الأربعاء, أيار 1, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأربعاء, أيار 1, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

دماء وصلح في القريا

دمـــاء وصلـــح
في القــــــــــريَّا

ندمت قبيلة “وِلْد علي” على عدوانها الغادر على القريّا
فأرسلت وفداً عظيماً لاسترحام إسماعيل الأطرش

“ذبحة القريّا” تزعزع سيطرة البدو التقليدية على السهل
وتعزّز أرجحية الموحدين الدروز وهيمنتهم على الجبل

صلح القريّا فرض على البدو أخذ الإذن من زعيم الجبل
إسماعيل الأطرش إذا أرادوا دخول المراعي السهلية

جوار-هذه-البركة-جرت-المصالحة-بين-بني-معروف-وقبيلة-ولد-علي-في-القريا-أيام-اسماعيل-الأطرش
جوار-هذه-البركة-جرت-المصالحة-بين-بني-معروف-وقبيلة-ولد-علي-في-القريا-أيام-اسماعيل-الأطرش

تاريخ جبل العرب في سورية هو في جزء منه تاريخ العلاقة الصعبة والمتقلبة بين الموحدين الدروز الذين عمروا الجبل وبعثوا الحياة في ربوعه المقفرة وبين بدو السهل الذين سعوا للإحتفاظ بهيمنتهم القديمة وحقهم في أخذ الأتاوات أو حتى الإغارة والغزو كجزء من تقاليدهم.
مشكلة البدو كانت أنهم وجدوا في الموحدين الدروز خصماً شديداً كما أنهم وجدوا أن الفئات المستضعفة من المسيحيين وعشائر البدو الأقل شأناً دخلت في حمى الدروز وعزّزت صفوفهم، وأصبح الصراع بذلك حادّاً بين مصالح سكان الحضر الدروز ومن معهم الذين استقروا وأصبح اقتصادهم مستنداً إلى الزراعة وبين حياة البدو الرحل الذين لا يستقر لهم قرار والذين يعتبرون الغزو جزءاً من تقاليدهم بل أحد مصادر عيشهم.
في هذا السياق تعتبر الحرب القصيرة لكن الدامية التي قامت في منتصف القرن التاسع عشر بين الموحدين الدروز بقيادة إسماعيل الأطرش وبين قبيلة ولد علي الكبيرة منعطفاً مهماً في تاريخ العلاقة بين الجانبين لأنها شهدت ذروة المواجهات ثم انتقال الفريقين بعدها إلى مصالحة طويلة الأمد اعترف فيها البدو ضمناً بأرجحية الموحدين الدروز وقبلوا بسيطرتهم على المراعي السهلية. وأحد بنود تلك المصالحة أن أصبح على البدو طلب الأذن من زعيم الدروز إسماعيل الأطرش للتمكّن من دخول الأراضي السهلية لرعاية ماشيتهم.
فما الذي جرى في تلك المقتلة الدامية ؟وكيف أدت حكمة إسماعيل الأطرش والشيخ أبو علي قسّام الحِنّاوي إلى احتواء الخطر البدوي وتأمين مرحلة مديدة من السلام والأمان لسكان الجبل؟

كانت قبيلة عنزة، وهي من قبائل البدو الرحالة بين نجد وبلاد الشام، لها السطوة على أرض سهل حوران، إذ كانت ترتاده لغرض الماء والمرعى في الصيف وتأمين المؤونة من الحبوب في الشتاء، وكان ذلك يحدث كل عام من شهر أيار وحتى شهر أيلول، يذكر المستشرق السويسري بركهاردت في كتابه “رحلات في سوريا عام 1810ــ 1812م “ إن قبيلة عنزة التي تزور سهل حوران دائماً هي “ولد علي“ وزعيماها الطيار وابن سمير”، وفي تلك الفترة كان الفلاّحون في مناطق السهل الحوراني يُجبرون على دفع الخوّات لأولئك البدو.

الشرارة: البدو يعترضون قافلة تاجر لبناني
وذات يوم من عام 1842 كانت قافلة من الباعة البسطاء من جبل لبنان على رأسها حسين العوام وهو تاجر من بني معروف كان ينتقل بتجارته من الزيت والزبيب والتين المجفف وغير ذلك من جبل لبنان إلى جبل حوران، إذ لم يكن ليتيسّر لسكان الجبل آنذاك أن يزرعوا الكروم بسبب حياة عدم الاستقرار في مجتمع تغلب عليه حياة الرعي وتقاليد الغزو البدوية، وفي الطريق قرب قرية زيزون في سهل حوران مرّت قافلة العوّام بنجع من البدو يتبع لقبيلة ولد علي وهؤلاء فرع من عنزة، وكان في ذلك النجع عشرات من المسلّحين الذين تصدَّوْا لتلك القافلة، ويذكر زيد سلمان النجم مؤلّف كتاب “أبو علي قسام الحناوي” أن عدد البدو الذين اعتدوا على العوام وصحبه كانوا نحو أربعين فارساً، وأن العوّام أبلغهم أنه يسير بتجارته في حماية بني معروف وفي وجههم،( كان هذا التعبيرــ في وجه فلان ــ بمثابة جواز سفر بالنسبة لمن ينتقل من منطقة لأخرى في ذلك الزمن، حيث لا وجود ثابتاً للدولة في تلك المناطق الريفية البعيدة عن المدن آنذاك)، فهزأوا به قائلين: “إفطن يا رجل، وجه بني معروف في ديارهم فقط، أخبرهم أننا قطعنا وجههم ونحن لا نخافهم”، وما كان منهم إلاّ أن نهبوا تجارة العوّام ومن معه، لكن ابنه الشاب قاومهم، فقتلوه، وقتلوا اثنين من الرجال الذين شاركوه ضدهم .

الشيخ الحمداني يتهرَّب
هرب من بقي سالماً من رجال القافلة باتجاه جبل الدروز ( كما كان يُدعى آنذاك)، ولما وصلوا إلى السويداء، وكانت مركز الشيخ الحمداني، شيخ مشايخ بني معروف حينذاك، شكوا له حالهم، فقال لهم:” أنا مالي طَوْل على أولئك القوم البعيدين، روحوا إلى اسماعيل الأطرش، هو من يزعم أنه ابن عم الدروز وحاميهم”.
وصل العوام إلى القريا حاملاً بؤسه وخسرانه، وشكا حاله لإسماعيل الأطرش الذي هبّ لسماعه شكاية الرجل المنكوب، وانطلق على رأس نحو من ثلاثين فارساً من أبرزهم الشيخ أبوعلي قسام الحناوي، وسلامة الحمود الأطرش وعثمان أبو راس وأحمد البربور وغيرهم من فرسان بني معروف المُعلَمين في القريّا.
كان العوام دليل الفرسان في سرى ذلك الليل، وعندما وصلوا بعيد منتصفه إلى غربي زيزون، تربّصوا ينتظرون بزوغ الفجر، إذ تقدمت طليعة منهم مع أول تباشير ضوء الصباح، وهناك عثروا على نجع المعتدين، حيث تعرّف العوام على دواب القافلة المنهوبة، هنا عاد أحدهم ليبلّغ أصحابه في الكمين أن الهدف المطلوب قيد التناول، فبعثوا ثلاثة من فرسانهم الأشداء يعدون بخيولهم ويتقدمونهم نُذًراً يصيحون في حي المعتدين “ الذيب بالجليب” أي ( الخطر كامن في البئر الذي تشربون منه يا قوم)، وبعد قليل تبعهم الفرسان غائرين على النجع الهاجع الذي لم يتوقع رجاله سرعة رد بني معروف على الغدر الذي كان من قبلهم أمس، فقتل منهم من قاوم المغيرين، واستعاد الفرسان الدواب وما وجدوه من بقايا المسلوبات، وساقوا ما صادفوه من إبل ومواشٍ عقاباً لهم على غدرهم بمن استجار ببني معروف.
لم يلبث محمد بن سمير شيخ قبيلة ولد علي أن علم بما حدث لجماعته، فقرر أن يثأر لهم، ونسي أنهم هم الذين اعتدوا أوّلاً. إنها تقاليد البداوة التي لا ترحم، والتي لم تزل تتوراثها الأجيال من عصور الجاهلية!!.

يوم ذبحة القريّا
أرسل ابن سمير أعوانه متنكّرين إلى القريّا ليستطلع أخبار البلدة، وشيخها اسماعيل الأطرش، وفي تلك الأيام السود من عام 1842 كان اسماعيل الأطرش غائباً عن القريّا في مهمة بعيدة إلى لبنان، إذ كان عُمَر باشا النمساوي الحاكم العثماني على جبل لبنان آنذاك، قد احتال على عدد من زعماء بني معروف بدعوتهم إلى بيت الدين وألقى القبض عليهم، وكان من أبرز هؤلاء سعيد جنبلاط وناصيف نكد وحسين تلحوق وخطار العماد وبعث بهم إلى صيدا، ومن ثم نُقلوا إلى بيروت حيث تمّ وضعهم في محرس خاص بهم ( ورد هذا في كتاب معجم حكام لبنان والرؤساء، سيرة عمر باشا النمساوي، ص 16)، ولما احتج بنو معروف على اعتقال زعمائهم بهذه المكيدة الغادرة، وطالبوا بإطلاق سراحهم، ولم يُلبَّ طلبهم ثاروا على عمر باشا وطالبوا بإسقاطه وحاصروا بيت الدين…ومن الطبيعي ألاّ يتخلّف اسماعيل الأطرش عن نجدة أبناء عمومته في لبنان، وكان هذا الغياب عن الحمى هو ما استغلّه عليه شيخ قبيلة وِلد علي، محمد بن سُمَير الذي لطالما عُرف عنه عداؤه لبني معروف، وتعاونه مع جيش محمد علي باشا ضد بني معروف الموحدين.
كان اسماعيل الأطرش قد ترك بعضاً من الرجال الأشداء في القريّا منهم: أخواه طرودي ومنصور، وآخرون من آل (الزغيّر) وهؤلاء أصلاً من آل أبو الحسن المتنيين، وغيرهم من الفرسان… وكان اسماعيل شديد الثقة بهم، لدرجة أنه عندما حذّره أحد المقرّبين منه من خطر ابن سمير في غيابه قال له :“إن بيضات حصان طرودي وحدها كفيلة برد ابن سمير عن القريّا”!.
جمع ابن سمير نحواً من خمسمائة فارس بقيادة الفحيلي، وباغت القريّا بدون نذير من جهة الجنوب، ودارت معركة دامية في الأزقة، وعلى أبواب البيوت، كانت حصيلة تلك المباغتة الغادرة اثنين وسبعين شهيداً من بينهم أخوا اسماعيل منصور وطرودي، وخمسة وعشرون زوجاً من الأخوة، وفي أحد أزقة القريّا الذي لم يزل إلى يومنا هذا يحمل إسم “ زقاق العشرة” استشهد عشرة رجال من آل الزّغيّر، وذبح البدو قاسم العبدالله ابن عم اسماعيل وأحد أشد رجاله صلابة إلاّ أنهم في عجلتهم لم يتمكّنوا من فصل رأسه عن جسده، وقد خاط المعالجون في ما بعد ذلك اليوم ما احتُزّ من لحم عنقه، وعاش قاسم بعدها وقاتل وأنجب أبناء وبنات بينما قتل من البدو المهاجمين عشرون رجلاً.
كان يوم “ذبحة القريا” يوماً كارثياً على بني معروف، ولا بد أن الشيخ الحمداني كان يدرك عندما بعث بإسماعيل الأطرش للسكن في القريّا مدى خطورة إقامة رجل قوي منافس له فيها، وهو يريد بذلك أن يتخلّص منه، إذ وضعه في مواجهة بيئة بدوية جاهلة، تعوّدت قبض الخوّات من أهل الحضر، تلك الخوّات التي كان الحمدانيّ يدفعها، لكن اسماعيل الأطرش لم يعوّد البدو عليها. وفي ما يخص يوم ذبحة القريّا لم يذكر أحد ممن روَوْا أخبار الحادثة في تلك الأيام أن الشيخ الحمداني في السويداء هبّ لنجدة القريّا، أو عمد للثأر لها في غياب رجلها القوي، اسماعيل الأطرش ومن معه من فرسان بني معروف في حملتهم لنجدة ذويهم في لبنان.

أحد-شيوخ-قبيلة-عنزة-في-مطلع-القرن-الماضي
أحد-شيوخ-قبيلة-عنزة-في-مطلع-القرن-الماضي

الثأر من ابن سمير وملاحقته
بعد العودة من مهمة لبنان عمد اسماعيل الأطرش ومن معه من الرجال، وفي طليعتهم الشيخ أبو علي قسام الحناوي إلى الثأر من ابن سمير، الذي هرب بعشيرته جنوباً باتجاه بادية شرق الأردن، فلاحقوه عبرها وثأروا منه وألحقوا به هزيمة يستحقها على عدوانه في موقعة القحاطي شمالي عمّان بنحو ثلاثين كيلو متراً، وظلّوا يطاردونه بعدها في كل مكان قريب من المعمورة ينزل به مع عشيرته، وهكذا بقي ابن سمير لا يجرؤ على الاقتراب من أطراف أراضي الجبل، وضاقت به وبعشيرته البادية التي توالت عليها سنوات الجفاف، ولم يعد ذلك البدوي الفظ يجد المراعي الكافية لمواشيه ومواشي قبيلته، فأشار أحد أعيان القبيلة عليه وعلى أمّه (وكانت الأم امرأة صاحبة رأي وقرار في القبيلة، وتدعى الخطيبة) أن يذهبا إلى الشيخ أبوعلي قسّام الحناوي، ويكلّفاه بالتوسط لدى الشيخ الأطرش (كان الشيخ الحناوي نسيباً لاسماعيل الأطرش الذي تزوج بأخته وسنداً قوياً له في سياسته ووقائعه).
تفكّرت” الخطيبة أم محمد بن سمير بالنصيحة مليّاً، ولم ترَ صواباً في ذهاب ابنها محمد إلى بني معروف في مساعي الوساطة تلك، وهو الذي سبق له أن غدرهم مراراً بتحالفه مع محمد علي باشا وبشير الشهابي الغدّار، الذي كان أميراً على جبل لبنان آنذاك، أو بقطع الطريق عليهم بين جبل حوران وجبل لبنان، أو بالاعتداء على مواشيهم ومزروعاتهم في جبل حوران كلّما آنس منهم غفلة أو رآهم منشغلين في مواجهة عدو خارجي.

السعي لطلب الصّلح
كان قد مضى على يوم “ذبحة القريّا” سنوات سبع، ففي عام 1849، اختارت الخطيبة (أم محمد) فارسين من نخبة فرسان القبيلة حكمةً وفروسيةً، واتجهت بهما إلى قرية سهوة البلاطة، إذ كان الشيخ الحناوي قد استقرّ بها بعد انتقاله من القريّا، وفي مضافة الشيخ الحناوي نزل الركب ومن يتبع لهم من عبيدهم، ولمّا كانت القهوة أول ما يقدّم للضيف الذي يصل إلى المضافة، فإن السيّدة الخطيبة أمسكت بالفنجان بيمناها ولم تشرب القهوة، بل وقفت مخاطبة الشيخ: “يا شيخ أبوعلي: أنا قاصدة حماك وحمى بني معروف، لي عندكم طلب، أوعدني به، واعطني الأمان أنا ومن معي”.
قال الشيخ:” اشربي قهوتك، وعليكِ أمان الله ومحمد رسول الله، وعهد بني معروف أنتِ ومن معك”.
شربت أم محمد قهوتها، بعد أن سمعت ما هدّأ من مخاوفها أن تُرَدّ خائبة في مسعاها، ثم أردفت: “يا شيخ، يا شيخ أنا الخطيبة، أم محمد بن السّمير، قاصدة حماك، عساك ترشدنا لحلّ بيننا وبين الشيخ الأطرش، والله من بعد يوم القريا ضاقت بنا ديار الله، حِنّا (أي نحن) بوجه الله وبوجهك”.
أطرق الحناوي يتفكّر برهة، ثم رفع رأسه وقال لها:” اذكري الله يا الخطيبة، ابنك خان بعادات العرب، قتل بالغدر والبوق 72 رجلاً من أهلنا في يوم القريّا، قتلهم ومن دون نذارة في بيوتهم، وعلى أبوابها، لو قتلهم بساحة الكون حسب تقاليد العشاير كان هيّناً علينا وعليكم، كنّا عقدنا رايات ودفنّا سايات
( أي: أعمال سيّئة)، لكن الغدر والبوق ما ينتسى يا أم محمد”.
كانت أم محمد تدرك طبيعة الموقف الحرج الذي وقع فيه ابنها، بل وأوقع فيه قبيلته ولم يكن أمامها إلاّ أن تعترف بجناية ابنها على بني معروف، وذلك لأن اعترافها، وغفران بني معروف لجريرة ابنها يمهّدان السبيل أمام قبيلتها للدخول بمواشيها إلى مراعي الجبل، ومحيطه، وما جاوره من سهل حوران وخصوصاً في موسم الحصاد، لقد كانت دماء الموحّدين التي سفكها ابن سمير في القريّا سبباً لمطاردته وحرمان قبيلته من المراعي الخصبة.
قالت الأم مستعطفة الرجل:”يا شيخ أبوعلي، جريمة وْلِدي كبيرة، لكن عفوكم أكبر، وأنتم بنو معروف مشهود لكم بالعفو عند المقدرة، وأنتم لها يا شيخ، وأنا واقعة في بيتك وعند حريمك”.
قال لها الشيخ: “أهلاً وسهلاً بكم يا أم محمد، بنو معروف كرام، وأهل تسامح، والشيخ اسماعيل الأطرش بيقدِّر إذا تَقَدَّر ( أي لديه رؤية حكيمة، ويحترم من يحترمه)”.
كان في كلام الحناوي ما يطمئن السيّدة بأن الشيخ اسماعيل الأطرش قد يصفح ويقبل بالصلح الذي تنشده أم محمد لقبيلتها، فتفاءلت خيراً، وشكرت له استقبالها ومن معها، وعادت إلى البادية التي قدمت منها، وهي عازمة على زيارة القريّا بعد موافقة الأطرش، ولا بدّ أن حديثاً أطول مما وصل إلينا قد دار بين الوافدين والشيخ الحناوي، فهم يدركون بحكم ما تيسّر لديهم من معلومات متداولة بين الناس في ذلك الزمن أن الحناوي هو أحد المفاتيح التي توصلهم إلى اسماعيل الأطرش بسبب العلاقات الوثقى بين آل الحناوي وعشيرة الأطارشة، والمصاهرة بين الرجلين.
قصد الشيخ الحناوي القريّا وأبلغ صديقه وصهره بزيارة أم محمد ومن رافقها إليه في سهوة البلاطة، وبما تمّ تداوله من وجهات نظر بشأن طبيعة المصالحة المرتجاة.
كان اسماعيل الأطرش يجمع الشجاعة إلى الحكمة في تصريف الأمور، وكان يدرك أن المسالمة مع عشائر البلاد والقبائل البدوية من جهة وبين الفئات الحضرية قوة تساعد الناس على العيش في حياة آمنة، وأن قومه بني معروف هم أشد الناس حاجة إلى السلام والأمن والأمان. بذلك قرر الرجلان الاجتماع في بيت سلامة الراشد، تكريماً لذلك الفارس المسيحي،”كاسب الرمحين”، كما لقّبه بنو معروف، فهو محرر الفتاة التي حاول البدويّان الهرب بها يوم الغارة على القرَيّا، وهناك تمّت استشارة ذوي الشهداء ضحايا “ذبحة القريّا” التي دبّرها ابن سمير، وبنتيجة ذلك الاجتماع أقرّ المجتمعون على القبول بالصلح الذي تقتضيه الظروف.

وفد المصالحة بين بني معروف وقبيلة وِلْد علي
ما إن وصلت أم محمد إلى مضارب قبيلتها، حتّى جمعت أعيانها، وفي طليعتهم ابنها محمد والشيخ صالح الطيّار وهو الرجل الثاني في قبيلة وِلْد علي بعد محمد بن سمير، وأبلغتهم بالذي جرى في خطوتها باتجاه طلب المصالحة مع بني معروف، فعمدوا إلى تفويضها بترؤّس وفد لم يسبق له نظير في تقاليد القبائل العربية من قبل، إذ اختارت أن يكون في وفدها كل امرأة لها طفل رضيع، وكل أنثى من الخيل والأغنام والإبل والماعز لها مولود رضيع أيضاً، واصطحبت معها ما حواه بيت ابنها محمد من أثاث وأوانٍ وأدوات طبخ القهوة من أباريق ومحماص ومبرَدة ونجر ( وهو الجرن المصنوع من ساق شجر البطم، إذ يتم تجويفه، وفي داخل ذلك التجويف يتم سحق حبوب القهوة المحمّصة)، والمهباج (أي اليد الخشبية التي تسحق بالدّق حبوب القهوة المحمصة وهو مصنوع من نوع خشب النجر ذاته)، ورافقها الشيخ صالح الطيار وعدد من أعيان القبيلة.
كانت الأم حذرة في مسعاها للصلح مع بني معروف، فاستبعدت ابنها محمد من الوفد خوفاً منها على حياته من فلتة تتجاوز مساعي المصالحة المرتجاة، ففي عنقه دماء لإثنين وسبعين شهيداً بينهم اثنان من أخوة اسماعيل، وعدد من أقربائه.

مقاتل-من-الجبل
مقاتل-من-الجبل

” قال الشيخ الحناوي لوالدة ابن سمير: لو قاتلتمونا في ساحة الكون ولم تغدروا بنا على غير عادات العشائر لكان هيناً علينا عقد الصلح لكن الغدر لا يمكن أن ينســــى  “

مشهد درامي في خيمة والدة ابن سمير
وصل وفد الخطيبة أم محمد إلى القريّا قبيل الفجر، فحطت بالرحال على البيادر إلى الشرق منها، وأرسلت بالفارسين اللذين سبق لهما أن وفدا معها إلى الشيخ الحناوي في سهوة البلاطة ليبلغاه بموافاتها إلى القريّا لإنجاز ما سبق الاتفاق عليه.
كانت السيدة قد نصبت بيت الشَّعر الخاص بشيخ القبيلة ذي الثمانية أعمدة ( وقيل اثنا عشر عموداً) والمصنوع من شعر الماعز، أقامته على عمودين فقط، وطرحت بقية الأعمدة أرضاً بحيث يبدو البيت وكأن عاصفة أطاحت به أرضاً … ومعنى هذا التصرف يشير إلى أن السيدة ووفدها يطلبون الاستجارة بحمى الشيخ اسماعيل الأطرش وبني معروف.
مع إطلالة الصباح وُضعت كافة النساء من أمّهات الرّضَّع بجانب، وأطفالهن ومن يحملنهنّ من بنات القبيلة مقابل الأمّهات بحيث يرى الصغار أمّهاتهم عن بعد، وفي ذلك ما فيه من عويل وصراخ الصغار الذين يطلبون أمّهاتهم، وكذلك فعلت بإناث الخيل والإبل والأغنام والماعز وفصلتها عن مواليدها، وما بين بكاء الصغار يطلبون أمهاتهم، وحنين النوق إلى صغارها، وصهيل الأفراس وثغاء الأغنام وكلها تسترحم، الأمّهات، والأُمّات تطلب صغارها، والصغار يطلبون أمهاتهم وأُمّاتهم، هنا يحن الإنسان مهما قسا قلبه إلى إنسانيته الأولى التي فطره الله تعالى عليها، فيغفر ويصفح.
وتتمة لهذا الترتيب دخل الشيخ صالح الطيّار إلى بيت الشعر المكسوح، وربط حبلأً من المَذيع برقبته ( حبل المذيع شديد المتانة مصنوع من شعر الماعز ووبر الإبل)، وشدّه إلى يده اليمنى وربط نهايته بكاسر البيت (أي العمود الرئيسي الذي يرتفع عليه بيت الشعر الذي يتخذه البدو مسكناً)، وأخذ يدق القهوة بالمهباج وهو مشدود إلى الحبل.
إزاء هذا الاستعطاف المثير يكتسب الموقف الدرامي العجيب حالة تستدعي حلاً إنسانيّاً أرادته (الخطيبة)، أُمّ الشيخ البدوي، محمد بن سمير، مرتكب جريمة “ذبحة القريّا “ بحق بني معروف.

إسماعيل الأطرش يستطلع الأمر
لم يلبث أن وصل نبأ المستجيرين إلى اسماعيل الأطرش ولا شكّ أنه كان على علم بالبادرة من صديقه الحنّاوي، فأرسل رجالاً من قِبَلِه يستطلعون طبيعة الموقف، ويدعون القادمين إلى ضيافته، وكان الضجيج الذي أحدثته مسرحية الخطيبة قد علا بحيث وصلت أصداؤه إلى القرية القريبة.
دُهش رجال الشيخ اسماعيل للمشهد المثير الذي لم يسبق أن شوهد مثله في تقاليد البوادي العربية، دخل كبيرهم بيت الشّعر المكسوح، وفوجئ بالرجل المشدود إلى حبل المذيع وهو يدق القهوة بالمهباج بيده المربوطة بالحبل، وحوله الرجال القادمون بصحبة السيدة الخطيبة أم محمد، حيّره ذلك الترتيب غير المسبوق، لكنه لم ينسَ المهمة المكلّف بها من قبل من أوفده، الشيخ اسماعيل، فوجّه إليهم الدعوة لمضافته، فأجابه الطيّار “بعد ما تجهز قهوتي نلبّي دعوة شيخكم”.
فهم الرجال أن في الأمر استجارة وتدبيراً يريده الوافدون، لكن كلام المستجير كان ينطوي على قدر كبير من التدلّل الذي يتنافى مع طبيعة وضعه كطالب حماية، ولم يشأ رسل الشيخ تكدير المستجير، فعادوا إلى شيخهم، وأبلغوه بالذي جرى، فأرسل مجموعة من أقربائه للتيقّن مما يحدث، وليؤكّدوا على دعوته إليهم للقدوم إلى ضيافته، لكنه قام بنشر رجاله بأسلحتهم في مواقع متفرّقة على تخوم القرية وعلى أسطح المنازل، وأمرهم بالإكثار من المتاريس الفارغة على تلك السطوح ليوحوا بالكثرة أمام الوافدين، ولبعث الهيبة في النفوس، ورتّب مجموعة من الفرسان المسلّحين بالبنادق والسيوف والرماح على مدخل القريّا من جهة دخول الوفد إليها.
عندما وصل مبعوثو اسماعيل إلى وفد ولد علي، وكان المشهد على حاله الأولى من التوتر والانفعال، أكدوا للطيّار دعوة شيخهم لاستضافته، فقال لهم الرجل الذي لم يزل يضرب بمهباجه في النجر:” لو كان الشيخ الأطرش موجوداً كان جانا بذاته وسايل عن دخيله”، رجع الرجال إلى حيث أتَوْا، وأخبروا شيخهم بما قاله الرجل، فقال:” لا حول لا قوّة إلاّ بالله، وبه المستعان”، ثم انطلق وخلفه كوكبة من فرسان القريّا نحو خيمة الدخيل، وهناك كان حشد القادمين على حاله من الهيجان العاطفي من بكاء الصغار شوقاً لأمهاتهم، وحنين النوق وصهيل الأفراس وثغاء الأغنام طلباً لصغارها.
شعر الشيخ اسماعيل بجدّية الموقف، وأحس بأن واجبه الأخلاقي يدعوه لوضع حدٍّ لما يجري، دخل خيمة المستجيرين، وحيّاهم بتحية الإسلام فنهض الشيخ الطيار بوثاقه ورد بالسلام، وقال للشيخ الأطرش:” فكّ لي حبل المذيع يا شيخ أبو محمد، وابدأ بكاسر البيت”.
تقدّم الشيخ اسماعيل من كاسر البيت وفك الحبل، وتابع، ففك الحبل من عن يد الرجل وعنقه، وهنا علت زغاريد النساء وفي تلك اللحظات تقدّمت الخطيبة أم محمد وأمسكت بذيل عباءة الشيخ اسماعيل قائلة له:”عفّ عنّا يا شيخ أبو محمد، ترانا اليوم بحماك وجيرتك، وجيرة بني معروف، أنا الخطيبة أم محمد بن السّمير، وهذا الشيخ صالح الطيار، شيخنا وكبيرنا ومشيرنا”.
أجابها الشيخ اسماعيل:” أهلاً وسهلاً بكم جميعاً، وتفضلوا معنا إلى المضافة”.
هنا اجتمعت الأمهات بأطفالهن، والأمّات بصغارها، وفي حمأة هذا الخطاب كان قد وصل الشيخ أبو علي قسّام الحناوي وحوله مجموعة من فرسان السهوة، وشهد كلام الخطيبة ودعوة صهره الشيخ اسماعيل للوفد إلى ضيافته، ومن ثم انطلق الجميع إلى القريّا المتأهبة كما رتّبها رجلها الألمعي، بعد أن تركوا ما جلبوه من ماشية في عهدة رعاة منهم…
كان الشيخ اسماعيل قد أمر بنصب عدد من بيوت الشعر إلى الغرب من بركة القريا لاستقبال وفد المصالحة من ولد علي، فمضافة الشيخ لا تتسع لهذا الحشد من البشر الذي أعدّته الخطيبة.
لما وصل المدعوون توسطوا الساحة بين بيوت الشعر المنصوبة والعمد القديم. أمام أولى درجات المدرّج الروماني وقف الشيخ اسماعيل وإلى جانبه الشيخ الحناوي ومعهما أعيان القريّا، ولم تذكر الروايات أن الشيخ الحمداني الأكبر في السويداء كان حاضراً مما دلّ على تعمق الخصومة والمنافسة على الزعامة بين الرجلين القويين.

ابن-سمير-هاجم-القريا-غدراً-على-رأس-خمسمائة-فارس-وقتل-40-من-خيرة-أبنائها
ابن-سمير-هاجم-القريا-غدراً-على-رأس-خمسمائة-فارس-وقتل-40-من-خيرة-أبنائها

” تقدّم الشيخ إسماعيل الأطرش وفكّ الحبل من رقبة الشيخ الطيار وسط زغاريــــد النساء ثم دعا الجــميع إلى المضافة  “

والدة ابن سمير تعترف وتستجير
في مقابلهم وقف وفد “ كدّة وِلد علي،( الكدّة في لهجة البدو وجنوب سوريا تعني الوفد القادم بغرض ما)”، تقدّمت الخطيبة أم محمد خطوات باتجاه الشيخ اسماعيل ومن حوله، وخاطبته بصوت مرتفع أسمَعَ من المحفل، قالت:” يا شيخ أبو محمد، شينة وْلِدِي يتيمة بين العربان( تقصد أن ابنها محمد ارتكب فعلاً شائناً لا نظير له)، وحِنّا(أي نحن) اليوم سُقنا لك كَدّة يتيمة من نوعها، ولا صار مثلها لغيرك، ولا يستحقّها بين الناس إلاّ أنت، وها الحين صرنا بحماك وحمى بني معروف، جيناك بحالنا ومالنا وعيالنا، طامعين بعفوك وكرمك، واللي يَسَّر علينا طلب العفو منك نسيبك الشيخ الحناوي”.
كان الشيخ الأطرش لم يزل واقفاً مع من حوله يصغي لكلام السيدة، التي ما إن أنهت كلامها حتى أجابها:” نحمد الله يا الخطيبة، نحنا(نحن) جينا ها البلاد، وعمّرنا خرابها، وزرعنا أرضها، وحمينا حدودها، ونحنا بإذن الله ما نعتدي على أحد، والصلح سيّد الأحكام يا إخواننا”، ولوّح بيمناه وبكفّ مفتوح باتجاه الوفد من وِلد علي، وفي تلك اللحظة عَلَتْ زغاريد النساء، وانهالت الدعوات بطول العمر للشيخ اسماعيل وللشيخ الحناوي وتقدم المصوّت، وهو رجل بدوي من وفد الخطيبة يتبعه ثلاثة رجال من خلفه أحدهم يحمل رمحاً ثُبّتت تحت سنانه راية بيضاء كما يُثبّت العلم، وهي عبارة عن قطعة مستطيلة من قماش الشاش، بعرض متر وطول مناسب بحيث يتّسع للعديد من العقد على عدد الشهداء القتلى، وإذ يعقد وليُّ المقتول عقدة بيده، فإن هذا معناه في تقاليد العرب أن لا مطالبةة بعدها بثأر أو دِيَّة، لأن ذلك قد حسم أمره مع المصالحة وما سبقها من تسويات، ولا تراجع بعد ذلك. ونادى المصوّت بأعلى صوته:” أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، من عفا وأصلح فأجره على الله. اشهدوا يا أهل الحميّة، ضيوف ومحلّية، الراية البيضا المبنية للشيخ اسماعيل الأطرش وأهل القريا بيّض الله وجههم، وللشيخ أبوعلي قسام الحناوي وسيط الخير” وبعد عبارات من الثناء والإطراء على موقف الشيخ اسماعيل وأهل الشهداء من أهالي القريا وعلى موقف وسيط الخير الشيخ الحناوي، تقدم حامل الراية من الشيخ الأطرش الذي عقد الراية عن دم أخويه طرودي ومنصور وأبناء عمومته وأقاربه وكافة شهداء ذلك اليوم، إذ كان أعيان القريا قد فوّضوه بعقدها نيابة عن سائر أولياء دم الشهداء الضحايا في يوم “ذبحة القريّا”، فكانت عقدة واحدة عن دماء الاثنين والسبعين شهيداً، ثم أوعز لحامل الراية أن يناولها للشيخ الحناوي ليعقدها باعتباره كفيل المصالحة. وبعد أن عقد الشيخ الحناوي الراية أمر حاملها أن يذهب بها إلى الخطيبة والشيخ صالح الطيار باعتبارهما الممثلين الرئيسيين لقبيلة “ولد علي” وأولياء دم قتلاهم.
بعد هذا الصلح المشهود، وقد كانت الخطيبة أم محمد قد أمرت بإعداد وليمة عظيمة لأهل القريّا وللمدعوين من بني معروف من أنصار الشيخ الأطرش، ولمن هم في وفدها، قُدّم الطعام الذي شارك الجميع من الجانبين في تناوله كأسرة واحدة، وعلى أثر ذلك اليوم الذي ظل حديث الحضر والبوادي لسنين مديدة، ولم يزل ذكره إلى يومنا هذا، عادت الخطيبة ومن رافقها تحمل راية بالمصالحة عن دماء اثنين وسبعين شهيداً من بني معروف، وبذلك اليوم أصبحت الطريق مفتوحة أمام قبيلة ولد علي لدخول مراعي الجبل وما حوله على أن يكون ذلك الأمر بعد أخذ الإذن المسبق من الشيخ الأطرش، وهو الإذن الذي لم يعد عليه اعتراض، وقد استمر مفعول تلك المصالحة لفترة غير قصيرة بعد ذلك اليوم التاريخي.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading