حِوارات طاغور وأينشتاين
بين حسابات العالِم وتجليّات العِرفان الصّوفيّ
أينشتاين: الفيزياءُ الكوانطيةُ لم تَقُلْ «مع السّلامة» لقانون السّببيّة
طاغور: ربّما، لكنْ هناك قوّة أخرى فاعلة تفسّر هذا الوجود المنظّم
أينشتاين طاغور
العالم موجود باستقلالٍ عن الإنسان وعن فكرِه لو لم يكن الإنسان مُشترِكا
وقوانين الوجود لا يمكنُ للفكر أن يبدِّل مفاعيلها في حقيقة الوجود فكيف يمكنُه أنْ يدركَه أو أن يفهمَ أبعادَه؟
في ثلاثينيّات القرن الماضي حصلت لقاءات عدّة بين عالم الفيزياء النوويّة والرّياضي الشهير أينشتاين وبين شاعر وفيلسوف هندي (كان شهيراً بدوره) هو رابندرانات طاغور. واعتبرت تلك الحوارات نصوصاً نموذجيّة لإظهار الاختلاف الكبير بين النظريّة الماديّة للكون وبين النّظريّة الدينيّة أو الروحيّة للوجود. ولا زالت نصوص تلك الحوارات تُعتّبر مادّة للبحث والتّعليق من قبل مواقع علميّة أو فلسفيّة وهذا رغم أنّها نصوص موجَزة وجرت على شكل محادثات تمّ تسجيلها يومذاك.
لم يُفلح طاغور بالضّرورة في إقناع أينشتاين أو تقديم شرح مفحم لوجهة النّظر الصّوفيّة الهنديّة لأنّه لم يكن من الحكماء أصحاب الاختبار المباشر بقدر ما كان شاعرا مبدِعاً ومتأثرا جدّاً باختبارات الحكمة والتّقليد الهندوسي الفيدانتي لكنّه تمكّن في الحوار من عرض وجهة النّظر المخالفة للنّظريات الماديّة الطّبيعيّة التي يمثّلها أينشتاين. وقد تلخّصت وجهة نظر طاغور في أنّ العالم ليس موجوداً خارج وعي الإنسان أي أنّه لا يوجد عالم مادّي من دون إنسان مدرك لهذا الوجود، من هنا قوله إنّه لو لم يكن الإنسان مشتركا في حقيقة الوجود فكيف يمكنه أن يدركه أو يفهم أبعاده؟
على العكس من ذلك فإنّ أينشتاين كان مقتنعاً بأنّ العالم موجود بقوانينه ولاسيّما قوانين السّببيّة مستقلّا عن الإنسان أو عن فكره. لذلك لم يقبل أينشتاين بفكرة أنّ هناك وعياً كونيّاً يتحكّم بالطّبيعة. في الطّرف المقابل برز عالم الفيزياء بوهر الذي طوّر نظريّة الفيزياء الكوانتيّة والذي توصّل إلى القول مع فلاسفة الفيدانتا الهنود بأنّ العالم الماديّ غير موجود إلا بمعيار حواسّنا النّسبية (وهي أدوات قاصرة عن إدراك حقيقة الوجود)..وقد فوجئ أينشتاين بنظريّة نيلز بوهر في الفيزياء الكمّيّة أو الكوانتيّة التي أثبتت أنّ العالم لا يسير وفق قوانين سببيّة صارمة وأنّ الوجود فيه قدر كبير من الحرّيّة لكنّه رغم الأدلّة القويّة على صحّة الفيزياء الكوانتيّة فإنّه أصرّ على عدم القبول بها مُطلِقا تصريحه الشّهير: “الله لا يلعب النّرد”.! وعلى هذا التّصريح ردّ بوهر على أينشتاين بالقول: “كُفّ عن إخبار الرّب ماذا عليه أن يفعل بالنّرد” مُلمحا إلى أنّ الله تعالى غير مقيّد بالسّببيّة وهو فعّال لما يريد وهو عكس النّظريّة الماديّة في تفسير الوجود التي تبنّاها أينشتناين.
أمّا طاغور فقد تضمّن موقفه تسوية تقول بوجود العالم. لكنّ وجوده يخضع إلى إرادة قوية واعية أو وعي كوني هو الذي يعطي لهذا الوجود تناغمه وتوازنه ومعناه.
في ما يلي تعرض “الضّحى” لنصوص من حوارين جَرَيا بين طاغور وبين أينشتاين، وذلك على سبيل توضيح مرتكزات التّفكير الطّبيعي أو الماديّ وفي المقابل التّفكير الرّوحيّ الذي يَعتبر أنّ من المُستحيل وجود الكون الماديّ إلّا بالتّكامل مع الوعي الإنسانيّ الذي هو انعكاس للوعي الكونيّ الشّامل الذي يحرّك الكون ويعطي لحركته صفات التّناغم والتّوازن والكمال المناقضة تماماً لفكرة الصّدفة أو العشوائيّة.
أينشتاين: هل تؤمن بوجود إلهيّ معزول عن العالَم؟
طاغور: إنّه ليس معزولاً، فالشّخصية اللّامتناهية للإنسان تستوعب الكون وما من شيء لا يمكن للشّخصية الإنسانيّة أن تشمله، وهو ما يُبرهِن أنّ حقيقة الكون هي حقيقة الإنسان.


أينشتاين: ثمة مفهومان مختلفان حول طبيعة الكون: العالَمُ كوحدة تعتمد على الإنسان، والعالَمُ كواقعٍ مستقلٍّ عن الإنسان.
طاغور: عندما يكون الكونُ متناغماً مع الإنسان، فإنّ ذلك الوجود الأزليّ، نُدرِكه كحقيقة، ونشعرُ به كجمال.
أينشتاين: إنّه مفهومٌ إنسانيٌّ محضٌ للكون.
طاغور: إنّ هذا العالَمَ هو عالَم للإنسان، ووجهة النّظر العلميّة تجاهه هي أيضاً وجهة نظر الإنسان العلميّ. العالم المنفصل عنّا لا وجود له، إنه عالمٌ نسبيٌّ، وهو يعتمد في حقيقته على وعينا.
أينشتاين: إنّه بمثابة الإدراك للكينونة الإنسانيّة.
طاغور: نعم، كينونة أزليّة واحدة، وهذه الكينونة علينا أن نحقّقها من خلال أحاسيسنا ومن خلال اختبارنا اليومي. أي أننا نحقّق في أنفسنا الإنسان الأسمى الذي لا تحدّه قيود بواسطة شخصيّتنا الخاضعة لقيود كثيرة. العلم يجعل همَّه كل ما لا علاقة مباشرة له مع حالات فرديّة، إنّه علم الحقائق الشّاملة أمّا الدّين فيُدرك تلك الحقائق ويصل في ما بينها وبين احتياجاتنا الأعمق؛ وبهذا يكتسب وعينا الفرديّ للحقيقة معنىً كلّيّاً. ونحن نُدرِكُ أنّ تلك الحقيقة حقٌّ من خلال تناغمنا معها.
أينشتاين: إذاً، الحقيقة، أو الجمال، ليسا مستقلّين عن الإنسان؟
طاغور: لا.
أينشتاين: وإذا لم يعد ثمّة بشر، فلن يكون تمثال “أبولو” جميلاً.
طاغور: لا.
أينشتاين: أُوافقكَ في ما يختصّ بهذا المفهوم للجمال، لكن ليس في ما يتعلّق بالحقيقة.
طاغور: لِمَ لا؟ فالحقيقة إنّما تتحقّق من خلال الإنسان.
أينشتاين:لا يمكنني أن أبرهن على هذا الرّأي، لكنّه بمثابة عقيدتي.
طاغور: إنّ الجمالَ هو مثال التّناغم الأكمل الكامن في الكائن الكونيّ، والحقيقة هي الاستيعاب الكامل للعقل الأرفع. ونحن الأفراد نقترب من تلك الحقيقة عبر أخطائنا وهفواتنا، وعبر تجاربنا المتراكمة، ووعينا الممدود بالنور – وإلّا كيف يتسنّى لنا أن نُدرِك الحقيقة؟
أينشتاين: لا يمكنني تقديم إثبات عليه، لكنّني أؤمن بقول فيثاغوراس بأن الحقيقة مستقلة عن الوجود الإنسانيّ وهذا يشير إلى إشكاليّة المنطق والاستمراريّة.
طاغور: الحقيقة الأرفع، التي هي واحدة مع الكائن المُطلق، لا بّدّ أن تكون في جوهرها قائمة في الإنسان، وإلّا فإنّ كلّ ما نُدرِكه نحن الأفراد من الحقيقة لن يمكننا أن نُسمِّيه حقيقة أبداً، على الأقلّ الحقيقة التي نسمّيها علميّة، والتي يمكن بلوغها فقط عبر التّحليل المنطقي، أو بعبارةٍ أخرى من خلال أداة الفكر التي نمتلكها كبشر. فبحسب الفلسفة الهنديّة هناك البرهمان، الحقيقة المطلقة، والتي لا يمكن إدراكها بالفكر المُنعزل أو بالكلمات ولكن يمكن إدراكها فقط بانحلال الفرد في بعده اللانهائي. لكن مثل هذه الحقيقة لا يمكن امتلاكها من قبل العلوم فالذي نصفه أحيانا بأنّه الحقيقة ليس سوى مظهر لها أي ما يتراءى بأنّه حقيقة للفكر الإنسانيّ، ولهذا فإنّها حقيقة حسب التّصوّر الإنسانيّ أو ما نسمّيه السّراب الكونيّ Maya أو الوجود الموهوم.
أينشتاين: ما تشير إليه ليس وهماً بالنّسبة للفرد بل هو وهمُنا كجنس (بشريّ)
طاغور: الجنس البشريّ يعود أيضا إلى وجود واحد هو الإنسانية، وهذا ما يجعل العقل البشري بمجملة قادر على إدراك الحقيقة نفسها. العقل الهنديّ والعقل الأوروبيّ يلتقيان في إدراك كشفيّ مشترك.
أينشتاين: حتى في حياتنا اليوميّة، هناك أشياء نعملها بمساعدة فكرنا دون أن تكون لنا أي مسؤوليّة عنها. فالفكر يتعرّف على حقائق موجودة خارجه لكن وجودها مستقل عنه. مثلاً: قد لا يكون هناك إنسان في هذه الغرفة لكن هذه الطّاولة ستبقى حيث هي.
طاغور: نعم ستبقى حيث هي بالنّسبة للفكر الفرديّ لكن ليس بالنّسبة للوعي المُطلق، فالطّاولة موجودة كشيء ومُدْرَكة بسبب وجود وعي فردي نمتلكه كأفراد.
أينشتاين: لو لم يكن هناك أحد في المنزل فإنّ الطّاولة ستكون موجودة في كل الحالات. لكن هذا الواقع مشكوك في صحّته من وجهة نظرك لأنّه ليس في إمكاننا أن نشرح معناه. إنّ وجهة نظرنا الطّبيعيّة في ما خصّ وجود الحقيقة باستقلال عن البشريّة لا يمكن شرحها ولا إثباتها. لكنّه اعتقاد لا يمكن لأحد أن يعوزه، حتّى الإنسان البدائيّ. فنحن ننسب إلى الحقيقة (المُطلقة) وجوداً إنسانيّاً موضوعيّاً لأنّ ذلك حاجة أساسيّة لنا. لكنْ هذه الحقيقة مستقلة عن وجودنا وعن اختبار فكرنا رغم أنّه ليس في إمكاننا أن نقول ماذا تعني أو أن نشرحها.
طاغور: في جميع الحالات، لو كان هناك أي حقيقة (مُطلقة) لكنّها غير متصلة إطلاقا بالإنسانية فإنّها إذن غير موجودة.
أينشتاين: إذن فإنّني أكثر تديّنا منك!
طاغور: إنّ عقيدتي تقوم على التواؤم التّام بين الإنسان الأسمى وبين الرّوح المُطْلَق في داخل وجودي المنفرد.


في حوار آخر عاد أينشتاين إلى مثال الطّاولة الموجودة بذاتها بغضّ النّظر عمّا إذا كان في البيت سكّان أم لا فخاطب أينشتاين بالقول:
طاغور: صحيح أن الطاولة ستكون هنا حتى ولو لم يكن هناك سكان في المنزل، لكن وجودها لا يكتسب أي معنى بالنّسبة لنا ما لم يتم إدراك هذا الوجود من قبل فكر واع. فضلاً عن ذلك فإنّ من طبيعة الوعي أنّه ليس وعياً مجزّأً بل وعيٌ كونيٌّ واحد. وأضاف: العلم نفسه أثبت أنّ الطّاولة كشيء جامد هي مجرّد تجلٍّ أو ظاهر، ولذا فإنّه لولا وجود الفكر الإنسانيّ التي تنطبع عليه صورة تلك الطاولة فمن أين لنا أن نعرف بوجود مستقلٍّ لها؟ واستخدم طاغور بعد ذلك بعض معطيات الفيزياء الكمّيّة ليدعم وجهة نظره فقال: يجب الإقرار الآن بأنّ الوجود الماديّ للطّاولة ما هو إلّا مجموعة من مراكز الطّاقة الكهربائيّة التي تدور وهذه تعود أيضاً إلى الفكر الإنسانيّ.
ونقل طاغور هنا إلى أينشتاين بعض ما كان قد نُشر عن نظريّة الفيزياء الكوانطيّة التي تُثبت أنّ قانون السّببية في الطّبيعة له استثناءات كثيرة وأنّ الطّبيعة لها قدر من الحرّيّة لدرجة أنّه لا يمكن التنبّؤ بدقّة بسلوك الجزيئات أحياناً وفقاً لنمط يقينيّ جامد فقال: كنت أناقش مع السّيد مندل (وهو عالم صديق لأينشتاين) الاكتشافات الرّياضيّة الجديدة والتي تقول بأنّه في عالم الذرّات أو الجُزَيئات فإن الصّدفة تلعب دوراً، وبالتّالي فإن دراما الوجود لا تدلّ على أنّ كلّ شيء في حركة الكائنات مقرّرٌ سلفاً بصورة مُطلقة.
أينشتاين: الوقائع التي تجعل العلوم تسير في هذه الوجهة لا تقول “مع السّلامة” لقانون السّببيّة.
طاغور: ربّما لا، لكن يبدو أنّ فكرة السّببيّة غير موجودة لوحدها في عناصر الوجود، وإنّ هناك قوة أخرى تُضاف إلى تلك العناصر لتنشئ عالماً له نظامه المعيّن (أي أنه: لا عشوائيّة في الكون بل نظام بديع يتحكّم به وعيٌ كامل).


أينشتاين: يحاول المرء أن يفهم كيف يشكل هذا النّظام الصّعيد الأرفع للوجود. فالنظام موجود بالتّأكيد، وكيف تتّحد العناصر لتقوم بتوجيه الوجود، لكن في الكيانات الصّغيرة لا يبدو هذا النّظام بيِّنا لإدراكنا الإنساني.
طاغور: هذه الثنائية (بين الوجود والوعي الإنسانيّ) هي في جوهر الوجود كذلك ما يبدو أنّه تضادّ بين الطّبيعة الحرّة والإرادة المُسَيِّرة التي تتحكّم بها لتسمح بتطوّر نظام بديع للأشياء.
أينشتاين: علوم الفيزياء المعاصرة لا تقول أنّهما (الاختيار والجبر) متناقضان. فالغيوم قد تبدو كتلة واحدة من بعيد لكن إذا رأيتها عن قرب ستجد أنّها مجموعة غير منظّمة من نقاط الماء.
طاغور: هل عناصر الوجود متمرِّدة؟ ولها ديناميّة فرديّة وإرادة؟ وهل هناك قانون في العالم الماديّ يهيمن على هذه العناصر ويوظّفها جميعاً ضمن ترتيب بديع وشامل؟
أينشتاين: حتى هذه العناصر ليست من دون ترتيب حسابيّ، فعنصر الرّاديوم مثلا سيحتفظ دوماً بخصائصه الطّبيعيّة الآن وفي مستقبل الأيام، كما فعل على الدوام. وهذا يعني أنّ هناك ترتيباً حسابيّاً في العناصر المكوّنة للوجود.
طاغور: بالتّأكيد لأنّه لو لم يكن هناك عامل التّسيير فإنّ الوجود سيكون عشوائيّاً أو اعتباطيّاً. فالتّناغم الدّائم بين الحرّيّة والجبر هو الذي يجعل الوجود جديداً وحيّاً على الدّوام.
أينشتاين: أعتقد أنّ أيّ شيء نعمله أو نعيشه يخضع لقانون سببيّة يخصُّه، لكن من حسن الحظ ّأنّه لا يمكننا النّظر من خلال ذلك القانون أو أنْ نفهم الأسلوب الذي يعمل به.