الخميس, تشرين الثاني 14, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, تشرين الثاني 14, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

راماكريشنا الحكيم

راماكريشنا الحكيم

عاش نصف حياته في حال السكر الروحي
وترك للعالم إنجيلاً كاملاً حول السلوك إلى الله

من أقواله الشهيرة

> كـــل الأديـــان هي طـــرق إلـــى الله لكـــن الطـــرق ليســـت الله

> الله المنـــزه عـــن الحدثـــان يمكنـــه أن يتلبـــس أي شكـــل
لكنـــه يبقـــى منـــزهاً عـــن جميـــع الصـــور والأشـــكال

> النـــاس يذرفـــون سيـــلاً مـــن الدموع من أجـــل نسائهـــم أو أموالهـــم
لكـــن أيـــن هـــم أولئـــك الذيـــن يبكـــون فـــي محبـــة الله؟

يعتبر الحكيم راماكريشنا ظاهرة فريدة طبعت الإرث الروحي لشبه القارة الهندية في القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين. ويوضح هذا العرض الموجز لتعاليمه بأنها لا تختلف في جوهرها عن تعبيرات الاختبار العرفاني والإيمان كما عرفته العديد من التيارات الفلسفية الإنسانية ومدارس الترقي الروحي في أزمنة وأماكن مختلفة. ولا بد من الملاحظة أن تعبيرات الحقيقة اختلفت لدى الحضارات والشعوب باختلاف الثقافات والاستعدادات وبسبب حاجة أهل الحقيقة لتقديم المعاني اللطيفة بلغة يفهمها أهل المكان والزمان على حدّ سواء. وقد شبه أحدهم الحقيقة التي يسعى الحكماء للتعبير عنها بالماء الذي يتخذ شكل الإناء ولونه لكنّه يبقى في جوهره الماء الصافي الذي لا يداخله شكل ولا لون. وهذا ما يجعل من الضروري النظر بسعة أفق وتبصر في التنوع الكبير الذي عبّر عنه حكماء كل شعب أو بلد عن اختبار الحقائق، وقد جاء في الريغ فيدا Rig Veda أن “الحقيقة واحدة لكن الحكماء أعطوها أسماء مختلفة”، أو كما عبر راماكريشنا نفسه عن ذلك بالقول “أن الله تعالى المنزه عن الحدثان يمكنه أن يتلبس أي شكل لكنّه يبقى منزهاً عن جميع الصور والأشكال.”
ولد راماكريشنا سنة 1835، وكما في العديد من ولادات الصالحين فقد سبقت ولادته بشارات ورؤى بشرت فيها والدته بقدوم طفل نوراني يكون له شأن كبير في العالم. ويروى أن الطفل وقع في أول مشاهدة وغيبة روحية وكان بعد في السادسة من عمره، وقد روى بنفسه أنه كان يوماً ماراً في حقل منبسط حتى الأفق، وكان يتأمل في سحابة ماطرة سوداء تتجمع في السماء عندما مرّ رهط من طيور البجع البيضاء وارتسم بذلك منظر رائع يتكامل فيه السواد والبياض في وحدة الطبيعة، وكان لهذا المشهد وقع روحي لا واعي على الطفل الذي سقط أرضاً في نوع من الحال الصوفي. وتذكر السيرة التي تركها مريدو راماكريشنا ولا سيما تلميذه المقرب ماهندرانات غوبتا أن الحكيم أمضى نصف حياته تقريباً في حال من السكر الصوفي Ecstasy وقد احتفظ تلامذة الحكيم بصورة شهيرة له وهو يدور في مجلسه في حال من الطرب الروحي الذي يغيب فيه عن الوجود وقد أمسك به أحد تلامذته ليساعده على حفظ توازنه.
على الرغم من أن الحكيم لم يكتب مطلقاً، فقد أمضى حياته كلها في التعليم الحكمي واجتمع من ذلك عدد كبير من المؤلفات التي جمع فيها تلامذته تعاليم راماكريشنا، وأحد أهم تلك المؤلفات قطعاً هو المعنون “إنجيل راماكريشنا” كما جمعه ماهندرانات غوبتا.
يتحدث راماكريشنا عن الأنبياء والحكماء فيعتبرهم مثل الأمواج التي تصل إلى الشاطئ قادمة من المحيط، أي أن حقيقتهم من حقيقة المحيط الذي يرسلهم إلى شاطئ البشرية المتعبة رحمة منه وبحيث يستدل من تلك الأمواج على حقيقة المحيط.
في وصفه لمساره الروحي حدث بهذه الكلمات: “لقد مارست وعشت جميع الأديان كما اتبعت مختلف الطرق والمذاهب الهندوسية فوجدت أن كل هذه الأديان والطرق تتوجه إلى الله الواحد ولكن بأساليب وطرق مختلفة. لكني أرى العديد من الناس يتقاتلون باسم الدين في وقت الجميع يبحثون عن الجوهر نفسه وإن تحت أسماء مختلفة. وما سبب اختلاف الأسماء سوى اختلاف المكان والأمزجة والمناخ لكن الجوهر الذي نبحث عنه جميعاً واحد لا يتغير.
قال يوماً لجلسائه:” في أحد الأيام جاءني رجل وقرأ لي كتاباً عن المسيحية حيث كان التركيز دوماً على الخطيئة. في الحقيقة أن الذي يستمر في الاعتقاد بأنه خاطئ أو آثم ينتهي به الأمر بأن يصبح كذلك فعلاً. من المهم أن يكون إيماننا بالله من القوة بحيث يمكننا أن نبتهل بصوت عالٍ قائلين:”كيف يمكن لي وأنا الذي أنكب بكليتي على عبادة الله أن أكون خاطئاً؟ إلهي لقد ارتكبت بالتأكيد الكثير من الآثام والمعاصي إلا أني أتوب إليك وأشهد بأني لن أعود إليها أبداً. أنك أنت أملي ومقصدي”. وعند هذه النقطة وقع راماكريشنا في الحال وغاب عن وجوده بالتمام. (إنجيل راماكريشنا: ص 138)
وأضاف القول داعياً جلساءه: “اذكروا الله بكل وجدانكم ومن صميم كيانكم. تأوهوا وابكوا عند ذكره. إن الناس يذرفون سيلاً من الدموع من أجل نسائهم أو أطفالهم، بل هم يسبحون في بحر من الدموع بسبب الركض وراء المال، لكن أين هم أولئك الذين يبكون في محبة الله؟” (إنجيل راماكريشنا: ص83).

من تعاليم الحكيم راماكريشنا

وجود الله وصفاته
في الليل يمكنكم بسهولة أن تروا عدداً لا يحصى من النجوم تتلألأ في الظلام، لكنكم لن تروا تلك النجوم عند بزوغ الشمس في الصباح. فهل يمكنكم في هذه الحال القول أنه لا توجد نجوم ومجرات في وقت النهار؟ بنفس المعنى أيها الناس إذا كنتم لا ترون المولى جل وعلا في نهار جهلكم لا تقولوا بسبب ذلك أن الرب غير موجود.
كان راماكريشنا يتحدث يوماً عن الله وقوته وسلطانه عندما علق أحد الحاضرين المتشككين بالقول:”إن الله يعمل أيضاً وفق قوانين الطبيعة” عندها أجاب راماكريشنا على الفور بالقول:”ماذا تقول؟ أن الله هو القوي الجبار وهو فعال لما يريد وفق ما يشاء. عندها رد السائل نفسه بالقول: “إذن هل يمكنه أن يخلق فقط بفعل إرادته وردة بيضاء على شجرة الورد الحمراء تلك (وأشار إلى شجيرة ورد كانت بادية للحاضرين). “بكل تأكيد”، أجاب راماكريشنا “إذا أراد الله لهذه الوردة الحمراء أن تحمل ورداً أبيض فسيكون له ذلك”. وانتهى الحوار لكن بدا أن السائل لم يقتنع بالجواب.
لكن حصل بعد بضعة أيام أن نبتت على شجرة الورد الحمراء في حديقة معبد داكشيناوار وردتان واحدة بيضاء والأخرى حمراء على الغصن نفسه. فما كان من راماكريشنا إلا أن حمل الغصن وعليه الوردتان إلى المريد المتشكك الذي ذهل لما شاهده وتاب إلى المعلم قائلاً: أيها المعلم أقسم على نفسي بأني لم أجادلك في أمر بعد ذلك أبداً.
خاطب راماكريشنا جلساءه يوماً بالقول:”لو أني وضعت بيني وبينكم حجاباً من القماش فإنكم لن تروني على الرغم من أنني أجلس معكم كالمعتاد. كذلك، رغم أن الله هو أقرب إليكم من كل شيء فإن حجاب النفس لديكم يحرمكم من مشاهدته”.
الله وحده يعرف حقيقة ذاته

وحدة الله في الأديان
كل الأديان هي طرق تقود إلى الله لكن الطرق ليست الله
كما أن الذهب الخالص يتم تشكيله في مختلف أنواع وأشكال الحلي كذلك يعبد الله جل وعلا بصور مختلفة في كل زوايا الأرض وفي كل الأزمنة، كل ينسب إليه اسماً أو تصوراً أو وصفاً ويعبده وفق مستوى إدراكه أو طريقته. لكن في الحقيقة الله الواحد المنزه عن كل وصف هو المعبود في كل تلك الحالات والتصورات.

ذكر الله وتجليات الرحمة
سواء بعلم أو بغير علم وبقصد أو غير قصد فإن مجرد ذكر الله في أي حال أو أي صيغة يعطي للذاكر الفائدة والبركة على الفور. إن الرجل الذي ينزل إلى النهر بقصد الاستحمام ينال الفائدة من الماء. كذلك الأمر لذاك الذي دفع دفعاً إلى النهر من قبل شخص آخر أو ذاك الذي بينما هو نائم ملء جفنيه جاء أحدهم بالماء وألقى به عليه.
في بعض الفصول لا يمكن الحصول على الماء إلا بشق النفس ومن عمق الآبار. لكن في موسم الأمطار وعندما تفيض الأنهار يصبح الحصول على الماء هيناً في كل مكان. كذلك الأمر فإن بلوغ أعتاب الحق يتم بكثير من المشقة وما لا يحصى من العبادات وقهر النفس. لكن عندما ينزل فيض التجلي فإن الله سيرى في كل وقت وفي كل مكان.

رجال الله
هناك أسطورة تتحدث عن جنس من الطيور تسمى “الهوما” وتعيش في أعالي السماوات وتتعلق بعالمها إلى درجة تأنف معها الهبوط إلى الأرض . حتى بيض تلك الطيور عندما يتم وضعه يبدأ بالسقوط بفعل الجاذبية الأرضية لكنه يفقس في الطريق إلى الأرض وتخرج منه صغار تلك الطيور، وهذه ما أن تشعر بأنها متجهة نحو الأرض حتى تبدل بصورة غريزية مجرى طيرانها وتحلق مجدداً إلى الأعالي إلى حيث موطنها الأصلي. إن الأنبياء والحكماء العظام هم مثل تلك الطيور فهم حتى في طفولتهم أو صباهم يلقون بكل علائق الدنيا وينطلقون بروحهم إلى أعلى ذرى المعرفة والنور الرباني. وهؤلاء يطلق عليهم اسم “المولودون أحراراً”.
أحد رجال الله كان يوماً سائراً في الطريق عندما وقع طرف عصاه من دون قصد على قدم رجل شرير الذي استشاط غضباً وألقى بالحكيم على الأرض وأوسعه ضرباً حتى غاب عن الوعي. وأسرع مريدو الحكيم إليه يحاولون إسعافه حتى إذا أحسوا بأن الرجل المسكين بدأ يستعيد وعيه سألوه: هل تعرف يا مولانا من الذي يقف إلى جانبك الآن. أجاب الحكيم دون تردد: هو نفسه الذي ضربني. كذلك فإن العابد الحق لا يفرق في حال التسليم الكامل بين عدو وصديق.

الاختبار الروحي في الحياة اليومية
يمكن للذبابة أن تحط على جرح متقيح لكنها قد تحط أيضاً على هدايا الفاكهة أو التقدمات التي يجلبها المؤمنون إلى المعبد. كذلك فإن الجاهل قد يخوض أحياناً في أمور الدين لكنه سرعان ما ينغمس بعد ذلك في متاع الحياة الدنيا ومشاغلها.
لا ضير أبداً في أن تعوم السفينة على مياه المحيط لكن شرط أن لا يحوي أسفلها ثقوباً تجعل الماء يتسرب إلى جوفها فيغرقها. كذلك فإن السالك إلى الله يمكنه أن يعيش حياته في الدنيا لكن عليه أن لا يسمح بأن يدخل العالم وحب الدنيا في وجدانه.
الريح يحمل عبق الصندل والبخور كما أنه يحمل أيضاً رائحة القاذورات لكن الريح في الحالين لا يختلط بأي منهما أو يبدل طبيعته. كذلك فإن الإنسان الكامل يعيش في هذا العالم لكنه لا يخالطه أو يمتزج به.
العقبات أمام التقدم الروحي
مهما كان الثقب صغيراً في جرة الماء فإنه سيؤدي إلى تسربه وضياعه حتى لا يبقى منه شيء. كذلك فإن كل الجهود التي يبذلها السالك تبقى هباء لا فائدة منه طالما بقيت فيه ذرة من التعلق بهذا العالم.
إني أبحث دون جدوى وللأسف عن أشخاص يرغبون في ما هو أرفع من الأغراض التافهة لهذا العالم. الكل يركض خلف المرأة والذهب وقليل هم الذين يتطلعون إلى معالي الأمور. كل ما يجذبهم هو جمال الشكل أو المال أو الجاه والألقاب، وهؤلاء الناس لا يدركون أن ما يعتبرونه أغلى الأشياء أو أرفع المراتب يبدو مثل حطام لا قيمة له إطلاقاً في نظر أولئك الذين أنعم الله عليهم بمشاهدة جماله.
قليل من الناس هم الذين ينجحون في قتل “الأنا” أو الوصول إلى حالة السلام والفرح، لأن فكرة “الأنا” شديدة العناد ولا تغادر النفس إلا بصعوبة شديدة. وهي تشبه في ذلك شجرة العليق التي تقطعها كل مرة لكنها تعود دوماً فتنبت فروعاً جديدة.
الذين يركضون وراء السمعة والمجد الشخصي يخدعون أنفسهم، لأنهم ينسون أن كل ما لديهم إنما هو من إنعام مقسم الأشياء ومسببها وأن كل شيء في النهاية هو ملك لله ولا أحد سواه. الرجل العاقل يردد دوماً: “أنت يا مولاي أنت!” أما الجاهل والمحروم فيردد على الدوام: “أنا، أنا!”

مجاهدة النفس
سأل أحد المريدين راماكريشنا يوماً عن ما ينبغي له أن يفعله لكي يطرد خواطر السوء التي ترد على فكره، وهذا رغم حرصه على السلوك القويم والعبادة. أجاب الحكيم بالقول:” كان لأحد الناس كلب يحبه كثيراً وكان غالباً ما يلاعبه أو يربت عليه أو حتى يعانقه. ومرّ به يوماً أحد الصالحين فنصحه ونهاه عن رفقة هذا الكلب. وبالفعل قرر الرجل العمل بنصيحة الرجل الصالح فأصبح لا يلقي بالاً لكلبه. لكن هذا الأخير لم يفهم هذا التبدل في سلوك صاحبه، وبقي يتمسح به ويتودد إليه بإلحاح طلباً لاهتمامه ومحبته. ولم يجد الرجل بدا من أن يحمل عصاً يهول بها على الكلب أو يضربه بها كلما اقترب منه، وعندها يئس الكلب وفارق صاحبه ولم يعد إليه. كذلك الأمر بالنسبة لنفسك، والتي وعلى الرغم من سعيك لطرد الكلب الذي قمت بتغذيته وتدليله لسنوات فإن هذا يرفض مفارقتك. لا بأس في ذلك، لكن عليك أن تواظب على تأديبه والنفور منه كلما اقترب منك، فإن واظبت على ذلك فإن كلب نفسك سيقرر تركك وشأنك في نهاية الأمر.
الصخرة الممغنطة تجتذب إليها السفينة التي قد تمر فوقها فتقتلع مسامير السفينة وتخلِّع أخشابها وتؤدي في النهاية إلى غرقها في أعماق المحيط. كذلك عندما تنجذب الروح البشرية بمغناطيس الوعي المطلق فإن هذا الأخير يدمر في لحظة فرديتها وحس “الأنا” الذي يختلط بها ويجعلها تغرق في محيط المحبة اللامتناهي لله.
لا يمكن لمياه الأمطار أن تمكث في الأماكن المرتفعة من الأرض، بل هي تنساب على المنحدر لتصل إلى أدنى نقطة من التراب. كذلك فإن نعمة الله تمكث في قلوب البسطاء ولا يمكنها أن تبقى في قلوب أي متكبر أو معتد بنفسه.

رغم أن الله هو أقرب إليكم من كل شــيء
فإن حجاب النفس لديكم يحرمكم من مشاهدته

راماكريشنا في حال من الغيبة الروحية ويبدو أحد مريديه المقربين يسنده
راماكريشنا في حال من الغيبة الروحية ويبدو أحد مريديه المقربين يسنده

الإيمان والتسليم بمشيئة الله
إذ نظرت إلى أوراق الخريف رأيت الريح تدفع بها ذات اليمين وذات الشمال دون أن يكون لهذه الأوراق الميتة الخيار في الوجهة أو الهدف التالي من حركتها. كذلك فإن الذين يتوكلون على الله في كل شيء يجعلون قيادهم بالكلية رهن مشيئته وهم يقولون (آمين) ويلقون بأنفسهم بين يديه بتسليم تام.
الفكر ضعيف. لكن الإيمان قوته غير محدودة. الفكر لا يمكنه الذهاب بعيداً إذ لا بد أن يتوقف عند حد معين. لكن بواسطة الإيمان يمكن للإنسان أن يجتاز المحيطات دون صعوبة، بل أن كل قوى الأسباب والطبيعة يزول مفعولها في مواجهة الإيمان. بل أكثر من ذلك فإن كافة الأدران والمفاسد والجهل تفر هاربة في حضور الإيمان.

كل الجهود التي يبذلها السالك تبقى هباء لا فائدة منه طالما بقيت فيه ذرة من التعلق بهذا العالم

لا تغتر بعلمك
جاء أحد المريدين إلى مرشده قائلاً:” إن إيماني بك يا سيدي هو من القوة والرسوخ بحيث أعدك أن في إمكاني أن أجتاز هذا النهر العميق سيراً على الماء فقط بمجرد ترداد اسمك. وبالفعل قطع المريد النهر مشياً على الماء وهو يردد بإيمان وخشوع اسم مرشده. لكن هذا الأخير الذي شهد تلك الكرامة لمريده لم يأتِه مما شاهد إلا الاغترار بالنفس فهو قال في سره: كم يجب أن أكون عظيماً وذا سلطان ليكون مجرد ذكر اسمي كافياً لأن يجتاز ذاك الرجل النهر مشياً؟ وفي اليوم التالي جاء المرشد إلى النهر وقرر اجتيازه كما فعل المريد. لكنه لم يجد ما يذكره خلال اجتياز النهر سوى كلمة “أنا ..أنا..” فكان كلما تقدم في النهر كلما غاب جسمه في مياهه إلى أن غرق وهلك في النهاية لأنه لم يكن يحسن السباحة.
يمكن لشعور الغرور أو الخيلاء السطحي لدى الجهّال أن يخف أو يلين مع الزمن، لكن شعور العجب أو الاغترار الذي قد يصيب الرجل الصالح بعد بلوغه بعض الدرجات هو أشد عناداً وأعصى على العلاج.

الذوق الروحي يوجب الصمت
كما أن الكثيرين يسمعون عن الثلج لكنهم لم يروه في حياتهم كذلك فإن العديد ممن يتحدثون ويعظون بالدين قرأوا في الكتب عن صفات الله لكنهم لم يصلوا إلى تحقيق تلك الصفات في حياتهم. البعض الآخر ربما رأوا الثلج لكنهم لم يتذوقوا طعمه كذلك فإن العديد من السالكين أو المتدينين قد يحظون بالتماعة خاطفة عن حقيقة الله وعظمته لكنهم لم يدركوا مع ذلك جوهره الحقيقي. إن الذي يتذوق الثلج وحده يمكنه أن يخبر عنه وعن مذاقه، وكذلك فإن ذاك الذي حظي بإنس الله والقرب منه تارة كعابد وتارة كخليل وتارة كعاشق وتارة كفاقد لوجوده في حضرته هذا الشخص وحده يمكنه أن يشرح عن حقيقة الله وصفاته.
عندما نبدأ بملء جرة الماء فإننا نسمع قرقرة لكن ما أن تمتلئ الجرة حتى يتوقف ضجيج الماء. كذلك الأمر فإن الرجل الذي لم يتذوق حقيقة الله يصرف الوقت في تقديم الشروحات والبراهين على وجود الله وصفاته. لكن الذي عرف الله يتذوق النعمة في صمت ولا يحدث فيها.
النحلة تستمر في الطنين طالما بقيت تحوم فوق كأس الزهرة ولم تحط عليها لتذوق الرحيق. لكن ما أن تدخل النحلة جوف الزهرة وتبدأ بارتشاف الرحيق حتى يتوقف الطنين ويحل السكون التام. كذلك فإن الرجل الذي ينهمك بمناقشة المذاهب والأفكار يدل على أنه لم يتذوق بعد رحيق المعرفة الحقة. فلو كان تذوقها للزم الصمت.
احتفظ بإيمانك ومشاعرك لنفسك ولا تحدث بها الآخرين لأنك ستضيع الكثير منها في هذه الحال. وكلما أمكنك أن تخفي رياضاتك الروحية كلما كان ذلك أفضل.

لا تتلهوا بتوافه الأمور
دخل رجلان بستاناً من أشجار الفاكهة. الأول وهو من الذين ما زالوا متعلقين بالأشياء الدنيوية بدأ وفور دخول البستان بعدّ الأشجار وملاحظة كم تحمل من الثمار، وكم تساوي تلك الثمار لو بيعت في السوق. أما رفيقه فقد ذهب فور دخوله إلى صاحب البستان وتعرف عليه ثم توجه إلى إحدى أشجار المانجو وبدأ يقطف منها ويتذوق ثمارها الشهية. فأي الرجلين أعقل يا ترى؟ وأي فائدة تأتي من التلهي بعدّ الأشجار وثمارها وإجراء الحسابات؟ كذلك فإن الرجل المغتر بعلمه أو ذكائه يضيع الوقت بالمناقشات والجدالات حول الدين والله. أما الرجل العاقل والمحب لـ لله فإنه وقد فاضت عليه النعم الربانية يعيش بالغبطة والسكينة في هذا العالم.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading