العوامـل والحِسابــات الدّوليــة والمحلّيّـة التـي ساهمـت فـي قيــام دولــة لبنــان الكبيــر
الصّهيونيّة أدركت أنّ إنشاء الوطن اليهوديّ غير ممكن
من دون تقسيم بلاد الشّام وإحباط مشروع الدّولة العربيّة
الجنرال «دي بوفور» رسَم الكَيان اللبناني عام 1865
وشَطْحة قلم من كليمنصو كادت تضمّ دمشق إلى لبنان!
البطريرك الحْوَيِّك رفض عرضًا يهوديًّا بالتخلّي عن الجنوب
مقابل مساعدات ماليّة وضمان «أكثريّة مسيحيّة» في لبنان
انت سوريا، أو بلاد الشام، تضمّ المناطق الممتدّة من حدود سوريا الشّماليّة مع تركيا (أو الإمبراطوريّة العثمانيّة)، حتى سيناء، أو الحدود الجنوبيّة لفلسطين، مشكلة ما اصطلح على تسميته بـ “سوريا الطّبيعيّة” بمعناها الجغرافيّ الأصيل، إلّا أنّ أطرافًا أربعة أسهمت في تقسيم بلاد الشام هذه (أو سوريا الطّبيعيّة) إلى دويلات ومناطق نفوذ، وهي :فرنسا، وبريطانيا، والمنظّمة الصّهيونيّة العالميّة، والكنيسة المارونيّة، وسوف نحاول فيما يلي، تحديد دور كلّ من هذه الدّول والمنظّمات في عمليّة التّقسيم هذه، وبالتّالي في عمليّة إنشاء “دولة لبنان الكبير”.
فرنسا: “حقوق تاريخية” في جبل لبنان
كانت فرنسا وبريطانيا قد احتلّتا بلاد الشّام والعراق، بعد انتصارهما في الحرب ضد العثمانيّين عام 1918، ففرضت بريطانيا سيطرتها على كلٍّ من العراق وفلسطين كما وضعت إمارة شرقيّ الأردن تحت سيطرتها، بينما احتلّت الجيوش الفرنسيّة لبنان في 7 تشرين الأوّل عام 1918، وكان “جورج بيكو” أوّل مفوّض للدّولة الفرنسيّة في سوريا ولبنان (وهو الذي أسهم في وضع اتفاقيّة سايكس – بيكو.
وكانت فرنسا تزعم أنّ لها حقوقًا “تاريخيّة وطبيعيّة” في سوريا، وخصوصًا في “جبل لبنان” حيث كان لها، منذ الاحتلال الصّليبيّ لهذه البلاد، علاقات ودٍّ وصداقة بلغت حدَّ “التّبعيّة”. إذ شارك موارنة جبل لبنان في القتال، إلى جانب الصّليبيين، بخمسة وعشرين ألف مقاتل قادهم مقدّمهم إلى عكّا لنصرة الملك “لويس التاسع، ملك فرنسا”، وكانت مكافأتهم على ذلك أن كتب الملك “إلى أمير الموارنة ورؤساء كهنتهم” كتابًا منحهم، بموجبه “حقّ الحماية، من قبله ومن قبل خلفائه، كشعب فرنسا”، وقد اعتبر الموارنة ذلك الكتاب “أوّل وثيقة رسميّة للحماية الفرنسيّة” 1.
واستمرّ ارتباط الموارنة بفرنسا حتى عهد الامبراطور نابليون الثّالث، في منتصف القرن التّاسع عشر، حيث أرسلت فرنسا حملة عسكريّة لحمايتهم إبّان الحرب الطائفيّة التي جرت بينهم وبين الدّروز عام 1860 – 1861م، فكان قائد هذه الحملة “الجنرال دي بوفور دوتبول” أوّل من وضع مشروعًا جديدًا ومتكاملًا لإقامة “كيان لبناني” يتألّف من جبل لبنان وجواره، ويمتدّ من “النّهر الكبير” شمالًا إلى “قمم جبل لبنان الشرقي وجبل الشّيخ” شرقًا”
فحدود الحولة وبلاد بشارة جنوبًا”، “فالبحر المتوسّط” غربًا، وهي الحدود الحاليّة نفسها (باستثناء الجنوبيّة منها) التي عاد “الجنرال غورو” ليرسمها للبنان بعد مرور ستّين عامًا على مشروع “دي بوفور”، والتي شُكّلت، بموجبها “دولة لبنان الكبير” ثمّ “الجمهوريّة اللّبنانيّة” الحاليّة 2.
احتفالات بـ “النّصر الفرنسيّ”
ويذكر المؤرّخ كمال الصّليبي أنّ “فريقًا من المتطوّعين الموارنة قاتلوا، في معركة ميسلون، إلى جانب الفرنسيّين، وجرت، بعد ذلك، احتفالات علنيّة بين موارنة الجبل، بالنّصر الفرنسي، أو بالأحرى، بالهزيمة العربيّة”3. وكانت فرنسا قد أقامت، في سوريا عمومًا وجبل لبنان خصوصًا، العديد من الإرساليّات الدينيّة والمؤسّسات الاجتماعيّة والثّقافيّة والاقتصاديّة والصّناعيّة، ما جعلها تعزّز دعواها بأنّ لها حقًا تاريخيًا وطبيعيًا” في هذه البلاد.
هذه الرّوابط التّاريخيّة (القائمة، أساسًا، على العاطفة الدّينيّة التي ربطت الموارنة بفرنسا)، خلقت فَيْضًا من الرّوابط الأخرى بين هذه الطّائفة والدّولة الأوروبيّة (التي كانت لقرون خلت دولة استعماريّة كبرى)، وأهمّ هذه الرّوابط، بالنّسبة إلى فرنسا: الرّوابط الاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعيّة، حيث خطّطت هذه الأخيرة لأن يكون جبل لبنان بمثابة “رأس جسر” تعبّر بواسطته إلى مختلف أرجاء سوريا والمشرق العربيّ، تمامًا كما خطّطت لاستعمار الجزائر واستخدام تلك البلاد كمنطلق لبسط هيمنتها على بلدان المغرب العربي. ولا ينكر المؤرّخون اللبنانيّون المحدثون أنّ التّحالف الذي قام على مدى قرون بين فرنسا والموارنة إنّما كانت ركيزته بالنّسبة إلى فرنسا المصالح الفرنسيّة أوّلًا، وبالنّسبة إلى الموارنة، شعورهم “القوميّ اللّبنانيّ المميّز”. ويكون الدّكتور حكمت الحدّاد أكثر وضوحًا عندما يقول أنّ فرنسا “ما كانت لتعوّل، كثيرًا، على هذه العلاقة (مع المسيحيّين) إلّا بمقدار ما تتناسب مع مصلحتها الاستعماريّة، ومع مخطّطاتها للاستيلاء على لبنان وسوريا. وقد بقيت هذه المصلحة واضحة حتى بعد إعلان دولة لبنان الكبير”.
وقد ظهر تشبّث فرنسا برغبتها في احتلال سوريا (ولبنان) وتمسّكها بتأمين مصالحها، في هذه البلاد، من خلال المحادثات التي جرت بينها وبين بريطانيا، إبّان مفاوضات هذه الأخيرة مع الشّريف حسين، شريف مكة، ووَعْدَها له بإقامة دولة عربيّة مستقلّة في سوريا، وكذلك إبّان محادثات “سايكس – بيكو” الشّهيرة، ثمّ خلال مفاوضات مؤتمر السَّلم بباريس، وتُظهر مراسلات حسين – مكماهون مدى هذا التّشبّث 4.
ولم يكن الشّريف حسين يعلم أنّه، في الوقت الذي كان فيه مكماهون يتبادل معه المذكّرات بشأن إعلان الثّورة على السّلطنة وحلفائها، كانت الحكومة البريطانيّة تتفاوض مع حليفتها فرنسا على اقتسام بلاد الشّام، وتوقّعان “اتفاقيّة سايكس – بيكو” الشّهيرة (أيار/مايو عام 1916) التي منحت فرنسا السّيطرة على سوريا الدّاخليّة والغربيّة مع لبنان، على أن يكون لبريطانيا سوريا الجنوبيّة (فلسطين وشرق الأردنّ) مع العراق.
بريطانيا والخديعة الكبرى
لعبت بريطانيا الدّور الأساسيّ في تقسيم بلاد الشّام، فهي التي خدعت الشّريف حسينًا من خلال وعدها له بإقامة “المملكة العربيّة السّوريّة” التي تضمّ بلاد الشّام كلّها، لقاء قيادته الثّورة على السّلطنة العثمانيّة (1916)، وذلك خلال مفاوضاته الشّهيرة مع مكماهون، إلّا أنها كانت في الوقت نفسه، وبسرّيّة تامّة، تتفاوض مع فرنسا وروسيا القيصريّة لتقسيم هذه البلاد إلى دويلات ومستعمرات للقوى العظمى. وقد رغبت بريطانيا في الاحتفاظ بفلسطين تحت انتدابها بهدف تحقيق الوعد الذي قطعه وزير خارجيّتها (اللّورد بلفور) للزّعيم الصّهيونيّ (اللّورد روتشايلد) بإنشاء وطن قوميّ لليهود في فلسطين، وهو ما سوف نأتي على شرحه بالتّفصيل في الفقرة التّالية.
المنظّمة الصّهيونيّة العالميّة : مشروع الوطن اليهوديّ
كانت المنظّمة الصّهيونيّة العالميّة تعمل بصورة حثيثة لإقامة وطن قوميّ لليهود، في بقعة ما من بقاع العالم، ولم تكن فلسطين وحدها محطّ أطماع مؤسّس هذه الحركة العنصريّة “تيودور هرتزل”، إلّا أنّه، في المؤتمر الثّامن لهذه المنظّمة، والذي عقد في لاهاي عام 1907 اتّخذ القرار، فكان وعد بلفور. لذلك، وفي العام 1917، أي في الوقت الذي كان الشّريف حسين يقاتل إلى جانب بريطانيا وفرنسا في حربهما ضد السّلطنة العثمانيّة وحلفائها، فإنّ أقطاب المنظّمة كانوا يدركون أنّه لا مجال لتحقيق حلمهم بوطنٍ قوميّ يهوديّ في فلسطين من دون تقسيم بلاد الشام. لذا، كان تأثيرهم كبيرًا على كلّ من فرنسا وإنكلترا لتنفيذ هذا المطلب، وتعيين اثنين من أنصار قضيّتهم لهذا الغرض.
ما إن تسلّم “لويد جورج” رئاسة الحكومة البريطانيّة (عام 1916) حتى أقرّ تعيين “مارك سايكس” في مهمّة وضع اتّفاقيّة “سايكس – بيكو” لتقسيم سوريا والعراق بين بريطانيا وفرنسا، كما أسند إليه مهمّة التفاوض مع الزّعماء الصّهيونيّين بشأن مستقبل وطنهم، فبدأ “مارك سايكس” مهمّته هذه، في شباط/ فبراير من العام نفسه، حيث بدأ يبحث، معهم، عن الوسائل النّاجعة لإصدار وعد تضمّن بريطانيا، بموجبه، حقّ اليهود في إنشاء وطن قوميّ لهم في فلسطين. وكان قد سبق أن انضمّ “سايكس” (وهو عضو في مجلس العموم البريطانيّ) إلى صفوف مؤيّدي الحركة الصّهيونيّة في بريطانيا، بل إنّه أصبح من أكثر المتحمّسين لهذه الحركة في صفوف البريطانيّين (وكان حوّله إلى هذه الحركة حاخام بريطاني يدعى موسى غاستر). وأمّا فرنسا فقد عيّنت “جورج بيكو” مندوبًا لها في المفاوضات التي أدّت إلى توقيع الاتّفاقيّة المشار إليها، ثمّ أصبح، فيما بعد، مندوبًا ساميًا لبلاده في سوريا.
وُقّعت معاهدة “سايكس – بيكو” في 16 أيار/ مايو عام 1916، ووقَّع “آرثر جيمس بلفور وزير الخارجية البريطانيّة في وزارة “لويد جورج” (وكانا، كلاهما، صهيونيّين بارزين) في 2 تشرين الثاني / نوفمبر عام 1917، وعده الشّهير لليهود بأن تسعى بريطانيا لإنشاء وطن قوميّ لهم في فلسطين. وقد ضمنت بريطانيا تنفيذ وعدها هذا بأن أصرّت على أن تكون فلسطين، بعد انتهاء الحرب تحت انتدابها، كما أصرّت على أن يتضمّن صكّ الانتداب بندًا يؤكّد تصميمها على تنفيذ ذلك الوعد (المادّة الثّانية من صكّ الانتداب).
ولا شكّ في أنّ التّزامن واضح، وكذلك التّرابط، بين اتّفاقيّة سايكس – بيكو ووعد بلفور، إلّا أنّ ما يثير الانتباه هو: العلاقة بين تقسيم سوريا، والوعد البريطانيّ بإنشاء وطن قوميّ لليهود في فلسطين.
يُخطىء من يظنّ أنّ الاستعمار، في تقسيمه لبلاد الشّام، كان يُراعي مصلحة أيّة طائفة من الطّوائف المقيمة على أرض هذه المنطقة، ذلك أنّ الهدف الأساسيّ للاستعمار، الفرنسيّ والبريطانيّ خصوصًا؛ كان إعداد الأرض لتنفيذ وعد بلفور وإقامة الكيان الصّهيونيّ المُرْتَقب في فلسطين، إذ إنّ إبقاء بلاد الشّام دولة واحدة تمتدّ من جبال طوروس شمالًا إلى خليج العقبة جنوبًا (مرورًا بالسًاحل السّوري واللّبناني والفلسطينيّ) فبادية الشّام شرقًا، لن يسمح إطلاقًا بتحقيق الحلم الصّهيونيّ وإنشاء الدّولة الصّهيونيّة، فكان لا بدّ من تقسيم هذه البلاد إلى دويلات ضعيفة وغير متكاملة لكي يُتاح للاستعمار إقامة إسرائيل على أرضنا وفي قلب وطننا العربي. لذا، كان لا بدّ من القضاء على أيّ أمل بقيام تلك الدّولة، وذلك بضرب قوّتها العسكريّة وزعامتها السّياسيّة، وقد تمّ ذلك في ميسلون عام 1920.
إنّ نِظْرة واحدة إلى خارطة بلاد الشّام أو سوريا الطّبيعية تُرينا أيّ خطر كان يمكن أن يحيق بدولة اليهود في حال قيام دولة الوحدة العربيّة في بلاد الشّام، بحيث لا يكون للدّولة اليهوديّة أيّ منفذ برّي شمالًا وجنوبًا وشرقًا، ولا يبقى لها إلى البحر متنفّسًا. وهذا ما يؤكّد بما لا يقبل الشّكّ أنّ تقسيم بلاد الشّام إلى مناطق نفوذ وفقًا لاتّفاقية سايكس – بيكو، ثمّ إنشاء كيانات صغيرة وعاجزة في هذه البلاد كان في أساسه مطلبًا صهيونيًّا، بالإضافة إلى كونه مطلبًا استعماريًّا.


“حاخام بريطانيّ حوَّل مارك سايكس إلى مؤيِّد متحمّس لمشروع إسرائيل قبل تعيينه ممثّلًا لبريطانيا في مفاوضات تقاسـم تركة الدّولة العثمانيّة”
الكنيسة المارونيّة: مشروع تكبير الكيان
شكّلت الكنيسة المارونيّة “محور الرّحى” والمرجع الأوّل، بالنّسبة إلى الفئات المطالبة بقيام كيان لبنانيّ مستقلّ ومنفصل عن سوريا، وقد لعب البطريرك الماروني الياس الحْوَيّك الدّور الأساسيّ في هذا المجال، فهو الذي ألهب مشاعر الموارنة في مطالبته بلبنان “بحدوده التاريخيّة والطبيعيّة” كما يراها. وكما رآها من يذهب مذهبه من “اللّبنانيين”، وإن كانت هذه الحدود اختراعًا، أجنبيًا لا يقوم على أسِّ سند تاريخيّ، اخترعه الجنرال “دي بوفور دوتبول” قائد الحملة الفرنسيّة على سوريا عام 1860، واعتمدته الكنيسة ومعها المنادون بكيان لبنانيّ مستقلّ.
بدأت الكنيسة المارونية نشاطها، في هذا المضمار، منذ عهد بعيد، أي منذ الحكم العثماني لبلاد الشام. وساعدها على ذلك إنشاء الدّول الكبرى لمتصرفيّة “جبل لبنان” (في أواسط القرن الميلادي التاسع عشر) التي اعتبرت نواةً أساسيّة لهذا الكيان. وبما أنّ كيان المتصرفيّة لم يكن كافيًا لإنشاء دولة (كما ورد في تقرير النّقيب الفرنسي “فان Fain “ رئيس البعثة الفرنسيّة إلى جبل لبنان، بتاريخ 25 كانون الأوّل/ ديسمبر عام 1865). فقد أضحت المطالبة “بتكبير” هذا الكيان في نظر المطالبين أمراً مشروعًا ورأى هؤلاء، وعلى رأسهم الكنيسة المارونيّة في مشروع الجنرال دي بوفور دوتبول (الذي وضعه بتاريخ 15 شباط/ فبراير عام 1861) مبتغاهم، فاعتمدوه أساسًا لمطالبهم. واستطاعت الكنيسة المارونيّة أن تحرّك الشّارع المسيحيّ في جبل لبنان، كما استطاعت أن تحرّض المجلس الإداريّ للجبل على اتّخاذ القرارات الرّافضة للانضمام إلى سوريا والمطالبة باستقلال لبنان، كما أنّها أوفدت إلى مؤتمر الصّلح بباريس وفوداً ثلاثة ترأّس أحدها (الوفد الثّاني) البطريرك المارونيّ نفسه. وساعدت على ذلك الأحزاب المسيحيّة التي كانت منتشرة في بيروت وجبل لبنان والقاهرة وباريس، والتي تبنّى معظمها مطالب الكنيسة المارونيّة وبطريركها.
وقد لعبت شخصيّة البطريرك المارونيّ الياس الحْوَيّك، القويّة والمؤثّرة والفعّالة، دورًا مهمًّا في تحقيق هذا المطلب (مع ما سبق أن أكّدناه من أنّه كان لفرنسا مصلحة حقيقيّة في تحقيقه)، ويُرى أنّه بينما كان رئيس الوزراء الفرنسيّ (كليمنصو) يرسم على خارطة سوريا حدود لبنان الكبير سائلاً في الوقت نفسه البطريرك الذي كان إلى جانبه: إلى أين تريد أن تصل هذه الحدود؟ إذا بقلم كليمنصو “يشطح” باتجاه دمشق فتصبح هذه ضمن حدود لبنان التي رسمها رئيس الوزراء الفرنسيّ، ممّا أذهل البطريرك الماروني الذي طلب منه تصحيح الخطأ.


لقد أطلقت بعض الصّحف على البطريرك الحْوَيِّك ألقاباً تدلّ على مدى تأثيره في إنشاء هذا الكيان، ومنها جريدة “لسان الحال” التي وصفته “بمندوب لبنان الكبير”. ويذكر “يوسف السّودا” أنّه، حين أُطلقت فكرة “الفيدرالية” مع سوريا، وخصوصًا عندما أورد “غورو” جملة مبهمة في خطابه عند إعلان دولة لبنان الكبير (في أوّل أيلول/ سبتمبر 1920)، إذ قال: “ إنّ لبنان الكبير تألّف لفائدة الجميع، ولم يؤلّف ليكون ضدّ أحد، فما هو إلّا اتّحاد سياسيّ إداريّ”، أثار قوله هذا الكثير من الشّكّ حول حتميّة استقلال لبنان عن سوريا، فاغتنم البطريرك المارونيّ فرصة حضور الجنرال غورو إلى حفل غداء أقيم في البطريركيّة المارونيّة (في الدّيمان) على شرفه، وألقى خطابًا، بحضور غورو قال فيه بتحدٍّ شديد: “إذا مُسّت حفنة من تراب لبنان فأنا، خلال أربع وعشرين ساعة، أشعلها ثورة في البلاد”. ويقول “يوسف السّودا” (وكان حاضرًا تلك المأدبة): “وكأن تياراً كهربائيّاً مسّ الجنرال عند سماعه هذه الجملة، فانتصب منتفضًا، وزعق، والزّبد يرغو من فمه، قائلاً: مفاجأة، مفاجأة، يا مونسنيور أتهدّدني بالثّورة، وفي الذي نعتبره بيت فرنسا؟ أنا الذي أعلنت لبنان الكبير، أنا الذي أمّنت لكم الاستقلال والحدود الطّبيعيّة، من النّاقورة إلى النّهر الكبير،. أتهدّدني بالثّورة؟”. ويتابع “السّودا” قائلًا إنّه، عندما رجع الجنرال إلى هدوئه قال للبطريرك: “إنّ المشروع لا ينفّذ إلّا إذا وافق عليه اللّبنانيون، ولغبطتكم الرّأي الأوّل، وما دام اللّبنانيون غير موافقين، فلن تنشأ فيديراسيون”.
وهكذا، برهن البطريرك المارونيّ “الياس الحْوَيِّك”، بمواقفه الصّلبة هذه، أنّه الرّجل الأوّل في لبنان، وأنّه الوحيد الذي التفّ حوله المتشبّثون باستقلال لبنان، من مسيحيّين موارنة وسواهم، لكي يضمنوا تحقيق حلمهم بهذا الاستقلال.
وقد أدركت المنظّمة الصّهيونية العالميّة، خلال انعقاد مؤتمر السّلم وبعده، أهمّيّة الدّور الذي تلعبه الكنيسة المارونيّة في السّعي لإنشاء كيان لبنانيّ مستقل، فحاولت الاتّصال بهذه الكنيسة للتّنسيق معها. وقد تمّ لقاء بين كل من “دايفيد بن غوريون وحاييم وايزمن” وبين البطريرك الماروني الحْوَيّك، على هامش مؤتمر السَّلم بباريس (وكان البطريرك يرأس الوفد اللُّبنانيّ الثّاني لهذا المؤتمر)، وخلال اللّقاء، حاول الزّعيمان الصّهيونيّان إقناع البطريرك “بالتخلّي عن جنوب لبنان والجليل الأعلى، لقاء وعد بتقديم مساعدات ماليّة لتطوير لبنان، بحيث يصبح أكثريّة مسيحيّة”، فأجابهما البطريرك “بأنّ الموضوع خارج عن إرادته، وأنّ القرار بيد فرنسا”. والجدير بالذّكر أنّ البطريرك المارونيّ تشبّث بموقفه عند تفاوضه مع “كليمنصو” رئيس الحكومة الفرنسيّة حول الحدود الجنوبيّة للبنان، ولم يُعِر اهتمامًا لعرض الزّعيمين الصّهيونيّين.
وفي اليوم الأوّل من أيلول عام 1920، وفي قصر الصّنوبر ببيروت، أعلن الجنرال غورو في خطابٍ له قيام “دولة لبنان الكبير”، وذلك وفقًا للمشروع الذي وضعه “الجنرال دي بوفور دوتبول” قائد القوّات الفرنسيّة في سوريا Corps Exéditionnaire de Syrie عام
1860 – 1861 ورفعه إلى وزارة الحرب الفرنسيّة، بتاريخ 15 شباط عام 1861، وكان مجموع عدد سكان لبنان في ذلك التاريخ 487,950 نسمة. وقد تبنّى دعاة الكيان اللّبنانيّ في ذلك الحين هذا المشروع باعتبار أنَّ حدود لبنان كما رسمت فيه هي “الحدود التّاريخيّة والطّبيعيّة للبنان الذي يريدونه”، وبالفعل فقد كان لهم ما أرادوه5.


“البطريرك الحْوَيِّك هدّد الفرنسيّين بـ «إشعال الثــّـورة» إنْ فكّروا بالإبقاء على الوحدة السّياسيّة لسـوريا ولبنان”