نـعــيـــــبُ زماننـــــا والـعـيــــبُ فينـــــــا ومـــــــا لـزمـــــانـنـــــا عيـــب سوانـــــــا
ونهـجـــو ذا الزمـــــــانَ بغـيـــر ذنـــــبٍ ولـــــــو نــطــــق الزمــــــانُ هجـــــانــــــا
ويـــــأبى الـذئـــــبُ يـــــأكـــلُ لـــحـــــــمَ ذئبٍ ونــــأكـــــل بعضنــــا بعضاً عيانا
هذا القولُ البليغ والذي اعتمده في أكثر كتاباته ومؤلفاته الأديب الكبير سعيد تقي الدين إنْ نمّ على شيء فأقلّه نفس صادقة وعقلٌ نيّر في التّعامل والتّخاطب. وممّا لا شكّ فيه أنّ من كان الصدق شعاره وقول الحقّ مبدؤه وإيمانه فهو لا يخاف ولا يهاب أيّ إنسان ولو كان سلطان زمانه، وبأمثاله يعلو شأن مجتمعه ويترسّخ بُنيانه.
إذاً الصراحة والصدق والأمانة في قول الحقّ مبدأ كل شريف، وبأمثالهم يسود التفاهم والتّفهّم. تداولتُ هذا القول مع أحد رجالات منطقتنا والمشهود لهم بالرأي السديد والنظر البعيد، فكانت إجابته أنَّ ما قالته الأمثال هو من واقع الحال، وأنَّه في كل بلدة وقرية نجد بعض الأفراد وحتى العائلات من صفاتها وعبر تاريخها اللّف والدوران وعدم قول الصراحة والصدق لتصح عليهم صفات هي أقرب إلى حقيقتهم وواقعهم، فمثلاً نقول عن عائلة فلان هم عائلة الحرباية أي يتلوّنون ألف لون ولون، وهم في الوجه مراية وفي القفا مذراية. أو هذه عائلة الثعالب لما يُعرف عن أفرادها من الدّهاء والخبث إمّا بالتلوّي أو التلطّي. أو هذه عائلة العدس إذ ليس لها ممسك أو مدخل أو لقولها مبدأ. أو هذه عائلة اليهود، خُبثٌ واستغلال وإنكار للمواثيق والعهود.
وفي هذا الصّدد حدّثني مهاجر كان قد خدم في الجيش الإنكليزي إبّان الحرب العالمية الثانية، وذلك بعد أن انتهى من خدمته وإحالته على التقاعد إذ عاد إلى بلدته.
وممّا حدثنا به عن ضابط كان معهم في الجيش المذكور أنّه كان كاذباً ومخادعاً وسيّئ السيرة والسريرة من خلال تصرفاته… ففي قعر نفسه غير ما يظهره على وجهه حيث يتظاهر لجنوده أنّه يحبّهم ويغار عليهم وعلى سعادتهم، وكثيراً ما كان يردّد ويقول بأنّه فرد منهم وليس رئيساً عليهم وأنّه يفديهم بحياته قبل حياتهم.
أحد الجنود الذي يعمل في خدمته كان يعلم علم اليقين أنّ هذا الضابط بوجهين ولسانين متناقضين، وأنّ ما يضمره في ذاته غير الذي يظهره في تعامله وأنّه مخادع وكاذب كبير. ويوماً أراد أن يُعرّيه ويجرّده من تواريه بعد أن ضاق ذرعاً بتصرفاته، فدخل عليه طالباً إجازة كي يذهب إلى بيته ويُبرّر طلبه أنّه اشتاق لرؤية زوجته وأولاده حيث أصبح له مدّة طويلة لم يشاهدهم. أجاب الضابط: «أمهلْني أسبوعاً لأنظر في أمرك..»، وعند نهاية الأسبوع أتى الجندي وكرّر طلبه.
الضابط أجاب بعد أن هزّ برأسه قائلاً: «لقد استعلمت من زوجتك أنّها لا تريد ذهابك إلى البيت وبكتاب خطّي، وترجو أن لا أسمح لك مطلقاً بالذهاب كونك سكّير فظّ الطباع، تعذّبها وتضربها وتضرب كلّ من يحاول أن يردعك عنها وخاصّة أولادك وجيرانك، والأنسب أن تبقى هنا في ساحة القتال وخارج بيتك». الجندي عند سماع هذا الجواب أغرق في الضحك أمام الضابط ثم أخذ يردّد: لقد تأكّد لي ما كان يتداوله الجميع.
قال الضابط: لماذا تضحك، وماذا كان يردد الجميع؟
قال الجندي وبجرأة: سيّدي كيف أَجابتك زوجتي بكتاب خطّي وأنا رجل أعزب لا زوجة لي ولا أولاد!
والواقع كم من الرجال سواء أكانوا عاديين أم سياسيين يماثلون هذا الضابط قديماً وحديثاً.