الأربعاء, أيار 1, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأربعاء, أيار 1, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

حوارات افلاطون

محــــــاورة كــــــارميـــــديس

حُسْـــنُ الخُلُــــق

مَجْمَــــعُ الفضائــل وسَجِيَّــــةُ الحكمـــاء

سقراط: «كما يتعيّن عليك ألَّا تحاول مداواة العين من دون الرأس أو الرأس من دون الجسد، وجبَ ألا تسعى لمعالجة الجسـد من دون الـرُّوح”

تدور محاورةُ “كارميديس” (Charmides) حول مفهوم حُسْن الخُلُق، والتعقُّل، والإتزان العقلي والنفسي، والتناغم الداخلي، والحكمة العمليّة، أو كما عرّفها أفلاطون في “الجمهورية” بأنّها “التناغم بين العناصر العليا والدنيا في الطبيعة البشرية” الذي يجعل الإنسان سيّداً لنفسه، قبل أن تتركّز هذه الكلمة حول معنى الفضيلة الأخلاقية في مراحل لاحقة من تطوُّر علم الأخلاقيات ولا سيّما عند أرسطو.
تُصنَّف محاورة “كارميديس” بكونها من بين المحاورات الأولى لأفلاطون التي وضعها في وقتٍ مبكر من حياته وذلك بإعتمادها نسبياً على الأسلوب السقراطي في التساؤل الفلسفي الإستقرائي والإنتهاء من دون نتيجة حتميّة، حيث انتقل أفلاطون في سلسلة محاوراته اللاحقة من هذا النهج إلى نظام فلسفي أكثر تعقيداً. إنّها نصّ فلسفي يتحدّ فيه صوتا سقراط وأفلاطون روايةً وتأليفاً، نهجاً وتعليماً.
واللافت أنّ محاورة “كارميديس” هي من بين المحاورات الأفلاطونية التي قلَّ تناولها بالدرس والتحليل. وهي تستعرض، كشأن باقي المحاورات، عدداً من الفرضيات الجدلية التي تستهدف الحث على التفكر وإعمال العقل ولا تهتم بإصدار أحكام قاطعة أو توكيدات جليّة قليلة في النهاية، وهذا ما يعطي المحاولات هذا الإثراء الفلسفي، إذ تبدو كل محاورة بمثابة عملية تطور في طرح الأسئلة ومحاولة الجواب عليها من أكثر من زاوية، لكن المحاورة ليست مع ذلك مجرد نقاش نظري عقيم بل هي عملية بناء حاذقة للوعي تستثير ملكة الإدراك والتمييز في المشاركين تحت إشراف المعلم الذي غالباً ما يكون سقراط وهو يقود النقاش بصورة بناءة حتى بلوغ درجة أعلى من الحقيقة أو الإقتراب منها على الأقل. ولا ننسى أن التعليم اليوناني مثله مثل التعليم الحكمي عموماً يأخذ في الاعتبار طبيعة المشاركين وظروف كل منهم وطاقته، وهناك درجة كبيرة من “خاطبوا الناس على قدر أفهامهم” وهذه إحدى أهم ميزات التعليم السقراطي الذي لا يكترث بمدى علم الشخص أو سعة إطلاعه بقدر ما يعتمد على الفطرة والكشف التدريجي لمعنى الحقائق عبر دور المعلم نفسه وقدرته على أخذ الحوار في سياق تدرجي بحيث لا يبقى التباين في مكانه. وفي محاورة كارميديس ينطلق سقراط من موضوع حسن الخلق لينتقل به بصورة تدريجية إلى المسألة الاهم في الفلسفة الإغريقية وهي “معرفة الذات” (Self Knowledge) وهو موضوع يبدو عند طرحه أكثر صعوبة من التعريفات الابتدائية لمفهوم بسيط مثل حسن الخلق.
يلاحظ مع ذلك أن محاورة كارميديس تحتوي على مقطع مهم حول تكامل الجسد والروح وهو مقطع يتحول خلال الحوار إلى بحث مهمة الطبيب وكيف أن عليه أن يعالج الجسد والروح وكيف أن علاج الروح يكاد يكون هو الأًولى والمنطلق. وفي هذا التحديد المدهش لتكامل وظائف الجسد والروح درس مهم لعلم الطب الحديث الذي انحرف إلى فصل مصطنع وجعل عمله التركيز على الجسد وأمراضه وهذه المثل الإغريقية تضرب جذورها عميقاً في التعاليم الفيثاغورسية، كالخير والجمال، ومثال الروح الجميلة في الجسم الجميل، التي يُجسِّدها كارميديس، والمفهوم الحقيقي للطب بكونه عِلماً للكل كما للأجزاء، وعلماً للعقل والنفس كما للجسد. ومن المدهش فعلاً أن نرى النظرة المتقدمة والريادية إلى الإنسان عند الإغريق وفي الحقيقة هي نفسها التي نراها في الحكمة الأيورفيدية الهندوسية وفي مختلف الفلسفات القديمة، وهذه النظرة هي التي بدأنا نرى انبعاثها الآن واتساع نطاقها على أثر إخفاق الطب الحديث المُجزئ للإنسان في تأمين صحة حقيقية للفرد وللجماعة.

