حكايات منطق الطير
إياك والسعي لعشق المحبوب
إن لم تكن قادراً على بذل الروح
لماذا اشتكى النبي سليمان من خاتمه
واشترى إبراهيم بن أدهم الفقر بملك العالمين
إن ترغب في رؤية جمال الحبيب
فاعلم أن القلب هو مرآة طلعته
إن تقدم عبد لسلوك الطريق بلا حرمة
فسيبعده السلطان فوراً عن بساطه
ما أكثر ما بحثتَ عن عيوب الآخرين
فلتبحث ذات مرة عن عيوبك
تقدم مجلة “الضحى” في هذا العدد مجموعة من الحكايات الرمزية التي أوردها الشاعر الصوفي فريد الدين العطار في كتابه الشهير “منطق الطير”، وهذه الحكايات تعتبر مساراً موازياً للحوارات التي تدور بين الهدهد المرشد وبين مجموعة الطيور الباحثة عن سر الخلق والتدرج في مسالك التصوف ومقاماته حتى مقام الشهود.
يستخدم فريد الدين العطار أسلوب الحكاية لأجل أن يشرح، وإن بصورة رمزية، رائعة أداب الطريق إلى الله والصفات المطلوبة من السالك، ولا سيما هجر الدنيا وما فيها، بل والزهد بالآخرة أيضاً، وقد جعل من المعشوق الإلهي غايته الوحيدة. ويستخدم العطار أسلوب الحكايات كمحطات تقطع الحوارات المثيرة بين الهدهد الذي يرمز إلى المرشد أو دليل الطريق وبين جماعة الطير (المريدون أو السالكون في طريق الحق)، وبينما تتخذ حوارات الهدهد طابعاً رمزياً فيه الكثير من الايحاء العميق لأسرار الوجود وأسرار الطريق والتحقق الروحي في الله، فإن الحكايات تهتم بالبناء الروحي وآداب الطريق إلى الحق وشروطها وتستهدف تقديم المثال والحافز للسالكين للاقتداء وتجميع الهمة ونبذ الدنيا وقواطع الطريق الكثيرة. ولا يتردد العطار في التشديد على صعوبة الطريق ووعورتها محذراً المريدين من سلوكها من دون زاد، ضارباً الأمثال بأنواع من الرجال يمثلون مختلف الخصال التي يسعى لاستعراضها والتشديد عليها، وهو يستعرض في الكثير من الحكايات الخصال السيئة التي يسقط معها أي أمل ببلوغ الغاية من السفر، مثل الحرص وطلب الدنيا والنفاق وعدم الوفاء والمعصية، لكنه يورد في المقابل الحكايات عن الزهد والتضحية بالروح واستصغار الدنيا، لكن أكثر ما يهتم به العطار هو الحديث عن العشق الإلهي وترك الكل في سبيل المعشوق مقدماً الأمثلة بعد الأمثلة عن العاشقين الذين يبذلون المهج والارواح من أجل أن يحظوا ولو بلفتة من المعشوق الأعظم.
وفي ما يلي بعض الحكايات والأمثال التي أوردها العطار في كتابه “منطق الطير”.
كيف كان خاتم سليمان عائقاً له
ليس لأي جوهرة في الدنيا السحر والندرة التي كانت لجوهرة خاتم سليمان، إذ أن فصها ذو شهرة وصيت ذائعين، مع إنه من حجر لا يتعدى في الوزن نصف دانق. وما أن أتم سليمان صنع هذا الجوهر فصاً لخاتمه حتى أصبح وجه الأرض كله تحت إمرته. وحينما رأى سليمان ملكه هكذا، وقد أصبحت جميع الآفاق طوع بنانه وامتد قصره أربعين فرسخاً، كما خضعت الريح لسلطانه، قال إذا كانت هذه المملكة وتلك المكانة وليدة ذلك الحجر القيِّم فأنا لا أريد أن يحظى إنسان قط في كلا العالمين بمثل هذا الملك، حيث رأيت يا إلهي بعين الاعتبار آفة هذا الملك واضحة للأبصار. إن الحياة قصيرة إذا قيست بالحياة الآخرة، فلا تعطِ – يا إلهي- بعد ذلك لأي إنسان فصاً آخر، فلا صلة لي بالمال والعسكر وإنما أختار حياكة الزنابيل.
مع إن سليمان أصبح بهذا الجوهر ملكاً إلا أن هذا الجوهر كان في طريقه عائقاً، وإن كان الجوهر يفعل هذا مع سليمان فكيف يكون عوناً لك أيها الضال؟ ولما كان الجوهر حجراً فلا تبحث عنه ولا تعش إلا من أجل الأحبة ولتخلص قلبك من “الجوهر” يا طالب الجوهر، وكن جوهرياً دائماً في الطلب.
السلطنة لله وحده
كان هناك رجل طاهر الرأي يسلك طريق الصواب، ذات يوم رأى محموداً (السلطان الشهير محمود الغزنوي) في نومه فقال: يا سلطان الزمان المعظم، كيف حالك في دار القرار؟ قال: صه ولا تسفك دم روحي، ولا تنطق بحرف، وأي مكان للسلطان هنا؟ فاستيقظ! لقد كان السلطان خيالاً ووهماً، إذ كيف تكون السلطة لحفنة من السقط؟ الحق وحده هو السلطان مالك الدنيا، وهو الجدير بهذه السلطنة، وما إن رأيت عجزي وحيرتي، حتى شعرت بالعار من سلطنتي. وإن ترغب في مناداتي فإن اسمي هو «العاجر». لأنه هو السلطان الأوحد، فلا تدعني سلطاناً. السلطنة لله، وأنا المنتفع من ورائه حتى ولو كنت شحاذاً، وليت طريقي اعترضته مئات المشاكل وليس به هذا الجاه. وليتني كنت أجمع السنابل ولم أكن ملكاً، فليضمر ريش تلك النعامات وجناحها حيث أظلتني بظلها.
المحبة والعقل
ما إن افترق يوسف عن ابيه حتى ابيضت عينا يعقوب لفراقه، وتلاطمت أمواج الدماء في عينيه، وظل اسم يوسف يتردد على لسانه، فجاءه جبريل قائلاً: إن يرد إسم يوسف على لسانك مرة أخرى فسنمحو اسمك من قائمة الرسل والأنبياء. وما إن جاءه الأمر من الحق في ذلك الزمان حتى كف عن ترديد إسم يوسف على اللسان، ولكن على الرغم من امتناعه عن ترديد الإسم لما به من خشية، إلا أن الاسم ظل في الروح مقيماً.
وذات ليلة رأى يوسف في منامه، فرغب في أن يدعوه إليه، ولكن سرعان ما تذكر أمر الحق، فلزم الصمت في لهفة واضطراب، لكن على الرغم منه انطلقت زفرة تنم عن جزعه. وما إن نهض من رقاده الهنيء حتى جاءه جبريل قائلاً: إن الله يقول – ما معناه- مع أنك لم تورد إسم يوسف على اللسان فإنك أطلقت زفرة في ذاك الوقت، وأنت تعرف ما تنطوي عليه الزفرة، لذا فقد نقضت في الحقيقة توبتك، فأي جدوى؟
هكذا تقضي المحبة على العقل بهذا التصرف. فانظر ماذا يفعل العشق بنا.
سلطان الوجود وثمن العشق الإلهي
كان هناك ملك وسيم غاية في الجمال، وحسنه لا مثيل له في الدنيا ولا مثال، وما الصبح الصادق إلا إشراقة وجهه، وما الروح القدسية إلا نفحة من طيب مسكه، ومُلكُ العالم مصحف أسراره، وغاية الحسن آية طلعته، ولا أعلم هل تمكن شخص قط أن يجد نصيباً من جماله، وبسببه غص العالم بالاضطراب، وحبه فاق كل حد لدى الخلق.
كل من رأى جماله عياناً أسلم الروح ومات متأوهاً، فالموت في سبيل عشق ذلك الوجه الآسر أفضل من مائة عمر مديد. لقد مات خلق عديدون على الدوام من هذا الطلب، إذ لا يمكن الصبر معه ولا الصبر من دونه. ويا للعجب! لو قدر وتوفرت لشخص القدرة لحظة لظهر وجه السلطان له عياناً، ولكن فقط إذا تخلى الشخص الراغب في رؤيته عن وجوده، لذلك ما استطاع أحد محادثته ومرافقته.
في ذلك الوقت أمر السلطان بإحضار مرآة كبيرة تمكن الناس من النظر إليه من خلالها. فشيدوا للسلطان قصراً جميلاً ووضعوا المرآة الضخمة في مواجهته، ثم صعد هو على سطح ذلك القصر ونظر في التو إلى المرآة، حتى أدرك كل شخص منه علامة.
إن ترغب في رؤية جمال الحبيب فاعلم أن القلب هو مرآة طلعته. ليكن قلبك على كفك ثم انظر جماله، ولتكن روحك مرآة له، ثم انظر جلاله، إنه مليكك في قصر الجلال، والقصر مضيء بشمس ذلك الجمال، وللمليك طريق صوب كل قلب، ولكن لا طريق للقلب الضال صوبه.
أبو يزيد في الصحراء
خرج ابو يزيد (البسطامي) ذات ليلة خارج المدينة، وكان كل شيء خالياً من ضوضاء البشر كما كان ضوء القمر ينير العالم حتى أوشك أن يحيل الليل نهاراً من شدة ضيائه. وبدت السماء مزدانة بالنجوم وكان كل نجم منها في شأن مختلف. لقد جال الشيخ في الصحراء فما وجد شخصاً يتجول بالفيافي والبوادي. فسيطر عليه الاضطراب بشدة فقال: يا رب لقد سيطر الاضطراب على قلبي بقوة، إن أعتابك ذات مكانة رفيعة، فكيف تبدو من المشتاقين خالية؟
جاءه هاتف يقول: أيها الحائر في الطريق، إن الله لا يهب لكل شخص الطريق. فقد اقتضت العزة الربانية أن تبعد عن بابنا كل مسكين، فما أن أضاء حريم عزنا حتى أبعد الغافلين عن بابنا، وقد ظل الخلق منتظرين سنوات وسنوات حتى يسمح لواحد من ألف أن يحظى بالرفقة.


الطريق والمرشد
قتل أحد الملوك مجرماً عقاباً له، وفي نفس الليلة رآه صوفي في المنام، يتجول باسماً في جنة عدن. كان يتجول مسروراً أحياناً ومتبختراً أحياناً أخرى. فقال الصوفي: لقد كنت للدماء سفاكاً وكنت بيننا ذليلاً أفّاقاً فمن أين أحرزت هذه المنزلة؟ إن ما فعلته لا يمكن أن يصل بك إلى هذه المرتبة!
قال: عندما سال على الأديم دمي، مرّ في تلك الآونة حبيب العجمي (أحد كبار الصوفية)، وفي الخفاء رمقني الشيخ بنظرة من طرف عينيه فأصبت هذا الشرف ومائة مثله بعزة تلك النظرة منه. وكل من أصابته نظرة حظ وقفت روحه في لحظة واحدة على مائة سرّ. وإن لم يشملك أحد بنظرة فكيف ينكشف لك خبر يقين عن وجودك؟ وإن كنت تكثر الجلوس وحيداً فلن تستطيع قطع الطريق بلا مرشد. فالطريق يلزمه مرشد فلا تسلكه بمفردك. ولا تسلك هذا البحر عن طريق التخبط والعمى، بل لا بدّ لك من شيخ في المسير حتى يكون ملاذاً لك من كل أمر عسير، وإن كنت لا تعرف الطريق من البشر فكيف يمكنك قطع الطريق بلا دليل؟ وليست لك عين بصيرة، كما أن الطريق ليست قصيرة والشيخ في طريقك هو هادي مسيرك، وكل من يكون في ظل صاحب الحظ لا يمكن أن يصيبه مكروه في الطريق، وكل من يسير على الدوام في ركاب الحظ يصبح الشوك في يده باقة ورد.
السلطان والحطاب
خرج السلطان محمود إلى الصيد وفجأة انتحى جانباً عن الجند، وكان هناك حطاب مسن يسوق حماره، فسقط الحطب منه ووقف حزيناً يحك رأسه، فرآه محمود في هذه الحال وقد سقط حطبه، ووقف ذليلاً كالحمار. فتوجه إليه محمود وقال: أتريد المساعدة أيها الكسير البال؟ قال: أريدها أيها الفارس فإن تساعدني فأي شيء في ذلك؟ أفيد أنا ولن تصاب بضرّ أنت. إنني أرى التوفيق في وجهك المشرق وليس اللطف قريباً عن كل ذي وجه مشرق.
ترجل السلطان من كرمه ومد يداً كالورد نحو الحطب، ووضع صاحب الجلالة الكومة فوق الحمار. وعاد بعد ذلك إلى جنده مرة أخرى. وقال للجند: إن حطاباً مسناً موجود هنا ومعه حمار محمل بالأحمال، فاقطعوا الطريق عليه حتى يقع وجهه على وجهنا. فقطع الجند الطريق على الشيخ حتى لم يعد أمامه من طريق سوى طريق السلطان. فقال الشيخ لنفسه: كيف أقطع الطريق حمار هزيل وأمامي جيش عظيم؟ ومع أنه كان يخشى رؤية السلطان إلا أنه اضطر أن يسير صوبه.
أخيرا قاد حماره النحيل حتى قرب من السلطان، وما أن رآه حتى اعتراه الخجل، إذ رأى تحت الخيمة وجهاً يعرفه، فوقف في ذلة وضراعة وقال: إلهي، لمن أشرح حالي وقد جعلت من السلطان محمود حمّالي؟
فقال السلطان: أيها الشيخ المهموم، ما قصتك؟ أسردها أمامي.
قال: أنت تعلمها، فدع هذه المواربة، ولا تبدو كأنك أعجمي وكفّ عن المداعبة. إنني شيخ فقير أعمل حطاباً، أقضي نهاري وليلي في الصحارى أجمع الأشواك والحطب، فأبيع الحطب وأشتري الخبز القفار: ألا تستطيع أن تكفل لي الرزق؟
قال السلطان: أيها الشيخ الكسير، ما ثمن حطبك لأنقدك إياه ذهباً؟
فقال: ايها السلطان لا تشتري مني بثمن بخس، فلن أبيعه رخيصاً، فاعطِني غرارة مليئة بالذهب.
فنهره الجند: اصمت أيها الأحمق! إن هذا (الحمل) يساوي حبتي شعير (من الذهب) فبعه بأتفه ثمن.
فقال الشيخ: إنه يساوي حبتي شعير، ولكن الثمن يختلف لعظم المشتري. فحينما وضع السلطان يده على حطبي أحال أشواكي إلى مائة روضة، فمن يرد شراء هذه الأشواك فليشترِ اقل شوكة منها بدينار. لقد شاكني اليوم بالعديد من إبره حتى جاء الملك بعظَمَتِه ووضع يده على شوكي، ومع أن هذه الأشواك بخسة الثمن، ولكن بفضل يده فهي تساوي مائة روح.
لا تعيب مرتكب الذنوب
قال الحق تعالي: لقد استغاث قارون متلهفاً، حيث قال:”إن لك يا موسى سبعين حملا”، فأجابه موسى: ” لن تعطى حملاً واحداً إلا إذا خاطبتني لحظة بذِلّة”.
كل من يعيب مرتكبي الذنوب والمعصية
يجعل نفسه في مقدمة خيل الجبابرة
فاستأصِلت شأفة الشك من روحه، وخلعت على صدره خلعة الدين، أما أنت يا موسى فقد أهلكته بالعديد من الآلام، وجعلته ذليلاً، ووضعت رأسه في التراب فلو كنت خالقه لاستمرأت تعذيبه.
إن من يرحم عديمي الرحمة يجعل أهل الرحمة أولياء نعمته، فبحار فضله لا تنضب، وهو من يصفح عن المسيء إذا أبدى الندم والتوبة، وكل من يملك هذا العفو والصفح كيف يتغيّر من ارتكاب معصية؟ وكل من يعيب مرتكبي الذنوب والمعصية يجعل نفسه في مقدمة خيل الجبابرة.


العاشق الذي خسر رأسه
كان في مصر حاكم شهير فأغرم بهذا الحاكم رجل فقير، وما أن وصل خبر عشقه إلى الحاكم حتى استدعى العاشق الهائم، وقال له: إذا كنت قد أصبحت عاشقاً للسلطان فعليك الاختيار بين أمرين: إما أن تغادر هذه البلدة وهذا الإقليم، وإما أن تتخلى عن رأسك فداء لعشقي. هذا هو أمري الواضح وقد أبلغتك إياه بإيجاز: إما قطع الرأس وإما الرحيل!
لم يكن ذاك الرجل خليقاً بالأعمال، لذا اختار الرحيل عن الديار، وما أن همَّ ذلك الفقير بالذهاب متخلياً عن عشقه حتى قال السلطان: اقطعوا رأسه عن جسده.
فقال الحاجب: إنه لم يرتكب أي جريرة، فلمَ يأمر السلطان بقطع رأسه؟
فقال السلطان: «إنه ليس بعاشق، إذا لم يكن صادقاً معي في طريق العشق، فإذا كان يتصرف كالرجال، لاختار قطع الرأس في هذا المجال.
كل من كانت رأسه أعز لديه من الحبيب، فإن مزاولة العشق بالنسبة له أكبر ذنب. وإذا كان اختار قطع الرأس لأصبح أميراً في تلك المملكة ولصار ملك العالم تابعه، ولبادرت أنت إلى خدمته، ولكن لما كان مدعياً في عشقه فقد كان قطع الرأس علاجه، وكل من يتشدق بعشقي فهو مدعٍ وغاية في النفاق، وقد أمرت بذلك حتى يقلل كل مدّعٍ في عشقنا من التفاخر كذباً بذلك العشق».
” للمليك طريق صوب كل قلب
ولكن لا طريق للقلب الضال صوبه “
مالك بن دينار
قال ذلك العزيز لمالك بن دينار: إنني لا أدرك حالي فهل أنت كذلك؟ إنني أطعم الخبز على خوان الحق ثم أنفذ جميع أوامر الشيطان.
قال مالك بن دينار: أيها البرّ الكريم، لقد صاد الشيطان الكثيرين مثلك، كما انتزعك الشيطان من الطريق، فعدِمْت الحول ولم يبقَ لك من الإسلام إلا القول. وقد أصبحت أسير الدنيا الدنيّة، وعلا الغبار مفرقك وكأنك جيفة، ربما أردت نصيحتك بالقول: تخلَّ عن الدنيا، إلا أنني في هذا الزمان أقول لك، إحرص عليها، لقد أسلمتها كل حظ كان لك، فكيف تستطيع التخلي عنها بسهولة من يدك؟
يا من غرق في بحر الطمع مما به من غفلة، إنك لا تعلم من أجل أي شيء تستمر في الوجود. لقد لبس العالمان رداء المأتم، وهما يذرفان الدمع، وأنت ما زلت تتردى في معصيتك. لقد سلب حب الدنيا ذوق إيمانك، كما سلب الطمع في هذا الشيء وذاك روحك.
ما الدنيا إلا وكر للحرص والطمع، وقد صدق الحق تعالى إذ أسماها «الفانية»؟ وكل من يصيبه الضياع في ذرة من هذه الفانية متى يستطيع أن يكون خليقاً بالرجولة؟
ما عمل الدنيا إلا بطالة، وما البطالة إلا أسر الجميع، وما الدنيا إلا نار موقدة، تحرق العديد من الخلق في كل لحظة، وعندما يزداد لهيب هذه النار فمهما كان الرجل شجاعاً فإنه يولي منها الإدبار. وكل من عبد النار كالفراشة فجدير بذلك المغرور الثمل أن يحترق فيها، وهذه النار تحيط بك من كل جهة، وستحرق بها في أي لحظة، فتبصر حتى تعرف أين مكانك وحتى لا تحرق هذه النار روحك.
“لا تسلك هذا البحر بالتخبط والعمى
بل لا بدّ لك من شيخ في المسير”
دعاء المغرور
قال أحد السادة وقت الصلاة: إلهي، امنحني التوفيق والرحمة. فسمع والِهٌ هذا القول منه وقال: إنك تأمل في الرحمة على عجل منه، إن الدنيا لا تتسع لك من فرط دلالك، لقد شيّدت قصراً يناطح الفلك، وزينّت جدرانه الأربعة بالذهب واتخذت عشرة غلمان وعشر جوارٍ، فكيف تكون الرحمة بين هذه الحجب الكثيفة؟ لكن انتبه، فعلى الرغم من كل هذه الأعمال فلك حق في طلب الرحمة، لكن ليتملكك الخجل، وإذا كان نصيبك مثلي رغيفاً واحداً فلك حق في طلب الرحمة، وإن لم تحوّل وجهك عن الملك والمال فلن تبقى لك زفرة واحدة بأي حال. فأشح بوجهك هذه الساعة عن الكل، حتى تفرغ كالرجال من الكل!
توبة الإحتضار
قال رجل متدين: إن جماعة من السفلة قد حولوا وجه أحدهم أثناء احتضاره إلى القبلة. قبل ذلك كان يجب أن يحول ذلك الجاهل وجهه إلى القبلة على الدوام. فما جدوى أن تزرع الغصن في الخريف؟ وكذلك ما جدوى أن يُحوَّل الوجه الآن إلى القبلة؟ لأن من يُحوَّل وجهه في تلك الساعة فحسب يمت جنباً فلا تبحث له عن سبيل للطهر.
بلاء الذهب
ملك أحد المريدين الجدد قليلاً من الذهب، وكان يخفي عن شيخه هذا الذهب، لكن الشيخ كان يعرف ذلك، ولم يقل شيئاً طالما ظل الذهب في الخفاء. ثم ذهب المريد وشيخ الطريق معاً في سفر. فبدا واديهما أمامهما جد مظلم، ثم وضح في ذلك الوادي طريقان. فتملك الخوف من يملك الذهب حيث جعله المعدن الثمين يبدو كذليل مضطرب، فسأل الشيخ: لم وضع أمامنا طريقان؟ وأي طريق نسلك في هذا المكان؟
فقال الشيخ: تخلّ عن كل معلوم لديك، لأنه خطأ؟ وأي طريق تسلكه بعد ذلك فهو مقبول جائز. فإذا قُدِر لإنسان أن يعادي الفضة فسرعان ما سيفِرّ الشيطان خوفاً منه، ولكي تتبين ما لخردلة من الذهب الحرام يوم الحساب يلزمك أن تكون دقيقاً دقة من يقِدّ الشعرة. لقد عدت ثانية إلى الدين كحمار أعرج، ووضعت يدك تحت الأحجار بلا جدوى، وإن تقبل على السرقة فأنت شيطان، وإن تقبل على الدين فأنت سلطان. وكل من قطع الذهب الطريق عليه ضاع في الطريق.
مكاره الطريق كنــز
كان يوجد ملك حسن الطوية، وقد أنعم ذات يوم على غلام بفاكهة. فكان الغلام يأكل فاكهته بنهم ويقول: لم آكل ما هو أفضل منها وألذ طعماً. ولفرط ما وصف الغلام ما كان يأكله بأحسن الأوصاف فقد تولّدت لدى الملك رغبة في تناولها. قال الملك: أيها الغلام أعطِني نصفها. فما أطيب ما تأكله من طعام.
أعطى الغلام الفاكهة للملك، وعندما تذوقها ذلك الملك وجدها مرة المذاق، فقطب الجبين وقال: إن ما فعلته لا يُتصَوَّر حدوثه مطلقاً. كيف يصبح هذا الشيء المرّ حلواً فيؤكل؟
قال الغلام: «يا ملك الملوك، لقد أتحفتني بآلاف التحف من يدك. فإذا كانت الفاكهة جاءتني من يدك مرّة فلا أستطيع ردّها إليك. إن كنت تنعم عليّ بالكنوز في كل لحظة فكيف يصيبني شيء واحد مرّ منك بأي غصّة؟ وإن كنت أعيش في كنفك فكيف أشعر بالمرارة من يدك؟
إن أصابَتْك مكاره كثيرة في طريقه فاعلم يقيناً بأن ذلك كنز وكفى! وأَمرُهُ نافذ من البداية إلى النهاية، فماذا أنت صانع إذا نَفَذ أمره؟ ومنذ أن عزم المحنكون على المسير فإنهم لم يطعموا لقمة دون غصّة أو ألم. وكلما جلسوا ليطعموا خبزاً أو ملحاً فما كسروا خبز قفار بلا حزن أو ألم.
حرمة السلطان
أنعم أحد الملوك بخلعة على أحد غلمانه، فخرج الغلام بالخلعة إلى الطريق، واستقر غبار الطريق على وجهه، فأسرع بإزالته بكم خلعته.
فقال أحد الوشاة للملك: أيها السلطان، لقد نظف الغلام غبار الطريق بخلعتك.
استنكر الملك منه تلك القحة، وفي الحال علّق ذلك المضطرب على المقصلة.
ألا تعلم أن من لا حرمة له في بساط السلطان لا قيمة له.
إبراهيم بن أدهم
كان هناك رجل غائب عن نفسه، وكان دائم الشكوى من فقره. فقال له ابراهيم بن أدهم: أي بني، لعلك اشتريت فقرك بثمن بخس! فقال الرجل: إن هذا لقول هزل، فهل يشتري إنسان الفقر؟ لتلزم حد الخجل.
قال إبراهيم بن أدهم: إنني أقبلت على الفقر ذات مرة بالروح، ثم اشتريته بعد ذلك بملك العالم، والآن أشتري منه لحظة واحدة بمائة من العوالم. وبهذا الثمن أقيِّم أي لحظة منه الآن. فما أن وجدت متعة الدنيا رخيصة حتى ودّعت السلطنة كليّة، فلا جرم أنني أدركت قدر الفقر، أما أنت فلا. ولذا ألهج في شكرِه أما أنت فلا.
جازف أهل الهمة بالروح والجسد، وقضوا سنوات عديدة في حرقة ونكد، وأصبح طائر همتهم للحضرة قرينا. وطرحوا عنهم الدنيا والدين، وإن لم تكن خليقاً بهذه الهمّة، فابتعد أيها الكسول، فلست ولياً للنعمة.
“كل من يعيب مرتكبي الذنوب والمعصية
يجعل نفسه في مقدمة خيل الجبابرة”
لماذا يبكي ملك الهنود
كان للهنود ملك مسن وقع أسيراً في يد جند محمود (السلطان محمود الغزنوي)، وما أن حمله الجند إلى السلطان حتى سارع ذلك الملك بقبول الإسلام، ثم حصل كل أسباب المعرفة، كما تحرر من جميع العالمين. بعد ذلك جلس وحيداً في الخيمة، وتخلّى عن قلبه، واستقر في محراب المحبة، حيث كان يقضي ليله ونهاره في بكاء وعويل، وكان نهاره أسوأ من ليله، وليله أسوأ من نهاره. وما أن زاد عويله ونحيبه حتى أُخبر محمود بأمره، فاستدعاه السلطان للمثول أمامه ثم خاطبه بالقول:
يمكنني أن أمنحك مائة مملكة اكثر مما كان لك، وأنت ما زلت ملكاً، فلا تنعِ حالك بسبب هذا الأمر، ولا تنخرط في البكاء أكثر مما أنت فيه!
قال ملك الهند: أيها السلطان العظيم، إني لا أبكي من أجل الملك والجاه، ولكنني أبكي خشية أن يسألني الله عز وجلّ يوم القيامة سؤالاً فيقول: أيها الجاهل سيئ العهد عديم الوفاء ، لماذا زرعت مع من مثلي بذور الجفاء؟ إذا لم يأتِك محمود بعالم غاصٌ بالفرسان والجنود ما تذكرتني، فكيف كان هذا؟ إن هذا بعيد عن الوفاء. لذا أوجبت تحرك الجيش من أجلك ومن أجل الآخرين، ومن دون هذا الجيش ما جاءتك منى تذكرة، فهل أدعوك صديقاً أم عدواً، وإلى متى يكون الوفاء مني ومنك الجفاء؟ فهذا الصنيع منك لا يجمل في الوفاء.
إن يأتي هذا الخطاب من الحق تعالى فكيف أجيب على ما بدر مني من عدم الوفاء؟ وكيف أواجه هذا الخجل وذلك الاضطراب؟ ولهذا يبكي الشيخ أيها الشاب، فاسمع كل حرف يقال عن الإنصاف والوفاء، واسمع جيداً لما يلقى في محيط الدرس، وإذا كنت وفياً فاعزم على سلوك الطريق، وإلا فارضَ بالقعود، وكفَّ يدك عن هذا الطريق، وكل من يخرج عن حيِّز الوفاء لا يليق بباب المروءة.
الغازي والكافر
طلب أحد الغزاة مهلة من كافر ذي همة، طلب مهلة ليؤدي صلاة، وما أن وافق الكافر حتى أدى الغازي الصلاة، ثم عادت الحرب بين الرجلين إلى مجراها. وكانت للكافر صلاته كذلك، فطلب مهلة هو الآخر، وانسحب من المجابهة، واختار الكافر ركناً أطهر، ثم وضع رأسه على التراب أمام الصنم. وما أن رآه الغازي واضعاً رأسه على الأرض، حتى قال: لقد واتتني الفرصة في ذلك الوقت، فأراد أن يضربه بسيفه، فجاءه هاتف من السماء صائحاً:
يا من تتسم بسوء العهد، عليك بالتمسك بالوفاء والعهد، إنه لم يضربك بالسيف وقد أعطاك المهلة أولاً، فإن تضربه بالسيف فكم تكون جاهلاً! فيا من لم تقرأ «وأوفوا بالعهود» لقد أصبحت خائناً للعهد، إذا كان الكافر قد أحسن صنعاً قبل هذا، فلا تكن عديم المروءة أكثر من هذا. لقد فعل الخير وأنت تفعل السوء، فافعل مع الخلق ما تريده لنفسك. كان لك الوفاء والأمن من الكافر، فأين وفاؤك إذا كنت مؤمناً؟ فيا أيها المسلم لقد جئت بعيداً عن التسليم، حيث كنت أقل وفاء من الكافر.
تحرك الغازي من مكانه بعد سماع هذا الحديث، وقد تملكه الخجل وأصبح يتصبب عرقاً من الرأس إلى القدمين. وما أن رآه الكافر منتحباً هكذا حتى وقف حائراً والسيف في يده، وقال لماذا تبكي؟ فلتقل حقيقة ما حدث؟
قال الغازي: لقد عوتبت في هذه اللحظة بسببك، ووصفت بعدم الوفاء من أجلك، لذا فأنا حائر هكذا بسبب قهرك.
ما إن سمع الكافر هذا القول الصريح، حتى أطلق صيحة عالية واسترسل في البكاء وقال: أهكذا يعاتب الله الجبار محبوبه من أجل عدوٍّه البغيض؟ فإن يعاتب هكذا في الوفاء فماذا أصنع يوم الحساب، وقد عدمت الوفاء؟ لتعرض عليّ الإسلام حتى أسارع بالدخول فيه، وأحرق الشرك، وأتبع شريعة اليقين، واأسفاه أن كُبِّل قلبي، وأصبحت عديم المعرفة بربي إلى هذا الحد.
كيف يموت من قلبه متعلق بالله
كان أحد العاشقين يبكي ساعة موته، فسئل: لِم هذا البكاء؟
قال: إنني ابكي بكاء سحابة الربيع، إذ يجب الإحساس بالألم في هذه اللحظة كما يجوز لي النواح الآن، إذ كيف يموت قلبي وهو متعلق به؟
قال أحد جلسائه: إذا كان قلبك متعلقاً به، فإن تمت، كان الموت فضلاً وخيراً.
فقال العاشق: كيف يموت كل من تعلق قلبه بالله؟ وكيف يكون الموت من نصيبه؟ وإذا كان قلبي في وصال دائم معه فإن موتي يكون غاية في المحال.
إذا سررت بهذا السر لحظة، فليس لهذا الكنز مثيل في هذه الحياة. كل من تَملَّكه السرور من وجوده، انمحى من الوجود وتحرر منه، لذا فليتملكك السرور من حبيبك على الدوام، حتى لا تتساوى مع الطين في داخلك.
غشاوة العشق
كان هناك رجل شجاع القلب شديد البأس عشق امرأة طوال خمس سنوات، وكانت على عين تلك المرأة الفاتنة الشبيهة بالصنم غشاوة بيضاء، ومع أن الرجل كان يكثر النظر إليها، إلا أنه لم يرَ تلك الغشاوة على عينها، إذ كيف يتأتى للعاشق، إذا كان ولهاً في عشقه، أن يدرك عيب معشوقه؟
وبعد فترة، أصاب الرجل في عشقه الفتور، ووجد الدواء، وضعف عشق تلك المرأة في قلبه، وهان أمرها على نفسه، عندها بان للرجل عيب عين المعشوقة، قال لها: متى أصابتك هذه الغشاوة؟
قالت له: في تلك الساعة التي قل فيها عشقك، أصاب العيب عيني في التو والحال، وما أن أصاب النقصان عشقك، حتى بدا العيب في عيني، ولقد فعلت ذلك لَمَّا سيطر على قلبك الاضطراب، فلتنظر إلى عيب واحد لك يا أعمى القلب!
ما أكثر ما بحثتَ عن عيوب الآخرين، فلتبحث ذات مرة عن عيوبك أولا، وما دام عيبك عليك ثقيلاً، فليس لك أن تهتم بعيوب الآخرين.
خطاب إلى داود النبي
وجه خالق الآفاق من فوق الحجاب إلى داود النبي هذا الخطاب، قال: كل شيء في هذه الدنيا، سواء كان حسناً أم قبيحاً أو كان ظاهراً أو باطناً، له عِوض إلا أنا. فلن تجد لي عِوضاً ولا قريناً. ولما كنتُ بلا عِوض فلا تكن من دوني، ويكفيني روحك، فكن روحاً ولا تكن جسداً، وأنت أيها الأسير لا غنى لك عني مطلقاً، فلا تكن غافلاً عن من هو واجب الوجود، ولا تطالب بالبقاء لروحك ولو للحظة من دوني، وكل ما يعرض أمامك غيري، لا تطلبه.
يا من أقبلت طالباً الدنيا، ستظل مشغولاً بآلام هذا العمل ليلاً ونهاراً، أنه مقصودك في كلا العالمين، كما أنه معبودك من قبل الإمتحان. واجبك أن تبيع الدنيا الفانية، لا أن تبيعه مقابل أي شيء في هذه الفانية، وصنمٌ كلُّ ما تفضله عليه، وكافر أنت إن تفضل الروح عليه.
ولياً للنعمة.
لماذا يبكي ملك الهنود
كان للهنود ملك مسن وقع أسيراً في يد جند محمود (السلطان محمود الغزنوي)، وما أن حمله الجند إلى السلطان حتى سارع ذلك الملك بقبول الإسلام، ثم حصل كل أسباب المعرفة، كما تحرر من جميع العالمين. بعد ذلك جلس وحيداً في الخيمة، وتخلّى عن قلبه، واستقر في محراب المحبة، حيث كان يقضي ليله ونهاره في بكاء وعويل، وكان نهاره أسوأ من ليله، وليله أسوأ من نهاره. وما أن زاد عويله ونحيبه حتى أُخبر محمود بأمره، فاستدعاه السلطان للمثول أمامه ثم خاطبه بالقول:
يمكنني أن أمنحك مائة مملكة اكثر مما كان لك، وأنت ما زلت ملكاً، فلا تنعِ حالك بسبب هذا الأمر، ولا تنخرط في البكاء أكثر مما أنت فيه!
قال ملك الهند: أيها السلطان العظيم، إني لا أبكي من أجل الملك والجاه، ولكنني أبكي خشية أن يسألني الله عز وجلّ يوم القيامة سؤالاً فيقول: أيها الجاهل سيئ العهد عديم الوفاء ، لماذا زرعت مع من مثلي بذور الجفاء؟ إذا لم يأتِك محمود بعالم غاصٌ بالفرسان والجنود ما تذكرتني، فكيف كان هذا؟ إن هذا بعيد عن الوفاء. لذا أوجبت تحرك الجيش من أجلك ومن أجل الآخرين، ومن دون هذا الجيش ما جاءتك منى تذكرة، فهل أدعوك صديقاً أم عدواً، وإلى متى يكون الوفاء مني ومنك الجفاء؟ فهذا الصنيع منك لا يجمل في الوفاء.
إن يأتي هذا الخطاب من الحق تعالى فكيف أجيب على ما بدر مني من عدم الوفاء؟ وكيف أواجه هذا الخجل وذلك الاضطراب؟ ولهذا يبكي الشيخ أيها الشاب، فاسمع كل حرف يقال عن الإنصاف والوفاء، واسمع جيداً لما يلقى في محيط الدرس، وإذا كنت وفياً فاعزم على سلوك الطريق، وإلا فارضَ بالقعود، وكفَّ يدك عن هذا الطريق، وكل من يخرج عن حيِّز الوفاء لا يليق بباب المروءة.
الغازي والكافر
طلب أحد الغزاة مهلة من كافر ذي همة، طلب مهلة ليؤدي صلاة، وما أن وافق الكافر حتى أدى الغازي الصلاة، ثم عادت الحرب بين الرجلين إلى مجراها. وكانت للكافر صلاته كذلك، فطلب مهلة هو الآخر، وانسحب من المجابهة، واختار الكافر ركناً أطهر، ثم وضع رأسه على التراب أمام الصنم. وما أن رآه الغازي واضعاً رأسه على الأرض، حتى قال: لقد واتتني الفرصة في ذلك الوقت، فأراد أن يضربه بسيفه، فجاءه هاتف من السماء صائحاً:
يا من تتسم بسوء العهد، عليك بالتمسك بالوفاء والعهد، إنه لم يضربك بالسيف وقد أعطاك المهلة أولاً، فإن تضربه بالسيف فكم تكون جاهلاً! فيا من لم تقرأ «وأوفوا بالعهود» لقد أصبحت خائناً للعهد، إذا كان الكافر قد أحسن صنعاً قبل هذا، فلا تكن عديم المروءة أكثر من هذا. لقد فعل الخير وأنت تفعل السوء، فافعل مع الخلق ما تريده لنفسك. كان لك الوفاء والأمن من الكافر، فأين وفاؤك إذا كنت مؤمناً؟ فيا أيها المسلم لقد جئت بعيداً عن التسليم، حيث كنت أقل وفاء من الكافر.
تحرك الغازي من مكانه بعد سماع هذا الحديث، وقد تملكه الخجل وأصبح يتصبب عرقاً من الرأس إلى القدمين. وما أن رآه الكافر منتحباً هكذا حتى وقف حائراً والسيف في يده، وقال لماذا تبكي؟ فلتقل حقيقة ما حدث؟
قال الغازي: لقد عوتبت في هذه اللحظة بسببك، ووصفت بعدم الوفاء من أجلك، لذا فأنا حائر هكذا بسبب قهرك.
ما إن سمع الكافر هذا القول الصريح، حتى أطلق صيحة عالية واسترسل في البكاء وقال: أهكذا يعاتب الله الجبار محبوبه من أجل عدوٍّه البغيض؟ فإن يعاتب هكذا في الوفاء فماذا أصنع يوم الحساب، وقد عدمت الوفاء؟ لتعرض عليّ الإسلام حتى أسارع بالدخول فيه، وأحرق الشرك، وأتبع شريعة اليقين، واأسفاه أن كُبِّل قلبي، وأصبحت عديم المعرفة بربي إلى هذا الحد.
كيف يموت من قلبه متعلق بالله
كان أحد العاشقين يبكي ساعة موته، فسئل: لِم هذا البكاء؟
قال: إنني ابكي بكاء سحابة الربيع، إذ يجب الإحساس بالألم في هذه اللحظة كما يجوز لي النواح الآن، إذ كيف يموت قلبي وهو متعلق به؟
قال أحد جلسائه: إذا كان قلبك متعلقاً به، فإن تمت، كان الموت فضلاً وخيراً.
فقال العاشق: كيف يموت كل من تعلق قلبه بالله؟ وكيف يكون الموت من نصيبه؟ وإذا كان قلبي في وصال دائم معه فإن موتي يكون غاية في المحال.
إذا سررت بهذا السر لحظة، فليس لهذا الكنز مثيل في هذه الحياة. كل من تَملَّكه السرور من وجوده، انمحى من الوجود وتحرر منه، لذا فليتملكك السرور من حبيبك على الدوام، حتى لا تتساوى مع الطين في داخلك.
غشاوة العشق
كان هناك رجل شجاع القلب شديد البأس عشق امرأة طوال خمس سنوات، وكانت على عين تلك المرأة الفاتنة الشبيهة بالصنم غشاوة بيضاء، ومع أن الرجل كان يكثر النظر إليها، إلا أنه لم يرَ تلك الغشاوة على عينها، إذ كيف يتأتى للعاشق، إذا كان ولهاً في عشقه، أن يدرك عيب معشوقه؟
وبعد فترة، أصاب الرجل في عشقه الفتور، ووجد الدواء، وضعف عشق تلك المرأة في قلبه، وهان أمرها على نفسه، عندها بان للرجل عيب عين المعشوقة، قال لها: متى أصابتك هذه الغشاوة؟
قالت له: في تلك الساعة التي قل فيها عشقك، أصاب العيب عيني في التو والحال، وما أن أصاب النقصان عشقك، حتى بدا العيب في عيني، ولقد فعلت ذلك لَمَّا سيطر على قلبك الاضطراب، فلتنظر إلى عيب واحد لك يا أعمى القلب!
ما أكثر ما بحثتَ عن عيوب الآخرين، فلتبحث ذات مرة عن عيوبك أولا، وما دام عيبك عليك ثقيلاً، فليس لك أن تهتم بعيوب الآخرين.
خطاب إلى داود النبي
وجه خالق الآفاق من فوق الحجاب إلى داود النبي هذا الخطاب، قال: كل شيء في هذه الدنيا، سواء كان حسناً أم قبيحاً أو كان ظاهراً أو باطناً، له عِوض إلا أنا. فلن تجد لي عِوضاً ولا قريناً. ولما كنتُ بلا عِوض فلا تكن من دوني، ويكفيني روحك، فكن روحاً ولا تكن جسداً، وأنت أيها الأسير لا غنى لك عني مطلقاً، فلا تكن غافلاً عن من هو واجب الوجود، ولا تطالب بالبقاء لروحك ولو للحظة من دوني، وكل ما يعرض أمامك غيري، لا تطلبه.
يا من أقبلت طالباً الدنيا، ستظل مشغولاً بآلام هذا العمل ليلاً ونهاراً، أنه مقصودك في كلا العالمين، كما أنه معبودك من قبل الإمتحان. واجبك أن تبيع الدنيا الفانية، لا أن تبيعه مقابل أي شيء في هذه الفانية، وصنمٌ كلُّ ما تفضله عليه، وكافر أنت إن تفضل الروح عليه.
“إن كنت تنعم عليّ بالكنوز في كل لحظة
فكيف يصيبني شيء مرّ منك بأي غصّة؟”


” لا تقل “أنا” يا من وقعت بسبب الأنانية
في مئات البلايا، حتى لا تصبح مبتلياً بإبليس “
عاقبة الغرور
خرج الشيخ أبو بكر النيسابوري مع أصحابه من الخانقاه إلى الطريق، وكان الشيخ يمتطي حماراً، ومن خلفه الأصحاب، وفجأة أصدر الحمار صوتاً مزعجاً، فأصيب الشيخ من ذلك بحالة هياج شديد، وصاح بأعلى صوت، ومزّق الاردية. أما المريدون الذين رأوه على هذه الحال، فلم يتقبلوا منه هذا العمل، ثم وجَّه أحدهم إليه هذا السؤال: أيها الشيخ، لِم فعلت ذلك؟
قال: كثيراً ما تحرزت وتمنعت، ثم سلكت الطريق بمفردي بعيداً عن الأصحاب؟ وقبل أن أكون مريداً، وبعد ذلك، كنت أقول في نفسي : حقاً إنني لست أقل من بايزيد. إنني اليوم أخرج إلى الطريق متبوعاً بالمريدين، وقد بدوت في أبهى زينة، أما في الغد فسأكون بلا قريب، متمتعاً بالسعادة والعز، إذ سأمضي في صحراء الحشر مرفوع الرأس. وفي هذه اللحظة وما أن خطر لي هذا التفكير حتى اتفق أن أصدر الحمار هذا الصوت ويعني ما حدث أن كل من يتشدق بهذه الطريقة، سيجيبه الحمار هكذا على الهواء. وقد اضطرمت النار في روحي حيث كان الوقت وقت حالي، واستغرقت في الحال.
طالما كنت في عُجُبِك وغرورك، فستظل جِدّ بعيد عن الحقيقة، فتخلَّص من عجبك واحرق غرورك، وإذا كان حضورك وليد نفسك، فاحرق حضورك، يا من تتلون بلون مغاير في كل لحظة، إن في داخل كل شعرة منك فرعوناً آخر، وطالما بقيت منك ذرة واحدة، فألوان النفاق العديدة فيك باقية، وإذا كان لك أن تجد الأمن من الأنانية، فلك أن تعادي كلا العالمين، وإن تفنَ نفسك ذات يوم، فستصبح ذا بريق وضياء مهما أظلمت الليالي، فلا تقل «أنا» يا من وقعت بسبب الأنانية في مئات البلايا، حتى لا تصبح بإبليس مبتلياً.
ابقراط في لحظة الموت
عندما كان أبقراط في النزع الأخير، كان معه تلميذه، فقال: أستاذي الكبير، كيف نكفنك ونطهر جسدك؟ وفي أي مكان من الأرض نضمك؟
قال: إن كنت ترغب في العثور عليّ مرة أخرى، فادفني في أي مكان ترغب. ولكني عشت عمراً مديداً، ولم أجد نفسي، فكيف تجدني أنت بعد موتي؟ فإذا رحلت، فهذا وقت الفناء، حيث لن تعرف شعرة واحدة من شعر رأسي أي خبر عني!
كن عبداً ذا حرمة
قال الخرقاني ساعة خروج الروح إلى الشفة في نزعها الأخير: يا للعجب، ليتهم شقوا روحي وفتحوا قلبي المشبوب، ثم أطلعوا العالم على قلبي، وشرحوا سبب اضطرابي، حتى يعلموا أن عبادة الصنم لا تليق مع معرفة السر، فلا تكن معوجّ السير.
هكذا تكون العبودية، وغيرها جنون، فالعبودية تعني التخلي عن الكلّ، يا عديم المروءة، فإن كنت نازعاً إلى الألوهية لا إلى العبودية، فكيف تكون لله خاضعاً؟ فتخلَّ عن نفسك وكن عبداً، بل كن عبداً متخلياً عن الكلّ، وعش هكذا. فإذا أصبحت عبداً، فكن ذا حرمة، بل وكن ذا همة في طريق الحرمة، فإن يتقدم أي عبد لسلوك الطريق بلا حرمة، فسرعان ما يبعده السلطان عن بساطه، ولقد أصبح الحرم حراماً على من لا حرمة له، فإن تتصف بالحرمة فهذه هي النعمة التامة.