السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

دروز سوريا والبداوة

دروز سوريــــا والبــداوة

غّلَبَةُ الشّعر النّبطي والأخـلاق العربيّــة في جبــل العــرب
عنوان لأكبر عملية تفاعـــل ثقافــي في تاريــخ المنطقــة

بيـن الدروز وقبائل الباديـة قامـت علاقـات إعجــاب ونفـور في آن
لكن الدروز أدركوا أهمية التفاعـل مـع الثقافـة والقيـم البدويـة

يعتبر تطوّر الشّعر الشّعبي في جبل العرب من اللّهجة اللبنانية التي حملها النازحون الأوائل إلى جبل حوران إلى اللهجة النَّبَطيّة البَدوية إحدى أعجب ظواهر تكيّف اللّغات المحكية وتحوّلها، والأعجب في هذه الظّاهرة أنها لم تستغرق أكثر من قرن من الزمن تحوّل فيها شعراء العامية في جبل العرب (جبل الدروز) بصورة تدريجيّة من لغة الزّجل أو الشعر اللّبناني المحكي إلى الشعر النَّبَطي السّائد بين القبائل العربية التي كانت تجوب القفار المحيطة بجبل حوران وتتفاعل مع المجتمع الحوراني الدّرزي بأشكال مختلفة. لقد كانت هناك التّبادلات التّجاريّة والأحلاف القبلية التي عزّز بعضها شوكة بني معروف، وكانت هناك أيضًا المساكنة القلقة على التّخوم ونزاعات الأراضي أو علاقات الجوار التي تتراوح بين مراحل هدوء وتفاهم وبين الاحتكاكات والغزوات والصّراعات الدامية. وكما في كل آن فقد كانت هناك الجهات الخارجيّة التي تسعى بين الحين والآخر لتأجيج النّزاع بين المجتمعين.
لكن مما لا شكّ فيه أنّ تاريخ دروز الجبل لم يكن تاريخًا منعزلا لأنّه كان في جزء منه تاريخ تطوّر علاقات السّكان الوافدين بالمجتمع البدويّ والقبائل الكثيرة التي كانت تحيط بهم وتهددهم أحيانا، وكان لهذه العلاقة أثر حاسم ومباشر في إعادة تشكيل هُوّيّة الجبل وثقافته. وربما ازداد هذا التفاعل وبلغ أقصاه خلال القرن التّاسع عشر عندما ضعفت سلطة الدّولة وانتشر الفساد في أوساط الإدارة العثمانيّة فكان على الموحّدين أن يتدبّروا أمرهم بأنفسهم مع البدو الذين اعتادوا حياة الغزو والتجاوز على حياة الحضر والزّراعة وأن يطبّقوا السّياسات والإجراءات الآيلة إلى احتواء التّهديد الخارجي عبر نوع من “تعايش الأقوياء” مع المحيط القبلي طالما أنّ الدّولة لم تكن قادرة على حمايتهم.

“بيئة الجبل تتشارك مع البيئة البدويّة في القيم والعادات والخصال العربية رغم الاختلاف الظاهر في أســـــلوب الحياة أو في المعتــــقد”

إن الكثير من سمات حياة البداوة يتحدّد بالتّناقض والتّعارض مع نمط حياة المجتمع الحضريّ وهذا الصّراع البدويّ الحضريّ كان على الدوام، كما أوضح ابن خلدون، من أهمّ سمات طبيعة حياة المجتمعات وتحوّلها وانهيارها أحيانًا. بالمعنى نفسه فقد طغى التّعارض الحَضَريّ البدوي على العلاقة بين النازحين الدّروز الذين اهتمّوا بإعمار القرى الخَرِبة وبناء مجتمع زراعي مستقر وبين القبائل البدويّة التي تتميز حياتها بعدم الاستقرار المكاني وقدر كبير من الشّظف والحياة الخشنة كما تقوم على عادات الغزو والتنظيم الاجتماعي الحربيّ، وقد كان البدو يتمتعون بحريّة تقليدية في التّنقّل واستغلال الفيافي والمراعي لكنّهم لم يلبثوا أن اصطدموا بـ “الجدار” الدّرزي وببُنية اجتماعيّة تشدها عصبيّة لا تقلّ أبدًا عن عصبية القبيلة وتماسك شديد وقوّة بأس وخبرة قتالية بل وشراسة عندما يتعلق الأمر بحماية الدّيار والذّمار والأرزاق والكرامة.
لقد حدّ الانتشار الدّرزي في بلاد حوران ونجاح الدّروز في حماية مواطنهم الجديدة من حرية الحركة التي كانت للبدو في السّابق في الجبل ومحيطه، وقلّص إلى حد ما وصول هؤلاء إلى بعض أخصب الأراضي في الجبل تلك الأراضي التي كانت مجرّد مراعي موسمية لمواشيهم في الماضي قبل قدوم النازحين من بني معروف إلى الجبل.
بذلك ارتسمت على الأرض حدود جغرافية واجتماعية وثقافية مائعة بين الفريقين وقد فرض الدّروز احترامًا متبادلًا بينهم وبين البدو إذ عاملوهم بتهيُّب واحترام وتعلّموا منهم الكثير، وفي بعض الأحيان قامت بين الفريقين علاقات إعجاب ونفور في آن واحد، وساهم هذا في نشوء إطار للتّعامل السّلمي لأكبر عملية تفاعل مجتمعي وثقافي بين بيئتين يجمع بينهما الكثير في القيم والعادات والخصال العربيّة رغم الاختلاف الظّاهر في أسلوب الحياة أو في المعتقد.
في هذا التّفاعل المجتمعي لعب عامل اللّغة أو لهجة التّخاطب مع الوقت عاملًا حاسما في صياغة العلاقة بين الطّرفين. لقد كان البدو، كما كان عرب البادية دومًا، شعب فخور وفصيح في آن، وهو شعب يكاد يتخاطب في جميع أموره العامة والمهمة بلغة الشّعر حيث كان الشّعر لغة “الدّبلوماسية” القبليّة وهو وسيلة الإعلام الوحيدة والتّواصل بل هو عماد هُوّيّة الشّخصيّة البدويّة ومصدر اعتزازها وعنوان خصوصيّتها. وقد وجد الدّروز في وقتٍ مبكّر الحاجة ماسّة للتّواصل والتّعايش مع تلك البيئة التي تغطّي القسم الأكبر من شمال شبه الجزيرة العربيّة وبلاد الشام وتتشابك عشائرها في تحالفات تجعل منها قوّة يحسب حسابها، كما أنّهم اكتشفوا في الوقت نفسه أهميّة الشعر في التّخاطب وتعزيز روابط الانتماء إلى البيئة الجديدة. لكنّ الظاهرة الملفتة هي أنّ خيار الدروز العفوي ومن دون صعوبة كان التّفاعل مع لغة البداوة وصيغة الشعر البدويّ (النّبطي) في تعبيراتهم الشّعرية حتى أصبح الشّعر الشّعبي في الجبل بمعظمه شعرًا نبطيا فكيف حصل ذلك وما هي دلالاته؟
لقد وجد نازحو بني معروف إلى جبل حوران أنفسهم أمام واقعٍ مختلف وفي محيطٍ تحكمه التّقاليد والأعراف واللغة البدويّة القبلية، لذلك فهم لم يتأخّروا في الاندماج مع الواقع الجديد، ولم تكن من حدود إثنية بينهم وبين مجتمع البلاد التي أعمروها، فقد كانت غالبيّة القبائل البدوية من حولهم من أصول يمنيّة، كقبيلة زبيد على أطراف الجبل الشمالية، وقبيلة السّرديّة في البادية الجنوبية للجبل، وهم اضطرّوا للنزوح من لبنان بسبب حزبيّتهم اليمنيّة، لذا فهم في موطنهم الجديد، جبل حوران، لم يكن بينهم وبين جوارهم حاجز لغة، وكان التباين يتمثّل بالدّرجة الأولى بالتعارض بين حياة التحضّر وحياة البداوة، هذا التباين الذي دخلت عليه السلطة السائدة وحولته أحياناً إلى تنازع ضمن سياسة فرِّق تسد. ورغم هذا كلّه فقد كانت العلاقات الطيّبة تغلب في نهاية الأمر على التناحر والقطيعة سواء مع البدو أو مع سكّان السّهل الحوراني من الفلّاحين.
في الجبل تفاعل الموحّدون مع لهجة المحيط من حولهم، لأنه كان المحيط الغالب ولأنهم كانوا غريزيا يسعون لأن يكونوا مقبولين في الوسط الحورانيّ من خلال الانسجام مع الثقافة السائدة التي لم يكونوا عنها ببعيدين من حيث المبدأ لأنهم جميعًا أبناء البوتقة العربية على تمايزاتها.
ولقد عبرت تلك العملية عن تكيّف تام للدّروز مع البيئة البدويّة والحوارنيّة الأوسع من حيث تفاعل الموحّدين مع ثقافة البادية الأصيلة وقيمها الرّاسخة. وسهّل ذلك عليهم تبنيهم الكثير من مفاهيم منظومة التعبير البدويّة في عمليّة التفاعل اليوميّ مع المحيط، كما أنّ ذلك سهل بلورة الهويّة المستحدثة للنازحين الدّروز في إطار البيئة السّورية الأوسع وفرض في نهاية المطاف الاعتراف بالدّروز في جبل حوران كواقع له شرعيّته غير المنقوصة كما فرض احترام خصوصيّتهم ودورهم في الإطار الوطني. ولنلاحظ أن عمليّة التناغم الدرزي مع البيئة الحورانية وبيئة البادية الأوسع تمثلت أيضًا بتبني بعض مظاهر الزِّي البدوي كالعباءة والكوفيّة والعقال، بالإضافة إلى التأثّر بتقاليد الرّقص الشعبي لمواطني سهل حوران الحوارنة، والأشعار الاحتفاليّة المنقولة من بيئة البادية وسهل حوران، بالإضافة إلى التفاعل مع كثير من تقاليد البادية مثل تقاليد الضيافة والاعتزاز بالعشيرة وتقاليد إعداد الوليمة الجامعة(المنسَف)، وغيرها ..
لكن اللّافت للنّظر مع ذلك أنّه بينما اعتنى الدروز بقوة بإتقان الشّعر النبطي واستخدموه بوفرة في المخاطبة اليوميّة الوديّة أو المتحدّية لأقرانهم من قبائل البادية فإنّهم لم يسحبوا ذلك التّبنّي على لغتهم اليومية المحكيّة، والتي بقي فيها الكثير من سمات اللّهجة اللبنانية الجبلية التي حملوها معهم (ولكن مع دخول اللّكنة السورية). لقد كان في هذه التسوية الفذّة ما مكن دروز الجبل من الاحتفاظ بالمكوّن الأساس لهوّيّتهم الاجتماعيّة والثقافية (تلك التي يعتمدون عليها في ممارساتهم الاجتماعية وعباداتهم ومعاملاتهم في ما بينهم) في الوقت ذاته الذي اعتنوا فيه بتطوير الشّعر البدويّ باعتباره “اللّغة ــ اللّهجة الرّسمية” للمخاطبات السّياسية والاجتماعية في مجتمع البادية الذين كانوا قد أصبحوا جزءا مميّزّا من مكوّناته.
أعددنا هذه المقالة الموجزة على سبيل التّقديم للبحث الجاد والموفّق للشاعر الباحث السوري الأستاذ حازم ناصر النّجم بشأن تطوّر الشّعر الشّعبي في جبل العرب، والذي يعرض فيه لمراحل تفاعل التعبير الشّعري في الجبل بين اللّغة ــ اللّهجة المحكيّة التي حملها النازحون بنو معروف من لبنان وبين اللغة ــ اللّهجة النّبطية البدويّة الصّرفة، والدّور الذي لعبه شعراء الجبل في حقبات متتابعة في عملية التّفاعل الذي انتهى إلى حالة من التوسّط بين الحالتين. وفي ما يلي الحلقة الأولى من هذا البحث القيّم وسيتبعها في العدد المقبل من الضّحى الجزء الثاني والأخير.

رئيس التحرير

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي