حـروب التقسيـم والتهجيــر ….والنفــط
أكبر عملية نقل للسكان في التاريخ الحديث
تتم في وضح النهار لأن أوروبا في حاجة للعمالة
التدمير المتعمد للحدود والمجتمعات والكيانات السياسية
هل يمهد لرسم خرائط الدويلات ووضع اليد على النفط؟
إسرائيل لا تريد للحروب القائمة في المنطقة أن تتوقف
وهي تنتظر للتمدد في فراغ انهيار الكيانات السيادية
حلف “الناتو” نشر خرائط بينت خط تمزيق المنطقة
وإحدى الخرائط باتت مادة لتدريب كبار ضباط الحلف
ماذا يجري في المنطقة؟ ماذا وراء هذه الحروب المتداخلة والمتنقلة وهذه الأزمة الإنسانية الرهيبة التي لم نشهد مثلها منذ ضياع فلسطين؟ كيف يجب أن نفسِّر فضيحة اللامبالاة الدولية تجاه انهيار وعذاب منطقة اعتبر استقرارها دوماً حجر زاوية في الاستقرار العالمي؟ أين أوروبا المتحضرة؟ أين الأمم المتحدة ومجلس الأمن؟ أين العالم العربي؟ أين الجمهورية التركية النامية، الظهير الاستراتيجي الذي تطلع إليها العرب لكي تكون قوة استقرار ومنعة على غرار الدور الذي كانت تلعبه الدولة العثمانية لمئات السنين؟ كيف تحوّلت وكالة غوث الى وكالة «تسفير» منظم للسوريين والعراقيين واليمنيين وغيرهم من معذبي الأرض في منطقتنا من أجل سد النقص الخطير في العمالة في الأسواق الأوروبية التي شاخ سكانها وترفض نساؤها أن يلدن الأطفال؟ كيف يمكن لرئيس البنك الدولي أن يمدح علناً استيعاب اللاجئين في دول العالم معتبراً ذلك “محركاً للنمو الاقتصادي الدولي” كأن سوريا لم تعد موجودة وكأن شعبها قد أعيد تعريفه (مع شعوب العراق و ليبيا واليمن وغيرها) كمصدر للاجئين والعمالة الجاهزة الرخيصة. هل انحط العالم إلى هذا الدرك ونحن في غفلة نتلهى بخداعهم ومكرهم وقسوتهم التي لم تعد لها حدود؟
أوطان في المزاد
منذ أن تمّ للغرب إزالة السلطنة العثمانية، والصراع على إرثها الواسع وممتلكاتها السابقة لم ينقطع، وقد نجم عن هذا الصراع عقب الحرب العالمية الأولى توزّع مختلف ولايات السلطنة وتقاسمها بين الدول الأوروبية المهيمنة، والتي خرجت منتصرة من الحرب العالمية الأولى، كما وضعت اتفاقية “سيفر” المذلة للعثمانيين والتي قسمت ما تبقى من كيان لتركيا بصورة رمت بوضوح إلى إزالتها كدولة عن الخارطة، وتناولت اتفاقية «سايكس بيكو» السرية عام 1916 تقسيم الشرق الأوسط العثماني بكامله بين فرنسا وبريطانيا ونشأ عن تلك الأوضاع، ثم عن اتفاقية لوزان عام 1923 (التي عدّلت اتفاقية «سيفر» إرضاءً لأتاتورك)، وضع هش استمر حتى نكبة فلسطين وقيام الكيان الصهيوني.
ورغم فداحة ما حصل من إزالة الخلافة الإسلامية التي استمرت منذ فجر الإسلام بعد وفاة الرسول (ص) وتفتيت الواقع العربي بصورة اعتباطية وفق مصالح الدول المستعمرة، فقد نشأت عن تلك الترتيبات ممالك ودول بنيت وفق مفاهيم الدول المنتدبة وثقافتها السياسية والإدارية والقانونية، فقام في العراق نظام ملكي إكتسب شرعيته من ذرية الشريف حسين الهاشمي القريشي، وكذلك الأمر في المملكة الأردنية بينما أنشئت في سوريا ولبنان أنظمة دستورية وإدارية استوحيت من النظام الفرنسي ووضعت دساتير وأنشأت برلمانات وقامت نظم سياسية أفسحت لقدر من حرية التعبير، وتمتعت الإدارات الحكومية بقدر من الفعالية (والنزاهة)، وقام في المجتمع شيء من حكم القانون.
صحيح أن تلك التجارب لم تبدأ كذلك، إذ حاولت فرنسا فرض حكم مباشر ثم تقسيم سوريا إلى أربع دويلات، لكن رغم ذلك فقد كان قيام دول مستقلة وحكومات «عصرية» وانطلاقة التنمية الاقتصادية تطوراً مهماً أمل كثيرون، بمن فيهم الأمير شكيب أرسلان، أن يعوِّض عن فقد العرب للكيان الجامع الذي كانت تمثله الدولة العليّة. وشهدت الفترة التالية للحرب الأولى استقراراً سياسياً نسبياً وقيام اقتصادات قوية ونشوء التعليم والإعلام، وظهرت حياة سياسية غنية في مختلف بلدان المنطقة بإستثناء فلسطين التي بقيت تحت ربقة الحكم البريطاني لتسهيل هجرة اليهود إليها من مختلف بلدان العالم ولاسيما أوروبا، والتمهيد لإقامة الكيان الصهيوني.
لقد كان ممكناً لو قُيِّض لتلك التجارب السياسية الناشئة أن تتطور أن ينتج عنها منطقة عربية ذات تأثير في الإطار الإقليمي، كما أثبت نجاح التجربة السياسية العراقية والأردنية في ظل الأسرة الهاشمية، وكذلك ازدهار مصر وليبيا في ظل ملكية دستورية عاقلة، والنجاح النسبي لتجربة الحكم البرلماني في كل من سوريا ولبنان. لكن تزامن قيام تلك التجارب الواعدة مع تأسيس الكيان اليهودي كإسفين فاصل بين شرق العالم العربي وغربه أظهر أنه لم يكن للدول المستعمرة أي نية في ترك المنطقة وشأنها أو إعطائها حق الوجود الثابت والحدود المستقرة، كما هي الحال في دول العالم التي تكرّست حدودها باتفاقية إنشاء الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية .
وبينما كانت اتفاقية “سايكس بيكو” والتفاهمات الدولية قد وضعت حدوداً واضحة للدول الحديثة في الشرق الأوسط فإن إسرائيل (وكانت أصبحت كياناً عضواً في الأمم المتحدة) كانت بين جميع دول المنظمة وحدها التي رفضت تكريس وجودها القانوني ضمن حدود نهائية مثل بقية الدول، وكانت هذه هي الثغرة التي تركت لتهبّ منها العواصف والزلازل السياسية فتزعزع نسيج المنطقة وتجعله تحت تهديد دائم بالاستنزاف والإبتزاز. وكان استخدام إسرائيل من قبل بريطانيا وفرنسا في عدوان 1956 على مصر (رداً على تأميم الرئيس جمال عبد الناصر لقناة السويس) أوضح دليل على كونها قلعة متقدمة للإستعمار الغربي في المنطقة العربية.


الدور الإسرائيلي
لقد كانت أنظمة الحكم المدني الملكية أو البرلمانية والتعددية الدينية والعرقية في دول المنطقة التحدي الأكبر لنظام صهيوني يبحث عن مبرر لفكرة الدولة اليهودية في تحطيم تلك التجارب اليانعة القائمة تاريخياً على التسامح والتعايش والشراكة بين مكونات الوطن كلها دون تمييز. لقد كان المطلوب إظهار فشل العرب في إقامة أنظمة ديمقراطية وإقناع العالم مع الوقت بأن الشعب العربي شعب «بائد» لا حضارة له وأنه لا بأس بالتالي من النظر إلى المنطقة باعتبارها منطقة لا تستحق الاستقلال أو العيش الحرّ. وهل أفضل لمستقبل هيمنة إسرائيل على المنطقة من التوصل عبر مدة قصيرة نسبياً من الزمن إلى نقل العرب من مرحلة الأنظمة المدنية الديمقراطية التي بدأوا عليها إلى مرحلة «الدويلات» و»المناطق» المذهبية والدينية والقبلية وجعل الناس «تأكل بعضها بعضاً» كما يقول المثل؟
لذلك كان أول ما قامت به إسرائيل بمجرد قيامها ككيان سياسي (غير نهائي في حدوده من وجهة نظرها) في العام 1948 هو التركيز على تدمير التجارب السياسية المدنية التي كانت قامت واستمرت حولها منذ عقود طويلة، فبدأت الإنقلابات العسكرية على الأنظمة البرلمانية أو على الملكيات المستقرة في سوريا ثم في مصر وأزيلت الأسرة الهاشمية الشريفة في العراق وافتعلت الحرب الأهلية في لبنان وتم في أقل من عشر سنوات من قيام إسرائيل بتدمير الاوضاع المستقرة في جميع دول الطوق التي يعتبر إضعافها الهدف الأول للكيان الصهيوني، ليس فقط لأنها على حدودها (لبنان سوريا ومصر) وتشكل بالتالي خطراً طويل الأمد على أمنها، بل لأنها تدخل في المدى الطويل في مخطط الهيمنة والتوسع والإخضاع الذي ينتظر الوقت المناسب لتنفيذه مرحلة بعد مرحلة.
أما العراق فقد تمّ استهدافه بانقلاب 1958 لأنه كان الدولة الأقوى في المنطقة والأغنى والأكثر وعداً لجهة قيام حكم ديمقراطي متنوع أثنياً ودينياً. فقد كان العراق في ظل المغفور له الملك فيصل الثاني ومن سبقه أسرة واحدة متضامنة تضم العرب والكرد والأشوريين والأزيديين كما تضم المسيحيين والسنة والشيعة، وكان الحكم يقوم على مشاركة حقيقية حتى من اليهود العراقيين الذين كان وزير المالية (ساسون) منهم أكثر من مرة بينما كان رئيس الوزراء شيعياً وكبار الوزراء أكراداً في أكثر من حكومة عراقية. وكان العراق ينام على ثروة نفطية هائلة بدأ استغلالها قبل قيام إسرائيل وكان الاستقرار السياسي والثروة الاقتصادية والنظام الملكي الديمقراطي عناصر كفيلة بقيام دولة كبيرة وذات ثقل إقليمي ودولي في منطقة الشرق الأوسط.
إن التوسع الاستيطاني والجغرافي وتفتيت الكيانات المجاورة هما وجهان للعملة الإسرائيلية نفسها ومرتكزان متلازمان في الاستراتيجية الطويلة الأمد الإسرائيلية، ولن يتم لإسرائيل المزيد من التوسع والهيمنة إلا بزوال الكيانات السياسية التي تحيط بها وانهيار الحدود السياسية بين الدول وانهيار الوحدة الوطنية في كل منها بحيث يزول الشعب الواحد المستعد للدفاع عن بلده ووطنه المشترك ويتعزز الفراغ السياسي والشلل وتسرع كل طائفة أو فريق لطلب الحماية الخارجية من الآخر ضد الطائفة الأخرى. وإسرائيل لا تتوقف عن العمل، وبينما العرب على اختلاف مشاربهم منشغولون بالكيد لبعضهم بعضاً وإثارة القلاقل والمتاعب لهذه الدولة العربية أو تلك واستنزافها فإن العدو يعمل بفعالية على إذكاء النيران المشتعلة ولا يريد طبعاً لهذه الصراعات أن تتوقف، وهو سينتهز أي فرصة لاستغلال الانهيارات في النظام العربي وهدم حدود الكيانات وإشعال الجميع بحروب داخلية ليجد في الوقت المناسب فرصته لملء الفراغات وتحقيق المزيد من المكاسب على الأرض.
إن للدول الغربية (أوروبا والولايات المتحدة خصوصاً) مصالحها الضخمة في المنطقة وفي ثرواتها النفطية وفي موقعها الاستراتيجي كصلة وصل بين آسيا وأفريقيا والقارة الأوروبية، لكن لإسرائيل أيضاً والحركة اليهودية العالمية أجندتهما الخاصة في المنطقة على الدوام وهناك توافق وتكامل دائمان (وليس صراع) بين الأجندتين. ولا يوجد أي شك أن الصهيونية العالمية التي تمتلك تأثيراً كبيراً على سياسات الكثير من الدول الغربية ليست غائبة عن الجروح النازفة المفتوحة في سوريا أو في العراق أو في غيرهما من دول المنطقة العربية.


جذور «الربيع العربي»
حقيقة الأمر أنه مع زوال الشرعيات السياسية التي ورثت الحكم العثماني، وإجهاض الآمال بقيام الدولة العربية الحديثة (والموحدة) قامت ديكتاتوريات عسكرية وإدارات فاشلة للاقتصاد والموارد فنجم عن تلك التجربة تضييع فرص كبيرة وتراكم مشاكل اجتماعية وحالات حقد طبقي أو اجتماعي، كما إن النخب السياسية العسكرية الفاشلة والفاسدة لم تتردد عندما بدأ وضعها يزداد حراجة في استخدام العامل الطائفي وتقسيم الشعب وتحريض فئاته بعضها ضد البعض بحيث يتحول انتباه الناس عن المشكلات الاجتماعية وعن نهب البلاد إلى الاقتتال الداخلي فتصبح كل طائفة خائفة من الأخرى ويمد النظام الفاشل في عمره بذلك وفق سياسة فرّق تسد وهي نفسها التي طبقها النظام الاستعماري السابق. نتيجة لتلك السياسات الفاشلة والمدمرة تحولت المنطقة مع الوقت إلى برميل من البارود الذي نشهد انفجاره منذ سنوات وانفتحت بذلك في اعتقادنا المرحلة التالية والحاسمة لاستكمال عملية التفتيت التي وضعت خطوطها العريضة في مطلع القرن الماضي وما زال العمل عليها جارياً حتى الآن.
حروب التقسيم
لقد كانت معاهدة “سيفر” سنة 1922 مؤشراً ساطعاً على الكيفية التي تنظر بها دول الغرب إلى منطقة الشرق الأوسط أي باعتبارها مشاعاً لا صاحب له. لقد جرى تمزيق أعظم إمبراطورية وأكثرها حضارة واستقراراً في التاريخ وتوزيع كيانها بصورة إعتباطية كمغانم بين الدول التي اعتبرت حليفة للغرب في الحرب العالمية الأولى. وهذه الوحشية في وضع الخرائط والخبث في قتل الدول واغتصاب الثروات لم تتبدل في الجوهر ولا يغرَّن أحد كل تلك المظاهر الخادعة من أمم متحدة واتحاد أوروبي ودموع تماسيح ولا يخدعنَّ أحد بمعسول الكلام الذي يرِد من صوبهم، فالذي نراه أفصح من أي كلام والأعمال على الأرض تشير إلى أن عملية التفتيت دخلت مرحلة جديدة هي أخطر مرحلة في تاريخ العرب الحديث.
إن هناك اتفاقيات غامضة بين الدول الكبرى فحواها أن معاهدة “سايكس بيكو” والحدود السياسية التي رسمت يومها لم تنجح وأنه لا بدّ من إعادة رسم الخارطة في المنطقة وفق معايير جديدة وهذه المعايير -المناسبة تماماً للكيان اليهودي – هي معايير الدول الطائفية بل المذهبية.
كان الاحتلال الأميركي للعراق إشارة إنطلاق أساسية لمرحلة التفتيت الجديدة، فقد تم دون أي سبب مفهوم حلّ الجيش العراقي بمجرد الدخول الأميركي وتمت بعد ذلك تصفية الإدارة الحكومية والمدنية تحت ذريعة “استئصال البعث” وتمّ تشجيع التنافس والشكوك المتبادلة بين مكونات العراق والتفريط الفضائحي بثروة البلد وتسيّب منابع النفط وجعلها نهباً للقوى المؤثرة. ولعب الشحن المتصاعد في العراق دوراً كبيراً في تفجير الساحة السورية، وها هو المشهد اليوم وقد استقر على انهيار الحدود السيادية ودفع أكبر دولتين من حيث الثروات وحجم السكان إلى أتون الحروب العرقية والمذهبية والخراب الاقتصادي، وإذا أضفنا إلى كل ذلك الحرب الأفغانية والحرب اليمنية والحروب الليبية واضطرابات سيناء وشلل الوضع اللبناني واللامبالاة التامة بكل تلك الملفات وكل ما يجري من مآس إنسانية في المنطقة، بل ترك الأمور تزداد انهياراً وتآكلاً فإنه من المنطقي التساؤل عن الأهداف الحقيقية من وراء هذا “التدمير الخلاق” المنهجي الذي وُعِدنا به قبل سنوات، لكننا ربما بدأنا اليوم فقط ندرك أبعاده المرسومة ونتائجه البعيدة.
إن العنوان العريض لأزمات المنطقة هو حروب اقتتال داخلية تتم تغذيتها وإطالتها دون أي حل بهدف استكمال عملية تفتيت الدول وهدم الكيانات السياسية وتدمير الاقتصاد وأسباب معيشة السكان، وخلق أزمة إنسانية خانقة تفرض على مئات الألوف من أبناء المنطقة وأسرها ولاسيما ذوي المستويات العلمية والكفاءات المهنية منهم الهجرة إلى أوروبا وإلى دول الغرب عموماً.


لماذا أحبطوا تسوية الأزمة السورية
لقد أصبح واضحاً أن العالم الغربي والدول المؤثرة ولاسيما الكبرى منها قررت ترك الأزمات في الشرق الأوسط من العراق إلى سوريا إلى اليمن وأفغانستان وليبيا دون أي اهتمام بإيجاد حل، وقد سلّط الوسيط الدولي في الأزمة السورية والرئيس السابق لفنلندا مارتي أنتيساري Martti Ahtisaari الضوء ساطعاً على تلك الحقيقة عندما كشف مؤخراً لصحيفة «الغارديان» البريطانية أنه توصل مع الروس في العام 2012 إلى تفاهم يقومون فيه بدور في بلورة تسوية سياسية للحرب الأهلية في سوريا، لكن دول الغرب وتحديداً فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة تجاهلت تقرير الوسيط الدولي، ورفضت بالتالي اقتراحه السيرَ بالتسوية، ودلّ ذلك في نظر الوسيط نفسه على أن دول الغرب لم تكن تريد تسوية الأزمة السورية كما إنه من غير المطلوب حل الأزمة الوطنية في العراق، ولا في اليمن ولا في ليبيا لأن الهدف في هذه المرحلة هو إطالة الأزمات (في المناطق النفطية أو ذات الأهمية الإستراتيجية) وتمديد المأزق سنوات وسنوات لا يتم خلالها تمكين أي طرف من حسم الأمر لأن المطلوب هو استرهان الجميع، وتفاقم الثمن البشري والاقتصادي وبلوغ الأزمات والانهيار الوطني مرحلة اللاعودة تمهيداً لرسم «حدود الدم» بين الدويلات واستكمال عملية التفتيت ووضع اليد على المنطقة وعلى نفطها.
التدمير الخلاق
خلال حرب تموز التي شنتها إسرائيل على لبنان في العام 2006 أطلقت وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس ورئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت من تل أبيب تعبير «الشرق الأوسط الجديد» وأعلنت رايس وأولمرت للصحافة الدولية أن هناك مشروعاً لشرق أوسط جديد قد بدأ تنفيذه، وأن إشارة الانطلاق لهذا المشروع هي لبنان.
جاء تصريح وزيرة الخارجية الأميركية بمثابة تأكيد على خارطة طريق أنغلو أميركية إسرائيلية للمنطقة استغرق العمل عليها سنوات، ويتلخص المشروع في خلق حالة من العنف والفوضى الخلاقة وعدم الاستقرار والحروب المحلية تمتد من لبنان وفلسطين وسوريا مروراً بالعراق وإيران والخليج العربي وحتى أفغانستان، وذكرت أوساط المشروع يومها أن الهدف من توسيع دائرة العنف في المنطقة بأسرها هو تمكين بريطانيا والولايات المتحدة وإسرائيل من «إعادة رسم خارطة المنطقة» بما يلائم الحاجات الجيوستراتيجية والاقتصادية لتلك الدول. من هنا تعبير «حدود الدم» التي تعني الحاجة إلى رسم الحدود الجديدة على قاعدة العنف الشامل والكثير من الدم والقتل والتدمير، ربما وفق حالة باكستان والهند التي كانت بريطانيا أيضاً مهندستها في أربعينات القرن الماضي.
يومها تلقى مشروع كوندوليزا رايس تأييداً حماسياً من المحافظين الجدد الذين كانوا قد سيطروا على السياسة الخارجية وسياسات الدفاع للولايات المتحدة إبان عهد الرئيس جورج دبليو بوش، وأعلن البروفسور اليهودي مارك لفين أن إدارة الرئيس بوش سوف تطلق موجة من «الدمار الخلاق» Creative destruction باعتبار ذلك السبيل المناسب لإنتاج «النظام العالمي الجديد» واعتبر فيلسوف المحافظين الجدد ومستشار الرئيس بوش اليهودي مايكل لدين أن خطة الرئيس بوش للنظام العالمي الجديد «ستطلق قوة رهيبة وثورية للدمار الخلاق».


خرائط جديدة
في العام نفسه الذي شهد إطلاق رايس والمحافظين الجدد لشعار «الشرق الأوسط الجديد» (وهو عام الحرب على لبنان عام 2006) بدأ التداول في أوساط حلف شمال الأطلسي بخارطة أولية لـهذا «الشرق الأوسط الجديد»، وأعلن يومها أن الخارطة تمّ وضعها من قبل الكولونيل الأميركي رالف بيترز وتمّ نشرها أولاَ في مجلة القوات المسلحة الأميركية. ورغم أن الخارطة لم يتم تبنيها من البنتاغون الأميركي، فقد تمّ تدريسها ضمن برنامج تدريب لقوات الناتو في معهد الدفاع المخصص لكبار ضباط قوات الحلف. ويعتقد ان الخارطة تمّ رسمها بناء على خرائط أخرى سابقة كان يتم التداول بها في أوساط البنتاغون وبعض دوائر حلف شمال الأطلسي.
المراقبون والمحللون الذين تأمّلوا في خارطة “الشرق الأوسط الجديد” كما يتم تداولها في أوساط حلف شمال الأطلسي لاحظوا كيف تمّ حصر مناطق النفط كلها في دويلة في شرق المملكة السعودية مع مد حدودها لتشمل قسماً من خوزستان في إيران (حيث معظم النفط الإيراني) وكيف تم إنشاء دولة شيعية في العراق في مناطق النفط الجنوبية ودولة كردية في مناطق النفط الشمالية وهو سيناريو يرمي إلى حرمان كل من إيران والعراق والمملكة السعودية، أكبر دول المنطقة وأغناها، من نفوطها وحصر تلك الثروة الإستراتيجية في دويلات تسيطر عليها شركات النفط الأميركية والدولية.
بالطبع قد تكون الخارطة المشار إليها من باب التهويل أو بالونات الاختبار، لأن هناك خرائط أخرى مختلفة نشرت منها في مجلة “أطلانطيك” القريبة من اليمين الأميركي تضمّنت تقسيماً مختلفاً وخلق مزيد من الدويلات المذهبية، لكن مجرد إبراز موضوع الخرائط الجديدة ضمن شعار «الشرق الأوسط الجديد» ليس بريئاً، فهو بمثابة بيان إلى الدول المعنية بأن مصيرها قيد البحث في مراكز القرار الدولية والغرف المغلقة، وأن “الدمار الخلاق” الذي نشهده يعم المنطقة بأسرها وحالة التجاهل الدولية له أمران لا ينفصلان عما يبدو أنه حروب تفتيت ما هو قائم تمهيداً لإعادة تجميع القطع وإعادة رسم معالم الدول والمجتمعات وفق الخطط المرسومة.
أوروبا تستورد السكان
لاحظوا هذا الشغف اليهودي بتعبير «الدمار» مع إضافة وصف «الخلاق» إليه بهدف تجميله في نظر صانعي السياسات وإعطاء النوايا الجهنمية طابع الإدارة العقلانية و«البناءة» للصراعات، وكأننا بهؤلاء المنظرين يهيئون العالم للمشاهد الرهيبة التي نراها اليوم في نشرات الأخبار. لقد استوحى المسؤولون الإسرائيليون من تعابير كوندوليزا رايس والمحافظين الجدد حجم التدمير الشامل الذي انهالوا فيه على لبنان إبان حرب تموز 2006 وقد وقف قائد جيش الدفاع الإسرائيلي يومها محاطاً بأركان المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ليعلن أمام وسائل الإعلام وبعنجهية الواثق أن إسرائيل “ستعيد لبنان واقتصاده خمسين سنة إلى الوراء”.
إذا نظرنا إلى ما يحدث في العراق وفي سوريا وفي اليمن وفي ليبيا فإننا نجد أمثلة لافتة مشابهة على حجم «الدمار الخلاق» الذي وعدت به بلدان المنطقة، وقد تميزت الحرب في سوريا وفي العراق بقدر هائل من التدمير لمساكن المدنيين وللقرى وقدر أكبر من العنف الوحشي وعمليات التهجير ضد السكان الأبرياء، كما تميزت بعنف على الأقليات المسيحية وغير المسيحية التي كانت تعطي لمجتمعات الشرق الأوسط (وهي مهد الديانات السماوية الثلاث ومثوى أنبياء البشرية ومستودع إرثها الروحي والثقافي) طابع التنوع الحضاري والشرعية التاريخية، وبسبب تكاثر القوى المتقاتلة وتبدل المواقع وتحرك خطوط الجبهات وشمول الحرب مناطق شاسعة من العراق ومن سوريا فقد تكونت موجات نزوح داخلي ونزوح خارجي غير مسبوقة في تاريخ الشرق الأوسط، إلا ربما أثناء حرب فلسطين ثم احتلال إسرائيل للضفة الغربية وكذلك أثناء حرب الهند وباكستان وبعدها حرب انفصال بنغلادش.. وباتت أنباء الزوارق والغرقى وحشود النازحين على حدود هذه الدولة الأوروبية أو تلك تتصدر نشرات الأخبار في وسائل الإعلام الدولية أو في وسائل التواصل الاجتماعي.
هنا يبدو الجانب الخلاق للتدمير الشامل للمنطقة وتفتيتها في شكل آخر غير متوقع هو الفوائد الكبيرة التي اكتشفت أوروبا أن في إمكانها أن تجنيها من بحر البؤس والأهوال الذي ألقي فيه سكان مناطق النزاع، وهذا ربما أحد الأسباب التي تفسر حجم اللامبالاة بالأثمان الإنسانية لاستمرار الأزمة، وعدم وجود أفق واضح حول متى وكيف يمكن لهذه الكارثة البشرية أن تنتهي!!
إن أوروبا وأكثر الدول «المتحضرة» في الغرب تتصرف كما لو أنها على علم بخطوط المأساة الجارية وبأن هناك خطة مقررة للمنطقة يتم تنفيذها بالدم، وهذه الخطة ليست لها مصلحة في مقاومتها أو التصدي لها، وهي لذلك تسعى للإفادة من «الفرص» التي تفتحها المأساة وترحيل (بمعنى الترانسفير Transfer) مئات الألوف (وربما الملايين إذا امتدت الأزمة وتفاقمت أوضاع النازحين المعيشية) إلى بلادها بسبب حاجتها الاقتصادية الماسة إلى العمالة وتعزيز نسبة الشباب في تكوينها السكاني الهرم.
إن أكبر عملية نقل للسكان في تاريخ المنطقة تتم في وضح النهار لأن أوروبا في حاجة ماسّة إلى حل مشكلة النقص الخطير في السكان وما يجرّ إليه من نقص بنيوي في العمالة يمكن بعد سنوات أن يهدد اقتصاد العديد من دولها. ويجب التوقف هنا أمام خطاب ألقاه رئيس الاتحاد الأوروبي جان كلود جونكر في البرلمان الأوروبي في 11 أيلول/ سبتمبر حثّ فيه الدول الأوروبية على استقبال النازحين السوريين ومن أهم ما قاله «إن علينا أن ننظر إلى أزمة النازحين ليس كمشكلة بل كمورد» وكان جونكر يعني بذلك أن علينا أن نعتبرهم مورداً بشرياً مهماً للاتحاد الأوروبي وهو لذلك طالب بأن يسمح للنازحين بدخول سوق العمل فور وصولهم إلى بلدان الإستقبال.


تدمير سبل العيش
يجب أن نتذكر أن موجات النزوح المتزايدة من سوريا ومن بلدان مثل العراق واليمن وليبيا ليست هجرات اقتصادية طوعية، وذلك لأن استيراد هذه الأمواج البشرية بمئات الألوف سنوياً لا يمكن أن يتم في ظروف السلم والاستقرار الاقتصادي التي كانت تعيشها بلدان المنطقة بل نراه يحصل على خلفية تعميم الموت وزوال الأمن والتدمير المنهجي للاقتصاد وتهجير السكان وتدمير البيوت، وهو ما يؤدي إلى سد سبل العيش والعمل أمام المواطنين ولاسيما الأسر الشابة ويدفعها إلى حالة من اليأس تجعلها في نهاية المطاف تقطع علاقتها العاطفية ببلدها وتندفع نحو الهجرة بأي وسيلة. .
إن وضع سوريا يمثل هنا حالة نموذجية على تطبيق تام وشامل لأساليب «الدمار الخلاق». فقد جاء في تقرير أعدّه المركز السوري لأبحاث السياسات بالتنسيق مع الأنروا والـ UNDP في آذار/مارس الماضي أن الخسائر المباشرة للاقتصاد السوري تقدّر بأكثر من 143.8 مليار دولار وأنه حتى لو توقفت الحرب في سوريا الآن وعاد الاقتصاد السوري لينمو بمعدل وسطي سنوي قدره 5% فإن سوريا تحتاج إلى ما لا يقل عن 30 عاماً لكي تعود إلى المستوى الذي كانت عليه في العام 2010. (لنتذكر تهديد إسرائيل بـ «إعادة لبنان 50 سنة إلى الوراء” فالتشابه ليس من قبيل الصدفة).
لقد أدت الحرب في مناطق النزاع إلى تدمير تام للقاعدة الصناعية وإلى انهيار الأعمال والإفلاسات وهروب الرساميل والنهب الواسع النطاق للأعمال والشركات والمنازل. نتيجة لذلك تعمّمت البطالة (أكثر من 54% في سوريا) وانتشر الفقر وباتت أكثرية الناس خصوصاً في المناطق المغلقة غير قادرة على إيجاد قوتها وقوت أطفالها ناهيك عن انهيار خدمات المياه والكهرباء أو التعليم والعناية الصحية. ويؤدي هذا المزيج من الخوف وتناقص أساسيات العيش إلى موجات نزوح داخلية وإلى الخارج في كل اتجاه سواء من مناطق الصراع في العراق أم في سوريا أو غيرهما من البؤر المتفجرة. وحسب الإحصاءات التي أوردها تقرير المركز السوري والأنروا فإن 9 ملايين سوري اضطروا لترك منازلهم إما إلى داخل سوريا وإما إلى البلدان المجاورة أو ما يتعداها.
لكن اللاجئين المقيمين حالياً في لبنان أو في تركيا أو في الأردن أو غيرها من البلدان هم تجمعات غير مستقرة ويمثلون البيئة المناسبة لتجنيد المزيد من المهاجرين إلى أوروبا أو الولايات المتحدة أو غيرهما. ولا بدّ من الملاحظة أن النازحين السوريين أو غيرهم يلقى بهم في اوضاع اقتصادية بائسة تزيد ضعوط التفكير بالهجرة عليهم، بدليل أنه بينما يزداد عدد النازحين يومياً منذ بداية الأزمة الإنسانية فإن المساعدات المقدمة من المصادر الدولية لتمويل العناية بهم وإغاثتهم تشهد تراجعاً مطرداً (راجع الرسم البياني).




خلاصة
إن الوصف الواقعي لما يمرّ به الشرق العربي حالياً من «دمار خلاق» هو عنوان لحروب تقسيم وتهجير وتفتيت للدول وأن الهدف الحقيقي من كل ذلك هو «تحرير» النفط من السيادات السياسية عبر تحطيم وحدة الدول وإزالة الكيانات الحاضنة لتلك الثروات أو إعادة رسم معالمها. إن الهدف هو إقامة دويلات طائفية ومذهبية وعرقية تنزع الشرعية عن الدول المستقرة وتفتح الباب بالتالي أمام تداول رعاة التدمير الخلاق في كيفية تقاسم الأسلاب الدسمة.
يبقى الانتباه إلى نقطة أساسية في هذا المشهد المحزن وهو أن عمليات الترحيل والتهجير (والتطهير المذهبي أو العرقي) التي باتت أسلوباً «مباحاً» في سياق الصراعات الدموية بين المكونات العربية المتناحرة الآن وشريعة الغاب التي لا تحترم عهداً ولا ذمة، قد يكون أحد أهدافها -أو أحد فوائدها- هو خلق الذرائع أو السوابق العامة التي قد تتيح لإسرائيل حسم مشكلة باتت تقضّ مضجعها وهي مشكلة الأقلية العربية في فلسطين والتي باتت في طريقها للتحول إلى أكثرية عرقية ودينية قد تفقد إسرائيل أهم مبررات اعتبار نفسها دولة يهودية. وإذا كان العرب يلجأون اليوم إلى عمليات التهجير والترحيل المتبادلة على أساس مذهبي أو ديني أو عرقي فلماذا لا تكون لإسرائيل الحجة أو الذريعة لاستثارة النزاعات نفسها داخل فلسطين عبر إطلاق عنان المتطرفين اليهود والمنظمات اليهودية الفاشية ضد السكان العرب وخلق ما يشبه «حرب أهلية مبرمجة» داخل فلسطين يتم في خضم فوضاها وحجم القتل الذي يرافقها تطبيق حل التسفير Transfer الذي بات أحد الأهداف المعلنة للعديد من الأحزاب الأساسية الإسرائيلية، وهو على الأرجح الهدف الكامن للدولة العبرية التي سيكون لها هي تعيين التوقيت المناسب لمشروع بهذا الحجم والتمهيد لتسويق نتائجه الكارثية المتوقعة.


التصريح-الفضيحة لرئيس البنك الدولي:
أزمة اللاجئين مفيدة للاقتصاد الدولي!
فيما تستمر أزمات المنطقة ومسلسل الدمار والدم والنزوح الجماعي على حاله وسط عدم اكتراث واضح من الدول الكبرى المؤثرة، نشر رئيس البنك الدولي الأميركي (الكوري الأصل) جيم يونغ كيم مقالاً امتدح فيه «الفوائد الكثيرة» الناجمة للإقتصاد العالمي وخصوصاً دول أوروبا «الهرمة» من التدفقات اليومية للاجئين السوريين وغيرهم.
الذي يقرأ المقال الذي استغرق أكثر من 4 صفحات وتضمن تحليلات حول فوائد استقبال اللاجئين يدهش لغياب أي إشارة إلى المحنة السورية ولا إلى ضخامة الأزمة الإنسانية والتدمير الحاصل على كل الجبهات، كأنما كل هذه الكارثة الإنسانية غير المسبوقة مجرد تفصيل أمام الموضوع الاقتصادي الذي يلفت رئيس البنك الدولي ويثير اهتمامه. فتدمير بلدان بكاملها مسألة فيها نظر لأن الأهم هو ما ينتج الآن من فوائد للغرب ومن فرص اقتصادية من بحر العذاب الإنساني.
وجاء في رسالة رئيس البنك الدولي أن فتح الباب أمام اللاجئين الفارين من الحروب المدمرة في المنطقة يعتبر «إستراتيجية ذكية، خصوصاً خلال هذه الفترات من النمو الاقتصادي العالمي المنخفض، لأن البلدان التي ترحب باللاجئين وتساعد بلداناً أخرى بشكل منتج على استضافتهم، ستكون قد فعلت ما هو صواب، سواء لأخوانهم في الإنسانية الذين يعانون، أو للإقتصاد العالمي الذي سينمو بقوة أكبر على المديين المتوسط والطويل».
كلام رئيس البنك الدولي كان سبقه تصريح رئيس الاتحاد الأوروبي في اجتماع للبرلمان الأوروبي دعا فيه إلى التعامل مع أزمة اللاجئين ليس كمشكلة بل كـ «فرصة» مشدداً على الدور الذي يمكن لموجات اللاجئين أن تسهم به في حل مشكلة نقص العمالة وتلبية حاجات الاقتصاد الأوروبي.


وكالة غوث اللاجئين
أم وكالة “تسفير”؟
تلعب الوكالة الدولية لغوث اللاجئين دوراً مفيداً في عملية تصدير المهاجرين من كتلة النازحين البؤساء، إذ إنها تقوم بتجميع قاعدة بيانات عن ملايين النازحين السوريين والعراقيين وغيرهم في أماكن تجمعهم ولجوئهم.
فعن طريق تقديم المساعدات الغذائية والمدرسية والصحية وغيرها يتم وضع استمارات شاملة عن كل نازح رجلاً كان أم امرأة واستمارات عن عدد الأولاد ومؤهلهم الدراسي وغير ذلك من المعلومات المهمة بما فيها الوضع الصحي وأرقام الهواتف الخليوية التي يمتلكها النازحون والتي باتت أفضل وسيلة للإتصال بهم من ممثلي سلطات الهجرة في هذا البلد أو ذاك.
المهم أن قاعدة البيانات المفصلة التي وضعتها وكالة غوث اللاجئين يمكن للمؤسسات المختصة باستقدام المهاجرين في الدول الأوروبية،الوصول إليها واستخدامها للاتصال بمن تراهم مؤهلين للهجرة وهناك العديد من النازحين الذين يتم الاتصال بهم بهدف عرض الهجرة عليهم وأسرهم وهناك أيضاً سماسرة سوريون في العواصم الأوروبية يجرون الاتصالات بأقاربهم ومعارفهم لتسهيل انتقالهم إلى المهاجر الجديدة.


وجهة نظر ألمانية
الأوروبيون في حاجة إلى المهاجرين
مقتطفات من مقال للكاتب الألماني إيان بورما الذي يدرّس في معهد بارت في نيويورك وهو يشدّد بوضوح على الفائدة التي تجنيها أوروبا من أزمات اللجوء واللاجئين لسدّ النقص في سوق العمل وتعويض النقص المتفاقم في عدد السكان هنا أبرز ما جاء في مقاله:
إنه لشعور مبهج حقاً ذلك الذي يتملك المرء عندما يصل إلى ألمانيا، حيث يحمل مشجعو كرة القدم لافتات ترحب باللاجئين من الشرق الأوسط الذي مزقته الحرب. لقد أصبحت ألمانيا أرض الميعاد الجديدة لليائسين والمسحوقين، الناجين من الحرب والنهب والسلب.
ومن المتوقع أن يدخل ألمانيا هذا العام نحو 800 ألف لاجئ، ولا عجب في أن ميركل تريد من البلدان الأوروبية الأخرى أن تستقبل المزيد من اللاجئين في إطار نظام إلزامي للحصص.
“الهجرة المنظمة إلى بلدان الاتحاد الأوروبي ضرورة ليس لأسباب عاطفية
بل لأن أوروبــــا تحتاج إليها”
ربما كان المزاج في ألمانيا المعاصرة استثنائياً. ذلك أن استقبال اللاجئين، أو أي مهاجرين، لم يكن قط بالمهمة السياسية السهلة. ففي ثلاثينيات القرن العشرين، عندما كان اليهود في ألمانيا والنمسا في خطر مميت، كانت قِلة من البلدان، بما في ذلك الولايات المتحدة الثرية، على استعداد لاستقبال أكثر من حفنة من اللاجئين. وسمحت بريطانيا بقدوم نحو 10 آلاف طفل يهودي في عام 1939، في اللحظة الأخيرة، ولكن فقط شريطة أن يكونوا تحت رعاية كفلاء محليين وأن يتركوا آباءهم من ورائهم.
بيد أن التركيز بشكل شبه كامل من قِبَل الساسة ووسائل الإعلام على أزمة اللاجئين الحالية يحجب قضايا أوسع نطاقاً تتعلق بالهجرة، ذلك أن صور أسر اللاجئين البائسين وهم ينجرفون في البحر تحت رحمة المهربين الجشعين ورجال العصابات من الممكن أن تلهم بسهولة مشاعر الشفقة والرحمة (وليس فقط في ألمانيا). ولكن أغلب الناس الذين يعبرون الحدود الأوروبية بحثاً عن عمل وبناء حياة جديدة لا ينتمون إلى هذه الفئة.
يسود الإفتراض على نطاق واسع بأن المهاجرين من داخل أو خارج الاتحاد الأوروبي هم في الأساس فقراء تركوا ديارهم لكي يعيشوا على أموال الضرائب التي يدفعها أثرياء نسبياً. والواقع أن أغلبهم ليسوا متطفلين فهم بكل بساطة يريدون العمل وكسب الرزق. ومن السهل لذلك أن ندرك الفوائد التي قد تعود على البلدان المضيفة من قدومهم، فالمهاجرون الاقتصاديون يعملون عادة بقدر أعظم من الجدية في مقابل قدر أقل من المال مقارنة بالعاملين المحليين وقد لا يصبّ هذا في مصلحة الجميع بكل تأكيد: فالإشارة إلى الفوائد المترتبة على العمالة الرخيصة لن تقنع الأشخاص الذين قد تتأثر أجورهم سلباً، والأسهل حسب كثيرين في أوروبا هو إلتماس الرحمة للاجئين من إبداء الاستعداد لقبول المهاجرين الاقتصاديين، حتى في ألمانيا.
أوروبا في حاجة إلى المهاجرين
في عام 2000، كان المستشار الألماني غيرهارد شرودر راغباً في إصدار تأشيرات عمل لنحو عشرين ألف خبير في مجال التكنولوجيا المتقدمة، وكان كثيرون منهم قادمين من الهند. وكانت ألمانيا في حاجة شديدة إليهم، ولكن شرودر قوبِل بمعارضة سريعة ومفاجئة، حتى إن أحد الساسة صاغ شعاراً يقول «(إنجاب) الأطفال بدلاً من (استقدام) الهنود».
ولكن الألمان، مثلهم في ذلك كمثل غيرهم من مواطني البلدان الثرية، لا ينجبون العدد الكافي من الأطفال. وتحتاج هذه البلدان إلى المهاجرين الذين يتمتعون بطاقة الشباب والمهارات اللازمة لشغل الوظائف التي قد لا يتمكن أو لا يرغب المحليون في شغلها لأي سبب كان. ولا يعني هذا أن كل الحدود لا بدّ أن تكون مفتوحة للجميع. ولا بدّ من تطبيق فكرة الحصص التي طرحتها ميركل على المهاجرين الاقتصاديين أيضاً.
ولكن حتى الآن، لم يأت الاتحاد الأوروبي بسياسة متماسكة بشأن الهجرة. فبوسع مواطني الاتحاد الأوروبي أن ينتقلوا بحرية داخل الاتحاد (تريد بريطانيا أن توقف ذلك)، ولكن الهجرة الاقتصادية من البلدان خارج الاتحاد الأوروبي، في ظل ظروف تُدار بعناية ودقة، مشروعة وحتمية وليس هذا لأن المهاجرين يستحقون التعاطف من قِبَل الأوروبيين، بل لأن الأوروبيين يحتاجون إليهم.