معلم-الطب-الإغريقي-أبوقراط،-أفلاطون-دعا-لعدم-الفصل-بين-معالجة-الجسد-ومعالجة-الروح
معلم-الطب-الإغريقي-أبوقراط،-أفلاطون-دعا-لعدم-الفصل-بين-معالجة-الجسد-ومعالجة-الروح

تعريف الفضيلة
يتدرّج تعريف هذه الفضيلة في المحاورة سواء كانت حُسْنَ خُلُقٍ، أم تعقُّلاً، أم اتّزاناً وحكمةً عملية في ترتيبٍ منتظم يبدأ من المفهوم الشائع وصولاً إلى التفسير الفلسفي. فالتعريفان الأولان، “الهدوء” و”الاعتدال”، بسيطان بما يكفي وهما حقيقيان إلى حدٍّ ما، ولا سيّما من وجهة نظر شاب في مغامرته الفكرية الأولى. أمّا التعريف الثالث، أي “قيام المرء بأعماله الخاصة”، فيُمثِّل إسهاماً فعلياً في الفلسفة الأخلاقية. في المقابل، ترنو التعريفات المتبقّية إلى هدفٍ أعلى يتمثَّل في طرح مفهوم المعرفة و”معرفة الذات”، أو توحيد الخير والمعرفة في علم واحد.
وهنا تكمن صعوبة محاورة “كارميديس” في المعنيين المتضمّنين في هذه السجيّة. فمن المنظور الأخلاقي، يتعدّى تعريفها من الهدوء إلى الاعتدال، إلى قيام المرء بعمله الخاص، والقيام بالأفعال الخيِّرة، ارتقاءً إلى المفهوم الفكري حول علم معرفة الذات، ومعرفة ما نعلمه وما لا نعلمه، ومعرفة الخير والشر، وحتى “معرفة المعرفة”.
رغم أن جميع التعريفات التي طرحت في سياق المحاورة رُفِضَت بشكل ما إلا أنها ألقت في النهاية ضوءاً يمكّننا من فهم حُسْن الخُلُق كفضيلة تقترن بالحكمة وسجيّة يتحلّى بها الحكماء.
يحتفظ سقراط بالحبكة الدرامية حتى النهاية، حيث يُقارب العديد من الحقائق الكبرى، التي سلّط الضوء عليها في محاورته من زوايا مختلفة، وهو إمّا أخضعها لاختبار الحس السليم، أو تطلّب الأمر منه دقة كبيرة في استخدام الكلمات، ليعود ويُنهي المحاورة من دون نتيجة حتميّة، تاركاً للمُريد والباحث والقارئ التوصُّل إليها بحسب مبلغه من الفهم الفلسفي، لكن بدا واضحاً التأكيد على كون هذه السجية تجمع بطريقة ما كل الفضائل التي اقترحت وأنها والحكمة صنوان.
المشهد: سقراط عائدٌ إلى أثينا بعد مشاركته مع الجيش الأثيني في معركة بوتيديا (Potidaea) في بداية “حرب البيلوبونيز”، يتّجه نحو “مدرسة المصارعة في تورياس” (Palaestra of Taureas) قبالة الهيكل قرب “رُواق الملك أركون” توقاً للأيام الخوالي مع الصحب ولاستطلاع مآل الحكمة بين مواطنيه بعد غيابه لمدة طويلة في خدمة الجيش.
فاجأ الجميع بحضوره فرحَّبوا به وسارع كايريفون (Chaerephon) الساذج إلى تقصِّي أخبار المعركة وأنباء سقوط بعض الأصحاب هناك. أخذ سقراط مكاناً إلى جانب كريتياس، ابن كالايسخروس (Callaeschrus) وأجاب على أسئلتهم وأنبأهم بما كانوا يتوقون لمعرفته عن معارك جيش أثينا. وبعد ذلك، شرَعَ سقراط بدوره يسأل الجميع عن الوضع الحالي للفلسفة في أثينا وعن حال الشباب فيها، وإذا ما تميّز وسطهم أحدٌ حكمةً أو جمالاً، أو في كلاهما.
تولّى كريتياس الإجابة على شق الجمال، وهو يتطلّع نحو بوّابة المدرسة حيث كان يدخل بعض الفتية، مُخبِراً سقراط بأنّه سيرى الآن مثالاً عنه. فأطلّ كارميديس المتمتع بجمال الهيئة محاطاً بصحبه، وأخذ مكانه، واسرّ كريتياس لسقراط بأنّ كارميديس يشكو صداعاً فلعلّ حجَّة استدعائه تكون أن يعالجه سقراط، الطبيبُ المُفترض، من صداعه. فسمِعَ كارميديس من ابن عمه وقدِمَ إلى سقراط ظناً منه أنّه طبيبُ أجسام ولم يعلم بعد أنّه طبيبُ أرواح.

جمال الرُّوح
وافقَ سقراطُ الجميعَ على مدى حُسْنِ مُحيَّا هذا الفتى وإطلالته، إلا أنّه استدرك إنبهارهم بجماله الخارجي متمنيّاً لو كان يتمتّع أيضاً بجمال الرُّوح، أي أنّ يكون جميلاً في الداخل كما هو في الخارج، آمِلاً لو يتبدّى الحُسْنُ في روحه كما يبدو الحُسْنُ في ظاهره، وكأنّ لسانَ حاله يُردّده قول الشاعرٌ العربي:
وما الحُسْنُ في وَجْهِ الفَتى شَرَفاً لهُ إذا لَمْ يَكُنْ في فِعْلهِ والخَلائقِ
وطمأن سقراط كريتياس بأنّه قد يكون كذلك، لأنّه يتحدّر من نسل صولون، وهذا ما سارع كريتياس إلى تأكيده، منوّهاً بأنّه يتمتّع بالحكمة أيضاً، وأشياء أخرى كالمقدرة على نظم الشعر.
لكن كيف يمكن علاج كارميديس من صداعه؟ إنّه دواءٌ أو “رُقْية”. الدواءُ لعلاج العلّة في الجسد والرُقْية لعلاج منشأها في الروح! ولا حاجة للرُقْية إذا كان المرء متحلياً بحُسْن الخُلُق والإتزان النفسي.
قال سقراط لكارميديس:
بمثل هؤلاء الأسلاف (يا كارميديس) حُقَّ لك أن تكون أولاً في كل شيء، ومظهرك يا نجل غلاكون ليُكرِمَهم أيضاً، لو أنّك أضفتَ إلى الجمال حُسْنَ خُلُقٍ، وإذا كنتَ كما أفصحَ كريتياس، يا عزيزي كارميديس، فمباركٌ أنتَ بكونك من هذا النسل. وهنا يكمن المغزى؛ فإذا كنتَ كما أفصَحَ تملك نعمة حُسْنِ الخُلُق بالفعل، وبالقدر الكافي، فعندها لا حاجة لكَ لأي رُقْية، لذا رجاءً أبلغني ما إذا كنتَ تعترف بحقيقة ما قاله كريتياس؛ هل تتحلَّى بسَجِيّة حُسْن الخُلُق أم لا؟
وهنا يُقنِع سقراط الفتى كارميديس بأنّ العلاج الناجح إنّما لا يُشفي الجسد فحسب بل الرُّوح أيضاً.
يحُدِّث سقراط الفتى عن الأطباء الألمعيين الذين يعالجون الجسم ككل قبل أن يعالجوا أي جزء منه. ويستشهد بالأطباء الترياقيين الذين يعالجون الرُّوح كما يعالجون الجسد. وينقل عن أحدهم قوله “كما يتعيّن عليك ألَّا تحاول أن تُداوي العين من دون الرأس، أو الرأس من دون الجسد، وجبَ ألا تسعى لمعالجة الجسد من دون الرُّوح”. فبالنسبة إليه لا يمكن أن يتعافى الجزء ما لم يكن الكلُّ متعافياً، وكل خير وشر، سواء في الجسد أو الطبيعة البشرية، إنّما ينبع من النفس ويتدفّق منها إلى الخارج لذا، ينبغي البدء بمعالجة النفس أو الرُّوح بهذه “الرُقْية” لبَثّ الاعتدال والتوازن وحُسْن الخُلُق فيها، وحيث كانت هذه الفضائل تكون الصحة في كامل الجسد، فوجبَ ألَّا نُشفي الرأس قبل شفاء الرُّوح. والخطأ الأكبر الذي يقوم به أطباء عصره هو فصلهم علاج الجسد عن الرُّوح. وهنا يقول سقراط مجدداً لـ كارميديس إنّه إذا كان كما يؤكد كريتياس متحلّياً بحُسْن الخُلُق والإتزان فلا حاجة له
لـ “الرُقْية”، وطلب منه أن يُخبره ما إذا كان كريتياس صادقاً في اعتباره متحلّياً بهذه المزيّة.

سقراط: مرّةً أخرى يا كارميديس، تنبَّه جيداً، وانظرْ في داخلك، وتحر تأثير حُسْن الخُلُق فيك وطبيعة هذا التأثير. فكِّرْ في كل ذلك، وكشابٍ شُجاع أخبرني – ما هو حُسْن الخُلُق.

إرتسمت على مُحيّا كارميديس علاماتُ الخجل وقال إنّه إذا أنكر ثناء ابن عمه كريتياس فهذا تصرُّف غريب بحق نفسه وتكذيب لـ كريتياس والآخرين الذين يوافقونه الرأي، وإذا أقرَّ بذلك، فيكون قد أثنى على نفسه وهذا تصرُّف فيه غرور، لذا عجز عن الإجابة.
طمأنه سقراط بأنّ موقفه هذا طبيعي، وبالتالي يتعيّن عليهما أن يتقصّيا معاً ما إذا كان يتحلّى بحُسْن الخُلُق، والأفضل بدايةً أن يطرح عليه سؤال حول حُسْن الخُلُق، فإذا كانت سجيّة فيه، فلا بُدَّ أن تكون لديه وجهة نظر عن طبيعتها وفضائلها ولو ببساطة كلية.
كان السؤال الأول: ما هو حُسْن الخُلُق برأيك؟

” ما هو حسن الخلق؟ هل هو الهدوءأو الإعتدال أو حب الخير أو معرفة الذات؟  “

معبد-أبولو-في-دلفي-حيث-نقشت-العبارة-الشهيرة---أعرف-نفسك
معبد-أبولو-في-دلفي-حيث-نقشت-العبارة-الشهيرة—أعرف-نفسك

حُسْن الخُلُق هدوء؟
عند هذه اللحظة يبدأ النقاشُ الفعلي في المحاورة لمفهوم حُسْن الخُلُق، حيث يحاول كارميديس تعريف هذه السجيّة. بدا عليه التردُّد والإحجام عن الإجابة بداية، لكنّه بادر إلى اعتبار حُسْن الخُلُق هو نوع من الهدوء، إلا أنّ سقراط سرعان ما فنَّدَ هذا التعريف: فأيُّهما أفضل في الكتابة والقراءة وعزف القيثارة والتعلُّم والاستيعاب والتذكُّر والمصارعة والتمارين الرياضية، السرعة أم التباطؤ ؟ فوافق كارميديس مع سقراط بأنّ السرعة هي أفضل نشاطاً وحذاقةً وتعلُّماً وشحذاً للنفس، ولا سيّما في تقصّي النفس عن الحقائق والمعارف والإستكشاف. إذاً، حُسْن الخُلُق ليس هدوءاً.

حُسْن الخُلُق اعتدال؟
إلا أنّ سقراط لم يجعل كارميديس يُحبَط بل بثّ فيه الشجاعة على التأمُّل والخروج بإجابة أخرى، أطرق كارميديس هنيهةً باذلاً الجهد في تفكيره وجاء بإجابة أخرى: حُسْن الخُلُق هو اعتدال. وهنا يستشهد سقراط ببيت شعرٍ لـ هوميروس:
“الاعتدالُ ليس فضيلة لإنسانٍ محتاج”
وعنِيَ بذلك أنّ ثمة مواقفَ لا تتطلّب اعتدالاً كالدفاع عن النفس والمطالبة بالحقوق وما شابه ذلك ممّا يخشى فيه وقوع تفريط بحَقّ.
فوافَقه كارميديس أنّ للإعتدال وجهاً جيداً وآخر غير ذلك على عكس حُسْن الخُلُق.

حُسْن الخُلُق قيام المرء بأعماله الخاصة؟
هنا يلجأ كارميديس إلى تعريفٍ سَمِعَهُ من “أحدهم”، مُلمِّحاً إلى كريتياس، ومفاده أنّ “حُسْن الخُلُق هو قيام المرء بأعماله الخاصة”، فهل كان ذلك الشخصُ مُحِقّاً؟ وعمِلَ سقراط على دحض هذه الفكرة أيضاً، فالحِرَفي على سبيل المثال يحافظ على حُسْن خُلُقه حتى ولو كان يقوم بأعمال الآخرين، أو لأجلهم.
سقراط: إذاً، حُسْن الخُلُق ليس بقيام المرء بأعماله الخاصة؛ أو أقلّه القيام بأشياء من هذا القبيل.
كارميديس: حتماً لا.
إذاً، كما كنتُ أقول للتو، ذلك الذي جهَرَ بأنّ حُسْن الخُلُق هو قيام المرء بأعماله الخاصة إنّما يُخفي معنى آخر؛ إذ إنّني لا أعتقد أنّه على هذا القدر من الحماقة ليعني ذلك. هل كان مغفّلاً مَنْ أخبركَ بذلك يا كارميديس؟
كلا، (أجاب كارميديس)، أخاله بالتأكيد رجلاً حكيماً.
إذاً، أنا على يقين من أنّه وضع هذا التعريف كأُحجية، ظاناً أنّ أحداً لن يعلم معنى كلمات “قيام المرء بأعماله الخاصة”.
وتبيّن عندئذ أنّ كريتياس هو وراء هذا التعريف وسُرعان ما استُفِزّ هذا الأخير وانبرى يدافع عن مقولته، وليتولّى محاورة سقراط من هنا وحتى قبيل نهاية المحاورة بقليل. ودفاعُ كريتياس عن تعريفه هذا استند إلى تمييز بين “القيام بالأشياء”، و”صنعها”، و”العمل”. وحُسْن الخُلُق يكمن في عمل الخير. هنا يتوسّع سقراط في هذه المقولة لتشمل القيام بما هو خير للآخرين وللنفس، لكنّ الناس غالباً ما لا يعلمون أنّ أعمالهم ستكون ذات نفعٍ بهذا الشكل، وبالتالي من الممكن أن يكون المرء متمتّعاً بحُسْن الخُلُق من دون معرفة ذاتية بذلك.

حُسْن الخُلُق معرفة الذات؟
كريتياس يرفض بقوة افتراض أنّ يكون المرءُ حَسَنَ الخُلُقِ من دون أن يعرف ماهية حُسْنِ الخُلق، ويُعيد صياغة النقاش بأكمله ويجعل “معرفة الذات” التعريفَ الجديد لحُسْن الخُلُق، مستشهداً بذلك القول الشهير المنقوش على مدخل معبد “دلفي”: “اعرَفْ نفسَك” (باليونانية “غنوثي سيوتون”.
يقول كريتياس:
أكادُ أقول إنّ معرفة الذات هي جوهر حُسْن الخُلُق، وبذلك أوافق مع ذاك الذي كرّس نقش” إعرفْ نفسك” في دلفي.
يُعتبر اقتراحُ كريتياس هنا النقاشَ المحوري في محاورة كارميديس، لكن كيف لنا أن نفهم “معرفة الذات” كأساسٍ لحُسْن الخُلُق؟ بدأ هذا النقاشُ بوصيّة “نقش دلفي” المعتبرة لدى الإغريق ليتطوّر إلى فكرة فلسفية أكثر تعقيداً بكثير هي “معرفة الذات”. وهنا يستخدم أفلاطون النهج السقراطي في التساؤل الإستقرائي لإعادة صوغ أو دحض المفاهيم الإغريقية المُسلَّم بها والتي تعلّمها الإغريق من السوفسطائيين. واللافت أنّ نقاش “إعرفْ نفسك” ذو دلالة عميقة في المحاورة، إذ إنّ سقراط لا يحاول هنا إثبات خطأ هذه المقولة بل بالعكس يسعى إلى الحث على فهمها بنهجٍ عقلاني، وإلقاء الضوء على الحكمة الفيثاغورسية القديمة بصياغةٍ جديدة.
ووافق الاثنان على أنّ حُسْن الخُلُق إذا كان نوعاً من المعرفة فهو إذاً نوعٌ من العلوم. وكان اقتراح كريتياس الأوّلي أنّ حُسْن الخُلُق هو “علمُ ذات المرء” ولو لم يتّضح ما هو تأثير هذا “العلم”.

جملة-أعرف-نفسك-المنقوشة-على-مدخل-معبد-أبولو-في-دلف---اليونان
جملة-أعرف-نفسك-المنقوشة-على-مدخل-معبد-أبولو-في-دلف—اليونان

حُسْن الخُلُق معرفة المعرفة وعلم العلوم؟
التأكيد بأنّ حُسْن الخُلُق هو نوعٌ من علم معرفة الذات تطوّر إلى فرضية بأنّ حُسْن الخُلُق يتعيّن أن يكون علماً بحد ذاته وعلماً لجميع العلوم، بل “علم العلوم”. وذهب سقراط إلى حدّ القول إنّ مثل هذه المعرفة، لكي تكون معرفةً حقّة للذات، وجبَ أن “تعرف أيضاً ما لا تعرفه”. وبدا “علم” حُسْن الخُلُق عندئذ فكرة عصيّة على الفهم، بل لربّما مفارقة ، حيث أنّ سقراط غير متأكد من وجود مثل هذه المعرفة من حيث المبدأ وبالتالي غير متأكد ما إذا كانت مصدرَ خيرٍ في الأساس.
قال سقراط:
لستُ متأكداً ما إذا كان ثمة ما هو “علم العلوم”؛ وحتى لو كان موجوداً، فلا أعترفُ به بكونه حكمةً أو حُسْنَ خُلُقٍ، حتى يتسنّى لي رؤية ما إذا كان مثل هذا العلم قادراً أم لا على أن يؤتِينا بأيّ خيرٍ؛ إذ لديّ انطباعٌ بأنّ حُسْنَ الخُلُق هو منفعة وخير.
فثمة سؤال يطرح نفسه: لكلّ علمٍ موضوع، فالعددُ مثلاً هو موضوع الحساب، والصحة موضوع الطب، فما هو موضوع “حُسْن الخُلُق”؟ يأتي الجواب بأنّ حُسْن الخُلُق هو معرفة الإنسان لِمَا يعرفه ولِمَا لا يعرفه, لكن ثمة تناقضاً في هذا الكلام، فعلى سبيل المثال ما من رؤيةٍ للرؤية بل فقط أشياء مرئية، وهكذا دواليك من الأمثلة المشابِهة ليصلا إلى أنّ ليس هناك “معرفة للمعرفة” بحد ذاتها. فما هو أكبر أو أثقل أو أخف إنّما هو أكبر أو أثقل أو أخف من شيء آخر، لا من نفسه. فموضوع النسبية هو خارج الشيء لا متضمناً فيه.
والمعرفة هذه تجريد (abstraction) ولا تُنبئ عن موضوع متعيّن ملموس (concrete)، مثل الطب أو البناء أو ما شابه. وبالاعتراف أنّ هناك معرفة لِمَا نعرف ولِمَا نجهل، يبقى السؤال، أين الخير في ذلك؟ فلا بُدّ من أن تكون المعرفة التي يوفّرها حُسْن الخُلُق من النوع الذي يمنحنا الخير، فحُسْن الخُلُق هو خير، إلا أنّ هذه المعرفة الكلّية لا علاقة لها بالسعادة والخير، والنوع الوحيد من المعرفة الذي يجلب السعادة هو معرفة الخير والشر.
كريتياس يُجيب بأنّ علم أو معرفة الخير والشر، وجميع العلوم، إنّما تنتظم تحت العلم الأرقى أو “معرفة المعرفة”. لكنّ سقراط يُجيبه بالفصل مجدداً بين المجرّد والملموس، ويسأل كيف تبعث هذه المعرفة على السعادة بالطريقة ذاتها التي يبعث فيها الطبُّ على الصحة.
حينما يلجأ سقراط إلى التحدُّث عن “حُلُمه” حول الدولة المثالية التي تحكمها الحكمة (معرفة المعرفة)، تتبدّى الإشكالية في أنّه غير متأكد من أنّه حتى في مثل هذه الدولة المثالية، في حال وجودها، سيكون الجميع سعداء. هنا تكون الإشكالية في الربط بين حُسْن الخُلُق المثالي المحض، أو الحكمة المثالية المحض، والسعادة “المتعيّنة” في عالم الواقع. فما هي “معرفة المعرفة” التي تجعلنا سعداء فعلياً؟ هل هي معرفة الخير؟
الآن أوافق تماماً، بمقتضى ذلك، أنّ البشرية ستحيا وتعمل وفقاً للمعرفة، إذ إنّ الحكمة ستترقّب الجهل وتمنعه من اختراقنا. أمّا إذا ما كان العمل وفقاً للمعرفة ستترتّب عليه سعادة، فهذا يا عزيزي كريتياس ما ليس بمقدورنا بعد تحديده.
أجاب: أعتقدُ مع ذلك أنّنا إذا أهملنا المعرفة، فسيصعب علينا الظفر بتاج السعادة في أي شيء آخر.

” لا يمكن أن يتعافى الجزء ما لم يكن الكلُّ متعافياً، وكل خير وشر، سواء في الجسد أو الطبيعة البشرية، إنّما ينبــــــع
من النفس ويتدفــّق منها إلى الخـارج  “

جانب-من-أثينا-القديمة
جانب-من-أثينا-القديمة

تلميذٌ حَسُن الخِلْقة والخُلُق
عدم الخروج بجواب نهائي لتعريف حُسُن الخُلُق لم يُثبِّط عزيمة كارميديس، إذ بدا في الختام أنّ سقراط فازَ بتلميذٍ جديدٍ متعطِّشٍ للفلسفة، وتوّاقٍ “للإفتتان” يومياً بحكمته وتعاليمه. وبذلك أثبت كارميديس أنّه لا يتمتّع بحُسْنِ الخِلْقة فحسب بل أيضاً بحُسْنِ الخُلُق. فقد قرر مواصلة التعلُّم منه ومعرفة المعنى الحقيقي لحُسْن الخُلُق. لقد اكتشف بالفعل أنّه أكثر ما يكون مًتحلِّياً بحُسْن الخُلُق أشدّ ما يكون متمتّعاً بالسعادةً، بغض النظر عن الجدل الدائر حول هذه السجيّة والتعريفات الفلسفية لإستكشاف كُنهها.
وهذه التعريفات تمثّل النهج السقراطي وهو شكلٌ من أشكال البحث المعرفي لإستجلاء الحقائق، فعبر طرح الفرضيات ودحضها ورفضها يرتقي المُحاوِران إلى معرفة إيجابية، أو أقلّه إلى فهمٍ أفضل لما يعرفانه حقاً وما كانا يظنّان أنّهما يعرفانه. وتكشف هذه التعريفات إصرار سقراط على التثقيف الأخلاقي بالرُّوحيّة الفيثاغورسية، داعياً إلى التحلِّي بالفضائل الأخلاقية ومعرفة الذات والسعي وراء السعادة في المعرفة العقليّة والتأمُّل النفسي.
المغزى الرئيسي من وراء “محاورة كارميديس” هو أنّ آداب النفس البشرية تأتي أولاً حتى قبل الفلسفة وتعريفاتها، وكأنّ حُسْن الخُلُق هو كل تلك الصفات والمزايا الحميدة معاً بل هو مَجْمَعٌ لتلك الفضائل والسَجِيَّة الأولى لكلّ حكيمٍ مُحِبٍّ للحكمة والفلسفة.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading