اخترنَ الحياة، كافحنَ وقاومنَ شتّى المعوّقات والصعاب، فانسابت أحلامهنّ وآمالهنّ إبداعاتٍ أدبيّة، نثريّة وشعرية، وفنونًا تشكيلية، رسمت جسر العبور إلى حيث النور والأمل. شاعرات وروائيات ورسّامات من طائفة الموحّدين الدروز، اجتمعن حول المعاناة والعذاب، فكانت «انتفاضة الروح» و»خربشات على جدران الواقع». تسلّحن بالإيمان والإرادة، آمنّ بقدراتهنّ ومواهبهنّ، فكان لهنّ «حقُّ التوقيع» وأشعلن نورًا في غياهب الظلام.
من الاعتلال العصبي إلى الشلل الدماغي، فصعوبة النطق وفقدان البصر والسمع، محطات تستعرضها مجلة الضّحى، للوقوف على لمساتٍ مضيئة في تاريخ جبلنا وطائفتنا الكريمة، علّها تفي تلك المناضلات جزءًا من حقّهن، فتجمع معهنّ «حروفًا مبعثرة على أرصفة العمر، يكمّلن بها قصائدهنّ التي لم تكتمل بعد».
سوسن حسن الرمّاح: «من لا يصادق الحزن يهزمه»
«أفتح دفاتر قديمة أهملتُها لزمنٍ، أقرأ عليها بعض ما خطته فتاة مجروحة مهملة، من أفكار لا تدرك مَن هي. هي ككلّ فتاة تحلم يومًا ما أن تحصد الشهادات العليا، أن ينتظرها حبيب على مفترق الطريق، ليهديها وردة حمراء، أن تتزوّج وتنجب، أن تجد عملًا تحقّق فيه ذاتها وطموحها». تمنياتٌ وأحلامٌ بسيطة تطرحها الشاعرة والروائية سوسن حسن الرمّاح في حديثها إلى الضّحى ، متسائلةً: «أين كل هذه الأحلام؟ هل تجرؤ أن تبوح بها، حتى لأقرب الناس إليها؟!».
سوسن التي شاء القدر أن تخسر نطقها السليم، جرّاء خطأ طبي أثناء الولادة، لم تردعها مصاعب الحياة عن تحقيق أهدافها، فاتّخذت الورق صديقًا لها. كافحت منذ ولادتها في العام ١٩٧٧، تمسّكت بإرادة التحدي وآمنت بقدراتها، فكان أن خطّ قلمها كتابين من الشّعر الحر: الأول بعنوان «لكَ حقُّ التوقيع»، الذي غيّر مجرى حياتها، والثاني بعنوان «نساءٌ شرقيّات – الجزء الأوّل»، وهي تُعِدّ رواية بعنوان «ذاكرة الأنا»، لا تزال قيد الطباعة، وستكون بمثابة انتقال إلى عالم آخر.
«من لا يصادق الحزن، يهزمه»، كما تقول الرمّاح، «لقد صادقتُه وانتصرتُ عليه، حيث إنّ بعض الأحلام حققتُها بالتّحدي والإصرار والقوة. أكملتُ دراستي ولم أكترث لكلام البعض ومحاولته إحباط عزيمتي بالقول إنّه لا داعي للتعلّم، لأنّني لن أجد عملًا، كوني لا أجيد الكلام بشكلٍ سليم. فلقد كانت نظراتهم تجرحني، منهم مَن كان يسخر مني حين أبدأ الكلام، ومنهم مَن كانت ترتسم في عينيه نظرة شفقة، عدا التهميش والألفاظ المؤلمة والجارحة التي نعتادها مع مرور الوقت».
إثنان وأربعون عامًا من النضال والطموح، لم تقف سوسن برهة أمام العوائق طيلة هذه الأعوام، إنّما تمكّنت بفضل مثابرتها وجهود الداعمين لها، من أن تتخصّص في مجال الإدارة والتسويق، وأن تنضمّ إلى أسرة الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم MUBS، فرع عاليه، حيث أثبتت جدارتها وكفاءتها «لقد استطعتُ بإصراري تحقيق حلمي القديم، وهو الجلوس خلف مكتبٍ»، تقول الرمّاح التي استهوتها الكتابة، فبدأت بخواطر نشرتها عبر صفحات التواصل الاجتماعي، ولفتت بها أنظار الكثيرين، بينهم سيدة من أقربائها، كانت تحادثها عن أحلامها وجراحها، فاقترحتْ عليها جمع خواطرها في كتاب، وهذا ما حصل، فكانت تلك السيدة الداعمة الأولى لمسيرة إبنة بلدة المشرفة في عاليه.
كتبت سوسن وجع الحبّ الجميل، فجعلت من الدمعة كلمة، ومن الجراح فاصلة، ومن الموت عبارة. حاولتْ بعد توقيع كتابها الأول، أن تبحر في ميدان الأمسيات الشعرية، غير أنّ أحد الشعراء رفض انضمامها إلى منتداه، بحجّة أنها لا تملك المقدرة على الإلقاء، ولا على المشاركة في أمسيات بعيدة، غير أنّ صاحبة «صالون بنت الأرز الأدبي»، بادرت إلى التجاوب مع طلب سوسن بالقول: «أهلًا وسهلًا بكِ، أنتِ اكتبي ونحن نلقي عنكِ». هكذا انطلقتْ في قطار الأمسيات، فأحيتْ العديد منها، صانعةً عالمها الخاص.
«الجراح لا تُنسى، لكنّنا نحاول أن نتناسى، وحياتنا نحن نقرّرها مهما كانت الظروف»، تضيف الرمّاح، مبديةً أسفها كون «مجتمعنا يعاني الفشل، يرى الإنسان بالحواس وليس بالفكر، لكن عزائي الوحيد محبة من تعرّف إليّ وجالسني من أهل الأدب والشعر وكلّ مَن صادفته ورمقني بنظرة إعجابٍ تتماهى مع إمكانياتي». وتختم سوسن بالقول: «إنْ لم تجد حقوقك في مجتمعك، انفتِح على العالم». وفي قصيدتها «بالمُختصَر»، تختزل آهاتها بالقول: «أجمعُ حروفي المبعثرة على أرصفة العمر لكي أكمل بها قصائدي التي لم تكتمل…».
غادة جهاد بو فخر الدين: «ما زلتُ في أوّل الطريق»
وتختم شاعرة المتن بالقول: «كلّ إنسان يملك طريقًا خاصًّا، غير أنّ اتّباع الإشارات التي يرسلها الله له سترشده إلى غايته، وأنا لا زلتُ أحلّل الإشارات، ولا زلتُ في أول الطريق».
جنان اسماعيل سعيد: «نفتقد للثّقافة وهذه بحدِّ ذاتها إعاقة»
لأسلوبها الشيّق وحسن تعاملها مع التلامذة الذين يعانون صعوبات تعلّمية، فانطلقت منذ سبعة أعوام في تعليم الكمبيوتر واللّغة الانجليزية.
«دخلتُ معهد اتحاد المُقعَدين في برِّ الياس، وأصبحتُ اليوم ناشطة حقوقية في اتّحاد المُقعدين اللبنانييّن»، تضيف سعيد، التي تروي رحلتها مع كتابة القصص القصيرة والخواطر «فقد اكتشفتُ موهبتي من خلال ما كنتُ أكتبه من مذكرات، جمعتها في كتابي الأوّل بعنوان «أنوار في الظلام» الذي جرى توقيعه خلال حفلٍ أُقيم برعاية وزير الشؤون الاجتماعية آنذاك سليم الصايغ، وسط حضور حاشد، وكنتُ حينها لا أتجاوز العشرين عامًا.
همسات جنان لم تتوقّف عند حدّ الكتاب الأول، بل بادرت إلى إصدار كتابها الثاني بعنوان «همسات الروح… جنان والأمل»، وهي في سن الرابعة والعشرين. كما أنّها تحضّر حاليًّا لمسرحية حول التحدّيات التي يواجهها أصحاب الاحتياجات الخاصة، قصصهم وصرخاتهم، بالإضافة إلى رواية تعمل على حَبْك تفاصيلها ووقائعها. «طموحي لا ينتهي، لطالما حلمتُ بالتخصّص في مجال الأدب العربي، وسأثابر لتحقيق ذلك الحلم».
وتضيف جنان: «كلّنا نشكو من احتياجات خاصّة، فالكمال لله وحده، والأهمّ أنّنا نفتقد أحيانًا للثقافة، وهذه بحد ذاتها إعاقة. أمّا نحن كحالة خاصة، فإنّنا نفتقد إلى الكلمة «الحلوة»، ولقد كتبتُ مرّة: «نعم هكذا خُلقْت، ليس لشيء سوى أنني مثلك أنت، لكنني الأكثر منك إكرامًا، نعم بهذا نجحتُ، ليس لشيء سوى أنني مثلك أنت، لكنني الأقوى منك إرادة، نعم صرختُ، ليس لشيء سوى أنني مثلك أنت، لكنني تحدّيتُ نخر الجراح في العظام، نعم حلمتُ ورجوتُ، ليس لشيء سوى أنني مثلك أنت، لكنّني الأعند منك حياة…».
وتتابع سعيد: «لعلّ كتاباتي تعبّر عمّا أودّ أن أختم به، حين أقول: شعور شارد تستكين به الدموع، هناك عشق دفين، هناك نظرات مشرقة، هناك أمل يصارع بتحدٍ وتصميم، هناك فرحة لا زالت بعيدة، هناك جرح صارخ، هناك خيبة منتظرة، وهناك شوق عظيم، هناك حزن يختبئ خلف الابتسامة، وهناك نبض يتكلم عن خفايا الروح… في كلّ هذا أسكن أنا، وبين الأنا والأنا هناك أحلام بريئة وإرادة عنيدة وهناك رجاء يؤمن بالله العظيم، وهناك جنان والأمل».
تغريد يوسف ضو: «بين التخاذل والعزلة… اخترتُ الحياة»
«لعلّ من أصعب الأمور أن نكون في الضوء، ونجد أنفسنا فجأة في الظلام الحالك»، بهذه الكلمات تصف الشاعرة تغريد يوسف ضو معاناتها، وتختزل طفولتها القاسية، بدءًا من مأساة الحرب الأهلية وما رافقها من أحداثٍ انتهكت براءتها كما غيرها من أبناء جيلها، وصولًا إلى فقدانها نظرها بشكل كامل.
«وُلدتُ عام ١٩٧٧ في بلدة القريّة، المتن الأعلى، من دون أي مشاكل صحية تُذكر، قبل أن تفاجئني الحياة بالتهابات في شبكية العين، ولم أكن أتجاوز حينها عشرة أعوام، غير أنّني واظبتُ على تحصيلي الأكاديمي، فكنتُ أدرس على السمع، وتمكّنتُ من التفوّق، فحجزتُ مقعدًا بين الأوائل»، تقول تغريد التي تروي معاناتها مع المياه الزرقاء في العين اليسرى، واضطرارها إلى إجراء عملية جراحية وهي في الثالثة عشرة من عمرها، وهنا كانت عتبة الانتقال إلى الظلام الجزئي، حيث فقدت نظرها فورًا بعد العمليّة.
«واصلتُ الحياة بعينٍ واحدة»، بهذه الجملة تسرد تغريد حياتها المرّة، وتقول لمجلة «الضّحى»: «كافحتُ وتابعتُ دراستي، غير أنّ مشاكل عينيّ تطورت وبسبب خضوعي لعمليات متكرّرة ونتيجة ارتفاع ضغط العين، تركتُ الدراسة عند مرحلة الشهادة المتوسطة (البروفيه)، والتزمتُ المنزل لمتابعة علاجي الطويل، إلى أن انتقلت المياه الزرقاء للعين اليمنى، وأنا في الثانية والعشرين من عمري. عندها خضعتُ لعملية جراحية في روسيا، أعادت لي نظري، قبل أن أُصاب بعد نحو عام بنزيفٍ، تكرّر ثلاث مرات، وكان في كل مرة يفقدني نظري لمدة خمسة أيام، إلى أن فقدتُ النّظر بشكلٍ نهائي».
تغريد، الشابة الوحيدة بين إخوتها الأربعة، والتي فقدت والديها، وقفتْ أمام خيارين إمّا الاستسلام أو المقاومة ومواصلة العيش «ففي أوج المعاناة كان لا بدّ من قرار، إمّا التخاذل والعزلة أو المواجهة والحياة، وأنا طبعًا اخترتُ الحياة، واجهتُ معاناتي بالضحك، لأنّ «الزعل» لا فائدة منه»، كما تقول. وتضيف: «لقد وقف الأهل والأصدقاء بجانبي، فكانوا الداعم الرئيسي لمسيرتي، لكنّ الحافز الأكبر هو الإيمان بالله والثِّقة بالنّفس والتمسّك بإرادة الحياة»
.منذ صغرها، عَشقتِ اللّغة العربية وكتابة القصائد، وكان طموحها أن تتخصّص في اللغة العربية وآدابها، لو أنّها وصلت إلى المرحلة الجامعية. وقد دفعها هذا الشغف إلى كتابة مقال عن المعلم الشهيد كمال جنبلاط، ساعدها في نشره الصحافي أنور ضو، الذي شجّعها على تنمية روح الكتابة لديها. انطلقت تغريد من صفحةٍ على الفيسبوك نشرت عبرها خواطر نثرية قصيرة، أو ما يُسمّى «ومضات»، قبل أن تجمعها في كتابٍ صدر مؤخّرًا عن دار «الفارابي» بعنوان «تغريد الروح»، جرى توقيعه خلال حفلٍ أقامته جمعية «الأيادي المُتكاتفة» في بلدة القريّة برعاية وزير الثقافة محمّد داوود داوود، وحضور العديد من الفعاليات الاجتماعية والثقافيّة والفنيّة. كما من المحتمل أن يشهد الكتاب حفل توقيع ثانٍ في معرض الكتاب الدولي في بيروت.
وتقول ضو: «هذا الكتاب هو عُصارة روحي وشهيقي وزفيري، هو جُهد ثلاثة أعوام، أعبّر خلالها ليس فقط عن معاناتي وأوجاعي بصدقٍ وتجرّد، إنّما أيضًا عن الحب والأحاسيس والمشاعر، فكلّ فردٍ منّا هو إنسان عاشق، وأنا من الأشخاص الذين يجمّلون الوجع. لم أكتب مرة عن وجعي بحزنٍ، بل طرحت تساؤلاتٍ من مثال «أيها الضوء، هل من ثأرٍ لكَ عندي؟!»، وكتبتُ كذلك للحب، فقلتُ: «عندي من الشوق ما يحملك إليّ دون سفر». كما كتبتُ عن الأمومة والذّات البشرية، ونهلتُ من أسلوب الشاعر الكبير محمود درويش، الذي عشقتُ كتاباته وقصائده».
تستخدم تغريد تطبيق «قارئ الشاشة الناطق» (voice over) الذي يسعفها في القراءة والكتابة، وهي تحضّر حاليًا لكتابٍ ثانٍ، من المتوقع أن يتضمّن قصصًا قصيرة وخواطر طويلة ومقتطفات من الشعر الحر. وربّما يأتي يوم تكتب فيه قصة حياتها، وفق قولها «حيث أنّ الكثير من الأشخاص بحاجة لأن يقرأوا ويتعلّموا ويقتدوا بتجارب الآخرين وإرادتهم، لأنّنا جميعًا معرّضون».
عتبها على المجتمع أنّه بجزئه الأكبر «ينظر إلى ذوي الاحتياجات الخاصة بعين الشّفقة والعطف، وليس بعين التضامن، وهذه نظرة تذبحنا، غير أنّني ومن خلال كتابي نجحتُ في سحب نظرة الشفقة من عيون الناس»، تقول تغريد، خاتمةً ببضع كلمات: «أتشبّث بما تبقَّى منّي، كي أكمل بين مدِّ الحياة وجزرها حياة. أحمد الله أن في قلبي قلبًا يحبّني، فالحب يمنحني هذا الدافع للتمسّك أكثر بالحياة، لرؤيتها بعينٍ أفضل».
هيفاء سليم معضاد: «قادرون على تحقيق المستحيل»
رسمَتْ بالألوان وجع الحياة، آلامها وآمالها، فاختصرت تسعة وعشرين عامًا من الصراع مع الحياة، بحلوها ومرّها. أعوامٌ ارتأت الفنانة التشكيلية هيفاء سليم معضاد، أن تجسّدها من خلال لوحاتٍ ورسوماتٍ مضيئة، فجعلت من الريشة رفيقة دربٍ ومن الفن أداة للتعبير عن مكنوناتها ومشاعرها، وكانت أن رَوَت حكاية طفلة بريئة لم تنطق حروفها الأولى ولم تُمنح فرصة سماع أصوات ذويها ومحبّيها، ولا حتى صخب الطبيعة بغاباتها وطيورها وجريان مياهها.
هيفاء، الشابّة المتنية التي لم تتجاوز الثلاثين من عمرها، شاء القدر أن تفقد حاسّتَي السّمع والنطق على عمر صغير، بعد أن تعرّضت لحالاتٍ مُتكررة من مرض «الإنفلونزا» والالتهابات ودرجات الحرارة المرتفعة.
«فقدتُ سمعي على عمر السنة، وبدأتْ منذ ذلك الحين معاناة أهلي ومن ثمّ معاناتي»، تسرد ابنة بلدة بزبدين تفاصيل حياتها لمجلّة «الضّحى»، من خلال الكتابة، فتذكر الصدمة التي أصابتْ أهلها عند اكتشافهم فقدان ابنتهم للسمع، خصوصًا أنّها أولى أبنائهم، حيث حاولوا جاهدًا علاجها، فخضعت لعمليّتين جراحيّتين، وهي في السابعة من عمرها، لكن من دون أي جدوى تُذكر.
وتضيف معضاد: «تعرّضتُ للكثير من المواقف الصعبة، لعلّ أبرزها التنمُّر اللفظي والنفسي، ما دفع بأهلي إلى النهوض ومواجهة القدر والمجتمع بأسره، من منطلق أنّ مستقبل ابنتهم أهمّ من كلام الناس وذرف الدّموع، وأنّ الاستسلام لا يعدو كونه لغة الضعفاء. هكذا، احتضنتني عائلتي الصغيرة، رغم وضعنا المعيشي الصّعب، حيث بادر والداي إلى تسجيلي في «مدرسة رفيق الحريري» – دوحة عرمون، وأنا في الثامنة من عمري».
وتتابع: «تعلمتُ القراءة والكتابة باللّغتين العربية والانكليزية، كما أتقنتُ لغة الإشارات التي أتاحت لي التواصل مع الآخرين، لا سيّما مع أخي وأختي. غير أنّ حكايتي مع الرّسم والفن التشكيلي بدأت قبل ذلك بكثير، فقد برزت موهبتي وأنا في الخامسة من عمري، وتطوّرت على مقاعد الدراسة، حتى باتت وسيلتي الوحيدة للتعبير عمّا يخالجني من مشاعر وأحاسيس ومن آلامٍ رافقتني منذ نعومة أظافري».
لم تكن هيفاء بمنأى عن التنمُّر والمضايقات، حتى بعد عودتها من المدرسة إلى بلدتها، ما أدّى إلى تراجع وضعها النفسي، فما كان من ذويها إلّا أن قصدوا معالجًا نفسيًّا أشرف على حالتها، فكان الداعم والمحفّز لنجاحها وتحوّلها إلى شابّة طموحة تثق بنفسها وبقدراتها، ترسم أحلامها وتستشعر نبض الطبيعة بألوانٍ متناغمة كسرت جدار الصَّمت وقساوة العذاب.
ولعلّ تسلّح معضاد بالإيمان والسلام الدَّاخلي، كان العامل الأساسي لانطلاقها وتفوّقها في مجال الرسم، حيث احتفلت مؤخّرًا بأكثر من مئة لوحة ضمن معرضٍ خاص تضمّن كذلك زاوية للأعمال اليدوية، وهي بصدد إنجاز لوحاتٍ جديدة، تشارك عبرها في معارض للرّسم والفن التشكيلي. كما أنّها تعمل لدى جمعية «حلمنا» للمسنّين، في بلدتها بزبدين، حيث ترسم لكبار السنِّ عبق الحياة والطبيعة، ليضفوا بدورهم لمستهم، معبّرين عن واقعهم ومشاعرهم وأحلامهم من خلال الرّيشة والألوان.
وتختم هيفاء بعبارة خطتها أناملها، لتقول: «ليست الإعاقة أن نكون من أفراد ذوي الاحتياجات الخاصّة، إنّما عندما نستسلم للمصيبة ونخضع للأمر الواقع، مع العلم أنّنا قادرون على تحقيق المستحيل».