الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

سلطان باشا الأطرش ورفاقه…

في شهر حزيران من عام 1927 حَسَمَ الفرنسيّون والإنكليز أمرهم على محاصرة الثوّار الذين يقودهم سلطان باشا الأطرش بهدف تحرير سورية من الاحتلال… وهم الذين كانوا قد هزَموا الفرنسيين في أكثر من معركة منذ عام 1925 وقد انتشرت ثورتهم في العديد من المحافظات السورية وامتدت إلى عدة مناطق في لبنان منها راشيّا وحاصبيّا وأكروم والضنيّة…

حوصر الثوّار في منطقة الأزرق من الأراضي الأردنية، بهدف إرغام الثواّر على وقف العمليّات الحربيّة ضد الفرنسييّن في الأراضي السورية، شرطاً للعفو عنهم. في ذلك الحين «قَدِم إلى الأزرق موظفان أفرنسيان مع المعتمد البريطاني في عمّان وابط إنكليزي فاجتمعوا بممثلي المجاهدين طالبين منهم العودة إلى الوطن. فاشترط وفد الثوار من قبل سلطان باشا:

  1. إعلان العفو العام عن الثوار دون قيد أو شرط.
  2. إعلان الوحدة السورية وتلبية المطالب السورية.

فوعدهم المندوب الفرنسي بتحقيق المطلب الأوّل عدا العفو عن سلطان وصياح الأطرش ومحمّد عز الدين الحلبي وفؤاد الحلبي، وآخرين، أمّا المطلب الثاني فهو من اختصاص المندوب السامي الفرنسي، «بونسو»…(1)، ومن هنا تفاقمت مضايقات الإنكليز للثوار بمنعهم من الحصول على الماء ومنع إمدادات الغذاء عنهم.

سلطان باشا يرفض عرضاً بريطانياً مغرياً مقابل التخلّي عن الثورة

ومن مجريات تلك الأيام يقول سلطان باشا: قابلنا المُعتمد البريطاني في عمّان في موقع الأزرق في جلسة دامت نحو ساعتين حاول فيها إقناعنا بضرورة إنهاء الثورة والتَّسليم للأمر الواقع دون قيد أو شرط، وممّا عرضه علينا في نهاية الجلسة وضَمِن لنا تحقيقه دون إبطاء قوله: «إنّ حكومة صاحبة الجلالة البريطانية تتكفّل بتقديم قصر خاص بإقامتكم في مدينة القدس وراتب كبير يضمن لكم العيش الهنيء والسعادة مدى الحياة». فشكره سلطان قائلاً: «إنّ سعادتنا باستقلال بلادنا وحرية شعبنا. ولو كان العيش في القصور غايتنا لكنّا بقينا في دورنا الرَّحبة واستجبنا لدعوة الفرنسييِّن المتكررة بالاستسلام. إنّ طلبكم هذا فيه مساس بكرامتنا فلا نرضى إطلاقاً أن تكون المفاوضة معكم أو مع حلفائكم الفرنسيين إلاّ على أساس صُلْح مُشَرّف تتحقّق فيه المبادئ التي قامت ثورتنا عليها ومن أجلها وتتلخّص بحرّية البلاد ووحدتها وجلاء القوات الأجنبيّة عنها».

كان سلطان باشا يعتبر أنّ استقلال سورية أمر مرتبط بكرامة الشعب السوري وكرامته الشخصيّة، فرفض أيّة مساومة على ذلك، ولمّا لم تُفلح العمليّات القتاليّة في طرد الفرنسيين من البلاد أبى أن يعود إلى سورية يرفرف عليها علم الاحتلال، يقول: «اتصلت بأعضاء مكتبنا الدائم في عمَّان… فاتصلوا بدورهم ببعض الشخصيَّات العربية في القدس والقاهرة وتمّ الاتفاق معهم على انتداب السيد شكري القوّتْلي للذهاب في الحال إلى المملكة العربية السعودية للتفاوض مع الملك عبد العزيز آل سعود لقبولنا في بلده لاجئين سياسيين..» فقَبِل بعد اعتذار وتردد، وجاءت برقية فيها «قائد الثورة السورية سلطان الأطرش. أقْبِلوا على الرّحب والسعة ـ عبد العزيز»(2).

إنّ سعادتنا باستقلال بلادنا وحرية شعبنا. ولو كان العيش في القصور غايتنا لكنّا بقينا في دورنا الرَّحبة واستجبنا لدعوة الفرنسييِّن المتكررة بالاستسلام. إنّ طلبكم هذا فيه مساس بكرامتنا.

رحيل الثوّار إلى المنفى

في الساعة السادسة من مساء يوم الاثنين 22 حزيران 1927(3) أُجبر الثوّار على مغادرة مواقعهم في الأزرق، ويصف سلطان باشا مشاهد رحيلهم إلى المنفى الصحراوي مع عائلاتهم وخيولهم وجمالهم مواشيهم بقوله: كانت مشاهد رحيل الثوّار من الأزرق مثيرة لأعمق المشاعر الإنسانيّة، وأنّهم قد رضوا أن يفارقوا الدّيار التي كانوا يأنسون بسكناها قريباً من الأهل والأحبّة في ربوع الجبل، فسارت قوافلهم المؤلّفة من نحو ألف نسمة باتجاه موقع «العْمِرِيْ» جنوباً في عمق الصحراء بعد وداعهم الأليم لذويهم ورفاقهم في الجهاد الذين قرروا العودة إلى الجبل، إثر صدور قرار فرنسي بالعفو عنهم.

عرض إنكليزي

عندما نزل سلطان باشا في موقع «العْمِري» في الصحراء على بعد مئات الكيلومترات من الجبل وعلمَ الإنكليز أنّ السعوديّة وافقت على لجوء الثوار إليها أرسلوا وفداً برئاسة الكولونيل «سترافورد» للتفاوض معه من أجل العودة إلى الأزرق! فرفض عرضهم وقال لسترافورد «لم تَعُدْ لنا رغبة في العودة؛ لأنّكم لا تحترمون العهود وسوف نُقيم في الصحراء التي خرج منها أجدادنا.. وسنجد فيها بالإضافة إلى كرم الضيافة مجالاً رحباً للتمتّع بحرّيتنا الكاملة التي افتقدناها منذ أن انتدبتكم عصبة الأُمم علينا وصيّرتم معنى الانتداب استعماراً قائماً على البطش والإذلال وابتزاز خيرات الوطن!(4).

الثوّار يحطّون رحالهم في وادي السّرحان

كان عدد الثوار اللاجئين بضع مئات من السوريين يرافقهم بضع عشرات من الثوار اللبنانيين نزلوا في أرض صحراوية مُقفرة فيها نبع ماء عذب يدعى «جوخة» وبضع من أشجار النخيل. وكان من طليعة النازلين في المكان الأمير عادل أرسلان وحمد صعب وشكيب وهاب (لبنانيون)، ومحمّد عز الدين وعلي عبيد وقاسم أبو خير وعلي الملحم، وقد نزلوا في خيام قليلة كانت لديهم واضطرّ آخرون كُثر إلى صنع الطّوْب (اللِّبِن) من تراب الصحراء لبناء مساكن بدائية صغيرة سقوفها من القصب وجذوع وأغصان أشجار مجلوبة من أماكن بعيدة. كان عليهم التآلف مع حياة البادية الشاقة والمناخ الصحراوي وقد وجدوا متعة في صفاء طبيعة البادية بادئ الأمر، وراحة الهدوء في آفاقها الواسعة، لكن الفصول الانتقالية في الربيع والخريف كانت تتسبب لهم بأشد المعاناة، حيث رياح السموم الهوجاء تهبّ عليهم من الشرق والجنوب الشرقي تبدل من معالم الأرض فتصعب الرؤية والتنفس بفعل الأتربة والرمال المتطايرة في الفضاء «فتكتسح خيامنا وتسدّ منافذ بيوتنا في بعض الأحيان»(5).

وممّا ورد في يوميات صياح الأطرش لتلك الأيام أنّه في يوم 19 آب 1930، «تمزّق بيت سلطان باشا بسبب العواصف وأمضى أكثر النهار بخياطته».

ويوم الاثنين 29 كانون الأوّل «ذهبنا بصحبة سلطان باشا لجلب الحطب فكانت الدماء تسيل من أيدينا وليلاً حصل رعد وأمطرت الدنيا علينا وسالت الأرض وانجرفت الأدوات وأكوام الحطب مع السيل». وفي البحث عن الماء تمكّن بعضهم من الحفر في الرمل على عمق بضعة أمتار لإرواء الخيول والماشية وقد جمعوا الحطب من نباتات الرّتم لمواجهة ليالي الصحراء الباردة. وكذلك «اضطروا لقلّة الطعام أن يأكلوا الأعشاب والجراد والضباع من شدّة الجوع، وقد أصاب سلطان وأفراد عائلته ما أصاب الآخرين من جوع وعطش، وكان يقوم مع ابنه منصور بجلب الماء خلال الليل من بئر بعيدة فيحمل هو قربة كبيرة ومنصور قربة صغيرة وكانت زوجته تقوم بجميع أعمال المنزل وتحتطب(6)، وقد وصف الأمير عادل أرسلان عيشة المجاهدين في تلك البرِّية الموحشة يقول:

وعــصــبـــــــةٍ عـــربــــــــاء فوق الثّــــــرى
لكنّهـــــا مـــــن مجدهـــــــا في صـــــروح
فـــــــي مَهْمَــــــــهٍ قَفْــــــــرٍ كأنّ السّــــــما
لـــــــــم تَرْوِهِ بالقَطرِ مـــــــن عهد نــــوح
إنســـــــــــانُـهُ ضَــــــــــبُّ وأشــجــــــــــــارُه
شـــــــــــِيحُ وأصــــواتُ التَّغنّي فَحيـــــــح
كُـــــــلُّ رغيــــــــــفٍ حولَــــــــهُ تسعــــــــــــةٌ
كأنّــــــما صـــــــــلّى عليــــــه المسيــــــــــح

كانوا يأكلون ورق نبات القَطف وتَمْر الأمصع (وهو نبات له عناقيد شبيهة بعناقيد العنب ذي الحبّ الصغير) عندما يضعف المَدَد ويتأخّر التّموين في الوصول إليهم. أمّا أغنام الثوار التي كانت ضرورية لتغذية أطفالهم بحليبها فكانت تفتقر إلى المراعي المناسبة حيث لا تجد أمامها في تلك الصحراء سوى نباتات الحَمْض والشّيح وبعض الأعشاب الهزيلة في فصل الربيع حيث تشاركها في الرعي الخيول والإبل التي لم يبقَ لديهم منها إلّا العدد القليل.

ملاعق الثوّار

يقول المجاهد زيد الأطرش وهو شقيق سلطان ورفيق جهاده وأحد قادة الثوار البارزين يصف معاناة الثوّار في الصحراء: «وعطشنا، وعطشت خيولنا وبلغت الأرواح التَّراق! حتى رأيتَ بعضنا قد شرب بول الإبل، فزاد ذلك من عطشهم عطشاً، فأرسل سلطان يستنجد بالحاج أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في القدس، ليغيث الثوّار على جناح السّرعة، وينقذ من يمكن أن يظلّ على قيد الحياة منهم..!

ولبّى الحاج الحسيني الطلب، فوصلت إلى جموع الظاعنين سيّارة تحمل ماء وطعاماً وبعض الدواء.. وكان ممّا تحمله صفائح مملوءة بـ القمردين، وهو نقوع ثمر المشمش، وفرح المجاهدون وهتف الأطفال لمنقذيهم.. وأسرعنا نفتح صفيحة القمر دين كي نبلَّ الأفواه الجافة لكنّ هذا لا يؤكل إلاّ إذا دُعِكَ بالأيدي ليذوب
في الماء ثم يُشربَ بعدها. ها هو محلول القمردين قد أصبح جاهزاً. ولكن كيف يؤكل بلا ملاعق؟ ومن أين نأتي بها في تلك الصحراء المقفرة… عندها عمدنا إلى صناديق الخشب التي حملت الطعام نكسرها قطعاً قطعاً مثل مساطر طلّاب المدرسة وجعلناها ملاعق نحتسي بها منقوع القمر دين نملأ البطون الجائعة ونبلّ الشفاه اليابسة، واعتذاراً عن هذه الصورة البدائية والوحشيّة في التهام الطعام! ولمّا رأى هذا المشهد مبعوث الحاج الحسيني وهو المجاهد والمحسن صبحي الخضرا ولا أدري موطنه تماماً إن كان من القدس أم من مدينة نابلس، فحمل ملاعقنا الخشبية معه وعاد بها إلى القدس يقصّ على أعضاء المجلس الإسلامي الأعلى ما رأى، وليس من رأى كمن سمع.

تأثّر الحسيني ورفاقه بهذه الرواية وأمروا بوضع تلك الملاعق والصفائح الفارغة في زاوية من زوايا المسجد ألأقصى المبارك في القدس وفوقها لائحة كُتِبَ عليها : «صحون وملاعق مجاهدي الثورة السوريّة» وبقيت هذه الوثيقة شاهدة على شرف النضال حتى عام 1947(7).

انقلاب في الموقف السعودي وسلطان يرفض تجريد الثوار من سلاحهم في وقفة عز!

كان قد مضى على إقامة الثوّار في وادي السّرحان نحو ستة شهور عُومل خلالها الثوّار معاملة طيبة من قبل ممثلي السّلطة السعودية وبعض عشائر المنطقة من حيث الحفاوة وحسن الاستقبال وكرم الأخلاق، لكنّه في ذات يوم قدم إليهم الأمير سليمان الشنيفي مندوباً عن الملك عبد العزيز فرحّبوا به وأكرموا وفادته غير أنّه فاجأهم بقوله «أمرنا جلالة الملك بجمع السلاح منكم يا سلطان والمهلة التي نعطيكم إياها ثلاثة أيام(8)، فأجابه سلطان قائلاً «سلاحنا شرفنا أيها الأمير! فهل من المعقول أن نُسَلّمه ونحن نعيش مع عيالنا هذه الظّروف القاسية والأحوال السيّئة في هذه الأرض الموحشة المنقطعة؟».

قال الشنيفي: «إنّني مأمور بتنفيذ هذه المهمّة يا سلطان مهما كانت الظروف والأحوال!».عندها قال له سلطان بحزم وتصميم: «لن نُسلّم سلاحنا ما دام فينا عِرْق ينبض! لقد كنّا نتوقّع من جلالة الملك عبد العزيز ومن أعضاء حكومته ومستشاريه أن يمدّونا بالمال والعتاد لنعود إلى بلادنا ونستأنف الجهاد ضدّ الفرنسيين، لا أن يأمروا بتجريدنا من السلاح ليميتوا في نفوسنا النخوة ويضعفوا روح الكفاح ويعرّضونا بالتالي لخطر الغزوات البدويّة المألوفة في هذه الأرض القفراء». وبعد أن تكوّنت لديه بعض القناعة بوجهة نظرنا رفع أمرنا إلى رؤسائه، فجاءت التعليمات بأن يتّفق معنا على ما يلي:

  1. يحتفظ المجاهدون بسلاحهم ويحقّ لهم نقله ضمن المنطقة دون معارضة.
  2. تتعهد قيادة الثورة بعدم القيام بأيّ نشاط يخلّ بالأمن أو يخالف النظام والقانون المعمول بهما في المملكة(9).

