كان والد جبران خليل بن مخايل بن أسعد بن يوسف بن جبران أشقر البشرة أزرق العينين، قوي البُنية، يملك مزرعة مرجحين قرب الهرمل.
لما بلغ هذا الرجل السابعة والثلاثين من العمر تزوّج أرملة تبلغ السابعة والعشرين تدعى كاملة رحمه. تُوِّجَ هذا الزواج بولادة الأديب جبران خليل جبران ثم شقيقتاه مريانا وسلطانة. غير أن الأب خليل كان يفضل بطرس ابن زوجته من زوجها الأوّل على فلذة كبده جبران، ليس لشيء وإنّما لكون بطرس يطيع زوج أمه ويساعده في حرث الأرض وخدمتها على عكس أديبنا جبران إذ يفضّل جُلّ أوقاته في التصوير والرّسم والأحلام. أمّا أمه كاملة فكانت سمراء رشيقة ذكية جداً وجذّابة، وُلِدت في بْشرِّي وماتت في بوسطن.
تزوجت في صباها ابن عمها حنّا عبدالسلام رحمه فأنجبت منه ولدها بطرس وعند وفاته عادت إلى لبنان لتتزوج من يوسف سلامة جعجع، لكن هذا الزواج لم يعمّر طويلاً (أقل من شهر)، ويوماً وهي تشتري من دكان للعقاقير مرهماً لأصبعها المجروح التقت بزوجها الأخير خليل جبران وهو يدخّن سيجارته فأعجبتها أناقته وتبادلا النظرات كون الأخير قد عشقتها أذناه قبل عينيه لأنه سمع صوتها يوماً وهي تغني في أحد أعياد القرية.
هذا الإعجاب المتبادل انتهى وتكلّل بزواج خليل وكاملة، هذا الزواج وصفته كاملة «بصرعة غرام». هذان الشخصان ساهما بقسط وفير وكبير في تكوين أديبنا الكبير جبران أخلاقيّاً وأدبيّاً ونفسيّاً، حيث قال الأديب جبران لعشيقته مَيّ زيادة في إحدى رسائله: ورثت عن أمي تسعين بالمئة من أخلاقي وميولي، وإنني أذكر قولها لي مرة وقد كنت في العشرين من العمر:
– «لو دخلتُ الدّير لكان أفضل لي وللناس».
– «ولو دخَلتِ الدير لما جئت أنا»، أجابها جبران.
– «أنت مُقدّر يا بني في هذه الحياة»، أجابته والدته.
– «نعم ولكن قد اخترتك أمّاً قبل أن أجيء بزمن بعيد»، عقّب جبران.
– «لو لم تجئ لبقيتَ ملاكاً في السماء».
– عقّب جبران: «ولم أزل ملاكاً».
فتبسّمت والدته وقالت: «أين جوانحُكَ؟»
أجاب جبران بعد أن وضع يدها على كتفيه قائلاً: «هنا». قالت: «إنها مُتَكسّرة».
ومن هذه الكلمة غُزِلت ونُسِجَت حكاية الأجنحة المُتَكسرة لجبران خليل جبران.
“من لم يهزّه الرّبيع وأزهاره والعودُ وأوتارهُ فهو فاسدُ المزاجِ وليس له علاج.”
الإمام الغزالــــي
يقول الأديب ميخائيل نعيمة عن صديقه جبران في كتابه الذي يحمل اسمه: «كان جبران يلعب خلف البيت عندما رأى رجلاً غريباً يسوق بغلاً عليه (قربتان) وينادي (زيت حلو) أي زيت زيتون، فأطلّت من باب بيتها عجوز في يدها سبحة طويلة وسألت الرجل أن يذيقها زيته، ففعل. وبعد جدال عنيف اتّفقت وإيّاه على السّعر ثم دخلت البيت وعادت بزجاجة فارغة وقالت لبائع الزيت أن يكيل لها ثلاثة أواق. لكن عندما سألته عن دينه وأجابها إنه مسيحيّ ومذهبه أرثوذكسي أدارت في الحال ظهرها عنه وعادت بزجاجتها الفارغة إلى بيتها وأقفلت الباب وراءها بعنف وهي ترسم علامة الصليب وتتمتم بكلمات مبهمة. بعد قليل كان جبران بجانب أمه يسألها:
– «ما هو ديننا يا أمي..؟».
– «نحن موارنة يا بُنَي».
– «ومن هم الروم؟».
– «هم نصارى مثلنا».
– «ولماذا اسمهم روم واسمنا موارنة؟».
– «عليك أن تسأل الخوري يا بُني فهو ينبؤك أفضل مني».
– «وهل يخنقنا الرب إذا اشترينا زيتاً من رجل روم؟».
– «كلّا يا بني..».
يستخلص جبران في قوله عن الحقّ شعراً:
وَالحَقّ لِلعَزم وَالأَرواحُ إِن قويت
سادت وَإِن ضعفت حَلَّت بِها الغِيَرُ
وقوله في العلم:
وأفضلُ العلم حلــمٌ إن ظَفرتَ بهِ
وسرت ما بيـن أبنـاء الكرى سخروا
وفي السعادة:
وما السعادةُ في الدنيا سوى شبَحٍ
يُرجى فإن صار جسماً ملَّهُ البشرُ
وفي الموت:
والموت في الأرض لابن الأرض خاتمة
وللأثيريِّ فهو البـدء والظّـــفرُ
رَوَيت هذه الرواية وكنّا في جلسة عند معالي وزير الثقافة في حينه الأستاذ طارق متري، فضحك ملء فمه ثم استدرك وقال: «كيف لو كان درزياً أو شيعياً أو سُنياً».
آنذاك تصدى للقول أحد الحاضرين وقال: «حدثني جدِّي يوماً عن قصة مشابهة بها ومماثلة لقصة الأديب جبران إذ قال: «ونحن في طريقنا لزيارة أقارب لنا في احدى قرى كسروان، تشاء الصدف أن نصادف رجلان يتعاونان على تحميل دابة حملاً من القش كانت قد تعثّرت به وسقط عن ظهرها. وبعدما أعادا الحمل على ظهرها كما كان سابقاً سأله من كان يُساعده قائلاً: «الآن وقد فرغنا من مساعدتك لكن نسيت أن أسألك ما هو دينك؟» أجابه صاحب الدابة: «ديني مسيحي ومذهب ارثوذكسي».
تغيّرت ملامح وجه السائل ثم أدار ظهره نحو سائله وقال: «يا ريتني كنت أساعد درزيّاً أفضل بكثير».
معالي الوزير ألقى برأسه فوق وسادة كرسيه من الضحك ثم أدار بوجهه نحوي وقال:» أرجو أن لا تغضب يا أستاذ غالب».
قلت: «كيف سأغضب وقد فضلنا صاحبنا نحن الدروز على أبناء دينه من الأرثوذكس فشكراً وألف شكر».
غير أن صاحب الرواية نهض لتوّه بعدما تأكد من مذهبي دون أن يستأذن أحداً وكأنه ارتكب جُرماً أو أفصح عن سرّ كبير.
(حدثت عام 2006م)