النّوع: باب التاريخ، الوسيط والحديث.
كتاب ضخم لجهة الحجم (ثمانية عشر فصلاً في 848 صفحة من القطع الكبير).
هو بالغ الأهمية لجهة المحتوى، إذ يغطي تاريخ أُسرة معروفيّة عريقة لعبت دون انقطاع أدواراً حاسمة، في شمال العراق، وجنوب غرب تركيا، وشمال سوريا، واستقرّت أخيراً في جبال الشوف اللبنانية بدءاً من القرن السابع عشر، ولتتحوّل ولأكثر من ثلاثمئة سنة دون انقطاع حجر الرّحى في الأحداث السياسية والتاريخية المتصلة بجبل لبنان، وربما بلبنان عموماً أيضاً. لم يسبق لي، في حدود معرفتي، أن توفّر للمكتبة العربية أيُّ مرجع تاريخي تمكّن من الإحاطة الشاملة بتاريخ الأسرة الجنبلاطية السياسي لفترات تاريخية امتدت لثمانية قرون (منذ نهاية القرن الثاني عشر الميلادي إلى نهاية القرن العشرين الميلادي).
وإلى وَجْهَي الأهميّة أعلاه، اتَّسم عمل المؤلف، الباحث التاريخي جمال الدين جنبلاط، بالحِرَفية البحثية الواضحة، لجهة الإسناد المرجعي الشامل، من الوثائق والمصادر التي تُعْتَبَر من الدرجة الأولى، من الأرشيف العثماني في اسطنبول إلى مكتبات مهمّة أخرى، إلى الموضوعية والدقة في متابعة المعطيات والأحداث، إلى اللغة الباردة في نقل الأحداث أو مقاربة مكوّناتها المختلفة، (وعلى سبيل المثال، فقد غطّت مكتبة البحث والملاحق والخرائط والصور التوضيحية أكثر من 50 صفحة ختامية من الكتاب).
ميزة أخرى لافتة في عمل جمال الدين جنبلاط الضخم هي عدم أخذه (وكما يجب أن يفعل كل مؤرِّخ مدقّق وفق نصائح إبن خلدون) بسيل المعطيات التي تَرِدُه كما هي من دون تمحيص ومقارنة. إنّ قارئ الكتاب ليلفته حقاً أمران – بين أمور أُخرى كثيرة – الأوّل، تلك المروحة الواسعة جداً من المصادر والوثائق القديمة والحديثة التي أتيح للمؤلف أن يصل إليها، ولا أظن عملاً آخر في الموضوع أبداً أتيح له ذلك، والثاني، تعامله العلمي بل المحايد إلى حد كبير مع ما تضمنته المصادر والوثائق تلك من روايات ومعطيات ومعلومات، إذ إنّه أَعمل عقله البحثي النقدي في غربلة الروايات والأخبار، مقارناً بعضها بالبعض الآخر، وبسواها من مصادر معرفية، مُسْقطاً ما لا ينسجم مع ما هو مستقر وعليه إجماع من معطيات، ومفضِّلاً حين لا تكون الأمور بالوضوح البحثي ذاك إحالة الرواية إلى المزيد من التدقيق، بل وتعليق حكمه أحياناً. اتساع مروحة المصادر والمراجع والوثائق على نحو كبير جداً، من أكثر من بيئة ثقافية ومعرفية، وتدعيمها أحياناً بمشاهدات عيانية لأمكنة الأحداث في كردستان وتركيا وقبرص ولبنان وسواها، يجعل العمل وثيقة لا تُقَدّر بثمن، ومن النوع العلمي والبحثي الذي يصعب غالباً الحصول عليه.
تتوزّع فصول الكتاب على أبواب ثلاثة: الأوّل، بدايات التمركز الجغرافي للأسرة الجنبلاطية في الهكاري والعمادية؛ الثاني، الجنبلاطيون حكّام كيليس وحلب؛ والثالث، دور الأسرة الجنبلاطية في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر – وهو الأضخم لناحية الحجم إذ يقع الباب هذا في 500 صفحة تقريباً.
لا يغيب عن البال بالتأكيد أن العمل هذا هو ثَبْتٌ عائليٌّ – كما يظهر صراحة من العنوان – أي تاريخ الأسرة الجنبلاطية، وأعلامها البارزة، والوقائع الأكثر أهمية التي انخرطت فيها طيلة ثمانمئة عام؛ وعلى نحو لن يتمكن من إنجازه كما أعتقد أيُّ مؤرِّخ آخر من خارج الإطار العائلي والثقافي الذي أتيح للمؤلف. وعليه، يجب أن لا يتوقّع القارئ مباحث تاريخيّة شاملة للعصور التي تضمنتها الحقب الطويلة تلك: لجهة السياق التاريخي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو العمراني، أو العلمي والثقافي وما شابه. ربما يَرِدُ بعضٌ من ذلك في سياق التأريخ لهذا العَلَم الجنبلاطي أو ذاك، في هذه الحقبة أو تلك، ولكن من دون أن يخرجنا الأمر عن سياق الكتاب الأصلي وهو التأريخ للأسرة الجنبلاطية السياسي حصراً – وقد أحصيت على وجه تقريبي ورود توثيق تاريخي لأكثر من 30 عَلَماً جنبلاطيّاً سياسيّاً لعبوا أدواراً بارزة من حكم الهكاري والعماديّة إلى حلب وحمص وحماه والساحل وقبل أن تبدأ مرحلة تاريخ الأسرة الجنبلاطية في جبال الشوف اللبنانية. وأقول، مرّةً أخرى، إنّ ذلك لم يكن ليتاح لأكثر المؤرخين خبرة لو لم يكن الباحث من داخل الأسرة الجنبلاطية والمُناخ المعرفي والثقافي تحديداً – أي امتداداً لتراث رشيد جنبلاط – والد المؤلف – صاحب السيرة البارزة بأهمية حدثانها ومتابعته السياسية اللّصيقة. والراوي الضمني أحياناً، على نحو أو آخر.
ليس سهلاً اختصار 800 صفحة في 800 كلمة، وعليه أترك للقارئ بل أنصحه أن يقرأ بإمعان هذا السفر التاريخي الممتاز، لطوفان من المعلومات التي لم نكن نعرفها، وللتوثيق العلمي الدقيق، الذي يعطي العمل المكانة العلميّة التي يستحقها. وعليه، أختم هذه المراجعة السريعة بما بدأ به المؤلف من مقدمات، كتب:
«لا أنكر أن اختياري لتاريخ الأسرة الجنبلاطية، موضوعاً للدراسة، كان استجابة لهوى في النفس. ولا أنكر أيضاً أن ذلك الهوى وليد عصبية لا وليد تعصّب….حين كنت أستمع وأنا في مقتبل العمر إلى ما رواه المرحوم والدي وآخرون من أفراد عائلتي، كانت تنتابني مشاعر شتّى يتداخل فيها الفرح والاعتزاز والخوف والدهشة والفضول المعرفي الذي كان له بعض الأثر في التخصص الجامعي واختياري لمادة التاريخ. أذهلني وأنا أطّلع على تاريخ الأسرة الجنبلاطية ما أدّته من أدوار كان لها تأثيرها في منطقة الشرق الأدنى على مدى قرون عدّة. وهي أدوار يمكن ربطها بجملة من العوامل أهمُّها: بروز زعماء ذوي قدرات هائلة أنجبتهم تلك الأسرة والتلازم الدائم بين السياسة والحرب، امتياز الدروز بكونهم طائفة محاربة، واستمرارية الزعامة الجنبلاطية باعتبارها ملازمة للكيانية التوحيدية الدرزية، المتغيرات السياسية والعسكرية الناتجة عن الأحداث التي عصفت بمنطقة الشرق الأدنى….وهنا يبرز تساؤل منهجي: ما الجديد في هذا المؤلَّف على صعيد التأريخ للأسرة الجنبلاطية؟ ذلك أنّ الدراسات السابقة اقتصر كل منها على دراسة شخصية واحدة من شخصيات تلك الأسرة كالدراسات التي تناولت كلاً من الشيخ بشير قاسم جنبلاط وسعيد بك جنبلاط والمعلّم كمال جنبلاط…. أمّا هذا المؤلَّف فإنه يضمّ بين دفتيه دراسة جامعة شاملة للأسرة الجنبلاطية وزعمائها منذ مهد عهدها بالحكم… ليست الدراسة سجّلاً لأحداث وسيراً لأشخاص على الرّغم من كون ذلك يشكل بعضاً من جوانبها. بل هي مرآة تعكس الواقع بكل جوانبه من خلال تصويره ونقله نقلاً لا تفوته التفاصيل والجزئيات المتعلّقة بالحياة اليومية…..يمكن القول إنَّ هذا المؤلف يشكل مرجعية وحيدة من حيث طبيعته ومادته وموضوعه، هي خطوة أولى يؤمل أن تكملها وتعقبها على هذا الصعيد خطوات لاحقة يخطوها ذوو الباع الطويل من الباحثين والمؤرخين…..» (من مقدمة العمل، ص 7-12)
هكذا يفتتح جمال الدين جنبلاط ثَبْتَهُ التاريخيّ المميّز، مرجعاً ثرّاً لا غنى عنه لفهم تعقيدات السياسة والحرب في لبنان والمنطقة.