سلطان باشا الاطرش

صمود في مواجهة التجويع

بالإضافة إلى الخطر الذي كان يهدد وجود الثوار من بعض العشائر المجاورة التي اعتادت التكسّب من السلب والغزو في تلك الصحراء التي لم تترسّخ بها سلطة الدولة بعد فقد كانت العراقيل توضع في وجه تموين الثوّار بالمواد الغذائية وكان المجاهد علي عبيد المعروف بحنكته السياسية والاجتماعية مكلّفاً بشراء مستلزمات الثوار ومواد إعاشتهم من عمّان «فأُوقف بأمر من القائد البريطاني في الأردن «غلوب باشا»، ولم يُطلق سراحه إلاّ بعد بضعة أيّام… وكانت مثل هذه المضايقات تنعكس على معسكر المجاهدين جوعاً ونقصا في حاجات ضرورية كثيرة.

الأمير عادل أرسلان: رغيف الخبز أغلى من الذهب

يقول سلطان باشا:»غير أنّ أخواناً لنا في الوطن والمهجر لم ينسونا أ ثناء تلك الضائقة الشديدة التي مرّت بنا بل كانوا يتحمّلون المشاقّ في جمع الإعانات لحسابنا وإيصالها إلى مضاربنا بالإضافة إلى مواجهتهم للمؤامرات التي كانت تستهدف التضييق علينا وتهيئة أسباب تسليمنا للفرنسيين…»(10).

لكن شبح المجاعة كان يطل على أولئك المجاهدين بين حين وآخر فيضطرّون إلى التهام أوراق النباتات الصحراوية ريثما تصل الإعاشة التي تأتيهم من عمان أو القدس وغيرها. وذات مرّة وفيما سلطان والمجاهدون، وأسرهم، في أزمة من الجوع وصل إلى مخيّمهم السادة شكري القوتلي والحاج عثمان الشراباتي والحاج أديب خير وعادل العظمة وهؤلاء من زعماء دمشق وسياسييّها ومعهم «صُرّة» من اللَّيرات الذهبية قدموها باسم الثورة، فلم يتمالك الأمير عادل أرسلان نفسه من شدة الانفعال فتناول قبضة منها ونثرها مُحتدّاً أمامهم قائلاً: إنّ هذا الذهب كلّه لا يساوي رغيفاً واحداً ينقذ حياة الذين يتضوّرون جوعاً، وخصوصاً النّسوة المرضعات والأطفال.. أرجعوه معكم لأنّنا لسنا بحاجة إليه في هذه الصحراء!»

لم يكن أولئك الإخوان يعلمون حقيقة معاناة الثوار وعوزهم والفاقة التي يعيشونها لذا تأثّروا أشدّ التأثّر وعملوا على استرضاء الأمير الغاضب وقرّروا أن يبقى السيّد شكري القوّتلي في مخيّم الثوّار للبحث في إيجاد حل لمعاناة المجاهدين وأسرهم في الوقت الذي عاد فيه العظمة والشراباتي وأديب خير من فورهم إلى عمّان وعادوا في اليوم التالي ومعهم عدّة سيّارات محمّلة بأكياس الطحين والمواد الغذائيّة الأخرى التي وُزّعت بالتساوي على أسر المجاهدين وذلك بالإضافة إلى كميات من العلف للماشية والدواب(11).

سلطان والمجاهدون: مؤتمر الصّحراء: عيون على سياسة الوطن رغم المنفى

لم ينقطع سلطان باشا والثوار عمّا كان يدور من أحداث في سورية، إذ كانت الأنباء ترد إليهم تباعا، أو عن طريق الزوّار من السياسيين السوريين في الداخل الذين يأتون لتفقّد أحوالهم والمراسلين الصحفييّن العرب والأجانب الذين يحضرون إليهم ومنها مثلاً أنه في عام 1828 وعلى أثر فوز الكتلة الوطنيّة بأكثريّة المقاعد، وحصولها على أغلبية ساحقة عندما تشكلت لجنة لوضع الدستور السوري الذي اعترض على ستّ مواد منه المندوب السامي «بونسو» وهي المواد التي تؤكد وحدة سورية واستقلالها، وقد أدى موقفه ذاك إلى تعطيل عمل الجمعيّة التأسيسيّة. ولما كان وجود سلطان والثوار يشكل عامل ضغط سياسي على فرنسا وعنصر دعم للحركة الوطنيّة في الداخل، فقد بادر سلطان باشا إلى توجيه دعوة للمجاهدين السوريين المقيمين في مصر والأردن وفلسطين وغيرها لحضور مؤتمر وطني عُقَد في وادي السرحان؛ حضره عدد كبير من المجاهدين، وممّا جاء في كلمة سلطان باشا حينها: «ليعلم المستعمرون أنّ المناورات والمؤامرات لا تنفعهم ولن تجديهم شيئاً. إنّ الشعب مُصمّم على الصمود، وألوية النصر معقودة له بإذن الله في النهاية. وكلّما ازداد الفرنسيون ظلماً وطغياناً في بلادنا ازددنا نحن تمسّكاً بحقوقنا المشروعة ولا نصل إلى حقوقنا هذه إلاّ بوحدة الصف، والإخلاص في العمل، والصّبر على مكاره التشرّد والحرمان..»(12).

سلطان باشا والثوار والحق الفلسطيني

مثلما لم يوقف المنفى اهتمام سلطان بالهم السوري فهو لم يقطعه عن الهم العربي العام المتمثل حينذاك بالحق الفلسطيني، وخصوصا مع انفجار الأحداث عام 1929 بين المستوطنين الصهاينة المدعومين من بريطانيا المنتدَبة على فلسطين وبين الفلسطينيين وقد نقلت الصحف آنذاك، أنّ سلطان تأثّر للحوادث والفواجع التي حلت بفلسطين، وأنّه قرر الزحف مع المجاهدين إلى بيت المقدس لنصرة العرب وأنّ الإنكليز شعروا بذلك فأرسلوا سرباً من الطائرات إلى وادي السرحان، حامت فوق مضارب المجاهدين لاستطلاع أمورهم ومراقبة تحرّكاتهم وألقت منشوراً بالعربية يحذّر الذين بدأوا بالتحرّك، ويطلب منهم أن يعودوا إلى مضاربهم، وإلا اضطرّت لقصفهم. ورغم تشديد المراقبة البريطانية فقد تمكن شكيب وهّاب من أن يدخل مع بعض المجاهدين إلى فلسطين واشترك في مقاومة الفلسطينيين في أكثر من معركة.

وفي كانون الأوّل 1931 انعقد المؤتمر الإسلامي في القدس لإعلان تضامن المسلمين في العالم مع الفلسطينييِّن، وحضرته وفود كثيرة من بينها وفد المجاهدين الذي أرسله سلطان باشا وتألّف من علي عبيد وقاسم أبو خير وقد تكلّم علي عبيد في المؤتمر قائلاً إنّ المجاهدين في الصحراء ليس لهم ما يفتدون به فلسطين المهدّدة بالضياع سوى الأرواح، ووقّع على ميثاق من ثلاثة بنود، وافق عليها رجالات العرب في اجتماعاتهم في 13 كانون الأول 1931 وهي ترمي إلى الوحدة ومقاومة التجزئة ورفض الاستعمار بجميع صيغه وأشكاله(13).

وفي يوم الأربعاء 16 نيسان عام 1930 جاء رسول مكلّف من الإنكليز ومن حاكم طبريا «الذي حسب ما أعتقد أنّه يهودي يطلب من سلطان باشا الإيعاز لجماعتنا هناك (يقصد الدروز) أن يقفوا على الحياد فيما لو حصلت ثورة في فلسطين مقابل أن تضغط بريطانيا على فرنسا لإعطاء الحقوق والاستقلال والعودة لسورية، فأجاب سلطان باشا بغضب شديد وبصوت عال: ومتى كانت حرّية الشعوب وكرامتها واستقلالها تُباع وتُشترى؟، فنحن عرب وفلسطين عربية وكلّنا مستعدون أن نموت فداءها وهل تريد أن نشوّه هوّيتنا وتاريخنا في سوق المقايضات!»(14).

هنري بونسو (Henri Ponsot): مفوّض سامي فرنسي
في لبنان وسوريا.

مواجهة خطر غزوات القبائل البدويّة

حياة قلقة ومحفوفة بالتهديد عاشها الثوّار في وادي السرحان وكان لها أثرها البالغ في نفوسهم ومنها الحادثة التالية: يقول سلطان باشا:

خرجت مبكّراً من منزلي صبيحة أحد أيّام الرّبيع، قاصداً النزهة في مكان مجاور تكثر فيه شجيرات الرّتم والأمصع، وإذ بأعرابي يقطع البادية على ذَلول (جمل أو ناقة سريعة الجري مخصّصة لقطع الصحارى). فلمّا رآني توجّه نحوي ثمّ قال: أريد سلطان! قلت له ماذا تَبغي من سلطان؟ تكلّم وأنا أوصل أخبارك إليه. قال: أنا قاصد سلطان بالذّات، وأحبّ أن أراه بعيني وأكلّمه بنفسي! قلت له: تكلّم أنا سلطان. فنزل عن ذَلوله وصافحني بحرارة وقال: مضى يومان وأنا في طريقي إليك لأعلمك أنّ فرحان بن مشهور (أمير من شيوخ قبيلة عنزة الرّولا) قرّر غزوكم بستمئة مردوفة (أي ألف ومئتي مقاتل كلّ اثنين على جمل) وقد أرسلني بشير بن ضبيعان الشراري (شيخ من القبيلة صديق للدروز) نذيراً كيلا يأخذكم الغزاة على حين غرّة ولتكونوا على أهبة الاستعداد لمقابلتهم خارج منازلكم… هَدّأْتُ من رَوْعه ورغبت أن يرافقني إلى بيتي ليستريح، ولكنّه اعتذر وعاد من فوره مخافة أن ينكشف أمر غيابه عن الرّكب. وما أن غادر الأعرابي موقعنا حتى دعوت المجاهدين إلى اجتماع طارئ وكان عددهم يومذاك لا يتجاوز الثلاثمئة مُسلّح فأحطتهم عِلماً بالأمر ورحنا نعدّ العدّة لمقابلة فرحان بن مشهور… لقد مرّت بنا من قبلُ مِحَنٌ قاسية وخُضنا معارك ضارية لم نشعر ونحن نواجهها بثقل أعبائها وجسامة مسؤوليّاتها، كما بدا الأمر لنا ونحن نستجمع قوانا المادية والمعنويّة لمواجهة تلك الغزوة الهمجيّة المفاجئة!… لقد ساورتنا أفكار مُقلقة حقّاً إذا ما غزانا ابن مشهور ولكنّنا قررنا الصمود والمواجهة، ومكثنا بضعة أيام ونحن على تلك الحال من القلق المُمِضّ والتأهُّب المستمرّ. ولكن الله قدّر أن يصطدم ابن مشهور مع ابن الشنيفي في مذبحة قُتِلَ فيها من جماعته 255 رجلاً ثم انهزم شرقاً مع الذين بقوا معه وعندما صار في أرض بعيدة وجده ابن ضبيعان فضربه أشدّ ضربة ولم يسلم معه سوى خمس وعشرين ذَلولاً والباقي منهم قُتِل أو أُسر ومن جملة القتلى ابن أخيه عبيدة.(15)

عشيرة من قبيلة الشرارات تغير على مراعي إبلنا

قامت عشيرة من الشرارات بالإغارة على إبل المجاهدين في المرعى واستاقتها قبلَ أن يتمكّن الرّعاة من إبلاغ الثوار الذين عقدوا اجتماعاً على أثر ذلك حيث أرسلوا المجاهدَيْن حسين العطواني وكنج شلغين في وفادة لإبلاغ الأمير عبد الله الحواسي حاكم الجوف من قبل الملك السعودي وإعلامه بذلك ثمّ بعثوا بوفد آخر إلى الرياض برئاسة علي (أخو سلطان) وعضويّة نزّال أبو شهيل ومعذّي الدّهام (من البدو أصدقاء سلطان باشا) فقابلوا أمير نجد «ابن مساعد» واستعادوا بواسطته الإبل المسلوبة من قِبَل الشرارات الذين اعتذروا عن فعلتهم بقولهم «تَوهّمنا أنّ الإبل التي استولينا عليها تعود إلى «أهل الجبل» من البدو الذين لنا ثارات قديمة عندهم أمّا بنو معروف فمعاذ الله أن نسطو على إبلهم».

السعوديون يحاولون ترحيل الثوار إلى داخل المملكة

بعد تلك الحادثة أرسل أمير نجد ابن مساعد قوة بقيادة «سالم الشيخ» لترحيل الثوار إلى داخل المملكة بدعوى المحافظة عليهم وإبعادهم عن خطر العشائر البدوية المعادية لهم، فلم يوافق سلطان وقال للأمير المذكور: «إنّنا نفضل الإقامة حيث نحن في الحرّ والقرّ على سكنى المدن والتمتع بالحياة الهانئة.. وسوف نتحمّل أشقى أنواع شظف العيش والحرمان كيلا ننسى قضيّتنا ونتراجع عن أهداف ثورتنا». أصرّ الأمير السعودي على تنفيذ مهمّته فطلب سلطان باشا مهلة قصيرة ليدرس الثوّار أوضاعهم والكيفيّة التي سيواجهون بها هذا الموقف الحَرج، فاستجاب لطلبه بعد أن استشار رؤساءه وعندها سارع سلطان بإرسال وفد من الثوار هم: محمّد عز الدين وقاسم الحسنيّة وفوّاز حاطوم إلى الحجاز، حيث حَظوا بمقابلة الملك الذي «أحاطهم بعنايته وتكريمه وأصغى باهتمام إلى جميع القضايا والأمور التي عرضوها على جلالته ولكنهم يلمسوا تغييراً في سياسة حكومته المقرّرة».

غير أنّ كل تلك الجهود والنوايا لم تصل إلى نتيجة بل باءت بالفشل، ولم تثق المراجع العليا السعودية بنوايا سلطان. ولتأكيد حسن النوايا من جديد أُوفد يوسف العيسمي إلى الحجاز لمقابلة جلالة الملك وإعطائه الأدلّة الثابتة على «حيادنا واحترامنا لقوانين اللجوء السياسي وآدابه؛ حاول العيسمي الدخول إلى الحجاز عن طريق مصر ولكن السلطة السعودية رفضت السماح له بذلك بحجة أنّه من الأشخاص غير المرغوب فيهم فأخذ الرجل عندئذ يتصل بالزعماء المصريين شارحاً لهم معاناة الثوار وأحوالهم السيّئة في المنفى وكان الصحافيان تيسير ظبيان وعبّاس المصفي يرافقانه في تنقّلاته بين القاهرة والإسكندريّة فقابل في القاهرة مصطفى النحاس باشا وأحمد زكي باشا ومحمّد علي الطاهر كما زار أمير الشعراء أحمد شوقي ونقل إليه شكرنا على الأبيات الرائعة التي وصف بها الدروز بقوله:

ومــــــا كـــــان الـــــــدروزُ قَبيـــــلَ شَــــــرٍّ
وإن أُخـــــــذوا بمـــــــــا لـــــــم يستحقّوا
ولــــــــــــكن ذادةً وقُـــــــــــراةَ ضيــــــــــفٍ
كينبوع الصّفـــــــا خشنــــــــوا ورقُّــــــــوا
لهـــــــم جبـــــــــلٌ أشمُّ لـــــــــه شعــــــافٌ
مواردُ في السّحــــــــاب الــــــــــجونِ بُلقُ
لـــــــــــكلّ لبــــــــــوءة ولكـــــــــلّ شـبـــــــــلٍ
نضـــــــــــالٌ دون غابتـــــــــــه ورشــــــــــقُ
كــــــــأنّ من السموءَلِ فيــــــــه شيئــــــــاً
فــــــــــكلُّ جهاتـــــــــــه شـَـرَفٌ وخـــــــــلقُ

وفي الإسكندريّة قابل العيسمي الأمير عمر طوسون (مؤرّخ العائلة المالكة) وحاول إقناعه بتحويل التبرّعات التي جُمِعت في مصر باسم ثورة الأمير عبد الكريم الخطابي (كانت تلك الثورة قد انتهت عام 1926)، طالباً تحويلها إلى أطفال المجاهدين في وادي السرحان، لكنّ طوسون ذاك (كان بنفسه شيء كثير من محاربة الدروز لجيوش جدّه محمّد علي التي جرّدها عليهم ظلماً قبل نحو سبعين عاماً) فلم يستجب لطلبه»(16).

كذلك اتصل سلطان باشا بفؤاد حمزة (من عبيه في لبنان كان يشغل وظائف معينة في المملكة) ليبذل جهده في تبديد الشكوك السعودية الذي أجاب برسالة وبعض ما فيها «… أرى من اللائق إجراء ما يلزم ـ مقابلة أو مراسلة ـ لإزالة سوء التفاهم وتأييد الولاء واستجلاب جلالته ويمكنكم تأمين الاتصال بواسطة عامل جلالته هناك والله تعالى يحفظكم وينجح مقاصدكم» 3 ذو القعدة 1348هـ (1929).

لم تنجح وفادة العيسمي إلى مصر فأعاد سلطان باشا تكليفه إلى جانب أخيه زيد الأطرش وعلي عبيد في مهمّة الاتصال بأعضاء حزبي الشعب والاستقلال في عمان والقدس وبشخصيات عربية كانت تعمل في مجال المؤتمر السوري الفلسطيني ليعملوا معاً على إيجاد حل لأزمتهم مع السلطات السعوديّة وبشكل يحفظ الكرامة «ويجنّبنا الصدام مع إخواننا وبني قومنا في السعوديّة».

صورة تذكارية التُقِطت في وادي السرحان | المملكة العربية السعودية سنة ١٩٢٨.

العاهل السعودي يرحّب بنا من جديد

وعى أثر تلك الوفادة سافر شكري القوّتلي على طائرة خاصة إلى الحجاز واجتمع بالملك عبد العزيز من فوره والتمس منه وقف الإجراءات المتخذة ضدنا وعدم التضييق علينا وإعطائنا حق اختيار المكان المناسب لسكننا في بلاده ومن جانب آخر بادر المؤيدون لنا في سورية وبعض البلدان العربية يرسلون البرقيات للعاهل السعودي ومنها برقية من السياسي السوري هاشم الأتاسي ورد فيها «إن معاملة سلطان الأطرش القائد العام للثورة السورية ورفاقه المجاهدين بالحسنى لَمِن الواجبات التي تُمليها علينا روابطنا الدينية والقوميّة، نأمل من جلالتكم أن تشملوهم برعايتكم وأن تعملوا على حفظ حياتهم وصيانة كرامتهم ما داموا مستأمنين في رحاب بلادكم العامرة».

«لقد كان لتلك المساعي الحميدة أثرها الإيجابي في نفس العاهل السعودي فلم نلبث أن شعرنا بشيء من الطمأنينة إثر ذلك ممّا ساعدنا على تدبير شؤون حياتنا ومواجهة متاعبنا اليوميّة الأُخرى…»(17)

رياض الصّلح

رياض الصّلح يزور سلطان باشا والثوّار في المنفى

يقول سلطان باشا: «وقد زارنا ونحن في الحديثة (موقع في وادي السرحان) الزعيم اللبناني رياض الصلح وكان برفقته بضعة أشخاص بينهم صحافيّة فرنسيّة نابهة (هي كاندياني، مندوبة صحيفة الفيغارو الفرنسية)، وقد صرح سلطان باشا للصحيفة حينها بمطالب الشعب السوري وهي: «سيادة وطنية مطلقة، ووحدة سياسية غير مقيّدة واعتراف دولي باستقلال سورية». وقالت تلك الصحفيّة (كاندياني) إنّها «ما كانت تظنّ الزعيم الثائر وصاحب المعارك التي أصبحت مضرب مثل في فرنسا، بالرجل السياسي»، يتابع سلطان باشا «فأكرمنا وفادتهم وقد بلغ من تأثر تلك الفتاة الفرنسية أثناء تفقّدها لمنازل المجاهدين وتحدّثها مع نسائهم أن اغرورقت عيناها بالدموع وهي تنظر إلى بعض أطفالهم وأخذت تردّد كلمات نقلها إلينا من كان يترجم لها من الزائرين: يا للطفولة البائسة المشرّدة !.. يا لبشاعة الاستعمار الفرنسي ووحشيّته !؟»(18).

ويبدو أنها جاءت إلى وادي السرحان لتستطلع أخبارنا وتتعرّف على نمط حياتنا ومعيشتنا في تلك المنطقة الصحراويّة فشاهدت بأمّ عينها كيف كان بعضنا يقتات بنبات «القطف» وغيره من نباتات البرِّيَّة ورأت أناساً ينقلون الملح على دوابهم وقد جمعوه من الممالح المجاورة ليذهبوا إلى بعض الحواضر في شرق الأردن ويشتروا بثمنه الزهيد بعض الكسوة والمواد الغذائية لعيالهم!.. وكانت لنا أحاديث ممتعة مع رياض الصلح أشعرتنا بنباهته وحِدّة ذكائه ورصانة تفكيره وقوّة شخصيّته وصدق وطنيّته وحسن تفهّمه لأوضاعنا الراهنة ومشكلاتنا السياسيّة والاجتماعيّة في سورية ولبنان فتوقّعت منذ ذلك الحين بأنّ دوراً خطيراً سيلعبه هذا الرجل في تاريخ لبنان الحديث!..»(19).

وقد طَرحت تلك الصحافيّة على سلطان باشا وأركانه أسئلة تتعلّق بالمصير المستقبلي لسورية والأُسس التي يرَوْنها مناسبة للاستناد إليها في المفاوضات التي يتمّ التمهيد لها بين الفرنسيين والسوريين للوصول إلى حلول عادلة للمطالب السوريّة بهدف خلق حالة من الاستقرار فيها.

فيصل الأوّل يصف معاناة سلطان في المنفى بالمحنة العظيمة

كان سلطان باشا قد أوفد فريقاً من الثوّار لتمثيل قيادة الثورة السورية في احتفالات جرت ببغداد بمناسبة إلغاء الانتداب البريطاني على العراق ودخوله في عصبة الأمم المتحدة آنذاك، وهناك اتصل الموفدون ومنهم زيد الأطرش أخو سلطان بالملك فيصل وأعضاء حكومته وزعماء المعارضة وعلى الخصوص ياسين باشا الهاشمي وأطلعوهم على أحوال سورية وأوضاعها السيّئة، يقول زيد: «ولمّا دُعينا لتناول طعام العشاء على مائدة الملك بمنزله الرّيفي في ضاحية المدينة دارت بيننا وبين الحضور أحاديث مطوّلة حول قضايا الوطن وشؤون الأمّة العربيّة. وبعد أن غادر المدعوون المكان التفت جلالة الملك إلينا فرحّب بنا وقال: إنّ للمجاهدين علينا حقّاً وفي أعناقنا دَيْناً. سوف لا أنساهم ولا أنسى سورية الحبيبة فهي في خاطري وإنّني وإن كنت ملكاً على العراق ومنهمكاً بقضاياه ومعالجة أموره فلا أترك سانحة تمرُّ دون أن أعمل لمصلحتها وأهتمُّ بالحوادث الجارية فيها حتى صِرت أخشى أن يثير سلوكي هذا غَيْرة بعض العراقيين..».

«لقد علّمتني الحياة كثيراً واكتسبت خِبرة عمليّة كبيرة أثناء وجودي في سورية .. بلّغوا تحيّاتي وفائق تقديري لجميع المجاهدين وقولوا لسلطان باشا: إنّ على القائد الصّبر والثبات ولو بقي وحده في ميدان الكفاح وأن لا بدّ لهذه المحنة العظيمة التي امتحن الله بها عبيده الأخيار من آخر(20).

قائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش وصديقه ومستشاره المجاهد عقلة القطامي |
وادي السرحان 1927 – 1937

سلطان باشا في منفاه: رجل يمثّل ضمير أمة

كان قد مرّ عامان على تعطيل أعمال الجمعية التأسيسية في سورية من قبل المندوب السامي «بونسو» وكان سلطان باشا والثوّار يأملون بعقد معاهدة مع فرنسا تعترف بحقوق السوريين في دولة موحّدة على غرار المعاهدة الإنكليزيّة ــ العراقيّة ولمّا كان الملك علي بن الحسين من الأشخاص المرشحين للعرش السوري حينها فقد كتب له سلطان باشا بتاريخ 16 حزيران 1931 الرسالة التالية التي تمثّل همّ كل سوري بل وعربي إلى يومنا هذا وممّا جاء فيها: «تعلمون أنّ سورية ـ وهي دماغ جزيرة العرب المفكّر ـ لم تتوانَ في نصرة الحلفاء إبّان الحرب العامّة بعد أن حالفهم جلالة الملك حسين رحمه الله ووعدوه وعداً صريحاً بإعطاء العرب استقلالهم.. وكان لجهود العرب تأثير عظيم في الحصول على النّصر ولكن يا لخيبة الرجاء ويا لفشل الأمة العربية المسكينة بذلك النصر فإنّها بدلاً من أن تُكافأ على إخلاصها وجهادها بإعطائها استقلالها كوفئت بسلب حرّيتها وسيادتها وكان نصيب سورية البائسة أفظع الحصص إذ قُطّعت إرباً إرباً وحُكمت حكماً استعماريّاً محضاً جعل السوريين يترحّمون على زمن الأتراك (العثمانييِّن) ويأسفون لما كان منهم نحوهم وبقيت سورية منذ دخول الإفرنسيين حتّى هذه اللحظة تحت ضغط الفوضى الإدارية والاقتصادية الضاربة أطنابها في طول البلاد وعرضها وهي لا تزال عرضة لنيران الثورات المستمرّة …» ويخلص سلطان باشا إلى أنّ «التفاهم (مع الفرنسيين) لا يكون إلاّ على أساس تحقيق أماني البلاد تحقيقاً أكيداً…»(21).

سلطان باشا يرفض وصاية تركية على الثورة

كتب المجاهد صياح النبواني في مذكراته؛ وكان واحداً من بين الثوار الذين اختاروا المنفى والمُجاهَدَة السياسيّة ضد الاحتلال الفرنسي إلى جانب سلطان باشا الأطرش والأمير عادل أرسلان وغيرهم من كبار المجاهدين من سورية ولبنان؛ يذكر أنه في يوم السبت بتاريخ 25 أيار 1929 ذهب لقصر الأمير «عبد الله الحواسي» عامل ابن سعود على المنطقة (أي الحاكم أو المدير فيها من قبل الملك عبد العزيز) فاستقبله الحواسي باحترام، وأثناء الجلسة جاء حمد «أمير الزّكرت» أي قائد الحرس من عسكر الحواسي، فأبلغه بوجود رجل شركسي يريد مقابلة سلطان باشا وطلب منه أن يهتمّوا بالرجل ويحافظوا عليه، وكان الرجل ينتظر في إحدى غرف القصر.

قَبِل صياح بتوصية أمير «الزّكرت»، فجاؤوا به وكان ضخم الجثّة مهيب الشخصية ذا عينين واسعتين أركبه معه في الطّريق. كان الرّجل مُتَكتّماً قليل الكلام وما أن وصلوا مُخيّم الثوّار، لم يتمهّل الرجل، فسأل من فَوْره بلغة عربية فُصحى: أين بيت سلطان باشا؟ وكرّر طلبه ذاك بإلحاح. طلب منه صياح التريّث وأبلغه أنّه ضيف عنده، وأقنعه أن لابدّ من القيام بواجب الضّيافة تجاهه أوّلاً.

كان صيّاح رجلاً ذكياً وحذراً ولا يحب التَّسرّع، ويريد أن يطمئنّ لمهمّة الغريب… هَدَأ الرجل، وسُرّ بمعاملة صيّاح له، حيث استضافه في غرفة من الطّوب الطيني كانت قد بنيت كيفما اتفق إلى جانب (بيت الشَّعر: أي الخيمة التي تقيم فيه أسرة صيّاح)، ومن حديث الليل عرف صيّاح أنّ الرجل تركيّ يتظاهر أنّه مُناوئ لسياسة كمال أتاتورك، ولكنّه في الحقيقة يحمل أفكاره. بقي الرجل يُلِحّ ليقابل سلطان باشا وبعد أن تيقّن صياح من جَدِّيَّة مهمّته اصطحبه لمقابلة قائد الثورة حيث سلّم عليه، وخاطبه بالتركيّة فلم يرد عليه سلطان بل أجابه بالعربيّة، رغم أنّه يعرف شيئاً من لغة الأتراك. اطمأنَّ خاطر الرجل للقاء سلطان وقد انتهت المقابلة دون أن يفصح الرجل أمام الحضور عن مهمّته ويبدو أنّ سلطان أفهمه بالتّركية بتأجيل البحث لليوم التالي عاد الرجل مع مضيفه إلى غرفة اللِّبن (كان صياح ذا ثقافة اجتماعية واسعة ووعي سياسي عميق كما عَرفتُه شخصياً)، يقول: «تحدّثت معه ببعض المواضيع الأدبيّة والجغرافية وكتب لي بخط يده وقال: ياصياح إذا دار الزمان دورته وذهبت إلى تركيا أبرز هذا العنوان (عثمان علاء الدولة، من أولاد أمراء ذي القدريّة الأناضول قضاء سونغورلو ــ قرية بوغاز قلعة ابن ضياء بك ذي القدريّة).

في اليوم التالي ذهب صياح والضّيف عثمان لبيت سلطان باشا، فبدأ الرجل حديثه وكان من بين الحضور من خاصّة سلطان صيّاح وسليم الحمود الأطرش فأفصح الضيف بعد اطمئنانه للحضور بأنه قادم بتكليف من مصطفى كمال أتاتورك للاتصال بقائد الثورة وإبلاغه «أنّ تركيا تريد المساعدة لإحياء الثورة مُجدّداً وتقدّم خمسة ملايين ليرة تركية إلى سلطان باشا هديّة وتقدّم الضباط والخبراء العسكريين والمدفعيّة والدبابات والمصفحات الخفيفة والثقيلة ومليون ليرة تركية شهريّاً مساهمة كرواتب رمزيّة للثوار أمّا الضباط الأتراك فتكون رواتبهم من تركيا وليس من المليون ليرة للمساهمة بها وأضاف: إنّ الاتصال بالمنطقة الجنوبية يأتي عن طريق الصحراء وتكون العمليات من الجنوب تأتي عن طريق الصحراء والشمال وعلى طول الساحل السوري مع عمليات بسيطة في لبنان لإشغال بال فرنسا».

وهكذا وعد الرسول «إنَّا باسم تركيا الكمالية مستعدّون لإمداد حركاتكم لأكثر من خمس سنوات»..

هنا سأله سلطان: لئن نجحنا وتمكنّا من طرد الفرنسييّن ماذا يكون موقف تركيا منّا؟ وما ثمن تلك المساعدات؟ قال الرسول: يهمّنا المحافظة على استقلال سورية وليس لتركيا مطمع سوى أن الثقافة التركية تُعَمّم على المدارس السوريّة وتكون اللغة التركية إلى جانب اللغة العربيّة. عندها سكت سلطان باشا وخيّم صمت على الجلسة فترة. أردف بعدها: الفرنسيون أجانب وآخر الأمر الأجنبي يخرج من البلاد، وتبقى البلاد لأصحابها، نحن تغلّبت علينا قوى الاستعمار، ولكنّنا لم نستسلم وآخر الأمر نعود إلى البلاد. فأجاب عثمان بك: يا باشا: تركيا نواياها حسنة على السوريين ونحن نهتم بطرد فرنسا من البلاد، ولسنا دولة استعماريّة بل نتمنّى الخير لكم. قال سلطان بحزم: نحن نتمنّى أن يظلّ العلم التركي مرفوعاً في سماء تركيا أمّا سوريّة فتستقلّ وتبقى محافظة على الصداقة التركيّة وسورية تحتاج إلى المساعدات في المجالات الدوليّة، فإذا كانت تركيا ترغب بمساعدة سورية فالمجال واسع في الحقل السياسي. كان جواب سلطان حاسماً بحيث لم يترك للتّركي مجالاً للردّ فسكت على مضض.

من المنفى في السعودية إلى اللّجوء السياسي في الأردن

رغم المساعي المشكورة مع العاهل السعودي لنيل موافقته على بقاء سلطان باشا والثوار في وادي السرحان متجمعين في النبك، فقد كانت هناك مساعٍ أُخرى مع المندوب السامي البريطاني في الأردن لقبول لجوء الثوّار للأراضي الأردنيّة في حال إصرار جلالة الملك عبد العزيز على عدم تحقيق رغبات الثوّار المشار إليها. وكان الأمير عبد الله بن الحسين أمير شرق الأردن حينها على رأس المُهتمين بذلك حيث كان يسعى جاهداً لقبول سلطان باشا والثوّار في أراضيه، رغم أنّ «السلطات البريطانية القائمة تُغلّ يده في المنطقة وتحاول أن تجعل من الإمارة التي يتقلّدها في أعقاب خروج الملك فيصل من سورية ميداناً فسيحاً لألاعيبها السياسيّة في فلسطين وذلك على الرغم من الأساليب الديبلوماسية التي كان يتبعها مع تلك السلطة في سبيل تثبيت قواعد إمارته الناشئة وعلى أمل أن تكون له بلاد الشام بأسرها في المستقبل(22).

لكن البريطانيين لم يستجيبوا لرغبة الأمير عبد الله في ذلك الحين، غير أنّ تغيّرات لاحقة طرأت على السياسة البريطانية في الشرق العربي فيما بعد، إذ عقدت بريطانيا معاهدة مع حكومة الملك فيصل لتتخلّص من مخاطر الثورات وتكاليف قمعها الباهظة، وألغت نظام الانتداب… ومن جانب آخر مال الفرنسيّون في سورية إلى الاعتدال في سياستهم تجاه المطالب السوريّة، كما أدرك الإنكليز والفرنسيون أنّ شظف حياة الثوار في وادي السرحان وما كان يحيط بهم من أخطار البداوة والمجاعات التي كانت تهدد حياتهم وتنهك قواهم قد خفّفت من غلواء ثورتهم «فلم يبقَ إذن ما يمنع أصحاب الشأن والسلطة النافذة في الأردنّ من قبول عودة سلطان باشا والثوّار إلى شرق الأردن كلاجئين سياسيين!»(23).

سلطان باشا يعترف بفضل الملك عبد العزيز آل سعود

انتقل سلطان باشا والثوار إلى الأردن عام 1932 ولم ينسَ الاعتراف بجميل العاهل السعودي تجاه الثوار يقول: «قمنا بواجبنا قبل مغادرتنا لوادي السرحان فقابلنا المُعتمَد السعودي في المنطقة الأمير عبد الله الحواسي، ووجّهنا الشكر عن طريقه إلى جلالة الملك عبد العزيز آل سعود وحكومته وشعبه لِما كان لهم علينا من فضل كبير في قبولنا بديارهم لاجئين وبأرضهم مُحتمين حين سُدّت في وجوهنا الأبواب وتعرّضنا إلى خطر التسليم إلى أعدائنا الفرنسيين..»(24)

اللّجوء السياسي إلى الأردن ومتابعة تأييد الوحدة السوريّة

إنّ مجاورة الأردن لسورية ووحدة النسيج الاجتماعي بين البلدين إلى حدّ كبير والمناخ الأقل تطرّفاً ممّا كان عليه الحال في الصحراء السعوديّة كلّ ذلك كان أكثر إراحة للثوّار الذين تأخّر حَصاد جهادهم عمّا كانوا يطمحون إليه، وفي ذلك يقول سلطان باشا «كان عزاؤنا الوحيد في تلك الديار التي نزلنا بها هو مجاورتنا لعشائر عديدة كانت لنا صلات قديمة بها وعلاقات طيبة مع شيوخها وقد تركت معاملهم الطيبة لنا أثراً بالغاً في نفوسنا وأبعدت عنّا وحشة الغربة وفراق
الأهل والأحبّة».

وفي السنة ذاتها حضر الأمير عبد الله لزيارتنا والترحيب بنا في الكرك وأخذ يتفقد أحوالنا ويأمر بإغاثة المعوزين منا وتأمين حاجاتهم فكانت لفتة كريمة شملت المراكز الأخرى التي نزل بها إخواننا الآخرون». مع انتقال سلطان باشا والمجاهدين من وادي السرحان إلى حواضر شرق الأردن وهي جزء ممّا اصطلح على تسميته بالمَعمور «لم تكن حالهم أفضل مما كانت عليه في الصحراء سوى أنّهم نزلوا في بيوت وفي أماكن مأهولة المعيشة فيها أسهل بتوفر وسائطها لكن ذيول الأزمة الاقتصادية العالمية انسحبت عليهم فشحّ المال المُرْسَل من المُغتربين لإعانتهم ومن الأدلّة على استمرار عوزهم اضطرار سلطان باشا بعد وصوله إلى الكرك أن يجيب صياح الأطرش على قفا رسالته، بأنّه لا يوجد عنده فلوس حتى يشتري الورق وعَزْمه على بيع حُلا زوجته التي هي جهاز عرسها من أجل فرش البيت في الكرك لأنّ (الفرشة) البالية التي حملوها من الحديثة لم تعد تصلح، وهذا ممّا يدحض اتهامات معارضيه بأنّه يستأثر بحصّة كبيرة من الإعانات»(24).

سلطان باشا من الأردن يتابع مجريات مفاوضات معاهدة 1936

تغيّرت الظروف الدولية لمصلحة المطالب السورية فجنحت فرنسا إلى الملاينة مع تصاعد خطر النازيّة والفاشية في ألمانيا وإيطاليا، ومع وصول اليسار الفرنسي إلى الحكم عام 1936 وكانت فرنسا قد أصدرت إعفاءات عن عدد من الثوار قبل ذاك اعتبرها السوريون ناقصة وعرجاء، وبعد إضراب البلاد لمدّة خمسين يوماً قَبِلَ الفرنسيّون بتشكيل وفد للبحث في معاهدة بين البلدين، «وخلال وجود الوفد السوري في فرنسا لم تنقطع الاتصالات بسلطان وإخوانه المجاهدين المبعدين عن سورية وقد أصرّوا على تحقيق ما ثاروا من أجله وطالبوا به سابقاً ورفضوا العودة ما لم تتحقق مطالبهم باستقلال سورية وسياد تها ووحدتها»(23). وبعد مفاوضات عسيرة قبل الفرنسيون بالعفو عن سلطان باشا والمجاهدين، فتشكّلت لجنة في دمشق لاستقبالهم وانتقل سلطان باشا من الكرك إلى عمّان في 15 أيار 1937 وحلّ ضيفاً على الأمير عبد الله بعد استقبالات رسميّة وشعبيّة ودعوات وتكريمات من كبار رجال الدولة الأردنيّة ومن ثمّ أقيمت حفلة وداع في سينما البتراء لسلطان باشا والمجاهدين حضرها وفد فلسطيني برئاسة الحاج أمين الحسيني وآخر من دمشق برئاسة فخري البارودي. يقول سلطان باشا «وكنّا في أعقاب حفلات التكريم والاستقبال نتوجّه بالشكر إلى سموّ الأمير عبد الله وسائر أمراء الأسرة الهاشميّة الأكارم وحكومته الرشيدة وأعيان البلاد وشيوخها الأفاضل والشعب الأردني النبيل.. نشكرهم جميعاً على ما لقينا أثناء إقامتنا بديارهم العامرة من حسن المعاملة وطيب المعشر».

الاستقبال في دمشق عاصمة الأمويين

ليس أصدق من وصف سلطان ليوم عودته من المنفى واستقباله وصحبه الثوّار في دمشق يوم 20 أيار 1937، يقول: «كان استقبالنا في العاصمة الأمويّة منقطع النظير إذ يعجز الإنسان عن وصف شوارعها المُزدانة بأبهى حلّة من أقواس النصر وأنوار المصابيح الكهربائية الساطعة وفاخر السجّاد ومئات الألوف من المواطنين والمواطنات الذين كانوا يموجون فيها وينشدون الأناشيد الوطنيّة والهتافات المدوّية بحياة المجاهدين! نزلنا بفندق الشرق (أوريان بالاس) بضيافة الحكومة وأمضينا يوم الخميس بكامله ونحن نستقبل الوفود التي جاءت للسلام علينا وتهنئتنا بسلامة العودة من مختلف أحياء المدينة وسائر أنحاء البلاد. وفي صبيحة اليوم التالي قمنا بأداء فريضة الجمعة في جامع بني أميّة صحبة فخامة رئيس الجمهوريّة السيّد هاشم الأتاسي وأركان الدولة وأعيان البلاد ثم احتفلت الحكومة بنا رسميّاً بدار البلديّة فألقيت كلمات وأُنشدت قصائد في مدح المجاهدين وتمجيد الجهاد ذوداً عن الوطن في سبيل الحرّية والاستقلال».

إلى السويداء عبر طريق درعا وتحطيم نصب التجزئة

في يوم الأحد 23 أيار غادر سلطان الفيحاء إلى السويداء بطريق الشيخ مسكين ـ أزرع، فكان الأهالي من قرى سهل حوران والجبل يستقبلون الثوّار العائدين وزعيمهم بحرارة حيث يضطرون للتوقّف عند مفارق القرى لتناول القهوة والمرطّبات والاستماع للقصائد الزجليّة وكلمات الترحيب وخطب الخطباء.

وعندما وصل الموكب إلى حدود الجبل مع حوران انتبه سلطان باشا لعلامة حدود «الدولة الدرزيّة الطائفية» التي كان الفرنسيّون قد اصطنعوها، فنزل بنفسه ليزيل بعض معالم ذلك النّصب الإسمنتي الذي كان يذكّر بسياسة التجزئة التي اتبعتها فرنسا أثناء حكمها المباشر للبلاد…

كان الفرح الشعبيّ غامراً بعودة القائد والثوار إلى ربوع الوطن الغالي وقد تمثّل بـ «ذلك الاستقبال الذي استقبلَنا به أهلنا وأبناء عشيرتنا في المزرعة والسويداء حيث كانت أصوات هتافاتهم وأهازيجهم الحربيّة المعهودة تملأ الأجواء بأنغامها الهادرة المثيرة لأعزّ الذكريات».أمّا في السويداء فما أن أطل سلطان باشا ومحافظ السويداء نسيب البكري وكبار المستقبلين من على الشرفة المطلّة على الساحة العامّة التي كانت تعجّ بألوف المواطنين «حتى سرت موجة عارمة من الحماسة في نفوسهم وأخذوا يلوّحون لنا بأيديهم وكوفياّتهم البيضاء تحت أشعّة الشمس الوهّاجة ويقاطعون الخطباء بتصفيقهم الحاد المتواصل وبصيحاتهم المُجلجلة التي كانوا يحيّون بها كلّ فرد من إخوانهم المجاهدين العائدين».(24)

ومن السويداء غادر سلطان باشا يوم الاثنين في 24 أيار القريّا لتستقبله جماهير غفيرة في قرية رساس وعلى مفرق طريق عرى ثم العفينة أجمل استقبال ليصل بعدها إلى بلدته القريّا يقول: «كان لنا فيها من انطباعات صور اللقاء بعد ذلك الفراق الطويل ما يغمر النفس بالبهجة ويستثير العبرات».

صور تُنشر في للمرّة الأولى، أرسلها لنا مشكورين، الزملاء الأعزّاء في عمّان، الأردن.

ذكرياتي الشخصيّة عن سلطان باشا

كنتُ طالبا في مدرسة القريّا في الصف السادس عام 1956 وفي الصف التاسع عام 1959 وكم كنت أراه في الصباحات الباكرة الباردة وهو يبكّر إلى العمل في الأرض، يلبس معطفاً أسود قديماً وقد حزم وسطه بحبل من «مرس» ليثبّت أزرار معطفه فلا تنفكّ أثناء الحركة، وقد لفّ رأسه بكوفيّة صفراء كيفما اتّفق ثم يصعد ليجلس محشوراً على مقعد الدولاب الخلفي لجرّاره «الفركسون» إلى جانب سائقه ثمّ يمضي معه إلى مزرعته شمال القريا على مسافة نحو كيلو مترين في «خربة حزحز» وهناك أعمال كثيرة من الحراثة وزارعة الأرض بالحبوب وعزل الحجارة من التربة وقلع الأعشاب الغريبة وغرس الأشجار… كلّ ذلك كان اهتمامات القائد العام للثورة السورية الكبرى الذي رفض المناصب الحكومية الرفيعة لكي يعيش قانعاً بالعيش من العمل بالأرض التي يعشقها وكم قاتل الأعداء من أجلها… وكنّا نجد متعة في زيارته في المضافة عصارى بعض الأيام حيث نشعر بمهابته واهتمامه بنا بأن نكون شباناً متعلّمين وحيث يسألنا عن أوضاع أهالينا الذين كان يعرفهم شخصيّأً…

هكذا هو سلطان باشا الأطرش، قدوة في كسب العيش بالكد النّظيف، وأسطورة في جهاده في المعارك وقتال الأعداء وقد خلّد في صموده الأسطوري ورفاقه، من دمشق وجبل العرب ولبنان، وتحمّلهم حياة الصحراء وشظف عيشها من أجل سورية عربية مستقلة موحّدة، وشرق عربي خال من الاحتلال الأجنبي.

عودة سلطان باشا الاطرش
إلى دمشق عام ١٩٣٧.


المراجع
  1. سعيد الصغير، بنو معروف في التاريخ، مطابع زين الدين،1984،
    ص 628.
  2. أحداث الثورة السوريّة كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش، 1925 ـ 1927، دار طلاس، دمشق 2006، ص 306.
  3. عبدي الأطرش، أوراق من ذاكرة التاريخ، (مذكّرات المجاهد الكبير صياح الأطرش) دار الطليعة الجديدة، 2005دمشق، ص 101.
  4. أحداث الثورة السورية، م.س، ص 307.
  5. أحداث الثورة السوريّة، م.س، ص 310.
  6. حسن أمين البعيني، سلطان باشا الأطرش، مسيرة قائد في تاريخ أمّة، 1985، ص 239.
  7. عطا الله الزاقوت، حكايا من مجالسنا، 2003، ص 12.
  8. أحداث الثورة السوريّة، م.س، ص 311.
  9. م.س، ص 312.
  10. م.س، ص 312
  11. م.س، ص 313.
  12. م.س، ص.314.
    حسن أمين البعيني، سلطان باشا الأطرش والثورة السوريّة الكبرى، مؤسسة التراث الدرزي، 2008، ص 514 ـ 515.
  13. عبدي الأطرش، أوراق..، م س، ص 125.
  14. م.س، ص 125.
  15. أحداث الثورة السورية، م.س، ص 318.
  16. م.س، ص 319.
  17. م.س، ص 333.
  18. م.س، ص، 333.
  19. م.س، ص،336 من هامش الصفحة.
  20. م.س، ص 334ـ 335.
  21. م.س، ص 337.
  22. (23) م.س، ص 339.
  23. م.س، ص، 351.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي