا من إخماد الثورات التي قامت ضده، عمد في سنة 1835 إلى تجريد سكان جبل لبنان من السلاح، وتجنيدهم إجبارياً في جيشه بعد أن كان قد أعفاهم من هذين الفرضين، بسبب كونهم تابعين لحليفه الأمير بشير، ولأنهم ساعدوه في بداية احتلاله وسيطرته على بلاد الشام. فعمد أولاً إلى تجريد الدروز من السلاح وتجنيدهم نزولاً عند طلب والده الذي رأى أن لا مفر من تجنيدهم أسوة بما جرى لغيرهم، “ولانه، بحسب رأيه، إذا بقيت اسلحتهم في ايديهم تكون خطراً على الأمن في البلاد” ولكي يسهل على إبراهيم باشا تنفيذ أمر والده وعد النصارى بالإستمرار في إعفائهم من التجنيد، وهدّد الدروز، عندما تردّدوا في ذلك، بتخريب بيوتهم وقطع ارزاقهم إذا لم يمتثلوا لأمره. فأوفد الأمير بشير أبناءه لجمع السلاح من الدروز، وقدم إبراهيم باشا إلى دير القمر ومعه سليمان باشا الفرنساوي وسليم باشا ومحمد باشا والأمير عباس الشهابي، وبضعة آلاف من الجنود، لنزع سلاح الدروز. فبدأ الدروز بتسليم سلاحهم تحت هذا الضغط العسكري، وما ان جرّدوا من السلاح حتى بدأ تجريد النصارى من ذلك في مخالفة من إبراهيم باشا لما كان وعدهم به.
كان تجريد دروز جبل لبنان من السلاح مقدمة لتجنيدهم الإجباري، فطلب إبراهيم باشا 1500 شاب منهم، فاعترضوا على مبدأ التجنيد وعلى ضخامة العدد، ولا سيما انه لم يسبق لهم أن قدّموا أبناءهم للخدمة العسكرية الإلزامية. وإزاء خشيتهم من مغّبة الرفض المطلق أبدوا استعدادهم لتقديم 540 شاباً على الا يختلطوا بمن هم من غير ملتهم، وأن يكونوا في فرق خاصة. وهكذا كان إذ تم تشكيل أربع فرق خاصة لكل منها أربعة بّواقين. ومما يجدر ذكره أن بعض أبناء الأسر الإقطاعية الذين خدموا في الجيش المصري انعم عليهم محمد علي باشا بلقب “بك” ، ومنهم المشايخ نعمان جنبلاط، وخطار العماد وناصيف نكد، الذين اكتسبت أسرهم لقب البكوية إضافة إلى لقب المشيخة.

في هذه الطبيعة الوعرة لمنطقة اللجاه كانت البد الطولي للموحدين الدروز إذ تمكنوا رغم ضعف تسليحهم من سحق الجيش المصري
في هذه الطبيعة الوعرة لمنطقة اللجاه كانت البد الطولي للموحدين الدروز إذ تمكنوا رغم ضعف تسليحهم من سحق الجيش المصري

