أنجز أعمالاً بطوليّة يعجز عن مثلها عَشَرات الرّجال
سعيد الأطرش: بطل من الجبل
أصــــــــاب في العفــــو عن رجــــــــل أُرسِــــل لقتلــــه
لكنّــــه أخطأ فــــي حــــقّ قاتــــل “سوّد وجه” الدروز
في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر كان سعيد بن اسماعيل الأطرش ذراع شقيقه شبلي الذي كان سياسيّاً بعيد النّظر، وهو الذي كان يُشّبّه جبل حَوْران بعباءة يُخشى عليها الاهتراءُ من أطرافها؛ ذلك الجبل الذي جعل بنو معروف الموحّدون منه وطناً لهم بعد هجرة معظمهم إليه من لبنان وعمرانهم له بعد أن كان قفرا خربا. ومن هنا كان شبلي مصيباً في إرساله لأخيه سعيد القويّ إلى ذيبين، القرية التي تشكّل الزاوية الجنوبيّة الغربيّة لجبل حوران لحمايتها من التَّعدّيات التي كانت تأتيها من الغزوات البدويّة ومن اللصوص الذين كانوا يسرقون مواشي الفلّاحين وكذلك من تجاوزات قرى الجوار عليها.
ويروي الشّاعر الشّعبي فَوْزات غَبْرَة روايات عديدة في هذا الشأن كان بطلها الشّيخ سعيد الأطرش، وهي روايات متداولة بين الكثيرين من مُعمري ذيبين وأهاليها، منها أنّه كان مُرابِطاً ذات ليلة مع بعض رجاله جنوب القرية، فاشتبكوا مع جماعة من اللّصوص القادمين من مناطق غور الأردن بينهم شقيقان قُتِل أحدهما، وهرب الآخرون، وعَظُمت المُصيبة على الأب الذي فَقَد ابنه في ديار بعيدة، فأعلن أنّه سَيزوِّج ابنته الجميلة هِبَةً لمن يأتيه برأس سعيد، وتطوّع أحد الرّجال الأشدّاء لهذه المهمّة، فأتى إلى ذيبين بعد أن تسرّب بين الرّعاة في ليلة تأخّر بزوغ قمرها، وكان سعيد قد صرف عبده المسمّى بـ”سعيد”، وبقي وحده في المضافة التي يفتح بابها لجهة الشّرق قبالة القمر البازغ. رأى سعيدٌ الحَذِر خَيالاً لِرأسٍ آدمية تلوح على الجدار الداخلي المقابل لجهة الشرق، تتحرّك خلف صخرة قبالة باب المضافة، كان الخيال يظهر لحظة ثمّ يلطو خلف الصّخرة، فأدرك أنّ محذوراً ما يتطلّب منه الحذر والاستعداد.
استغلّ سعيد لحظة لَطْو ما اشتبه به خلف الصّخرة وتسلّل على عجَلٍ من المَضافة إلى أن أتاه من خلفه، فتناوله من جدائل شعره الطويلة (كان الرّجال في ذلك الزّمن يطلقون شعور رؤوسهم ويضفرونها جدائل يتباهَوْن بها)، وجَرَزَه بقوّته التي كان يهابها أشدّ رجال عصره فأفقده القدرة على المقاومة، صرخ الرّجل “ دْخَلَكْ لا تريني لسعيد”.
أُخِذَ المُتَلصّص بالمفاجأة، وتعرقلت قواه. شدّ سعيد يديه إلى خلف ظهره وفتّشه فوجد معه خنجراً انتزعه منه، ثمّ أدخله إلى غرفة في الدّار وقيّده وأقفل عليه بابها، وفي اليوم التّالي أمر بذبيحة ودعا رجال ذيبين إلى الوليمة. حضر المدعوّون، وسألوا ما المناسبة؟، فقال لهم: “أمس جاءنا ضَيفُ لَيْل، وهو مستعجل يريد الانصراف لهذا دعوتكم.
بعد تقديم القهوة أمَرَ سعيد عبده سعيداً بجلب الرّجل مقيّداً، كان المقيّد يرجوه ألّا يجعل سعيداً يراه، لكنّ العبد الممتثل لأمر سيّده دفع به إلى المضافة حيث اجتمع المدعوّون. أمرَ سعيد العبد أن يفكّ قيده ففعل، وبعدها قال له:
أخبرني حكايتك؟
ــ اِن كَنّك سعيد الأطرش أنا جاي أقتلك.
ــ شو جايب معك؟
ــ شِبريّة. (أي خِنْجَر)
ــ أتقتل سعيد بشبريّة!، الآنَ كُلْ مع ها الغانمين وبعدها رُح خَبّر أهلك بما جرى لك، وخُذ هذه شبريّتك التي بمثلها لن تقتل سعيد، وسيكون لي حساب مع من بعث بك إليّ.
وبالفعل فقد أكل الرجل من طعام وليمة سعيد الذي انتدب فارسين رافقاه مسافة بعيدة من ذيبين ثمّ تركاه ليمضي عائداً إلى أهله.
وصل ذلك الرّجل إلى دياره، واتّضح لذويه ما جرى له، وقد أدهشَهم عفوَ سعيد عمّن كان يستعدّ لقتله، وخشَوْا أن تطالهم يده وهو الذي كانت قبيلة الرّوّاله من قبيلة عَنَزَة الكبرى تتهيب حماه والتعدي على ذيبين بعد نزوله فيها وتركِه قرية عِرى. وكانت تلك القبائل القويّة تجتاح بوادي شمال شبه جزيرة العرب وحوران برجالها وجمالها وخيولها تتجنّب التَّعَدّي على ذيبين بعد أن نزل بها واتّخذها له موطناً لهُ، وقد نظّم سعيد الأطرش الدفاع عن البلدة بكوكبة من خيّالة بني مَعروف وكانت إنجازاته الكبيرة موضوعا دائما لمدح الشعراء كما قال أحمد العْلَيّان شيخ قرية مْعَرْبَهْ، شاعر سهل حوران مادحاً لسعيد:
رِيْف لَلعِيّان الاْعْمى والـْ عَرَج واِن لَفَتْ عَنّازْ ما ثِقل الحِجاج
بسبب خوفهم من بأس سعيد الأطرش اجتمع القوم، وقرّروا عَقْد راية الأخ القتيل والسّير بها مرفوعة عبر الطّريق الطّويلة إلى ديار سعيد في ذيبين والتّصالح معه لكونه عَفا عن الرّجُل المُرسل لقتله، وجاؤوا بِقَوْدٍ من البغال والثيران قدّموها هديّة لسعيد دلالة على حُسْن نيّتهم تِجاهه.
وفي حادثة أخرى تَجاوز قوم من قرى مجاورة على حقوقٍ لسعيد عندهم، وقيل أنَّهم صاروا يعتدون بمواشيهم على المراعي من حِمى ذيبين ، فما كان من سعيد إلّا أن اشتبك مع المعتدين واحتجز مواشيهم التي هم بحاجة إليها، واستعصى عليهم حلّ مشكلتهم معه، فذهبوا إلى أخيه شِبلي شّيخ دارة عرى، لكنّ شبلي اعتذر عن التدخّل في الأمر، وحار القوم في أمرهم، فلم يجدوا بُدّاً من توسيط أحمد العْلَيّان شاعر حوران الشّهير وهو الذي كان نصيراً لآل الحمدان ضدّ آل الأطرش عندما سيطر هؤلاء على زعامة بني معروف في السّويداء وسائر الجبل بدلاً من آل الحمدان، وفي أسفِه على ذهاب دولة الحمدان في الجبل يقول العْلَيّان:
يبلاكِ يا دار السّوِيدا بْطوبٍ يْهدّكْ ويصبــــــــــــــــغ اْحْجــــــــارك بنيــــــــل وجــــــــــاز1
عَزَلْتِ إبــــــن حــــــمدان قُـــــدْوِة بلادنــــــــــــا غــــــــاب الملــــــــك وتْنَــــــــــــــــــــــــصَّــــــــب المعّــــــــاز2


قصيد عصماء في مدح سعيد
وهكذا تطوّع الشّيخ الشاعر أحمد العليّان مُضطرّاً بالتوَسّط لأصحاب المواشي لدى سعيد، وذهب معهم في وفد إلى ديوانه في ذيبين.
عند وصولهم أمر سعيد بتهيئة وليمة كبيرة لهم، وفي الديوان الذي غُصّ بالوافدين لم ينبس أحدٌ ببنت شفة بادئ الأمر، قال سعيد للعْلَيّان يريد أن يكسر الصّمت الذي ران على الحاضرين:
اُهرج يا أحمد، ما بك تعبان؟!، المقعد اللّي فيه العليّان ما يسكت، اُهرج، واللّي انت تريده يصير.
نَهضَ العْلَيّان واقفاً وتوسّط الدّيوان وصفّق بكفّيه وقال: العيون غرّافات الحكي يابك. (يريد من الحضور تركيز الانتباه)، ومدح سعيداً بقصيدة مُطَوّلة نقتطف منها هذه الأبيات:
عاش أخو بَنْدَرْ سعيد اللي فَحَجْ عَ النّمُــــــــرْ وِسْبــــــــاع خــــــــــــــــلاّهـــُم نعــــاجْ3
بــــــــالبَـــــــــــذِل والجُــــــــــــود كَـــــــنْــــــــــزٍ لَـلْــــــــخَلِــــــــــج شـــــــــاع صِــيتَه من بْــــــــراجٍ لَبِــــــــــــراجْ4
عَمّـــــــــر الــدّيـــــــــــــوان عَ جــال الطُّــــــــــرج لَجَبــــل حوران ســــوّاهــــــن ســــيـــــــــاجْ5
شمعة الدِّيــــــــــوان غـَطّـــــــت عَ السُّـــــرُجْ بالبَنادر علّقـــــــــوا اْسْـمَه بــــــــــــالسَّــواجْ6
بــــــــــالمَـــلازم مثـــــــل عَنـتــــــــر لَــــــــــوْ وَهـــــــــــَجْ بالصَّرف زايد على اْجْوَدْ بالعِراجْ7
لِيــْـهْ شـــَـلْفَــهْ تِـقُــــــــــلْ بـــــــــرقٍ لَــــــــــوْ لَعَــــــــجْ سَيفُهُ شِنْع المَهاوي مــن العِتــــــاجْ8
واِنْ مشى بْوَجْهوْ الفتى كَاْنّه بَرِجْ وَيْــــــــنْ مــــا نشّـــــــــر نـَجــــاجيبــــــــــه وَدَاجْ9
خِلْـــــفَــــة اســـــــمــــاعيـــل ضِــــــــــــــــدٍّ لَـــــــلْعِـــــــــــوَجْ مْنِ الضّيَــاغم نــاخبينـــه بْلا عِـــــلاج10
المُعــادي لــــــــــو ســِمـــــــــــــع حِسّوْ اْنْخَلَــــــــــجْ مِنْ وَحِيف الخيـل كَنْ طَبَّه هَجاج11
اَلِخْريشـــــــــــَه ْواِبـــــــــــن ماضــــــــــي والكَنـِــــــــــجْ للّـــــــــــــذي يظـــــــــــهــــــــــر جَـــــــــــــوادَه للحَــــــــــــراج12
مـــــن حَلــــــــــَب لَصُــــــــــور لَحــــــــــدِّ المَـــــرِجْ لَلْكَـركْ لَلْجـَـوْف خــــلّاها دجاج13
فوق نوطَهْ لَاْعْتَلى ظَهــــــــر السَّــــرِج كَـ ذياب الخيل الْاطْرش حين لاج14
رِيْف لَلْعِيّــــــــــــــــــان الاَعْمَى والعَـــــــــــــــــرَجْ واِن لَفَـتْ عَنَّــــاز ما ثِقْل الحِجاج15
اْخْتُم صلاتي عَ النّبي خير الخّلِج لَلمَدينَـــهْ زارَتَـهْ ســَبـــــــْع الحِجـــــاج16


جريمة أغضبت سعيد
في تلك الفترة من القرن التّاسع عَشَر كان يأتي إلى ذيبين زمن سعيد رجال من التّجار يبيعون الأقمشة ينقلونها على ظهور الدّواب أو على ظهورهم يحزمونها ويتجوّلون بها بين قرى الجبل على شكل (كشّة)، ولم يكن على هؤلاء من محظور إذْ كانوا يتجوّلون بحرّية وليس لأحد أنْ يعترضهم فهم يُعتبرون في حِمى بني معروف، وكان هؤلاء في أعمالهم يوفّرون على الأهالي مَشَقّات السّفر الذي كان يستغرق أيّاماً مُرْهِقة على ظهور الدّواب إلى دمشق أو القدس لشراء حاجياتهم، ناهيك عن مشاكل اللّصوص وقُطّاع الطُّرق لانعدام الأمن وغياب هيبة الدّولة في تلك الأماكن البعيدة عن الحواضر الكبرى، هذا بالإضافة إلى الضّرائب الجائرة التي كان يفرضها الولاة العثمانيّون ودوريّات الجندرمة على المسافرين إلى المناطق التي تحت سلطانهم، ومن هنا كان الاعتداء على أولئك الباعة الجوّالين وأمثالهم جريمة بحقّ المجتمع الذي كان في تلك الفترة يمرّ بحالة شبه حصار ولم يزل في طور النشوء.
ويذكر المُعْمر الشاعر نعمة العاقل أنّه بينما كان رجلان غريبان من خارج الجبل يبيعان أقمشة تصدّى لهما أحد أهالي ذيبين من الدّروز، وأقدم ورفيق له على قتل بائعي الكشّة ونهبا ما معهما من مال وقماش بعد خروجهما من ذيبين باتجاه قرية سِمْج الحَوْرانية. وهناك من يقول إنّ الضّحيّة كان بائع زيت من جبل لبنان، ومن قرية بشامون!، وقد تمّ قتله على طريق قرية “سِمْج”.
غطلة الشاطر
على أية حال فإنَّ القاتل وصاحبه خَرَقا العُرْفَ الذي توافق عليه الموحّدون من حيث حمايتهم للداخل بِرِضاهم إلى ديارهم. وبعد أن اكتشف أمرهما الشيخ الشّاب سعيد، عَلِق أحدهما، أمّا رفيقه فقد اختفى هارباً. قَيّدَ الشّيخ سعيد الجاني وأرسله إلى قرية عِرى، حيث فيها يُتّخذ القرار الفصل بناء على وصية الأب المؤسّس اسماعيل في القضايا الهامة التي تواجه بني معروف. وفي عرى اجتمع عدد من أعيان بني معروف من عدّة قرى من الجبل، وبحثوا في أمر إصدار حكم على القاتل، ويذكر الرّواة أنّ المجتمعين اعتبروا أنّ الجاني يستحقّ العقوبة بالموت حرقاً لأنه حسب العُرفَ العشائري “قطعَ وجهَ الدّروز”، أي خان بالعهد الذي اتّفقوا عليه فيما بينهم وأهان من دخل حِماهم. ونشأت مشكلة عند تنفيذ الحكم، إذ لم يجد أحد في نفسه الجرأة على تنفيذ عقوبة بهذه القسوة أي عقوبة حرق الرّجل، وبالطبع كان على سعيد أن يرى في ذلك أن حكم الحرق غير سليم بدليل أنه لم يوجد رجل في عِرى مستعد لتنفيذه بنفسه. لكنه اعتبر الحكم نافذا وقرر أن لا بد للعدل العشائري أن يأخذ مجراه. لذلك تقدّم من الجاني وقال له “ قُلْ: “أنا بوجه سعيد لأحميك من الحَرْق”، لكنّ الرّجل قال لسعيد بكبرياء: “فِيْ اَلله فوق سعيد”، وأبى عَرض الشّيخ بإنقاذ حياته. عندها أمر سعيد عبده المدعو”سعيد” بإعداد النار ثم تقدّم منه وأشعل النّار بنفسه، فما كان من الضَّحيّة إلّا أن قطّع الحبال وانطلق يعدو على حيطان البيادر، تاركاً ما وراءه خَراباً هَديماً إلى أن سقط كَوْمَةً هامدة… ويُروى عن المُعْمرين في الجبل أنّ السلطان العثماني عبد الحميد عندما وصلته الأنباء بحرق ذلك الجاني تمنّى على الله تعالى أن يُكَثّر من عدد زعماء الدّروز!


القدَر بالمرصاد
ومرّت فترة من الزّمن قليلة، كان موقد الكيروسين، أو “بابور السبيرتو” كما كان يُدعى في ذلك الزّمن من عام 1886، مقياس وجاهة يقتنيه عِلْيَةُ القَوْم، كان الناس حينها يقولون مُتَعجّبين” إنك تستطيع أن تُشْعِل النار وتطبخ على السّجّادة دون أن تُصاب سّجّادتك بأذًى.
كان سعيد يغلي القهوة بقصد تجديدها ذات مساء مع أوّل اللّيل على موقده الأثير، إذْ كان الوجهاء في ذلك الزمن يقصدون دار الشّيخ الذي فرض هيبة الأمن في القرية وجوارها، وعنده يتسامرون ويستمعون القصائد المُغَنّاة على الرّباب، وإلى مرويّات سوالف الماضي وأحداثه، وبينما هو يضغط الهواء في المَوْقد (البابور)، انفَجَر به، ونثرَ ما بجوفه من الكيروسين الذي لوّثه بالسائل المشتعل، كان سعيد في العلالي على ارتفاع نحو ستّين درجة سلم عن مستوى الأرض في دارته الفَسيحة العامرة، فسارع من العلالي إلى الدّرج، يريد أن يصل بنفسه إلى البركة القريبة ليطفئ النّار المشتعلة التي أحاقت به وصارت تنهش بجسده، وهُرِع الجوار يلفّونه باللّباد العجمي والبُسْط. لم يمت الشيخ سعيد ساعة اشتعال النار بجسده، بل ظلّ حيّاً لنحو ساعتين. ومن قرية أم الرّمّان التي تقع شرق ذيبين بنحو ستة كيلومترات وفي دغوش ذلك المساء شوهدت النار التي أحاقت به وهو يعدو على سطوح دارته الفسيحة أمام العلالي التي لم تزل ماثلة بعمرانها الأنيق إلى يومنا هذا ، فهُرِع الرّجال على خيولهم ظنّاً منهم أنّ غزواً أو حرباً ما نشبت في المكان، إذْ على مثل هذا سبق أن اصطلح بنو معروف، ويروي الشاعر المُعْمر نعمة العاقل أنّ جدّه كان من بين الذين وصلوا والشيخ لم يمت بعد، وإنّما كان يئن ويتأوّه من شدّة الألم وهو ملفوف باللّباد العجمي الذي يكاد أن يكون حِكْراً على وجهاء ذلك العصر، وعندما سأله عن حاله “كيفك يا أبو فارس”، سمعه يقول مُتَنَدّماً على ما فعله بـذلك الرّجل وهو يردد آسفاً “ياخَيِّيْ شْربنا الخَمر وعصينا الأمر، يا ليتني ما حرقت هذاك الزّلمة”.
لكنّ تلك الحادثة كانت نهاية ذلك الرّجل البطل، الذي لم يلبث أن فارق الحياة على أثرها سريعاً، ودُفن في مكانه الذي لفظ فيه أنفاسه الأخيرة، ويُروى أنّ جثمانه وُضع آنذاك في تابوت من البلّور. ويذكر معمرو ذيبين أنّ الشيخ سعيد مات شابّاً عن عمر لم يتجاوز خمسة وثلاثين عاماً، وبعضهم قال ستة وثلاثين، لكنّه وبشهاداتهم به، أنجز أعمالاً بطوليّة يعجز عن مثلها عَشَرات الرّجال
ويقول الشّاعر الشعبي فَوزات غبرة: لسعيد الأطرش فَضل على كل طفل في ذيبين، حماها من التعدّي وضَبَط حدودها، بعد أن كانت حدود بكّا تصل إلى البلديّة في وسط ذيبين، فما كان منه إلّا أن وضع الحدّ شمالاً عند وادي بكّا، وثبّت حق ذيبين في قناة الماء التي حملت اسمه إلى يومنا هذا. لكن غلطة الشاطر بالف فقد اختصر الشيخ سعيد حياة حافلة بالمجد بسبب عمل متسرع وافتقاده عند المقدرة لحس العفو أو الحنكة في التعامل مع الناس خيارهم وأشرارهم على حد سواء.
شهادة المجاهد منير الرّيِّس في رباطة جأش الدروز مع الموت
حسن حاطوم يولم لضيوفه وفي بيته جنازتان
لإثنين من أبنائه سقطا في معركة المسيفرة
يروي الصّحافي المجاهد منير الرّيس في الكتاب الذّهبيّ للثَّورات الوطنيّة في المشرق العربي “الثورة السورية” في معرض تأريخه لِما شهده وشارك فيه من وقائع الثّورة السّوريّة عام 1925، يقول “إنّ معركة المسيفرة معركة فذّة، تُعَدُّ من أعظم المعارك فخراً لأبناء معروف، وفي تلك المعركة استُشهد شابان من أبناء حاطوم (نَسِيَ الرّيس اسم الأب وهو حسن حاطوم) ويضيف: “أنّنا في يوم وصولنا من شرق الأردن رأينا المضافة مكتظَّة بالدُّروز وأخيراً عرفنا منهم أنهم جاؤوا لتعزية حاطوم صاحب الدّار الشّيخ بسقوط اثنين من أولاده، شهيدين في المسيفرة فتأثّرنا لذلك واستغربنا ألاّ نسمع صوت نحيب أو عويل في الدّار وشابّان من أهله يسقطان في المعركة وتُحْمَل جثّتاهما على جَمَل إليها ونحن فيها فلا نسمع أيضاً أيَّ صوت لنحيب أو عويل ثمّ يدخل علينا مُضيفنا والد الشّهيدين مرحّباً ولا نرى في عينيه أثراً للدّمع حُزناً على فِلذتين من كَبِدِه افتقدهما أمس في المعركة وجِئ بهما اليوم إلى داره جثتين داميتين. لقد ذُهلنا لرباطة جأش صاحب الدَّار وأهله ولكنّنا بعد أن خالطنا الدّروز وعرفنا مزاياهم أدركنا أنَّهم لا يُجيزون في الحديث الرَّحمة على مَيْتٍ مات حَتْف أنفه فالرّحمة في عُرفهم تجوز على القتيل في مواقف البطولة، وهذا المشهد الذي رأيناه يذكّرنا في صدر الإسلام بقول الفاتح العربي الكبير خالد بن الوليد وهو على فراش الموت :”إنّ في جسمي كذا طعنة رمح وكذا ضربة سيف وها أنا أموت على فراشي كالعَيْر فلا نامت أعين الجبناء” إنَّه الإيمان بأنّ الشَّهيد في معارك البطولة حيّ، وأنّ من العيب أنْ تُذرَف على من نال مرتبة الشهادة الدّموع. إنّهم يكتمون أحزانهم في قلوبهم ويبدون في المصائب غَيرَ هَلعين ولا وَجِلين فجديرٌ بنا أن نقتدي ببطولتهم ومآثرهم فهم عرب أقحاح يحافظون على المُثُل العربيّة ويتميّزون على غيرهم بكثير من الصّفات والمآثر الكريمة. ومن مآثرهم العربيّة الكرم والشجاعة والإباء وحماية الجار وهم لا يخضعون لزعمائهم خضوعاً أعمى فالزّعيم المُحتَرم لابدّ له من أن يكون مُبرِّزاً على أقرانه بالكَرَم أو الشّجاعة أو المروءة وهم شديدو الحرص على السّمعة الطيّبة والثّناء العاطر فقد ثاروا مرّات على الدَّولة العثمانية وتحدّوْا جيوشها لأسباب تمسّ على الأكثر إباءهم حتّى أصبحت حروبهم مع تلك الدّولة مبدأً لتاريخهم فيقولون سنة ممدوح باشا وسنة سامي باشا أو بعد ممدوح بسنة وقبل سامي باشا بعامين جرى كذا ووقع كذا أو وُلِد فلان وهم يحبّون الشِّعر وينظمون الشِّعر الشَّعبي بلهجتهم العاميّة وفيهم شعراء أذكياء سجّلوا أيامهم ووقائعهم ومعاركهم بقصائد لاتزال تُحفَظ وتروى، وتؤلّف المادة في حدائهم وأهازيجهم، وأظنُّ أنَّنا نذكر الشّعر الشّعبي الذي لحّنته المطربة “أسمهان” وغنّته بلحن الموّال وحفظناه إعجاباً بِرَوْعته ووطنيّته، إذْ يقول:
ياديرتي مالك علينا لوم لا تعتبي لومك على من خان