من شكيب وأمين أرسلان إلى سلطان باشا وكمال جنبلاط
خصال الموحدين الدروز ودورهم المجيد
في تاريخ العروبة ولبنان
شخصية الموحدين الدروز تقوم على الانفتاح والتسامح، لا الانعزال والانغلاق، وعلى الحرية والكرامة والمساواة، لا الإلغاء أو الإقصاء أو الغلبة، وعلى التكامل في التنوع والتعدد.
في ندوة خصصت للإحتفاء بصدور كتاب “الأمير أمين أرسلان ناشر ثقافة العرب في الأرجنتين”، ألقى الدكتور سعود المولى كلمة تناول فيها دور الأمير أمين ورفاق له في نشر ثقافة العرب وحضارتهم في الأمصار البعيدة، كما تطرّق في جزء كبير منها إلى خصال الموحدين الدروز الذين حملوا عبر التاريخ رسالة العرفان والتسامح، وكان لهم القسط الأكبر في بناء لبنان وحماية وحدته وهويته العربية. وفي ما يلي أبرز ما جاء في تلك الكلمة:
ول الكلام هنا اليوم: العرفان. والعرفان في عرف بني معروف معرفة وأول المعرفة بحسب أهل العرفان معرفة الحق، ومعرفة الحق هي طريق كل معرفة بحسب إمامنا عليّ عليه السلام: “إعرف الحق تعرف أهله”..هكذا عرفنا الأميرين أمين وشكيب أرسلان، أهل حق وعدل. وهكذا اعترفنا لهم بالفضل والريادة. فالكبار الأفذاذ من أمثال الأميرين شكيب وأمين، حملوا انتماءً أصيلاً مبدئياً إلى الحق والعدل، فوق كل إنتماء وطني أو قومي أو مذهبي أو ديني أو قبلي أو عشائري فاستحقوا منا كل تقدير وكل عرفان.
والعرفان أيضاً خصال حميدة ومكارم أخلاق بُعِث بها ولها كل الأنبياء (جاء في الحديث النبوي الشريف: إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق، وفي رواية أخرى صلاح الأخلاق)، “فمن منحه الله القبول والترقي والعروج إلى حد الإنسانية كان من ثمرة أفعاله العقل والعلم والسكون والرزانة والعفاف والنظافة والطاعة والصبر ومكارم الأخلاق”( على ما جاء في المأثور عن السيد عبد الله التنوخي)..
ونحن اليوم في محفل عرفان بالجميل وتقدير لعلَم كبير من أعلام الأسرة الأرسلانية التي جسّدت عبر التاريخ كل الخصال العربية الأصيلة لجبل عربي أشم حمل أهلوه رايات النبل والشهامة والمعرفة والزهد والمودة الصادقة والشجاعة، ورفع تلك الرايات عالياً أعلام كبار: منَ الأمير السيد عبد الله التنوخي إلى الشيخ الفاضل محمد بو هلال، ومن أسد العروبة سلطان باشا الأطرش إلى فارسها وأميرها شكيب أرسلان، ومن بطل معركة دمشق 1945 المقدام الشيخ محمد أبو شقرا إلى بطل إستقلال لبنان الأمير مجيد أرسلان، ومن ناشر ثقافة العرب في الأرجنتين الأمير أمين أرسلان إلى ناشر الثقافة التحررية وروح الثورة النهضوية كمال بك جنبلاط.
ومناسبة العرفان والمعرفة اليوم كتاب جمع بين دفتيه ثلاثة رجال وحّدت بينهم ثلاث خصال، فسمت بهم إلى أعلى المراتب: لغة وفصاحة، علم وثقافة، نبل وشهامة، جهاد وشجاعة.
ثلاثة من أعلام لبنان جمع بينهم القلم فكانوا هم سيفنا والقلم، وكانوا هم سهلنا والجبل، من الشاطىء الفضي (الأرجنتين حيث عاش الأمير أمين أرسلان) وفنزويلا (حيث يعيش خلدون نويهض)، إلى القدس وفلسطين (قبلة عجاج نويهض وقلبه) فإلى سوريا ولبنان.
ثلاثة أعلام- أقلام وحدت بينهم خصال ثلاث، لا يخطئها القلب إن ألقى السمع وهو شهيد: انتماء- التزام- وفاء.
1. من الحضن الدافئ للجبل العربي ولمسلك التوحيد العرفاني، إلى لبنان الوطن الصعب المتعدد المذاهب والجماعات، ومن العثمانية الإسلامية النهضوية الإصلاحية، إلى العروبة الحضارية الجامعة، ومن ثقافة ولغة العرب، إلى الثقافة الإنسانية العالمية، انتماءات تنوعت وتعدّدت ولكنها تفاعلت وتكاملت في شخصية واحدة موحّدة، شخصية لم تتنكر لتاريخ قومها وعاداتهم وتقاليدهم، بل إنتمت إلى المعروفيين الموحدّين في إسلامهم وعروبتهم وفي خصوصية مذهبهم، وفرادة مسلكهم، ما جعل تلك الخصوصية والفرادة مداميك معمار ثابت للشخصية السوية المتوازنة، التي تقوم على الانفتاح والتسامح، لا الانعزال والانغلاق، وعلى الحرية والكرامة والمساواة، لا الإلغاء أو الإقصاء أو الغلبة، وعلى التكامل في التنوع والتعدّد، وعلى الاعتراف بهذا التعدد والتنوع دون خجل أو تمويه، وعلى الاعتراف بأهمية كل مكوّن وبخصوصية كل إنتماء بذاته، وبها جميعاً ومعاً، ما يشكل معنى لبنان وسره، ومعنى هوية اللبنانيين العرب، والمعروفيين عموماً، والأرسلانيين تحديداً.
2. وإلى الانتماء المعروفي اللبناني العربي الإسلامي الإنساني، التزام بقضايا الأمة العربية أولاً، بحضارتها ولغتها وتراثها وثقافتها، ولكن أيضاً وأساساً بالسعي الدؤوب نحو وحدتها وعزتها وتحررها. وفي القلب دائماً وأبداً فلسطين، فهي الجامع المانع، وهي الهم والاهتمام، وهي الفكر والوجدان، التزام إسلامي عروبي وطني لم تقوَ الجبال عليه..فتقدم النبلاء الأمراء الشجعان وحملوه وكان له اسم وعنوان: الاستقلال، هكذا سموا الصحف والمجلات والأحزاب، والبيانات والخطابات والمقالات، وهكذا سمت الدكتورة بيان دار النشر والدراسات التي طبعت هذا الكتاب، فهي الأصيلة بنت الأصيل، وهي المنتمية إلى دوحة باسقة معطاءة في العروبة والوطنية الحقّة الصادقة وفي الالتزام العربي الإنساني النبيل، فلها منا كل الشكر والامتنان والعرفان.والاستقلال كان صرخة الأمراء الأرسلانيين: أمين وشكيب وعادل ومجيد ومحمد ومصطفى. هكذا تتأسس الأوطان، وقد كان بنو معروف من مؤسسي هذا الوطن لبنان. وهكذا تُحفظ العروبة، وقد كان بنو معروف سيف العروبة ورمحها وترسها على مرّ الأزمان.
3. وثالث الخصال الوفاء، في كل صفحة من صفحات هذا الكتاب الذي بين أيدينا، لا بل في كل لحظة من لحظات عمر هؤلاء النبلاء الكرام الثلاثة: الأمير أمين والسادة عجاج وخلدون، لم يتنفسوا ولم ينطقوا إلا وفاءً في زمن عز فيه الرجال وقل فيه الوفاء. الوفاء للدولة العثمانية يوم كانت دولة العرب والمسلمين في مواجهة الاستعمار والظالمين، والوفاء لحركة النهضة الإصلاحية بالنقد والتصحيح يوم انحرف الأتراك الثوار عن روابط الإسلام والإنسانية والديمقراطية وقاموا بالتتريك والقمع والاستبداد. والوفاء بالعمل السياسي الوطني العربي الواضح المستقيم، والوفاء للشعب اللبناني وللأمة العربية ولقضاياها. والوفاء هنا هو عنوان النبل والشهامة والأصالة في زمن السفاهة والتفاهة.
إن الأمانة للتراث الروحي والثقافي والحضاري للعروبة ولدنيا العرب وقضايا العرب، هي إنتماء للبنان أولاً، والتزام بالحق والعدل ثانياً، ووفاء للإسلام وللإنسانية ثالثاً، دون تعصب أو عنصرية أو إنعزال، ودون إدعاء أو تفاخر، وهي أمانة حملها الأمراء المجاهدون من آل أرسلان ومارسوها كما مارسوا خصال المسلك التوحيدي في صدق اللسان وحفظ الإخوان، وفي عفة اليد واللسان، وفي الزهد والإمتناع عن كل حرام، وفي الشجاعة والإقدام. هكذا بنى الأميران أمين وشكيب شخصيتهما الشفافة الواثقة المطمئنة، لا المستلَبة ولا المقلِدة، رغم الإغتراب والغربة، فكانوا بحق زيتونة شرقية يضيء زيتها نوراً على نور، فيلهب كل شعاب العقل والروح: فصدق في القول، واستقامة في العمل، استقامة كحد السيف في حب الخير للناس وفي بذل الجهد والجهاد والعطاء والتضحية في سبيل الناس..ودون أي إعتبار لجاه أو مال أو منصب أو موقع.
ذهبت إلى منزل عجاج نويهض في رأس المتن في شهر حزيران من العام 1982 وقبل وفاته بأسبوع أو عشرة أيام، وقبيل العدوان والغزو الإسرائيلي للبنان بأيام قليلة كنت بصحبة زملاء أساتذة نحاول إجراء مقابلة معه يحدثنا فيها عن سيرة جهاده في فلسطين، فكان كل الحديث عن الأمير شكيب أرسلان، وبعضه عن الأمير أمين. وكنت قد زرت الأستاذ عجاج مراراً في العامين 1980 و1981 أثناء التحضير لأطروحتي للدكتوراه عن الأمير شكيب أرسلان. وكان هو من عرفني على شكيب أرسلان حين كنت أعتزم كتابة أطروحة الدكتوراه عن جهاد شعب فلسطين، فحدثني عجاج عن محمد علي الطاهر وعن القدس ويافا وصحف فلسطين ثم إنتقل بي إلى الأمير شكيب، وكانت المرة الأولى التي أسمع بها عنه لكن في كل مرة زرته فيها بعد ذلك كان حديثه شكيب أرسلان وفلسطين.
وهكذا أيضاً في الكتاب الذي نحتفي به، لم يكتب عجاج عن نفسه وإنما خلد لنا، هو وخلدون وبيان، خلدوا أمين أرسلان، وهو المستحِق، وهم أيضاً مستحِقون. هكذا يكون الوفاء.
إننا لا نجتمع هنا اليوم إلا من باب الوفاء. الوفاء للرجال الكبار في تاريخنا، لنصل ما انقطع بين حاضرنا وماضينا نؤسس عليه مستقبلنا، ولكي نستعيد ونستحضر مع الأمير أمين والأمير شكيب والأساتذة عجاج وخلدون، تلك اللحظات الحلوة الماضية التي كان فيها القول عملاً، وكان فيها السيف قلماً، وكان فيها الموقف سلاحاً، وكانت فيها الثقافة إنفتاحاً، وكانت فيها العروبة إنتماءً حضارياً وسماحة فكرية..وكان فيها لبنان في القلب من كل انتماء والتزام ووفاء.
واليوم فإن لبنانيتنا وحرصنا على الوطن النهائي هما جزء من عروبتنا والتزامنا قضايا العرب ومصيرهم. فلا انعزال ولا تطرف، ولا اِفراط ولا تفريط، بل معادلة صادقة شفافة صاغها الأميران شكيب وأمين أرسلان في مطلع القرن العشرين، وحملها المعلّم كمال جنبلاط حتى لحظة إستشهاده، وفي القلب من هذه المعادلة فلسطين. تلك كانت آخر كلمات الأمير شكيب لصديقه عبدالله المشنوق: أوصيكم بفلسطين..فلسطين الإسم الحركي لكل أحلامنا وآمالنا، وتلك هي أيضاً وصية عجاج وخلدون وبيان نويهض وشفيق الحوت، ووصية كل أهل الانتماء والالتزام والوفاء، ونحن وأنتم مؤتمنون علي.