مسألة نزع سلاح دروز جبل حوران وتجنيدهم
حُلّت مسألة نزع سلاح دروز جبل لبنان وتجنيدهم بالشكل الذي ورد ذكره. أما مسألة نزع سلاح دروز جبل حوران (جبل العرب)، وتجنيدهم، فقد كانت سبباً لثورتهم الشهيرة على الحكم المصري، وشاركهم فيها بعض دروز لبنان، ومنهم عشرات المقاتلين من جبل لبنان.
كان الدروز قد توطنوا في جبل حوران أواخر العهد المعني، بسبب الصراع الحزبي القيسي اليمني، الذي أذكت الدولة العثمانية نيرانه. وكان أول النازحين إليه الأمير علم الدين المعني، وفي احدى الروايات الأمير علم الدين اليمني. لكن هذا الأمير الذي قدم إلى جبل حوران في سنة 1685 مع 150 فارساً وعيالهم، لم يمكث فيه طويلاً، بل عاد إلى لبنان ليترك رئاسة النازحين للشيخ حمدان الحمدان الذي يعود إليه فضل تثبيت أقدام الدروز في الموطن الجديد، وتأسيس المشيخة الحمدانية التي استطاع الدروز في عهدها إعمار مناطق الجبل شبه الخالية من السكان، والصمود في وجه غزوات البدو، وبسط سيطرتهم على مناطق السهل المجاورة، والإشراف على طريق الحج، كما انهم قاموا بقيادتها بالثورة على المصريين.
عمد إبراهيم باشا في أواخر سنة 1837 إلى نزع سلاح دروز جبل حوران وتجنيدهم، لاتمام السياسة التي انتهجها مع سائر السكان، ولبسط سلطته على الجبل بعد ان غدا ملجأ للكثيرين من العصاة عليه، ومن الهاربين من الضرائب الباهظة ومن التجنيد الإلزامي، فطلب من شريف باشا، حكمدار بلاد الشام، تنفيذ أوامره، فاستدعى هذا شيوخ جبل حوران وعلى رأسهم الشيخ يحيى الحمدان إلى اجتماع، وقد لبّى الشيوخ دعوته وحضروا إلى دمشق، فطلب منهم تقديم 170 شاباً للخدمة الإلزامية. لكن الشيخ الحمداني ألحّ عليه بإعفاء قومه من ذلك، لأنهم على تخوم البادية، ومعرّضون دائماً لغزوات البدو، لذا يصبح وجودهم مهدّداً بغياب أبنائهم عنهم. وتعهد بدفع المزيد من الضرائب مقابل ذلك، وهو ضريبة مئتي فدّان. لكن شريف باشا لم يحتمل الحاحه وأساء إليه. ولتوضيح ما جرى بينه وبين الشيخ المذكور، ولتحديد نوع الإساءة التي وجهّها إليه، وردة فعل دروز الجبل على ما جرى، ننقل ما دوّنه الرئيس الروحي الشيخ حسين إبراهيم الهجري الذي كان قريباً من الحدث، والذي سيكون شاهد عيان للمعارك التي دارت بين الدروز والحملات المصرية، والتي وصفها في مخطوطة “قصة اللجاه”.
يذكر الشيخ حسين إبراهيم الهجري ان شيوخ الجبل رجوا الوزير شريف باشا إعفاءهم من التجنيد فزاده ذلك إصراراً عليه، وتهديداً لهم وغضباً عليهم “عندها لجّ بالرجاء من أجل هذا الشأن من أخذته الغيرة على العيال والبلدان الشيخ يحيى الحمدان، فعند ذلك مشى الوزير بنفسه إليه، وقيل إنه صفعه بيده على خديه، وغضب غضباً شديداً عليه حتى دخل بقلب المذكور الجزع والذعر والخوف مما رآه. ثم خرج الجميع من عنده وهم خائفون، وفي أمورهم وتدبيرهم متحيرون، ولما وصلوا إلى البلاد إستدعوا كل ذي لب وعقل وعماد، وعرّفوهم مراد الدولة، ثم إجتمعوا بالشخص القويم الشيخ أبو حسين إبراهيم الهجري وأعلموه بهذا الشأن الجسيم، ثم أنهم لا يزالون في ما بينهم بالمخابرة والتفقّه والمشاورة. فبعضهم أمّموا على الفرار والهرب، وبعضهم أمّموا على الشدائد والقتال والحرب، وبعضهم أمّموا على أداء المراد والطلب خوفاً واحتساباً من عواقب الأمور والعطب”.
والروايات في جبل حوران عن الثورة كثيرة، ومنها ان الشيوخ الذين قابلوا شريف باشا عقدوا عند وصولهم إلى الجبل إجتماعاً في السويداء، وتداولوا في ما جرى وفي ما عليهم أن يفعلوا. وقبل أن يتخذوا القرار النهائي أوفدوا الشيخ حسين أبو عساف والشيخ حسين درويش إلى الرئيس الروحي الشيخ إبراهيم الهجري، ليقفا على رأيه، نظراً إلى مكانته السامية عندهم، ولثقتهم بحكمته وسداد رأيه. فأجاب الشيخان انه متألم جداً لإهانة الشيخ يحيى الحمدان، رافضاً كلياً لمبدأ التجنيد، وانه موافق على الثورة ضد المصريين، ومستعد للاشتراك في القتال. ومما يروى عنه قوله: “ما لإبراهيم الا ابراهيم”. نقل الشيخان المذكوران موقف الشيخ إبراهيم إلى أعيان الجبل فصمّموا على الثورة، وعلى الهجيج إلى اللجاه. والهجيج هو الرحيل مع العيال والمواشي وما يمكن حمله من المؤونة والعلف إلى أحد المكانين التاليين: الصفا في شرقي الجبل، واللجاه إلى الجنوب الغربي منه ، وكلاهما ذي مناعة طبيعية توفر الحماية المنشودة. واللجاه مسماة عند دروز حوران “ الوعرة” لوعورتها. وهي صحراء صخرية مكونة من مقذوفات البراكين التي تجمّدت في اعوجاجات عميقة، وممرات ملتوية وضيقة، ومليئة بالمغاور والكهوف التي تشكّل أفضل ملجأ طبيعي، لصعوبة الوصول إليها. وقد انشدت نساء دروز جبل حوران عن الهجيج، ابان الثورة على إبراهيم باشا ،البيت التالي:
بـــــــــــرهوم ويـــــش لــــــــك عندنـــا حــــــــــــوران والـــــــــوعره لــــــــــــنا
إن إقدام دروز حوران على الثورة واستعدادهم لمقاتلة الجيش المصري الذي عجزت عن الصمود في وجهه جيوش الدولة العثمانية، مثال على جرأتهم واستسهالهم للقتال، وتفضيلهم أمراً مّراً على أمر اكثر مرارة، وهو افضل دليل على مدى كره الناس للخدمة الإلزامية التي فرضها المصريون، بحيث كان جنودهم يضطرون إلى الحيلة لتجنيد الناس، وذلك بمداهمة المتجمعين في الأسواق أو في مناسبات الأعياد، والقبض عليهم، وسوقهم إلى الجندية.

قرية صميد بالقرب من السويداء شهدت موقعة تكبد فيها الجيش المصري خسائر فادحة
قرية صميد بالقرب من السويداء شهدت موقعة تكبد فيها الجيش المصري خسائر فادحة

بداية الثورة وحملة علي آغا البصيلي
يذكر جالياردو، رئيس الأطباء الذين رافقوا حملة إبراهيم باشا على الجبل سنة 1838، ان شريف باشا أرسل إلى السويداء قاعدة الجبل حوالي 120 فارساً يحملون الأصفاد التي سيقيّد بها المجندون. وما كاد هؤلاء يستقرون فيها حتى لاحظوا صعوبة تنفيذ أوامره، فعادوا تحت جنح الظلام إلى دمشق وأخبروه بخطورة تنفيذ الموقف. فأرسل حوالي 400 فارس غير نظامي، بقيادة رئيس الهوّارة علي آغا البصيلي، ليقابل الشيخ يحيى الحمدان، وليتسلّم المائة والسبعين شاباً. نزل القائد في قرية “الثعلة” الواقعة إلى الغرب من السويداء، وبدأ مع الدروز مفاوضات تفتقر إلى الثقة وتتسم بالخداع والتهويل، مستهدفاً منها استدراجهم وإخراجهم من اللجاه ليسهل عليه ضربهم كما جاء في “مذكرات تاريخية” لمؤلف مجهول عايش الحدث، ولكنهم، وحسبما جاء في هذه المذكرات: “كانوا أمكر منه” ولم يقعوا في الفخ الذي نصبه لهم، إذ سبقوه في توجيه الضربة، وهاجموه ليلاً، وأجهزوا على جنوده، ولم ينجُ بنفسه إلا بكل صعوبة. وكان من القتلى عبد القادر آغا أبو حبيب متسلم حوران سهلاً وجبلاً. ولم يسلم من حملة البصيلي سوى ثلاثين نفراً ، فيما فقد الدروز ثلاثة عشر رجلاً من بينهم الشيخ إبراهيم الأطرش، عم الشيخ إسماعيل مؤسس الزعامة الطرشانية، وقد تعقب إبراهيم مع فرسان الدروز الجنود الناجين الهاربين من الثعلة وقتلوا بعضهم.
يسمي دروز جبل حوران المواقع الحربية بالأسماء التالية: كون – شر- يوم – ذبحة ويسمّون ما جرى في الثعلة مع علي آغا البصيلي “ذبحة الثعلة” أو “ذبح البصيلي”. وبعد هذا ستتابع المعارك وستزداد الأسماء المذكورة، وأبرزها يوم بصرى- يوم براق- يوم القسطل- يوم لاهثة – يوم الصورة الكبيرة- يوم جب النعام- يوم صميد- يوم الكسوة. وكما كانت خسائر الدروز قليلة في “ ذبحة الثعلة “ وخسائر المصريين كثيرة، هكذا كانت خسائرهم وخسائر المصريين في معظم المعارك التي وقعت، ذلك أن خسائر المصريين الكبيرة جداً قياساً إلى خسائر الدروز مع انهم الأكثر عدداً وتنظيماً وتسليحاً، تعود إلى الشجاعة التي إتصف بهم الدروز عبر تاريخهم, وتعود إلى جهل المصريين لأراضي جبل حوران، وخصوصاً اللجاه، وتهوّرهم وتسرّعهم للدخول إلى اللجاه، واستهانتهم بعدد الدروز القلائل، وركونهم إلى الإنتصارات الباهرة التي حققوها على الجيوش العثمانية.

حملة محمد باشا
إنتهى إلى الوزير شريف باشا نبأ الكارثة التي حلّت بحملة علي آغا البصيلي، فسارع إلى إعداد حملة تثأر لذلك وتنفذ أمره بالتجنيد، بقيادة محمد باشا مفتش الجيش المصري، عددها ثمانية آلاف جندي، وفي المراجع الدرزية أثنا عشر الف جندي، ومعهم سلاح المدفعية. وعند وصولها إلى بصرى الحرير، الواقعة في سهل حوران على الطريق إلى السويداء، هاجمها الدروز، واستبسلوا كعادتهم في القتال، لكنهم انهزموا حين بدأ قصف المدفعية التي لم يتعودوا على قتالها. واغتنم محمد باشا تضعضعهم وانهزامهم، فأطلق عساكره لعدة أيام تفتش القرى، وتنهبها، وتجمع المواشي، ثم لحق بالثائرين إلى داخل اللجاه، لاعتقاده أنهم ما عادوا قادرين على متابعة القتال، ولجهله طبيعة ارض اللجاه، وكان ذلك خطأ بالغاً منه.
كان الدروز آنذاك متجمّعين في قرى داما والخرسا وصميد وعاهره (عريقة اليوم). وحين وصل الجند إليهم تخلّوا عن قريتي عاهره والخرسا، وإنشغلوا بنقل عيالهم وغلالهم ومواشيهم إلى أماكن اكثر أمناً في اللجاه، فيما كان الجند يتعقبونهم ويقتلون العجزة منهم ويسلبون ما يصادفونه من المواشي. أما قرية صميد، فقد كان الشيخ إبراهيم الهجري موجوداً فيها مع أربعين مقاتلاً، فناوشوا الجند لبعض الوقت، وأخّروا تقدمه. وما ان وصل الثوار في تقهقرهم إلى حيث تجمعت نساؤهم وأطفالهم، حتى قابلتهم النساء بالزغاريد وهتافات التشجيع، فارتدوا على الجند ليدافعوا عن أعراضهم، واستبسلوا في الدفاع عن عيالهم، وأجبروا الجند على التقهقر وقتلوا معظمهم ومن بينهم قائد الحملة محمد باشا ، وأيوب بك (امير اللواء) وأربعة عشر ضابطاً، فيما خسروا أربعة عشر نفراً وكان من أسباب انتصارهم انضمام المتطوعين الدروز في الجيش المصري إليهم.

” ثورة دروز حوران على الجيش المصري الذي قهر جيوش الدولة العثمانية، مثال على جرأتهم واستسهالهم للقتال، وتفضيلــــهم الموت على النيل من كرامتـــــــهم  “

محمد-علي-باشا-في-أوج-سلطانه
محمد-علي-باشا-في-أوج-سلطانه

حملة أحمد منيكلي باشا
لما بلغ شريف باشا خبر الكارثة الثانية التي حلّت بالجند المصري، جمع ما عنده من العساكر، وما تبقى من فلول حملة محمد باشا، وأمده إبراهيم باشا بجيش يقوده وزير الحربية، احمد منيكلي باشا، وعدده أربعة آلاف جندي، فأصبح المجموع عشرين ألفاً (في المراجع الدرزية أربعة وعشرون ألفاً)، وبعد ان تجمعت هذه الحملة في قرية تبنه الواقعة في سهل حوران على تخوم اللجاه، والمتخذة نقطة عسكرية، توجّهت إلى داخل اللجاه، وسارت يوماً كاملاً فيه دون أن تصادف الثائرين الذين لم يعلموا بتحركاتها إلا في المساء، من قبل العربان الذين كانت بعض قبائلهم تساعدهم، فعقدوا إجتماعاً برئاسة الشيخ يحيى الحمدان وحضور الشيخ إبراهيم الهجري الذي كان يشدّد العزائم، ويقوّي إرادة الصمود، ويحث على مواصلة القتال وعلى الاستبسال، وحضور شبلي آغا العريان زعيم راشيا الذي انضم الى الثوار.
قرّر الدروز في إجتماعهم العاجل كيفية مجابهة الحملة الجديدة، فسار خمسمائة رجل منهم لقتالها، وانقسموا الى ثلاث فرق: فرقة ظاهرة، وفرقتان مختبئتان خلف الصخور. وحين بدأت المعركة في صباح اليوم الثاني انهزموا بسبب تفوق الجند عليهم بالعدد والسلاح، لكنهم في تقهقرهم ظلوا يناوشون الجند ويطلقون النيران عليهم من خلف الصخور التي تشكل لهم استحكمات طبيعية. ولما وصلوا في إنهزامهم إلى عيالهم صاحت النساء بالزغاريد وبعبارات التنخية وبمناشدة “ النشامى”، فأعادوا الكرّة على الجنود حتى أوقفوا تقدمهم ثم اضطرّوهم إلى الإنهزام، فتشتتوا وتعقبوا فلولهم المهزومة التي لا تلوي على شيء والتي تجهل طريقاً تسلكه حتى صار الرجل حسبما جاء في “قصة اللجاه” الوارد ذكرها، يحوز من المصريين مائة رجل، ويسلبهم سلاحهم ومالهم. وقد غنم الدروز الكثير من الأسلحة والذخائر، ولم يفقدوا في هذه المعركة الظافرة سوى 25 قتيلاً فيما كانت خسارة عدوهم اكبر خسارة نزلت به في معاركه معهم وهي مئات القتلى، واضعاف ذلك من الجرحى من بينهم أحمد منيكلي باشا وتُعرف هذه المعركة بيوم القسطل وقد جرت في غربي اللجاه .
كان الرئيس الروحي لدروز جبل العرب، الشيخ أبو علي قسّام الحنّاوي من ابرز المقاتلين، وشاهد عيان لما جرى، فوصف في قصيدته المطوّلة، البالغة 111 بيتاً، معظم المعارك، وسمىّ قادة الحملات المصرية الاربع، وبعض من قتلوا وجرحوا منهم، وافتخر بتاريخ الدروز وامجادهم وصنائعهم في قتال المصريين والعثمانيين، وهذه مقتطفات منها:
ومن بعدها إبراهيـــــــم باشـــــــا ركـب
عليـنا وجــرّد علينــــــا عســكـرا جــــرّار
أول فتـوح الشــر ذبــح البصيلــــــــــي
اجـا خمـس مية حصان بفرد نهـــــــــار
من بعدهـا جهّــــــز وزيــــــرو محمــد
باشــــا كيــــــــــوداً حربـــــجـي قهّــــــــار
دخل للجاه زاحــف بجيش عرمـــــرم
ونحنــــــا قلايــــــــل مــــــــا يـــزود كـثــار
نطحناه ونتناخى وتبكـي حريمنـــــــا
وصـــــــار المـعـــــارك والفـرنجـي ثــــــار
جانـــــا ابو ابراهيم فـازع بعـزمــــــــــه
وسيفو بشـــــوف العـين يلهـــــــب نــــــــار
وصحنا كما تهدر اسـود الضــراغم
عَ القـــــوم في البلطــــــات والـبتـــــــــــــّار
ذبحنـا الوزير وكل ضبّـاط عسكـرو
وثلثين جيــــــــشـو راح قصــف عمـــــــار
ومـن بعـد ذا جانا شريفـاً واحمـد
باشـــــــــــوات يتكنّـــــو لأخــــــــــذ الـثـــــار
فاتـوا علينـا للمنـــــــــاره ورتّـــــبــوا
الآيــــــات في ضـــــرب الكـــلل والـنــــــــار
وبارودهم مثل الرعود القـواصــف
بيـــــوم عظيـــــم الهــــــول والأخطـــــــــار
ما ظن لا هولاً ولا يــــــوم أعـظـــم
يشبـــه لصفّيــــــن وليــــــــوم ذي قـــــــار
ومحاربتنـا وسط غابــة اســـــــودنا
يا بئــــــس شــــــوّار عليــــــهــم شــــــــــــــار
فهـذي قلعتنـــــــا وهـذي لجاتنـــــــــا
وتـربـــــــة عـدانــــا ومـن دخلـــها حــــــار
حملنا عليـهـم كالاسـود القســاور
ووثبــــــة ضــــــراغـم مثلــــها ما صــــــار
أخذنا المدافـع والجباخانـات والذخر
والذبــــــح ما يحصـــــى لـه مقــــــــــــدار
وأحمد باشا راح محمول فـي نعــش
وطيـفــــــور بـــــــــــك ومثلـــــــــــهـم وزّار
وبرج الغضـــــب جانـا ابـراهيـم باشـا
بالأرنـــــــاؤوط والتـــــــرك والبلغــــــــــار
ونصب عراضي الجيش في ديار اللجاه
وضيـق عليـنــــــا الظــــالم القهّـــــــــــــــار
علـى سـاق قام الحرب يوما فيومـا
وخيـــــل الهنـــــادي كـــــــــل يـوم تغــــــار
وستـين كـون نقابلـو ومـا نهابـــــــو
ونكســــــر جيوشـــــو بقــــــــــوة المختـــــار
وسبعيـن الـف فقـد من عساكـــــرو
اصلــــــح وصالحنـــــا وفــــات الثــــــــــــار

حملة إبراهيم باشا
قلقت حكومة محمد علي من هذه الهزائم المتتالية، وخشي إبراهيم باشا من تفاقم أمر ثورة الدروز، واحتمال امتدادها إلى سائر المناطق الدرزية، وخصوصاً بعد ظهور ملامح الثورة في سفحي جبل حرمون، وخشي إستغلال الدولة العثمانية لفرصة انشغاله في إخمادها، واحتمال قيام الدمشقيين بالانتفاضة عليه بعد ان أظهروا الشماتة بإنهزامات جنوده، وبعد أن اتصل الدروز بهم وحرّضوهم على الثورة، فصمم إبراهيم باشا ان يقود بنفسه حملة كبرى تخضع الجبل الثائر ليعمَّ الهدوء جميع مناطق بلاد الشام. وقد جاء في المحفوظات الملكية ان محمد علي رأى وجوب الإسراع في قمع الثورة الدرزية، لئلا يؤدي استمرارها الى استفزاز الآستانة.

” مئات من المقاتلين والفرسان الدروز يهزمون حملة من 24 ألف جندي مصري مجهزين بالمدفعية ويقتلون قائدها وضباطها ويغنمون أسلحتها وذخائرها  “

حملة إبراهيم باشا تصل إلى مشارف أضنة وتهدد الدولة العثمانية
حملة إبراهيم باشا تصل إلى مشارف أضنة وتهدد الدولة العثمانية

” دروز جبل لبنان يهبّون لنصرة ثورة إخوانهم على إبراهيم باشا في وادي التيم بقيادة الشيخين حســـن جنبلاط وناصر الديــن العمـاد  “

وارسل محمد علي إلى إبنه إبراهيم نجدات كبيرة من مصر، واستقدم مصطفى باشا من كاندى مصطحباً ألفي الباني، واستحضر إبراهيم باشا قوات عديدة من بلاد الشام دون ان يخلي الحدود الشمالية من الجند تحسّباً لأي هجوم طارئ من الدولة العثمانية. وبلغ مجموع الحملة التي اعدها أكثر من عشرين الف مقاتل، وكانت تضم نخبة الضباط مثل سليمان باشا الفرنساوي ومصطفى باشا، كما تضم أفضل الجنود المدرّبين على حروب الجبال والأماكن الوعرة كالألبان وسواهم.
إنتقل إبراهيم باشا إلى اللجاه ليختبر بنفسه أرضها ومسالكها وأماكن مياهها. وبعد أن دار حولها وقع اختياره، بالاتفاق مع سليمان باشا، على خطة تقضي بتجنب مقاتلة الدروز داخل اللجاه على قدر الإمكان، وبمنع خروجهم منها، وبإقامة معسكرات حولها من ناحية الغرب، وبمنع إقتراب الدروز من ينابيع المياه.
هاجم الدروز قوات إبراهيم باشا في قرية “الصورة الكبيرة” عند تخوم اللجاه، لكنهم لم يستطيعوا التغلب عليها بالرغم من الخسائر التي انزلوها بها، كما لم يستطيعوا فك الحصار المفروض عليهم، لكنهم تمكنوا في البداية من منع توغل القوات المصرية في اللجاه، ومنعها من السيطرة على نبع ماء يستقون منه حيث دارت معركة كبيرة كانت خسائر المصريين تفوق بكثير خسائرهم، وجاء في وصفها في “مذكرات تاريخية” بالقول: إن العسكر كان يخب في الدم والقتلى إلى الركبة”.
وبقدر ما كانت قوات إبراهيم باشا كبيرة، بقدر ما كانت بطولات الدروز وتضحياتهم في التصدّي لها كبيرة ايضاً، وبرز منهم الأبطال الذين خلّدت الذاكرة الشعبية اسماءهم، مثل اسماعيل الأطرش، وحسين ابوعساف، وحسين درويش، واحمد جربوع، كما اعتمدوا بعض الخطط الحربية التي تدل على مقدرتهم في مواجهة الأخطار والتحديات الطارئة. ومن ذلك طريقة إستعادة مواشيهم المسلوبة من قبيلة اغتنمت وجودهم على الجبهة مع جنود إبراهيم باشا، فغزتهم وسلبت مواشيهم، ذلك انهم حين علموا بذلك عمدوا الى اشعال النار لإيهام الجنود المصريين انهم لا يزالون في مواقعهم وسارعوا الى اللحاق بالقبيلة الغازية وهاجموها وانتصروا عليها، واستعادوا مواشيهم .

ومن خطط الدروز الحربية ايضاً انقسام مشاتهم الى فرقتين خلال انسحابهم الى داخل اللجاه أمام إحدى الحملات المصرية: فرقة تتمركز خلف الصخور وتطلق النار، وفرقة تحشو البنادق وهي تجري، وحين تنتهي الفرقة الاولى من اطلاق النار تسارع لتحل مكان الفرقة الثانية التي تأخذ دورها ، فيما كان الفرسان يؤمنون الحماية للفرقتين ويشاغلون العدو بنيرانهم. وما زالوا على هذه الحال حتى بلغوا المكان الآمن، وارتد الجند عنهم بعد ان انزلوا فيه الكثير من القتلى والجرحى.
كان الدروز يعرفون الجنود المصريين حين يلفظون حرف “الجيم” في الكلمات، فيعاملونهم بأقسى ما يعاملون به سائر المجّندين الذين سيق بعضهم قسراً الى قتالهم. ولكثرة ما لاقى الجنود المصريون من الاهوال في قتال الدروز ظلت كلمة “درزي” لمدة طويلة تثير في نفوس المصريين النفرة والجزع، وكثيراً ما استعملوها في معرض الشتيمة.

توسّع الثورة وانتقالها إلى وادي التيم
عمد الدروز على أثر انتصاراتهم الأولى إلى إثارة الدمشقيين، فارسلوا، بواسطة شيخ قرية الهيجانة الرسائل إلى مفتي دمشق، وشمدين آغا احد أعيان أكراد الشام، والبوظلي في حي الميدان. وقام في الوقت نفسه بعض دروز غوطة دمشق بقطع الطريق بين بيروت ودمشق، واخذوا يؤلّبون سكان القرى للهجوم على ثكنات الجيش، وإطلاق سراح المجنّدين من أبنائهم. لكن متسلّم الشام حافظ بك عمد إلى الشدة، وأعدم كل مشتبه به. وعن هذا جاء في “مذكرات تاريخية” انه اخذ يعدم كل يوم أو يومين ثلاثة أشخاص من الدروز، فلما رأى أهل البلد ذلك رجعوا عن غيهم حالاً.
كان بعض دروز لبنان يناصرون اخوانهم الثائرين في جبل حوران، ومن أبرزهم شبلي العريان الذي حضر بعض معارك اللجاه، والذي عاد من هناك ليضرم الثورة في سفحي جبل حرمون من أجل تخفيف وطأة الحصار المفروض على الثائرين في اللجاه. فهاجم مع دروز سفح حرمون الشرقي قافلة مصرية في سعسع، وقتل افرادها، ثم انتقل إلى راشيا وهاجم سراي الحكومة فيها، وقتل متسلمها، وأثار إعجاب أهل راشيا، فانضم إليه عدد كبير من رجالها، وبذلك بدأت الثورة في وادي التيم، والتحق بها قوم من العرب والشيعة الهاربين من الجندية الإلزامية، كما التحق بها عشرات المقاتلين من دروز جبل لبنان.
حين علم إبراهيم باشا بأمر الثورة في راشيا ركّز على إنهائها بسرعة قبل أن يستفحل أمرها، وتمتد إلى جبل لبنان نظراً إلى تعاطف دروز الجبل مع اخوانهم الثائرين، فأرسل إلى راشيا حملة من ألف جندي مزودين بالمدفعية، وما ان وصل هؤلاء حتى هاجمهم الثوار واضطروهم إلى اللجوء إلى قلعة راشيا، ثم اضطروهم إلى الخروج منها والفرار في سهل البقاع حيث تعقبوهم وقتلوا العديد منهم، كما أنهم هاجموا رجال المدفعية الذين تمركزوا في التلال المشرفة على راشيا، واستولوا على ما عندهم من مدافع وذخائر.

الدولة المصرية في عهد محمد علي باشا 1805-1840
الدولة المصرية في عهد محمد علي باشا 1805-1840

” الدروز الذين يعيبون على إبراهيم باشا ردم عيون المياه وتسميمها، ومحاولة إبادتهم عطشاً، يتذكرون منه مأثرة عدم السماح لأي من جنوده بالإساءة إلى النساء  “

لم يكتفِ إبراهيم باشا بالإعتماد على جنوده في انهاء الثورة في وادي التيم، بل إنه إستنجد بحليفه الأمير بشير الشهابي الثاني الذي بات مطواعاً له ينفذ جميع طلباته، وبات حاكماً على جبل لبنان بالإسم. لقد طلب أن يمدّه الأمير بالرجال فأرسل الأمير ولده خليل على رأس قوة من نصارى جبل لبنان، فقاتل هؤلاء الثائرين الدروز في وادي التيم، وساهموا في إنهاء ثورتهم. ومن الطبيعي أن يتوجه دروز جبل لبنان لنصرة إخوانهم في وادي التيم، وقد فعل ذلك العشرات منهم بقيادة الشيخين حسن جنبلاط وناصر الدين العماد، ولكنه من غير الطبيعي أن يتوجه نصارى جبل لبنان لنصرة حاكم غريب وقتال مواطنيهم وجيرانهم، فهذا خطأ جسيم ارتكبه الأمير بشير مبرهناً به عن عدائه للدروز، ومساهماً في زرع بذور الفتنة التي قامت في اواسط القرن التاسع عشر بين الدروز والنصارى.
إنتقل إبراهيم باشا إلى وادي التيم، وبلغ عيحا الواقعة إلى الشمال من بلدة راشيا، وهناك دارت بينه وبين الثوار معركة لم يستطع فيها حسم الأمر لمصلحته، ثم لجأ إلى الخديعة والدهاء الحربي، فأوعز إلى أحد جواسيسه أن يشيع خبر ورود قافلة مصرية تنقل اسلحة وذخائر من دمشق إلى الجيش المصري في عيحا. فعلم الدروز بذلك وصدّقوه، وانطلت الحيلة عليهم، ووقعوا في الفخ، إذ ان القافلة المذكروة كانت حملة يقودها مصطفى باشا للالتحاق بإبراهيم باشا الذي اعد خطة محكمة لتطويق الثوار بالحملة المذكورة وبقوة يقودها بنفسه، إذ حين هاجم الدروز القافلة في وادي بكّا وقعوا في الفخ الذي نصبه لهم دهاء إبراهيم باشا، فكانت مقتلة كبرى منهم ولم يسلم من عشرات المقاتلين الا عدد قليل، بالرغم من تفانيهم واسبتسالهم في القتال حتى قاتلوا أخيراً بالسلاح الأبيض. وقد سميت هذه المعركة “معركة الاخوة “ لكثرة الأخوة من الدروز المشتركين فيها.
كانت معركة وادي بكّا ضربة قاصمة للثورة في وادي التيم، لكن ثواره لم يستسلموا، بل لجأوا بقيادة شبلي العريان إلى جنعم، وهناك تعقبتهم ثلاث حملات مصرية، أولاها بقيادة إبراهيم باشا وثانيها بقيادة الأمير خليل الشهابي، وثالثها بقيادة مدير ايالة صيدا. وبعد عدة معارك كانت آخرها معركة شبعا ضد قوات إبراهيم باشا حيث نهب جنوده كتب الدروز الدينية من خلوات شبعا، اضطر الثوار إلى عرض استسلامهم على إبراهيم باشا شرط العفو عنهم، فقبل بذلك متوسّلاً منه ومن تساهله اغراء دروز جبل حوران بالتسليم. وما لبث شبلي العريان الذي حيّر الجند واتعبه في تعقبه ان سلم نفسه، وقام بألعاب فروسية في سهل جديدة يبوس أمام إبراهيم باشا الذي أعجب به وعفا عنه.

” شبلي العريان الذي حيّر الجند المصري وأتعبه يسلّم نفسه ويقوم بألعاب فروسية في سهل جديدة يبوس أمام إبراهيم باشا الذي أعجب به وعفا عنه  “

 شبلي العريان الذي حيّر الجند المصري وأتعبه يسلّم نفسه ويقوم بألعاب فروسية في سهل جديدة يبوس أمام إبراهيم باشا الذي أعجب به وعفا عنه
شبلي العريان الذي حيّر الجند المصري وأتعبه يسلّم نفسه ويقوم بألعاب فروسية في سهل جديدة يبوس أمام إبراهيم باشا الذي أعجب به وعفا عنه

نهاية الثورة في جبل حوران
إنحصر القتال بين دروز حوران وبين القائد المصري حول ينابيع المياه، إذ كان لا يمضي يومان أو ثلاثة إلا وتقع معركة على أحدها. وأخيراً نجح القائد المصري في إحكام سيطرته على جميع مراكز المياه، وردم بعضها، وسمّم البعض الآخر بالرغم من احتجاج الطبيب كلوت بك، ومعارضته لهذا العمل اللا إنساني، وكان يرمي الجاز والسموم والجيف والأقذار في المياه حتى لم يعد هناك نبع صالح يشرب منه الدروز وحيواناتهم في صيف 1838، وهي الفترة التي يشتد فيها الجفاف. وإزاء ذلك كله اضطر الدروز إلى التفاوض لإلقاء السلاح، فدارت المفاوضات حول إنهاء القتال، لكنها فشلت في البداية، لأن علي آغا البصيلي، المفاوض عن القائد المصري، اشترط ان يسلّم الدروز جميع الأسلحة، بما فيها أسلحتهم، بينما قبلوا بتقديم الأسلحة التي كسبوها من المصريين، واصروا على الاحتفاظ بسلاحهم. وأخيراً تساهل إبراهيم باشا بالأمر فقبل بتسليم الدروز الاسلحة التي غنموها فقط، فسلموا اليه سبعمائة بندقية، واحتفظوا بسلاحهم كما انهم استحصلوا على إعفاء من التجنيد الإجباري الذي كان سبب ثورتهم. أما تساهل إبراهيم باشا، فيعود إلى رغبته في إنهاء ثورة سببت له المتاعب، وأنزلت بجنوده الخسائر ورغبته في التفرغ لمواجهة الخطر العثماني الذي يهب عليه من الحدود الشمالية.
تجدر الإشارة أخيراً إلى ان الدروز الذي يعيبون على إبراهيم باشا ردم عيون المياه وتسميمها، ومحاولة إبادتهم عطشاً، يتذكرون منه مأثرة عدم السماح لأي من جنوده بالإساءة إلى النساء. كما تجدر الإشارة إلى انهم، بالرغم من اضطرارهم اخيراً إلى الاستسلام حققوا الهدف الذي ثاروا من أجله وهو الاحتفاظ بسلاحهم، وعدم تجنيد شبابهم في الخدمة الإلزامية، وهم بناءً على ذلك يفتخرون ببطولاتهم في هذه الثورة كما في سائر المراحل الجهادية، ويفتخرون بما فعلته نخبة أبطالهم، وبأنهم استطاعوا بأعدادهم القليلة مواجهة الجيوش النظامية المجهزة بالمدفعية، والتغلب عليها، ما جعل السائح الأميركي رسل ريزنغ يقول فيهم: “ متى سلّت السيوف من الأغماد كان الضاربون بها أصلب قوم في غربي آسيا: إنهم “الدروز”، حتى ان زهرة الجيش المصري انكمشت وانهزمت في وجه تلك السواعد التي لا تلوى”.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading